ما بين الكراهية والأخبار المزيفة، كيف تؤثر شبكات التواصل الاجتماعي على سياسات الدولة؟

يشن قيس سعيد منذ عدة أشهر حملة شرسة ضد خصومه السياسيين الذين حُوكم الكثير منهم وأُلقي بعدد منهم في السجن. وفي ذات الوقت، على وسائل التواصل الاجتماعي، تُظهر عدة مجموعات وصفحات دعمها اللامحدود لقيس سعيد وتعبر في كثير من الأحيان عن أفكار مشابهة لتلك التي يروّج لها الحزب القومي التونسي، ناشرةً خطابات الكراهية والمعلومات المضللة ضد المجتمع المدني أو الأقليات المهاجرة. غوصٌ في دواليب ظاهرة سيبرانية ما انفك نطاقها يتوسع ويثير أسئلة محرجة. 
بقلم | 26 جانفي 2024 | reading-duration 20 دقيقة

متوفر باللغة الفرنسية
"لا بد من وضع حد لذلك". هكذا صرح قيس سعيد في خطاب شديد اللهجة وجهه يوم 24 نوفمبر 2023 ضد الجمعيات و "تمويلاتها الأجنبية" وأجنداتها السياسية. تهمٌ تشبه إلى حد كبير تلك الصادرة عن الحزب القومي التونسي، الذي يندد بأنشطة المجتمع المدني منذ شهر ماي 2022 على أقل تقدير.  

ليست هذه هي المرة الأولى التي يتخذ فيها الرئيس التونسي مواقف على شبه كبير بمواقفهذا الحزب أو يلقي خطابات مشحونة ضد المجتمع المدني أو وسائل الإعلام. إذ شهدت سنة 2023، على سبيل المثال، اندلاع أعمال عنف ضد المهاجرين والمهاجرات من جنسيات جنوب الصحراء. وردا على ذلك اتهمت الحكومة وسائل الإعلام بنشر معلومات كاذبة حول وضعية الهجرة. إذ نشرت وزارات الداخلية والعدل وتكنولوجيا الاتصال بلاغا مشتركا بتاريخ 24 أوت 2023 تعلن فيه عن "إثارة تتبعات جزائية" ضد من "يعمد إلى استغلال المنصات لإنتاج وترويج أخبار وبيانات وإشاعات كاذبة"، سواء كان "داخل أو خارج التراب التونسي". 

يندرج هذا البلاغ في إطار المرسوم عدد 54 لسنة 2022 المؤرخ في 13 سبتمبر 2022 والمتعلق "بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال" من خلال التنصيص على عقوبات قد تصل إلى السجن خمس سنوات في حالات نشر "أخبار كاذبة". ومنذ إصدار المرسوم حوكم بموجبه ما لا يقل عن عشرين شخصا معظمهم من المجتمع المدني.

ومع ذلك، لم يبلغ التهديد مؤيدي الرئيس وحكومته. وفاء الشادلي على سبيل الذكر، المحامية المعروفة بدعمها لسعيد والتي رُفعت ضدها عدة شكاوى بدعوى نشرها لمعلومات كاذبة، لم توجه إليها أي تهمة. كما أن الحزب القومي التونسي الذي كان في قلب موجة خطابات الكراهية والبيانات الكاذبة ضد المهاجرين والمهاجرات من جنوب الصحراء، لم يمثل أبدا أمام القضاء.

"لدينا المرسوم 54 وحكومة تطبقه. غير أن التطبيق لا يشمل سوى الصحفيين أو المعارضين"، تندد منصة Falso وهي منصة أبحاث رقمية تكافح الأخبار المزيفة والشائعات.

من خلال هذه التدابير، يقف الرئيس قيس سعيد في موقف المعارض لـ "الأخبار الكاذبة". لكنه - وبالأخص في خطاباته - يغذي نظريات المؤامرة المشحونة بالكراهية، مثلما كان الشأن في يوم 21 فيفري 2023 عندما وصف المهاجرين·ـات من بلدان جنوب الصحراء بـ"جحافل المهاجرين غير النظاميين" الوافدين إلى تونس من أجل "تغيير تركيبتها الديموغرافية" بهدف غير معلن ألا وهو اعتبار تونس دولة إفريقية فقط "لا انتماء لها للأمتين العربية والإسلامية". 

تداولت الشبكات تصريح الرئيس آلاف المرات، بما في ذلك على فيسبوك و تيكتوك، ملقيةً الضوء على خطابات عنصرية كانت موجودة مسبقا. فعلى سبيل المثال، حصل هاشتاج #القومية_التونسية المستخدم للمرة الأولى من قبل الحزب القومي التونسي في 18 جوان 2022 عبر حسابه على تيكتوك، على 11 مليون مشاهدة بين 28 جانفي و 27 فيفري 2023، بما في ذلك 9 ملايين مشاهدة خلال الأسبوع الممتد من 20 إلى 26 فيفري.

"مرتزقة فايسبوك"

تبيّن منصة فالصو أنه "لدينا في تونس 8 ملايين حساب على فيسبوك من جملة 12 مليون نسمة، أما على الصعيد العالمي 60٪ من السكان لديهم إمكانية النفاذ إلى الإنترنت".

وفي حين أن انتشار الأخبار المزيفة يكون في كثير من الحالات بشكل غير مقصود حيث يقوم الأفراد ببساطة بإعادة مشاركة المنشورات التي يرونها على صفحاتهم الرئيسية، إلا أن نشرها هذا يتم أحيانا بشكل متعمّد. بالنسبة لفالصو، هناك العديد من الوضعيات المشابهة: إذ تميز المنصة أولا المعلومات التي يتناقلها ما تعبّر عنه بـ "مرتزقة فايسبوك" وهم أفراد يستغلون الأعداد الغفيرة للمتابعين·ـات لهم لبيع صفحتهم على فايسبوك أو لمشاركة محتويات معينة مقابل المال. وتتغير الأسعار بتغير الفترة الزمنية "وقد تبلغ 7000 أو 8000 دينار خلال الانتخابات".

وفقا لتقرير محكمة المحاسبات الذي تناول بالتحليل تمويلات الحملات الرئاسية لسنة 2019، زادت هذه الصفحات بشكل كبير خلال فترة الانتخابات وأصبحت أكثر نشاطا حتى من الصفحات الرسمية للمرشحين والمرشحات. 

"في خضم الحملة الرئاسية لعام 2019 على سبيل المثال، تغير اسم صفحة كان تُعرف بـ "أعشق حماتي لأنها أنجبت حياتي" إلى "سلمى اللومي رئيسة الجمهورية".

شركة الأخبار المزيفة 

يلي ذلك ما يُعرف بالمجموعات "الأكثر خطورة"، وهي التي -علاوة على الأخبار الكاذبة- تعمد إلى نشر خطابات عنيفة تروج للكراهية. ووفقا لفالصو فإن "هذه المجموعات يحركها طموح المكافأة، ليس بالمال فقط وإنما خاصة وقبل كل شيء بمناصب داخل أجهزة الدولة". 

إحدى خصائص هذه المجموعات هي مدى تشابهها، فالناشطون·ـات فيها يتصرفون بنفس الطريقة التي قد تُدار بها شركة تضم العديد من الموظفين·ـات ومختلف الشبكات، ولكن دون وجود تراتبية هرمية حقيقية. وتكون المحتويات المنشورة عليها متطابقة تقريبا وكذلك الموضوعات المتناولة في البث الحي الذي تطلقه.

تؤكد ريما الصغيّر، باحثة سيبرانية تونسية ومحللة سياسية أن "هنالك بالفعل آلة تعمل على التضليل. أعتقد أنه ليس مجانبا للصواب أن نسميها بروباغندا لأنها تحتوي على الكثير من المحتوى والمعلومات التي تتم مشاركتها بشكل مستمرّ لشيطنة المعارضين السياسيين". 

تقول منصة فالصو: "نحن نتحدث عن عدة شبكات صغيرة، بما قد يبلغ 1000 صفحة كأقل تقدير في أيدي خمسة مديرين رئيسيين مع تواصلات بين مختلف الشبكات. تكتّل هذه الشبكات الصغيرة يخلق شبكة مافيوزية ممتدة".

حددت إنكفاضة من خلال أبحاثها عددا من الحسابات الشخصية المالكة لصفحات تنشر محتوى مسانداً لقيس سعيد. ثلاثة من هؤلاء (أسامة عرفة ونزار الوسلاتي الملقب بـ "داكس" وثامر بديدة) يعدّون لوحدهم مئات الآلاف من المشتركين·ـات. ويجتمع هؤلاء الأعضاء البارزون على فايسبوك في إدارة بعض الصفحات المشتركة، بما يتيح لهم قوة ونفوذا على الشبكة الاجتماعية بفضل العدد الضخم لمتابعيهم.

يجمع مستخدمو الفايسبوك هؤلاء آلاف المتابعين·ـات ويديرون أحيانا عدة صفحات بشكل متواز للوصول إلى جمهور أوسع.

اتصلت إنكفاضة بأسامة بن عرفة الذي لم يرغب في الإجابة على أسئلتنا ونفى ببساطة وجود أي صلة له بنزار الوسلاتي داكس. وهذا الأخير أيضا لم يرد على طلباتنا.

أما ثامر بديدة فيقول إنه "يستخدم الشبكات الاجتماعية ويساند قيس سعيد منذ 2015". وهو يرى أن الشبكات الاجتماعية لها تأثير مهم في البلاد: "يمكننا إنجاز الكثير من خلال وسائل التواصل الاجتماعي في جميع أنحاء تونس، فايسبوك قوة كبرى". ولكن بعد تفاعله الأوليّ مع أسئلة إنكفاضة لم يرغب ثامر بديدة في مواصلة التجاوب مع طلباتنا. 

يدير بعض الأشخاص عدة صفحات متشابهة ويجمعون مئات الآلاف من المتابعين·ـات. على سبيل الذكر أسامة بن عرفة ونزار الوسلاتي داكس يديران 10 صفحات مشتركة.

من فايسبوك إلى قرطاج

بدأ نجم قيس سعيد يسطع على الساحة السياسية منذ 2014. خطابه المناهض للسيستام قرّبه من الشباب الذين يريدون "عيش ثورة لم يعيشوها" وفق عبارة أستاذ العلوم السياسية حمادي الرديسي. وهكذا تمكن قيس سعيد من خلال رفضه للأحزاب التقليدية من التعويل على العصر الرقمي الجديد للحصول على الدعم الذي يحتاجه. 

يظهر تقرير محكمة المحاسبات الصادر في أكتوبر 2020 أن 30 صفحة فيسبوكية تم استخدامها كأداة للقيام بالحملة الانتخابية لقيس سعيد. وتعدّ هذه الصفحات 3,045,466 متابعا ومتابعة، أي ما يقارب خمسة أضعاف عدد المتابعين·ـات للصفحات الداعمة لنبيل القروي مثلا. 

ووفقا للمعطيات المتوفرة على هذه الصفحات المفتوحة للعموم، فإن مديريها متواجدون في جميع أنحاء العالم وخاصة في تونس وفرنسا، ولكن أيضا في المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة وإيطاليا، ناهيك عن تركيا وألمانيا وكندا والصين. ويأخذ نشاط هذه النواة الصلبة أشكالا مختلفة تتراوح من المنشورات المكتوبة البسيطة أو الصور المرفقة بتعليقات إلى عروض البث المباشر والتي تعتبر علامتها المعروفة.

ترى ريما الصغير أن "هناك إساءة استخدام لميزة البث الحي. إذ تطلق العديد من الصفحات بثا متزامنا في حين أنه في الواقع مقطع فيديو مسجل مسبقا يتم فيه تشويه شخصيات وأحزاب سياسية مختلفة". 

قد توجّه بعض هذه "المونولوجات" كلامها إلى الشعب التونسي بطم طميمه، أو تخاطب به رئيس الجمهورية شخصيا. كما أن بعضها الآخر قد يكون أكثر عنفا حيث تتواتر فيه الإهانات عند نهاية كل جملة، في مهاجمة للمجتمع المدني بأسره ووسائل الإعلام. وتكون اللغة الجسدية للخطباء مشحونة بالتهديد مثلما هو حال النبرة المستعملة والتي غالبا ما تكون غاضبة. ولا يتردد هؤلاء في إبداء رأيهم في كل قضية حال وكل شائعة منتشرة، بينما يستقون تفسيرهم لها من نظريات مؤامراتية. هذه المنشورات والبث الحي، والتي غالبا ما تأخذ حجما هائلا عبر مشاركتها عددا كبيرا من المرات، كثيرا ما تردد صدى خطابات قيس سعيد نفسه وأفكاره.

من جهة أخرى تكون المنشورات المكتوبة محمّلة بالتكهنات بل وحتى الأخبار الحصرية، وتكون إما داعيةً أو ملمّحةً للقرارات التي يتخذها رئيس الجمهورية في ما بعد. على سبيل المثال، لئن كان حل المجلس الأعلى للقضاء يعود إلى 13 فيفري 2022 فإن صفحات الفايسبوك بدأت تعلن عن حله منذ شهر جانفي.

في نفس يوم الحل هنأت هذه الصفحات الرئيس بشدة على قراره "المتخذ لصالح الشعب" مع تعبير يظهر كثيرا: "فعلها القيصر".

أما الهجمات الموجّهة إلى القضاة فقد كانت في كثير من الأحيان مباشرة، شخصية ومهينةً. وقد رأى العديد منهم صورهم في هذه المنشورات ترفقها جملة تشهيرية واحدة أو أكثر تشير إليهم بأصابع الاتهام وتتهمهم إما بالخيانة أو الإرهاب. خلال شهر جانفي 2022 لوحده، خصصت صفحتا "سيّب صالح" و"صدربعل نيوز" على سبيل الذكر 162 منشورا مهينا للقضاة.

ينشر هؤلاء المستخدمون على صفحات الفايسبوك عددا كبيرا من المنشورات تتواتر فيها مواضيع محددة من قبيل "تطهير القضاء". وكانت أيام 6 و 23 و 24 جانفي أكثر الأيام إنتاجية من حيث عدد المنشورات بـ 13 و 12 و 15 منشورا تباعاً وفي نفس اليوم حول القضاة.

الحزب القومي التونسي، نفوذ متزايد

إضافة إلى الحسابات الشخصية، بدأت تبرز في الآونة الأخيرة على الساحة السيبرانية مجموعاتٌ حديثة ذات جماهير غفيرة. وبالاعتماد على نفس طريقة العمل لـ "صدربعل نيوز" و "سيب صالح" ضد القضاة، بادرت هذه المجموعات أيضا بنشر محتوى مشحون بالكراهية والأخبار الكاذبة. لكن اختصاصها هذه المرة يتمثل في ترسيخ خطاب على غاية من العنصرية.

على سبيل المثال، يتمتع الحزب القومي التونسي الذي تأسس رسميا في 10 سبتمبر 2018 ولكنه بدأ نشاطه السياسي عمليا منذ 2012، بحضور قوي على الإنترنت لا سيما من خلال موقعه الإلكتروني Alomma.tn. في البداية كان الحزب يعدّ خمسة أعضاء، بمن فيهم سفيان الصغير وحسام طوبان ولم تكن لديه قاعدة شعبية حقيقية وقت إنشائه. لكن الحزب لم يبلغ نجاحه إلا في سنة 2020 خلال أزمة حكومة الفخفاخ، مع تضاعف منشوراته على فايسبوك وبدرجة أقل على يوتيوب.

وفقا لمنصة فالصو، بلغ الحزب في سنة 2021 مرحلة هامة في مسيرته أدت إلى ظهور متزايد: اختراعهم لكلمة "الأجصيين" من "أ.ج.ص" اختصاراً لـ "الأفارقة من جنوب الصحراء". مما دفع بالتونسيين·ـات للتساؤل حول تعريف الكلمة، وفقا للمنصة.

شهدت السنتان المواليتان اندلاع حملة كراهية وعداء ضد هذه الأقلية في الفضاء السيبراني. وبحسب فالصو فقد بدأت هذه الموجة من العنصرية في شهر نوفمبر 2022 صلب مجموعات فايسبوكية لأفراد يجمعهم شغفهم للحيوانات الأليفة، مثل SOS animaux، أين تتواتر نفس الشهادات حول الاختفاء التدريجي للقطط من شوارع تونس، باستعمال نفس العبارات والجمل مع تغيير اسم الحي أو المدينة المعنيّة. وتتهم هذه الشهادات الأفارقة من بلدان جنوب الصحراء بقتل القطط أو أكلها. وما يميّز هذه الحملة عن سابقاتها هو أنها لم تقف عند حدود منصة فايسبوك بل تجاوزتها لتمتد إلى تيكتوك .

تقول منصة فالصو: "في الأشهر الأربعة التي سبقت 21 فيفري (...)، تم احتساب 5 ملايين مشاهدة لصالح الإيديولوجية التي يروج لها الحزب القومي التونسي".

لم يلبث هذا النجاح السيبراني للحزب أن انقلب نجاحا إعلاميا. في شهر جانفي 2023، تعرضت الحملة لانتقادات من قبل الناشطة غفران بينوس في البرنامج الإذاعي الصباحي من تقديم برهان بسيّس على موجات إذاعة IFM. وسرعان ما طالب الحزب القومي بحقه في الرد المكفول بالمرسوم عدد 115 لسنة 2011 المؤرخ في 2 نوفمبر 2011 والمتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر، والذي ينص على أن حق الرد يكون في نفس البرنامج وخلال نفس الفترة الزمنية. 

ومع ذلك، اختار برهان بسيس إعطاء الكلمة لسفيان الصغير على قناة قرطاج+ التلفزيونية طوال مدة برنامجه "بالأمارة". اكتسبت حملة الحزب زخما جماهيريا وأصبحت الموضوع الرئيسي للعديد من البرامج الإذاعية، سواء على إذاعة ديوان إف إم، أو شمس إف إم، أو جوهرة إف إم، أو راديو ميد، وذلك طيلة بداية شهر فيفري. شهدت تلك الفترة تناقل المعلومات الزائفة ومناقشتها أكثر من أي وقت مضى مما منح الحزب ظهورا أكبر. اتصلت إنكفاضة بأعضاء الحزب غير أن أيا منهم لم يرد الإجابة على أسئلتنا. 

خطابات متشابهة

صفحات الفايسبوك هذه يبدو أنها تركت انطباعا لدى قيس سعيد. إذ ترى ريما الصغير أن أوجه التشابه بين الحملات السيبرانية وخطابات الرئيس صارت الآن أكثر وضوحا من أي وقت مضى. فالبلاغ الذي نشرته الرئاسة في 21 فيفري 2023 هو خير مثال على استعادة الأفكار والمصطلحات التي روج لها الحزب القومي التونسي في الأشهر السابقة لذلك.

فكلا السرديتان تتحدثان عن مؤامرة منظمة من الخارج، لا سيما من قبل "القوات الاستعمارية" مثل الاتحاد الأوروبي وعلى وجه الخصوص فرنسا. وكلاهما تشيران إلى مخاوف بشأن التأثير الديموغرافي لهذه الهجرة على تونس وخطر تحويل البلاد إلى "أمة منبتّة عن هويتها العربية الإسلامية". كما أنهما تسلطان الضوء على مشاكل العنف والجريمة والممارسات غير المقبولة المرتبطة بالهجرة مع الحاجة إلى وضع حد سريع لها. ناهيك عن إنكار أي شكل من أشكال العنصرية التي يعاني منها مهاجرو·ات جنوب الصحراء داخل التراب التونسي، واتهام أي شخص يدين أعمال الميز العنصري بأنه "خائن للدولة الأمة".

كانت سعدية مصباح، الناشطة الحقوقية ومؤسسة جمعية منامتي الملتزمة بمكافحة التمييز العنصري في تونس، هدفا للعديد من المنشورات التشهيرية والعنصرية. حيث حدد مختبر Digital Forensic Research Lab (DFRLab) الذي عمل بالتعاون مع إنكفاضة على هذا التقرير، 27 منشورا تم تداولها عبر الشبكات. 8 منها نُشرت في 1 مارس 2023 وتم مشاركتها أكثر من 950 مرة و 16 منشورا نُشر يوم 2 مارس 2023 بحوالي 200 مشاركة. 

اتهمت هذه المنشورات سعدية مصباح بـ "الخيانة" وزعمت أنها "تعمل ضمن جمعية لمرافقة وتوطين الأفارقة من جنوب الصحراء مقابل 100 ألف أورو من السفارة الألمانية". كما وصفت مزاعم أخرى الناشطة بأنها ذات "أيديولوجية يمينية متطرفة وأفروسنتريك". علما أن هذه المنشورات صدرت عن صفحات وحسابات مختلفة. وعلى الرغم من أن بعضها نُشر بفرق دقائق من بعضها الآخر مع نفس النص المتكرر من منشور إلى آخر - أو على الأقل بمحتوى شديد التشابه - إلا أن مختبر DFR يؤكد على أنه "من الصعب تأكيد وجود تنسيق في نشر هذه الاتهامات". كما يشير المختبر إلى أن بعضها قد يكون بالفعل صادرا عن "مستخدمين يؤمنون بصحة مثل هذه الاتهامات"، لكن هذه المنشورات "تمثل محاولات على الإنترنت لمهاجمة سعدية مصباح باستخدام نصوص منسوخة في محاولة لتضخيم الاتهامات التي لم يتم التحقق منها".

التأثير على قرطاج؟

بناء على حرصه على أن يبلّغ صوته إلى الحكومة، أعلن الحزب القومي التونسي أنه أرسل تقريرا إلى رئيس الجمهورية بتاريخ 26 ديسمبر 2022 يفترض به أن يثبت نظرية الاستبدال العظيم. لم يكن قيس سعيد غريبا عن نظريات المؤامرة إذ أعرب في السابق عن ميله للأفكار القائلة بأن مناوئيه السياسيين أو الوسط الجمعياتي "يريدون تدمير الدولة من الداخل" و "يمثلون امتدادا لأجندات خارجية".

باتباع رقم الإرسال الذي يوفره البريد التونسي أمكن للحزب القومي التأكد من وصول رسالته إلى قصر قرطاج في الفترة السابقة للخطابات المؤامراتية التي صرح بها رئيس الجمهورية بأقل من شهرين.

استخرجت منصة فالصو من التقرير المذكور الأخبار الكاذبة المنتشرة بين صفحاته وتناولتها بالتحليل الدقيق، وفي ما يأتي بعض مما انتقته إنكفاضة.

المصادر: المعهد الوطني للإحصاء، المرصد الوطني للهجرة "المسح الوطني للهجرة الدولية"، 2022
الصباح نيوز، "أفارقة جنوب الصحراء يغزون تونس وعددهم بلغ 700 ألف.. وما حقيقة المشروع الأوروبي لتوطينهم في تونس ؟"، 16 أوت 2022.

عندما ألقى قيس سعيد خطابه ضد المهاجرين·ـات من بلدان جنوب الصحراء في 21 فيفري 2023، كان خطابه يتماشى مع أيديولوجية الحزب القومي بل وزادها تضخيما. بحسب فالصو، فإن "كل هذه الرواية مفيدة للرئيس" الذي يجد بالتالي وسيلة لتبرير قراراته على أنها إرادة التونسيين والتونسيات. "إنها شبكة تنتج رواية قيس سعيد، وتدفعه إلى إصدار مرسوم أو بلاغ يدعي أنه نابع من إرادة الشعب". 

بعد أيام قليلة من الخطاب الرئاسي الشهير، وجه الحزب القومي التونسي هجماته نحو الجمعيات والمنظمات والمجتمع المدني والنقابات والاتحاد الأوروبي والمبعوثين الدبلوماسيين في تونس. ودعا الحزب في تقرير جديد إلى فرض حظر على الإعانات الدولية للمنظمات بحجة أنها يجب أن تمر أولا عبر رئاسة الحكومة أو رئاسة الجمهورية اللّتان ستوزّعان بدورهما هذه الإعانات بين مختلف المنظمات.

هذا التقرير الجديد المُرسل أيضا إلى الرئاسة، يبدو أنه جذب انتباه قيس سعيد الذي لمّح إليه في خطاب ألقاه يوم 25 نوفمبر 2023 قائلا أن "هناك جمعيات تتلقى تمويلات من الخارج وهي امتداد لدوائر استخباراتية ولا بد من وضع حدّ لها". فليس من الغريب إذا أن النقاش حول التشريعات المتعلقة بالمنح المقدمة للمجتمع المدني التونسي تدوم منذ أكثر من سنة.

لهذه الحملات السيبرانية وتفرعاتها عواقب ملموسة على الأشخاص الذين تستهدفهم اتهامات الحزب القومي وخطابات قيس سعيد. أولهم المهاجرون·ـات من بلدان جنوب الصحراء الذين صاروا يخشون على موارد رزقهم وسلامتهم بعد 21 فيفري 2023. "كان هناك الكثير من المعلومات الكاذبة وحملة مستهدفة بشكل واضح تتركز على الكراهية التي انقلبت إلى حالات عنف وعنصرية في الشوارع. وكل هذا للأسف كان من خلال وسائل التواصل الاجتماعي".