الشركات الأهلية: كيف أصبح الحلم الرئاسي مهمة الدولة

بين طموحات البناء القاعدي ومعوقات الواقع، تقف الشركات الأهلية في تونس كرمز لمشروع قيس سعيد الرئاسي. بعد سنوات من الجمود منذ صدور المرسوم المنظم لها، عادت هذه الشركات، على قلّتها، لتتصدر المشهد مع تسارع نسق الإجراءات الداعمة لها في الآونة الأخيرة. تمويلات، إعفاءات جبائية، منح وتسهيلات... من خلال رسوم بيانية تفاعلية تروي لكم إنكفاضة في هذا المقال قصة الشركات الأهلية من الألف إلى الياء.
بقلم | 10 أكتوبر 2024 | reading-duration 15 دقيقة

متوفر باللغة الفرنسية
يوم 9 فيفري 2024، استقبل رئيس الجمهورية وزيرة الاقتصاد، فريال الورغي، ليعيد على مسامعها تأكيده على أهمية الشركات الأهلية قائلا أن «آلاف التونسيين يتحفزون إلى تكوين هذا الصنف من الشركات».

الشركات الأهلية، هذا المشروع المحبّب جدا لرئيس الجمهورية من قبل حتى انتخابه للمرة الأولى سنة 2019، هو حجر الزاوية في مشروعه للبناء القاعدي. إلا أن قصة الشركات الأهلية على غاية من التعقيد، إذ شهدت نشأتها عقبات متعددة أسفرت عن خمودها لسنوات منذ صدور المرسوم عدد 15 لسنة 2022 المنظم لها. لكن كل ذلك تغير، وبنسق غير مسبوق، في الأشهر الأخيرة المفضية إلى الانتخابات الرئاسية.

في الرسم البياني التفاعلي التالي، تتقفى إنكفاضة تاريخ الشركات الأهلية من خلال أهم المحطات والتواريخ التي مرت بها.

انقر·ي على أحد النقاط أو الأعلام الحمراء للإطلاع على المزيد من المعطيات لكل تاريخ

07/05/2024 طبارلا
07/05/2024 طبارلا

الشركات الأهلية «حلم» ليس بحوزة الجميع

بعمادة الجوى الجبلية التابعة لمعتمدية تالة بولاية القصرين، حيث تنتشر آلاف الهكتارات من المساحات الغابية، استبشر مراد مرواني بصدور المرسوم عدد 15 لسنة 2022 المتعلق بالشركات الأهلية، ورأى فيه فرصة توفر له مورد رزق. 

يَعملُ مراد منذ أكثر من 20 سنة في شركة مختصة في مجال تقطير وتصدير زيوت الأعشاب إلى الخارج. و ما إن صدر قانون الشركات الأهلية بالرائد الرسمي حتى قرر تأسيس شركة في نفس المجال ليقطع مع التبعية في قطاع خَبره لأكثر من عقدين من الزمن. اختار مراد قطاع تقطير زيوت الأعشاب الغابية لأنه يراه من القطاعات الواعدة إذ يؤكد أصيل القصرين أن شركات تقطير الزيوت النباتية «تحقق مردودية مالية كبيرة».

انطلق مراد في الإجراءات القانونية لتأسيس الشركة بـ50 عضوًا، وهو النصاب القانوني الأدنى وفق ما ينص عليه القانون، لكنه اصطدم بعدم قدرة أغلب الأعضاء على توفير مبلغ 200 دينار قيمة مساهمة كل واحد منهم.

يقول مراد: «لم نستطع توفير التمويل الذاتي المقدر ب 10 آلاف دينار. دفع حوالي 15 شخصا مساهمتهم المالية فيما عجز بقية الأعضاء عن توفير المبلغ المطلوب بسبب ظروفهم الاجتماعية الصعبة خاصة وأن أغلبهم من ضعاف الحال والعاطلين عن العمل». 

ورغم صدور قرار تأسيس الشركة رسميا بالرائد الرسمي خلال شهر أفريل سنة 2024، إلا أن مراد لا يستطيع وشركاءه التمتع بتمويل من البنك التونسي للتضامن «لعدم قدرتنا على فتح حساب جاري للشركة». وبذلك توقفت الشركة الأهلية المتخصصة في تقطير الأعشاب الجبلية عند ذلك الحد ووُئدت في مراحل تأسيسها الأولى. 

ولئن فشل مراد وكثيرون غيره في استكمال إجراءات تأسيس شركاتهم الأهلية لأسباب مختلفة، إلا أن عدد الشركات الأهلية المحدثة في تونس منذ صدور المرسوم عدد 15 إلى غاية يوم 15 أوت من سنة 2024، بلغ 77 شركة أهلية منها 61 محلية و 16 شركة جهوية، حسب ما ورد بالسجل الوطني للمؤسسات. في الرسم البياني التالي ملخّص لأهم خصوصيات الشركات الأهلية.

التمويل والإعفاء الجبائي أولى المعارك

يوم 30 سبتمبر 2024، انتقلت كاتبة الدولة لدى وزير التشغيل المكلفة بالشركات الأهلية، حسنة جيب الله، إلى ولاية القصرين لتشرف على تدشين الشركة الأهلية المحلية العبادلة للنقل المختصة في نقل العاملات الفلاحيات على مستوى عمادات معتمدية سبيطلة. وذكرت جيب الله المعيّنة حديثا ضمن التحوير الوزاري الموسّع يوم 25 أوت الماضي، أن شركة العبادلة سوف «تحلّ جزئيا مشكلة نقل العاملات الفلاحيات اللواتي يتعرضن لشبح الموت كلما انتقلن لعملهن.» 

وعلى عكس شركة مراد التي لم تر النور بعدُ، دخلت شركة العبادلة رسميا حيز التشغيل كأول شركة أهلية محلية بولاية القصرين. بدأ عبد النبي الرميلي إجراءات تأسيسها يوم 21 سبتمبر 2023 بـ 70 عضوا (50 رجلا و 20 إمرأة) وبرأس مال يقدر بـ 14 ألف دينار. لكن «تداخل القوانين والإجراءات الإدارية المعقدة» بحسب عبد النبي تسببت في تأخر انطلاق الشركة «لأكثر من 7 أشهر». 

يتابع عبد النبي: «غياب الدراية الكافية بقوانين وإجراءات الشركات الأهلية لدى الإداريين كَبّدَنا عناء التنقل بين هياكل إدارية مختلفة. وأحيانا تكون تلك الإدارات غير معنية أصلا بالشركات الأهلية وهو ما جعلنا نخسر الكثير من الوقت». 

تحصّلت شركة العبادلة للنقل، بعد عناء بيروقراطي، على تمويل من البنك التونسي للتضامن بقيمة 300 ألف دينار في أكتوبر الجاري تم توظيفها لشراء حافلتين صغيرتين لنقل العاملات الفلاحيات بكل عمادات سبيطلة. 

ولئن حالف الحظ شركة العبادلة، إلا أن تمويل الشركات الأهلية لطالما كان مسألة شائكة تحوم حول مشروع الشركات الأهلية منذ إصدار المرسوم المتعلّق بها قبل قرابة ثلاث سنوات. حتى أن رئيس الجمهورية استقبل في وقت غير بعيد ناجي الغندري، رئيس الجمعية المهنية التونسية للبنوك والمؤسسات المالية ليؤكد عليه ضرورة أن تنخرط «كافة البنوك العمومية والخاصة وسائر المؤسسات الماليّة الأخرى في دعم الاقتصاد الوطني انطلاقا من اختيارات الشعب التونسي» من خلال إسناد قروض بشروط ميسّرة «خاصة للمواطنين الذين بادروا بإنشاء شركات أهليّة».

أول خطوة تشريعية في اتجاه تمويل الشركات الأهلية تعود إلى مرسوم الصلح الجزائي الصادر يوم 20 مارس 2022 بالتزامن مع مرسوم الشركات الأهلية. وقد نص الفصل 30 منه على تخصيص 20 بالمائة من عائدات الصلح الجزائي للجماعات المحلية بغاية المساهمة في رأسمال الشركات الأهلية. غير أن مسار الصلح الجزائي لم يأت بثماره إلى الآن.

ثم وفي خضم الجدل الدائر حول قانون المالية لسنة 2023، تمت المصادقة في شهر ديسمبر 2022 على إحداث خط تمويل بقيمة 20 مليون دينار على موارد الصندوق الوطني للتشغيل يُخصص لإسناد قروض بشروط تفاضلية لفائدة الشركات الأهلية.

عُهد بالتصرف في خط التمويل هذا للبنك التونسي للتضامن بمقتضى اتفاقية مع وزارة المالية ووزارة التشغيل، إلا أنه لم يُفض إلى تمويل أي شركة لعدة أسباب أهمها «القوانين المعرقلة وضعف المبلغ المرصود» وفق قول راشد العبيدي المستشار السابق بوزارة الشؤون الاجتماعية المكلف بالشركات الأهلية في حوار مع موزاييك اف ام. 

مرت سنة 2023 إذأً دون تمويل أي شركة، فتقرّر في قانون المالية لسنة 2024 إضافة اعتماد جديد بقيمة 20 مليون دينار أخرى ليبلغ المجموع 40 مليون دينار. لكن الاختلاف هذه المرة كان أن «يُعهد بالتصرف في هذا الخط إلى البنوك». وأخيرا في 3 جويلية 2024، أعلنت وزارة التشغيل عن توقيع اتفاقية مع 6 بنوك تعهدت إثرها الأخيرة بـ «رصد اعتمادات تصل قيمتها الى 5 ملايين دينار لكل بنك لتمويل الشركات الأهلية على موارد خط التمويل» وفق ما أوردته الإذاعة الوطنية. كما نصت هذه الاتفاقية أيضا على إسناد القروض للشركات الأهلية بكلفة استثمار بسقف 300 ألف دينار، بعد أن تم الترفيع فيه من 200 ألف دينار*. 

أما بالنسبة إلى الفائدة على القروض المسندة للشركات الأهلية، فقد أعلن البنك التونسي للتضامن على موقعه أن البنك وضع هدفا لنفسه يتمثل في تمويل 100 شركة أهلية سنة 2024 بنسبة فائدة سنوية بـ 5% تُسدد على 7 سنوات مع إمهال بسنة وبسقف تمويل قدره 300 ألف دينار. كما  نقلت تونس إفريقيا للأنباء عن مصادر مسؤولة بالبنك أنه تولى إلى حدود منتصف أوت الماضي «تمويل 26 شركة أهلية باعتمادات جملية تقدّر بـ 7،6 ملايين دينار». ويجدر بالذكر أن انكفاضة لم تتمكن من التوصل إلى العدد الجملي للشركات الأهلية التي انتفعت بقروض من البنوك الموقعة على الاتفاقية.

لكن نسبة الفائدة هذه لا تنطبق على المشاريع التي تقبل البنوك تمويلها وتتجاوز سقف الاستثمار المحدد بـ 300 ألف دينار، إذ تنص الاتفاقية في هذه الحالة على توظيف نسبة الفائدة المديرية المتداولة في السوق والتي أبقى عليها البنك المركزي التونسي مؤخرا عند حدود 8%. 

لا تتوقف التسهيلات التي تتجنّد مؤسسات الدولة منذ بداية السنة وخصوصا في الأشهر الأخيرة لتأمينها للشركات الأهلية عند التمويل. فالامتيازات الجبائية أيضا عامل تشجيع حاسم، إذ أن الشركات الأهلية والمشاركون فيها، بمقتضى المرسوم 15، معفون من الضرائب والأداءات والمعاليم المستوجبة بالتشريع الجبائي لمدة 10 سنوات من تاريخ إحداثها. إلا أن تفاصيل منظومة الامتيازات الجبائية هذه تبدو إلى الآن غامضة الملامح ولم تدخل حيز التطبيق بعد. فإلى حدود شهر جويلية الماضي، كان رياض شود كاتب الدولة المكلف بالشركات الأهلية آنذاك، والذي أصبح وزيرا للتشغيل منذ التحوير الأخير، لا يزال يتدارس سبل «تبسيط الإجراءات الجبائية لفائدة الشركات الأهلية» مع عدد من إطارات من الإدارة العامة للديوانة بوزارة المالية. 

وتمخضت جلسة العمل تلك على «الاتفاق على دراسة جملة من المقترحات التي أعدتها الوزارة» لتكون بدورها محور جلسة عمل ثانية مع مصالح وزارة المالية لإدراجها في مشروع قانون المالية لسنة 2025. 

بعد ذلك، نشر موقع وزارة التشغيل وثيقة توضح معالم النظام الجبائي الاستثنائي للشركات الأهلية. تبرز الوثيقة إعفاءات من الضريبة على الشركات لمدة عشر سنوات، ومن الخصم على المورد طيلة نفس المدة، ومن عدة معاليم على غرار المعلوم على الأراضي غير المبنية في صورة ممارسة نشاطها بها ومعاليم التسجيل وغيرها. 

ويشمل نطاق الامتيازات الجبائية المقترحة في هذه الوثيقة المشاركين في الشركات الأهلية أنفسهم، حيث تُعفى المداخيل الراجعة إليهم سواء تعلّقت بأرباح موزعة أو بقيمة زائدة متأتية من الحصص الاجتماعية برأس مال الشركة من الضريبة على الدخل لمدة 10 سنوات.

غير أنه في الوقت الحالي، يبقى كل ذلك قيد «التدارس»، بينما عبد النبي الرميلي مؤسس شركة العبادلة للنقل بسبيطلة والتي انطلقت فعليا في العمل، لا يزال هو وشركاؤه «ينتظرون المصادقة على قانون الجباية الذي يتيح إعفاء الشركات الأهلية من الضريبة على الشركات ولم تتم المصادقة عليه بعد».

«عمل الشركة سينطلق رغم عدم حصولنا على الإعفاء الجبائي» يختم عبد النبي. 

أول شركة أهلية

وفي حين تخطو شركة العبادلة للنقل خطواتها الأولى، حصدت الشركة الأهلية المحلية للتصرف في مجموعة أراضي بني خيار، وهي أول شركة أهلية تم تأسيسها بتونس، رصيد تسعة أشهر من العمل. 

عقدت الشركة جلسة تمهيدية حول التأسيس في يوم 1 أكتوبر 2022 بإشراف قيس سعيد نفسه، وانطلقت في نشاطها الفعلي خلال شهر جانفي 2024 برأس مال يقدر بـ 14 ألف و20 دينار موزعة على 701 شخص بمساهمة تقدر بـ 35 دينار للشخص الواحد. 

وتستغل الشركة عقارا يمسح 913 هكتارا ببني خيار، وقد مكّن مثال التهيئة الغابية الشركة من الانطلاق في تسويغ عدد من المقاسم من غابة بني خيار لعدد من المستثمرين من أجل استغلالها بأسعار رمزية. وتعاقدت الشركة مع 15 مستثمرا من جملة 130 مترشحا تقدموا بملفات استغلال، 7 منهم انطلقوا في النشاط الفعلي وينشط 3 في القطاع الغابي و4 في استغلال الثروات الباطنية .

من بين الأنشطة المبرمجة في مقاسم أراضي مجموعة بني خيار زراعة التين الشوكي والخروب، ومشروع مندمج ترفيهي فلاحي ولانتاج السماد العضوي. كما أبرمت الشركة اتفاقية مع مستثمر لتمكينه من مقسم مساحته 20 هكتارا لإنتاج مشاتل الأشجار المثمرة والغابية، وآخر لاستغلال الطين (الطفل) والتربة لمدة ثلاث، وانطلقت في توجيه عدد من المقاسم الأخرى للاستغلال كمصبات مراقبة للمرجين.

يقول عضو مجلس إدارة الشركة، حاتم الناشي، لانكفاضة: «منحنا مجالا من الحرية للمستثمرين بهدف تشجيع الأهالي على استثمار الثروة الغابية. ولا تستفيد الشركة من أرباح المستثمرين بل تكتفي بالتمتع بأسعار الكراء». 

حققت الشركة الأهلية خلال السبعة أشهر الأولى من العمل، وفقا لرئيس مجلس الإدارة في حواره مع إنكفاضة، مرابيح تقدر بـ 600 ألف دينار «وهو ما مكننا من تغطية بعض التكاليف، والانطلاق في دراسة المشاريع الذاتية للمؤسسة المتمثلة أساسا في الزراعات المعدة للتصدير كالتين الشوكي والخروب والكروم». وتطمح الشركة في مرحلة لاحقة من تحقيق «مرابيح تُقدر بمليون دينار خلال السنة الثانية من نشاط الشركة». 

تتصرف الشركة الأهلية ببني خيار في عقار يؤكد رئيس مجلس إدارتها أنه «على الملك الخاص» وإن كان جماعياً ( أكثر من 15 ألف فرد). غير أن المرسوم عدد 15 منح الشركات الأهلية أيضا إمكانية أن تتولى من بين أمور أخرى «التصرف في الأراضي الاشتراكية مع مراعاة التشريع الجاري به العمل بخصوص الملكية العقارية.» 

«الأراضي الاشتراكية هي مسألة معقدة للغاية، فهي أراضٍ لا يمكن بيعها أو التصرف فيها لأنها في طور التصفية»، يشرح خبير في القانون العقاري لإنكفاضة. 

ينظم القانون عدد 28 لسنة 1964 المتعلق بضبط النظام الأساسي للأراضي الاشتراكية هذا الصنف من الأراضي، كما تم تنقيحه بالقانون عدد 69 لسنة 2016. وتتصرف في الأراضي الاشتراكية مجالس تصرف منتخبة من أفراد المجموعة المستغلين للأرض، تتولى مهمة إسناد الأراضي الاشتراكية على وجه الملكية الخاصة لفائدة الأفراد من بين أعضاء المجموعة ذكورا وإناثا.

يقول الخبير العقاري أن هذه الأراضي «تصدر فيها إجراءات معقدة تنتهي بصدور أمر اسنادي لفائدة شخص أو مجموعة من الأشخاص، وعندها فقط تكتسب الصبغة الخاصة.»

ضبط قانون 2016 أجلا بـ 5 سنوات كي تنتهي مجالس التصرف من عمليات الإسناد وتصفية الأراضي التابعة لها، وإلا يتولى الوالي إحالة الملفات العالقة على أنظار المحكمة العقارية لتفصل فيها.

يلاحظ الخبير العقاري أن مشاكل الأراضي الاشتراكية «لم تُحل لا بقانون 1964 ولا بتنقيح 2016، لكن السلط لم تتحرك سوى في موضوع الشركات الأهلية حتى يشجّعوا الناس على إحداثها، وحتى يشجع الناس المسار.»

الحث على خلق الشركات الأهلية يتعدى التمويلات والإعفاءات الجبائية وإمكانية التصرف في الأراضي الاشتراكية إلى إمكانية استغلال ملك الدولة الخاص أو ما يُصطلح عليه باسم العقارات الدَّولية. تمسح هذه الأراضي قرابة 500 ألف هكتار وتتكوّن أساسا من المساحات المتأتية من تصفية الأحباس والأراضي المسترجعة من المعمرين.

الأراضي الدولية: هنا مربط الفرس

بعد يوم من التحوير الوزاري الموسع، ووسط الزغاريط وتهليل وتصفيق الحشود، زار قيس سعيد يوم 26 أوت معتمدية السرس أين وقف مخاطبا أهالي الجهة قائلا «نحن في معركة تحرير تونس وأنتم لكم الحق لتأخذوا فرصكم». لم يلبث أن تقدم أحدهم وذكر مسألة الأراضي الدولية حتى سارع الرئيس إلى طمأنته بأنه «تمت اليوم إزالة العقبات التي وضعت من قبل الناس المضادة» بخصوص الأراضي الدولية والشركات الأهلية مؤكدا أن «القانون في خدمة الشعب».

لعلّ كلمات الرئيس قد تبدو ملغزة، لكن مسألة الأراضي الدولية في ملف الشركات الأهلية هي مسألة جوهرية. ذلك أن «معظم الشركات الأهلية وقع إنشاؤها في القطاع الفلاحي» مثلما ذكر وزير التشغيل الجديد رياض شود خلال افتتاح السنة التكوينية يوم 17 سبتمبر المنقضي، وبالتالي أكبر إشكال في نظره «يكمن في الأراضي الدولية الفلاحية». 

العقارات الدولية الفلاحية هي الأراضي التابعة لملك الدولة الخاص، والمعدة للانتاج الفلاحي. وهي أراضٍ يُحجّر التفويت فيها لأيٍ كان وتحت أي ظرف وفق ما ينص عليه القانون*، إلا في حالتين اثنتين: إما لتسوية وضعيتها العقارية، أو لمعاوضتها مع عقار آخر ترى فيه الدولة مصلحة أكبر.

لم تمض بضعة أشهر على صدور المرسوم 15 في مارس 2022، حتى استقبل قيس سعيد وزير أملاك الدولة والشؤون العقارية آنذاك محمد الرقيق يوم 7 نوفمبر 2022، ليثير «موضوع إنشاء الشركات الأهلية والصعوبات التي يجدها المواطنون في بعثها بحجّة أن بعض النصوص القانونية أو الترتيبية تتعارض معها». وواصل الرئيس مصرا «إذا كان هناك نصّ قديم يتعارض مع نص آخر فالنصّ الجديد يجب أن يطبق، وإذا كانت هناك حاجة إلى تعديل فالواجب يقتضي المراجعة والتنقيح». ولم يكد يمر أسبوعان حتى وجد الوزير نفسه مرة أخرى في نفس المقام جالسا قبالة الرئيس، يصغي لنفس التعليمات : المحافظة على أملاك الدولة و «تنقيح ما يجب تنقيحه حتى يستفيد منها أبناء الشعب التونسي وخاصة في إطار الشركات الأهلية».

مرت قرابة سنتان على ذلك إلى أن حل يوم 4 جويلية 2024، حين اجتمع مجلس الوزراء برئاسة الحشاني نيابة عن رئيس الجمهورية، للتداول في جملة من مشاريع القوانين، من بينها تنقيح القانون المتعلق بالعقارات الدولية الفلاحية «والذي يستهدف بالأساس الشركات الأهلية» وفق نص بيان رئاسة الحكومة. غير أن تفاصيل التنقيح ومآله ظلا من قبيل المجهول.

تسارعت الأحداث منذ ذلك الوقت، إذ أعلن الرئيس عن ترشحه لولاية ثانية ذاكرا في خطابه من برج الخضراء، أن «البعض سقط عنهم القناع والبعض الآخر سيسقط عنه في قادم الأيام». وبالفعل، انتقل الرئيس إلى مقر رئاسة الحكومة يوم 30 جويلية ليعاتب رئيس حكومته قائلا أن «الإدارة تعطّل وما يحصل ليس طبيعيا» وكاشفاً عن «جيوب ردة في الإدارة انتهى وقت وجودها». لينتهي ذلك بإقالة الحشاني وتعويضه بكمال المدوري على رأس الحكومة يوم 7 أوت.

وفي غضون أسبوع من ذلك، صدر عن وزارتي الاقتصاد وأملاك الدولة قرار مشترك* يسمح بالتفويت بالمراكنة (أي دون بتّة) في العقارات التابعة لملك الدولة الخاص لفائدة المشاريع الاستثمارية «وخاصة الشركات الأهلية» مثلما ينص فصله الثالث. غير أن القرار المذكور كان يتعلق فقط بالعقارات الدولية غير الفلاحية أي ذات الصبغة العمرانية، وفق تأكيد مدير عام التصرف والبيوعات لوزارة أملاك الدولة سمير العلاقي.

يشرح خبير في القانون العقاري فضل عدم ذكر اسمه أن «المراكنة هو استثناء من الصفقات العمومية. لأن الدولة رغم ما لها من امتيازات السلطة العليا إلا أنها، بمقتضى القانون الإداري، مقيدة في اختيار متعاقديها الذي يجب أن يتم في إطار صفقة عمومية.»

«وبالتالي فإن اختيار آلية المراكنة للتفويت في العقارات الدولية يمكّن الدولة من تجاوز مبدأ الصفقات العمومية وما يستوجبه من منافسة من خلال طلب عروض أو بتة عمومية مفتوحة للجميع» يواصل الخبير.

لا يبدو أن ذلك كان كافيا ليحصد الرضا، إذ جاء التحوير الموسع ليوم 25 أوت بتغييرات طالت 22 حقيبة وزارية وكتابة دولة، منها وزارة أملاك الدولة التي صار يترأسها وجدي الهذيلي بمهمةٍ صرّحَ عنها يوم تسلم مهامه بالوزارة تتمثل في: «مزيد تفعيل دور العقار الدولي في المساعدة على تنفيذ سياسة الدولة التنموية.» وبالفعل اجتمع وزير أملاك الدولة يوم 11 سبتمبر بوزير الفلاحة، ووزير التشغيل، وكاتب الدولة المكلف بالمياه، وكاتبة الدولة للشركات الأهلية «للنظر في تسهيل عملية تخصيص الأراضي الفلاحية لإنشاء الشركات الأهلية.»

يرى الخبير في القانون العقاري أن «التخصيص أخطر بكثير من التفويت بالمراكنة لأنه يتم بدون مقابل. بينما التفويت بالمراكنة قد يكون بالمليم الرمزي أو بثمن يقدّره خبير»

ولم تتمخض جلسة العمل تلك عن شيء ملموس إلى حد الآن، رغم تواصل الحديث حول تنقيح قانون الأراضي الدولية الفلاحية وتعويل شركات أهلية ناشئة في القطاع الفلاحي على ما سيوفره لها ذلك من امتيازات. ولاية نابل مثلا «وجّهت المكاتيب اللازمة لوزارة الفلاحة والموارد المائية ووزارة أملاك الدولة والشؤون العقارية بخصوص ملفات 15 شركة أهلية تنوي النشاط في القطاع الفلاحي واستغلال الأراضي الدولية الفلاحية.» وفق تأكيد والية نابل السابقة لوكالة الأنباء الوطنية.

طموح الفريق الحكومي الجديد لاستنباط طرق تمكّن الشركات الأهلية بالأخص من ملك الدولة الخاص لا يقف عند الأراضي الدولية الفلاحية وغير الفلاحية، إذ صرحت كاتبة الدولة للشركات الأهلية خلال الندوة الدولية حول دعم وحماية الاستثمار التي نظمتها وزارة الاقتصاد يوم 24 سبتمبر أن العمل أيضا جارٍ «لتحديد الجوانب الإجرائية والترتيبية لتطوير التشريعات الخاصة بالملك الغابي». 

ورغم أن «الإدارة العامة للغابات هي من أصعب الإدارات كونها المسؤولة على الحفاظ على الملك الغابي» وفق تعبير الخبير في القانون العقاري في حواره مع إنكفاضة، لم يمنع ذلك من إعداد «اتفاقية مشتركة سوف تصدر عن الإدارة العامة للغابات، ووزارة الفلاحة، ووزارة التشغيل ممثلة في كتابة الدولة للشركات الأهلية في المجال الغابي» بحسب ما أعلنت عنه حسنة جيب الله لأول مرة خلال حفل تدشين شركة العبادلة للنقل. وتهدف هذه الاتفاقية وفق كاتية الدولة إلى «تمكين باعثي الشركات الأهلية في هذا القطاع من الدخول في النشاط سواء في السياحة الإيكولوجية أو تقطير الزيوت وغيرها.»

من يوم 28 سبتمبر إلى يوم 4 أكتوبر، واكبت كاتبة الدولة للشركات الأهلية، حسنة جيب الله، تباعاً فعاليات دخول 11 شركة أهلية طور النشاط الفعلي، متوزعة على ولايات باجة، جندوبة، زغوان، القصرين، القيروان، المهدية، سيدي بوزيد وغيرها، من جملة «12 شركة دخلت طور النشاط الفعلي» وفق ما صرّحت به جيب الله التي تأمل أن يصل عددها «إلى 20 شركة في شهر أكتوبر».

«شيك على بياض»: منح وتسهيلات بالجملة

«تذليل الصعوبات» للشركات الأهلية -وهي عبارة متواترة على لسان رئيس الجمهورية- يشمل في ما يشمله «تبسيط الإجراءات لبعث هذا الصنف من الشركات في كافة القطاعات» وفق ما ورد في بلاغ الرئاسة إثر استقباله لوزير التشغيل وكاتبة الدولة للشركات الأهلية يوم 2 سبتمبر. 

إثر ذلك، انطلقت المكنة على قدم وساق، ولم تلبث كتابة الدولة للشركات الأهلية أن أعلنت يوم 11 سبتمبر عن فتح باب إيداع مطالب الانتفاع بمنحة دعم للشركات الأهلية تقدر بـ800 دينار شهريا لمدة سنة. هذه المنحة التي تم إقرارها منذ سنة 2019 لتشجيع المبادرات الخاصة والفردية في حدود 200 دينار للفرد، تم توسيع نطاقها لتشمل الشركات الأهلية والترفيع فيها و«لم يتم تفعيلها إلا مؤخرا» وفق كاتبة الدولة. وأضافت أن «منحة 800 دينار ينتفع بها اليوم كلّ المشاركين على مستوى شركة أهلية مهما بلغ عددهم» وهو في نظرها «مبلغ رمزي لأن المسألة ليست مسألة أموال بل هي مرافقة ودعم.»

وتستهدف هذه المنحة الشركات الأهلية التي استكملت تأسيسها، ولم تتجاوز ثلاث سنوات من بدء نشاطها، والمنخرطة في السجل الوطني للمؤسسات. كما يُشترط عليها تقديم دراسة جدوى «أو الالتزام بتقديمها خلال 60 يوما» وإلا يتم وقف صرف المنحة بعد تجاوز المهلة.

أحدث الإعلان عن المنحة جدلا واسعا في الأوساط الإعلامية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، واشتد الجدل عندما صدر بلاغ إعلامي آخر عن كتابة الدولة المكلّفة بالشركات الأهلية، يقضي بإلغاء شرط طلب دراسة المؤثرات على المحيط* وكراس الشروط للحصول على شهادة التصريح بالاستثمار لدى وكالة النهوض بالصناعة والتجديد (APII). 

وبينت كتابة الدولة للشركات الأهلية في نفس البلاغ أنه «تم إرجاء طلب الإستظهار بهذه الدراسة أو كراس الشروط المصادق عليه قبل الدخول طور النشاط الفعلي أو عند طلب صرف المنحة طبقا لقانون الاستثمار الجاري به العمل». كل ذلك من أجل «تبسيط إجراءات إحداث الشركات الأهلية وتذليل الصعوبات التي تعيق إحداثها».

ندد المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (FTDES) في بلاغ بهذا البلاغ ورأى فيه «ضربا مكاسب التونسيين وحقهم في بيئة سليمة ويكرس العودة لمحاور التلوث.» واعتبر المنتدى «أن إلغاء إحدى آليات المراقبة السابقة على تلوث المحيط دون تنسيق مع الهياكل المتداخلة في المجال البيئي يضرب عرض الحائط ترسانة القوانين المنظمة للحق في البيئة».

ويتعارض القرار مع الأمر عدد 1991 لسنة 2005 المتعلق بدراسة المؤثرات على المحيط* الذي ينص في فصله الخامس أنه «لا يمكن للسلطة أو السلط ذات النظر أن تسلم ترخيصا لإنجاز الوحدة الخاضعة لدراسة المؤثرات على المحيط إلا في حالتين»: إما بعد اطلاعها على عدم اعتراض الوكالة الوطنية لحماية المحيط (ANPE)، أو بعد اطلاعها على كراس الشروط معرفا عليه بالإمضاء طبقا للأنموذج المصادق عليه من قبل الوزير المكلف بالبيئة.

في تصريح لانكفاضة، اعتبر حمدي حشاد، الخبير في البيئة والتغيرات المناخية، أن هذا القرار «قد قلل من أهمية شرط دراسة المؤثرات البيئية المفروض على كل المؤسسات». وأضاف أن فكرة الشركات الأهلية «يمكن أن تكون ناجعة في حالة حققت أهدافها المتعلقة بخلق الثروة وتحريك عجلة الاقتصاد من خلال بدائل تنموية تحترم البيئة ولا تسبب أي ضرر لها. إلا أن هذا القرار منح أولوية للاستثمار على حساب حماية الوسط الطبيعي».

يواصل حمدي حشاد بالقول: «هذا القرار الوزاري بمثابة شيك على بياض، ويعتبر خرقًا للتمشي المنطقي للقوانين».

من جانبها، أكدت إيناس لبيض، المسؤولة عن قسم العدالة البيئية في المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في حوار مع إنكفاضة، أن «كراس الشروط ودراسة المؤثرات البيئية القَبْلية قد تم تفعيلهما لضمان عدم انتهاك البيئة»، وأن المشرع وضع هذا القانون ليتم تطبيقه «قبل البدء في المشاريع، وليس بعدها». 

«قرار إرجاء دراسة المؤثرات البيئية قرار ارتجالي يتيح لباعثي الشركة اعتماد العقلية الربحية دون إيلاء أهمية للمسؤولية المجتمعية والبيئية مما سيزيد الوضع سوءًا» تختم لبيض.

جدوى اقتصادية أم «مشروع سياسي» ؟ 

لا توجد إحصائيات دقيقة متاحة حول الشركات الأهلية، عدا عن بعض الأرقام المذكورة في تصريحات المسؤولين وبلاغات بعض المؤسسات الحكومية التي سقناها آنفا.

هذا الوضع دفع بعض الخبراء الذين تواصلنا معهم إلى تخيير عدم الإدلاء بآرائهم، بينما اعتبر أحدهم وقد فضل عدم ذكر اسمه، أن «ملف الشركات الأهلية ليس اقتصاديا بل هو ملف سياسي بامتياز» وبالتالي «لا يمكن لأي مختص أن يبدي رأيه في موضوع لا تتوفر حوله أية معطيات» وفق تعبيره.

من جانبه يرى أمين بوزيان، الخبير في العدالة الجبائية، أن فكرة الشركات الأهلية في المطلق «قد تستغرق وقتا لتبرز نتائجها»

«هي ليست فكرة سيئة في حد ذاتها إذا ما شهد الاقتصاد التونسي إقلاعا، لكن السياق الاقتصادي الحالي يعرف انكماشا بنسبة نمو 0.4 بالمائة السنة الفارطة، وبالتالي قد تحول هذه الظروف دون أن تحقق الشركات الأهلية أهدافها» يواصل بوزيان.

تتحجج السلط في دفاعها عن مشروع الشركات الأهلية بكونها «المنوال الذي يبحث عنه الكثيرون ويقوم على خلق الثروة وتوزيع عائداتها على جميع المواطنين على قاعدة العدل الاجتماعي»، وبكونه سيخلق مواطن شغل في بلد بلغت فيه نسبة البطالة 16 بالمائة إلى حدود الثلاثي الأول لسنة 2024.

يقول المدير السابق للوكالة الوطنية للتشغيل، حافظ العاتب، في حوار مع إنكفاضة أن «آلية الشركات الأهلية ليست آلية لمكافحة البطالة، نظرا لأن المساهمين في هذه الشركات عموما، مع بعض الاستثناءات، هم ليسوا من المعطلين عن العمل» في إشارة إلى إمكانية الجمع بين المشاركة في شركة أهلية وصفة أجير.

ومن جانبه، يرسم الخبير في القانون العقاري الذي فضل عدم ذكر اسمه صورةً أكثر قتامة عن مستقبل الشركات الأهلية. فهي في نظره «دخيلة على القانون التونسي» وأشبه «بتجربة التعاضد في الستينات التي قادها أحمد بن صالح ولم تنجح.»

ويواصل الخبير مستغربا: «كيف تتوقع من شركة أن تحقق أرباحا بـ50 عضوا وبرأس مال صغير ونشاط أصغر في رقعة ترابية محدودة لا يمكن تجاوزها ! هذا غير منطقي». 

مهما كانت المواقف حول الشركات الأهلية وجدواها، واقع الحال يدلّ على أنها من أكبر أولويات الحكومة في الوقت الحالي، أو على أقل تقدير إلى حدود انتخابات 6 أكتوبر التي فاز بها قيس سعيد بـ90.69 % من الأصوات، في تتمة لمسار انتخابي شهد جدلا واسعا.