"مثلث الموت"
في الوقت الذي يُقبل فيه معظم التونسيين.ـات على اقتناء الملابس المستعملة من الفريب، يتجه ما لا يقل عن 82٪ من إجمالي إنتاج قطاع النسيج الوطني إلى التصدير، وفقا لأحدث المعطيات التي يوردها تقرير صادر عن منظمة "محامون بلا حدود" (ASF). وتُعد تونس، إلى جانب المغرب ومصر، وجهةً جذابة للشركات متعددة الجنسيات الناشطة في ميدان صناعة النسيج نظرًا لقربها الجغرافي من السوق الأوروبية.
في مدينة المنستير، سرعان ما تتحول الشواطئ السياحية إلى شكل أشبه بامتداد بحري موحل. ومن المفارقات الغريبة أن الطريق المؤدية إلى الأحياء الشعبية الواقعة جنوب المدينة والمعروفة بكونها مركز صناعة النسيج في الجهة – خنيس والقصيبة ولمطة وقصر هلال والمكنين - تحمل اسم "شارع البيئة".
بحسب الباحث جيمي فيرنيس، يجسد اسم الشارع هذا والمنتشر في جميع المدن الرئيسية بالبلاد تلك "النزعة البيئية الاستبدادية لتونس التسعينات تحت حكم بن علي" والتي حاول من خلالها النظام الدكتاتوري آنذاك تلميع صورته "عبر التطرق إلى قضايا استراتيجية وذات أهمية في أعين الغرب".
"أما نحن، فنطلق على هذه المنطقة اسم مثلث الموت" يقول صياد وجدناه يقف وحيدا بجوار رصيف بحري صغير في بلدة قصيبة المديوني التي تضم 13 ألف نسمة.
شمر الصياد سرواله وغطّس رجليه في المياه القذرة ليمتطي قاربا خشبيا صغيرا قائلا: "الآن، أصبح مجرد العثور على سمكة صغيرة يتطلب الإبحار بعيدا عن الساحل".
"الصادق هو أحد الصيادين القلائل الذين ما زالوا يجرؤون على الإبحار في هذه المياه"، يروي ياسين مدرّس مادة التاريخ بمدرسة البلدة، متأملا الصادق من بعيد دون أن يجرأ على الاقتراب ليتفادى استنشاق الرائحة القوية المنبثقة من المياه.
يُجمع المارون عبر شارع البيئة على أن "تركّز شركات النسيج على مدى بضعة كيلومترات أصبح يخنق الخليج" ويتسبب في تلوث مياه البحر أين اعتاد السكان على الاستحمام صيفا.
يوضح منير حسين، رئيس فرع المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (FTDES) بالمنستير أن هذه المنطقة تحتضن خمس مجمّعات صناعية: "توجد 45 شركة رسمية، ولكن البعض الآخر لا يكتسي صبغة قانونية، وبالتالي لا يمكننا حصرها أو حتى ملاحظتها. وهي غالبًا ما تكون بمثابة مرآب أو مستودع لا يحمل أية لافتة".
وبهذا الشكل تتم عملية التعاقد الخارجي حيث "تنقل كبرى الماركات العالميات عملية التصنيع إلى تونس لتقليص التكاليف. ثم تبرم بعض الشركات بدورها عقود مناولة لمزيد خفض التكاليف ودعم قدرتها التنافسية"، كما يبين الحبيب الحزامي، رئيس الجامعة العامة للنسيج والملابس والجلود والأحذية المنضوية تحت لواء الاتحاد العام التونسي للشغل (FGTHCC-UGTT).
وبحسب حسين عن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية فإن "المعامل غير المرخصة غالباً ما تلجأ إلى حفر آبار للنفاذ إلى المياه الجوفية، لينتهي بها الأمر إلى تلويث الخليج من خلال تصريف المياه المستعمَلة في البحر".
ويضيف حسين أن الديوان الوطني للتطهير (ONAS) “عاجز عن معالجة كل هذه المياه المستعمَلة”. ولذا، تتقاذف الدولة والشركات الخاصة مسؤولية تلوث الخليج. أما ياسين مدرس التاريخ فيصرّ على أنه "في أثناء ذلك، لم يعد هناك أي شيء طبيعي هنا بسبب هذه المياه الملوثة".
"إننا نسمّم الأسماك والنبات والعباد. كل ما أستطيع فعله هو شرح مفهوم التلوث لتلاميذي على أمل أن يجدوا طريقة للمغادرة".
نداءات المجتمع المدني لا تلقى مستجيبا
فاطمة بن عمر، 28 عاما، وعت بمعنى التلوث من خلال ما تعاينه عبر نافذتها وما استمعت إليه من قصص أجدادها الذين وُلدوا وترعرعوا في بلدة قصيبة المديوني. تقول هذه الناشطة بالمنطقة: "كثيرا ما أخبروني أن الناس اعتادوا السباحة وصيد الأسماك هنا. أما أنا، فلم يسبق ليقط أن رأيت البحر حياً ".
في أعقاب الثورة، شهدت بلدتها سنة 2013 موجة من الاحتجاجات التي شنها الأهالي تنديدا بـ"الوضع البيئي والصحي الكارثي" كما نقرأ على اللافتات التي رفعها المتظاهرون.ـات آنذاك. ومع ذلك، لم تأت الاحتجاجات بنتيجة وتواصل التلوث البحري بلا رادع.
في نفس الموضوع
تسهر جمعية حماية البيئة بقصيبة المديوني (APEK) التي تم تأسيسها سنة 2014 على مراقبة مستوى التلوث البحري في الخليج. وتسعى فاطمة من ناحيتها جاهدةً إلى تحسيس متساكني ومتساكنات المنطقة بحجم الكارثة البيئية التي تلحقهم: "لقد بدأنا بالتفكير في كيفية التصرف في الموارد في المنطقة واستعادة خليجنا. هنا، اعتاد الشباب على الروائح والنفايات والبحر الملوث".
تحت جسر يعتلي شارع البيئة، يجري أحد الأنهار القليلة التي لم تنضب بعدُ من المياه. غير أن هذه المياه، وفق النشطاء، "تعكر صفوها النفايات السائلة والمواد الكيميائية المتدفقة من بعض مصانع النسيج بالمنطقة". وتشرح فاطمة مشيرةً إلى الوادي بإصبعها أن "المياه المنسابة من وادي المالح تلوث البحر".
وفقا لآخر تقرير صادر عن منظمة محامون بلا حدود والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في أوت 2023، فإن عملية غسيل الدنيم المستعملة في صباغة منتجات الجينز تمثل أحد أبرز أسباب التلوث البحري في ولاية المنستير.
"في سنة 2022، تم تصدير 11 مليون وحدة من سراويل الجينز إلى الاتحاد الأوروبي، خضعت 85٪ منها لعملية الغسيل. ويستهلك صنع سروال واحد من الجينز كمية مياه تتراوح بين 55 و72 لترًا"، حسب ما يفيد به منير حسين عن فرع المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بالمنستير.
تبرز الدراسة التي أجرتها جمعية محامون بلا حدود أن صناعة الجينز تتطلب إنجاز عمليات تقنية تستوجب استعمال مواد كيميائية (مثل حمض الأسيتيك المستخدم في الغسيل والعديد من المنظفات الكيميائية ومنتجات التبييض أو بيروكسيد الهيدروجين) واستهلاك كميات هائلة من المياه في بلد يعاني من الإجهاد المائي.
وكانت تونس قد صادقت خلال العشرية الأخيرة على العديد من الاتفاقيات الدوليةعلى أمل تعزيز الإطار القانوني التونسي فيما يتعلق بمكافحة التلوث ودعم الأمن البيئي والتنمية المستدامة. كما يشير التقرير إلى أنه "وعلى الرغم من صرامة التشاريع الجاري بها العمل فيما يتعلق بحماية البيئة واستعمال الموارد المائية، فإن الجهات المكلفة بالرقابة وبزجر التجاوزات ترزح تحت عبء المسؤوليات المناطة بعهدتها وهي عاجزة عن التصدي للانتهاكات التي تقترفها هذه الشركات".
ووفقا للمنظمتين المذكورتين، يتسبب عاملان أساسيان في تلويث خليج القصيبة: من ناحية أولى، المعامل الصناعية الملوثة التي تسكب مواد كيميائية مباشرة في مياه البحر، ومن ناحية أخرى، الديوان الوطني للتطهير "الذي وإن كان مسؤولا عن معالجة مياه الصرف الصحي المنزلية، فإنه يتولى خاصة تطهير المياه المستعملة المصنعية"، حسب توضيح فاطمة بن عمر.
"وأحسن مثال على ذلك، محطة الديوان الوطني للتطهير لوادي السوق في خليج القصيبة. هذه المحطة المنشأة سنة 1992 قادرة يوميا على معالجة 1680 مترًا مكعبًا من المياه المستعمَلة لعدد سكان يتناسب مع هذه السعة. غير أنها تتلقى في الواقع أكثر من 9000 متر مكعب يوميا في المتوسط"، مثلما يؤكد منير حسين.
وباتصالنا به لم يستجب الديوان الوطني للتطهير لطلباتنا لإجراء مقابلة. بينما تؤكد الجامعة التونسية للنسيج والملابس (FTTH)، التي تمثل شقا من منظمة الأعراف في هذا القطاع، أن "كبرى الشركات المنتصبة في المنطقة متحصلة على جميع شهادات المطابقة اللازمة وتستعمل دورة مغلقة تسمح بإعادة استخدام المياه". كما توضح الجامعة أن القطاع يتخذ إجراءات لدعم التحول الطاقي والحفاظ على البيئة.
من جهته يؤكد فرع الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية (UTICA) بالمنستير والذي يمثل فرعا آخر من منظمة الأعراف صحّة هذه المعلومات. لكن، وفي حين أنه تم إرساء نظام لشهادات المطابقة والتدقيق البيئي بهدف مراقبة عمليات الشركات الكبرى، يقرّ أحد رجال الأعمال الذي فضل عدم الكشف عن هويته، أن "الجزء الخفي من سلسلة الإنتاج يفلت في واقع الأمر من القواعد التي تم وضعها".
"هذا الجينز هو في الواقع ماء"
حاليا، يجد الديوان الوطني للتطهير نفسه مطالبا بمعالجة كمية مياه مستعملة تفوق سعة محطات التطهير التابعة له. ويعزى هذا الوضع إلى ما طرأ على منطقة المنستير في غضون بضعة عقود من تغير جذري على مستوى أنموذجها الاقتصادي ومنوال التصرف في مواردها. فعلى بعد بضعة كيلومترات من المدن الساحلية، تتوه الطرقات بين أشجار الزيتون التي تقف أطلالاً تذكّر بالطابع الفلاحي للمنطقة في السابق.
غير أن قطاعيْ الفلاحة والصيد البحري نفسهما أصبحا يكتسيان صبغة صناعية اليوم، إذ بلغ إنتاج ولاية المنستير من زيت الزيتون ما يقارب 20 ألف طن في 2020. وتحتل المنطقة التي تحتضن 14 مشروعًا لتربية الأحياء المائية بعيدًا عن السواحل المرتبة الأولى وطنيا من حيث إنتاج الأسماك بكمية تتراوح بين 17.000 و18.000 طن بحلول عام 2022.
في التسعينات، تسببت موجة الجفاف التي شهدتها تونس وقتها في قلب الموازين رأسا على عقب مسفرةً عن تزايد حركة النزوح من المناطق الداخلية للبلاد نحو السواحل. يوضح منير حسين عن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في هذا الشأن أن "النزوح نحو السواحل كان مصحوبا بمنوال تنموي قائم على العولمة بدلاً من الاحتياجات الوطنية"، مضيفا: "لقد كانت منطقتنا مِحضنة لما يُعرف بالاستثمارات الهشة التي تشغّل عمالة رخيصة الأجر دون الاكتراث بالأضرار الاجتماعية والبيئية الناجمة عنها".
ويواصل بقوله إن هذه الزيادة المفاجئة في عدد السكان أسهمت في استنزاف الموارد المائية الطبيعية بالمنطقة، "والتي أصبحت لا تغطي سوى نصف احتياجاتنا". أما النصف المتبقي، فمصدره سُدَّا وادَيْ نبهانة ومجردة واللّذان يشكوان بدورهما من تراجع منسوب المياه فيهما. مع الإشارة إلى أن جزءا كبيرا من الموارد المائية لا يُستخدم لسد الحاجيات المنزلية، بل لأغراض صناعية.
ووفقا لتقرير محامون بلا حدود، تعتمد الشركات المصدّرة على الشبكة العمومية للمياه الصالحة للشراب (الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه - SONEDE) من أجل سد جزء من حاجياتها غير أن نصيب الأسد من هذه المياه توفّره الآبار التي تستمد مياهها من الموائد الباطنية. من جهته يؤكد منير حسين أنه "رغم أن مجلة المياه تقنن استعمال الآبار فإن 70٪ من المياه المستخدمة في صناعة النسيج مصدرها المياه الجوفية، إذ يقع حفر معظم الآبار داخل المصانع نفسها".
وبسبب حالة الجفاف التي تعاني منها البلاد حاليا علاوة على سوء التصرف في الموارد فإن تونس تواجه فقرا مائيا، حيث لا يتعدى متوسط حصة الفرد الواحد من المياه 450 مترا مكعبا أي دون خط الفقر المحدد بـ 500 متر مكعب، وفقا لبيانات سنة 2021. ذلك في الوقت الذي تشهد فيه البلاد تواصل تراجع احتياطيات المياه الجوفية، بحسب معطيات المرصد التونسي للمياه.
ولا يقتصر سوء التصرف في الموارد على قطاع صناعة النسيج فحسب بل يتعداه إلى قطاعات أخرى وإن يتميز هذا القطاع بالذات باستهلاك كميات هائلة من المياه خاصة عندما يتعلق الأمر بعملية غسيل منتجات الجينز.
تقول زينب المروكي، محامية عضو في جمعية محامون بلا حدود: "نحن ننتمي إلى سلسلة تزويد ممتدة الأطراف: الجينز الذي يُباع بـ 10 أورو لا يكلف الشركة سوى 30 سنتيما. غير أن سعر التصدير لا يأخذ في الاعتبار تكلفة المياه المستعملة وهو ما يثقل كاهل الدولة نظرا لتفاقم النقص المسجّل على مستوى الموارد المائية. هذا الجينز هو في الواقع ماء".
ويقر أحد رجال الأعمال الناشطين في الميدان وفقا لصيغة التعاقد الخارجي أن العلامات التجارية الكبرى - ورغم أنها تتموضع في قمة سلسلة الإنتاج - "فإنه يصعب تحميلها مسؤولية الأضرار الاجتماعية والبيئية".
ويشاطره الرأي عادل تقية، رئيس فرع الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية بالمنستير، مبينا أن "تتبع سلسلة المسؤوليات أمر على غاية من التعقيد، إن لم يكن مستحيلا".
الاتحاد الأوروبي يدعي تخضير إنتاجه لكنه يمعن في نقله جنوبا
يُسكب جزء من المياه المستمدّة مباشرة من الموائد الجوفية أو من شبكات الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه والملوَّثة بالعمليات الكيميائية في البحر دون تطهير مسبق. وبحسب الباحثين·ـات، تتسبب عملية صباغة المنسوجات في وجود ما لا يقل عن 72 مادة كيميائية سامة في الماء، 30 منها يستحيل التخلص منها.
ويجدر بالذكر أن ما يقدر بـ 17٪ إلى 20٪ من تلوث المياه على نطاق العالم مرده عمليات الصباغة والتشطيب النهائي المستعملة في قطاع النسيج، حسب معطيات البنك الدولي وإحصائيات البرلمان الأوروبي.
يظهر تقرير صادر عن البرلمان الأوروبي أن "المواد المستعملة في عمليات الصباغة والتشطيب النهائي مسؤولة عن حوالي 20٪ من تلوث المياه على الصعيد العالمي".
غير أن سعي الاتحاد الأوروبي إلى تحسين البيئة البحرية بشكل ملحوظ بحلول عام 2025 من خلال تنفيذ الاتفاقية الإطارية "الاستراتيجية من أجل الوسط البحري (DCSMM)"، لم يمنع العديد من القطاعات الملوثة من مواصلة نقل إنتاجها إلى بلدان الجنوب "التي تتميز برقابة أقل صرامة وتكاليف إنتاج أقل"، وفقًا لرجل الأعمال الذي فضل عدم الكشف عن هويته خوفا مما قد يلحقه من تداعيات جراء انتقاده "لقطاع استراتيجي" على المستوى الوطني.
غير أن التلوث لا يعرف حدودا في عرض البحر الأبيض المتوسط إذ يشمل 87٪ من مساحته الجملية التي تعكر صفوها الملوثات الكيميائية، وفقًا للخريطة الأولى التي أعدتها الوكالة الأوروبية للبيئة (EEA) بناءً على عينات مأخوذة من 1541 موقعًا.
خلال قمة الأمم المتحدة للمناخ 'كوب 27' المنعقدة بشرم الشيخ، تم التطرق إلى الأضرار البيئية المترتبة عن صناعة النسيج - التي تعتبر أحد أكثر القطاعات تلويثًا على ظهر هذا الكوكب - حيث تم ضبط حزمة من الأهداف الاجتماعية والمناخية في إطار تعزيز أواصر التعاون بين الاتحاد الأوروبي ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
ومن بين أبرز القضايا التي تمت مناقشتها في القمة التعجيل في مواءمة المعايير البيئية المندرجة في إطار إحداث "جوازات سفر رقمية للمنتجات"، وهي أداة يُفترض بها أن تسمح بتتبع مصادر جميع المواد والمكونات المستخدمة في عملية تصنيع السلع، بما في ذلك الملابس.
ومن جانبها، تؤكد الجامعة التونسية للنسيج والملابس أن كبريات الشركات المنتصبة في ساحل المنستير قد استثمرت في دورة مغلقة لإعادة استخدام المياه قصد الحد من التلوث. ويذكر منير حسين في هذا الصدد أن "خطورة الوضع تستوجب على جميع الشركات الاستثمار في دائرة مغلقة تسمح بإعادة استخدام المياه".
بيد أن الاستثمار في أشغال مكلفة وفي برامج إعادة تحويل يشترط وجود رؤية على المدى الطويل، وهو ما يُعتبر أمرا صعب التحقيق نظرا إلى أن الامتيازات الجبائية لفائدة الشركات المنصوص عليها في قانون الاستثمار التونسي تزول بعد انقضاء عشر سنوات من تاريخ الدخول في طور النشاط الفعلي. يشرح حسين: "لذا، تلجأ هذه الشركات إلى نقل عملية التصنيع إلى بلدان أخرى أو يُعاد فتحها تحت تسميات جديدة". ووفقًا لتقرير جمعية محامون بلا حدود، لا تتجاوز نسبة العاملين والعاملات في قطاع النسيج المنتفعين بعقد عمل غير محدد المدة عتبة 26%.
الأضرار البيئية والصحية للتلوث البحري
رغم فداحة الأضرار الملحقة بالخليج، لا تزال المناطق الجنوبية للمنستير أهم قطب صناعي لإنتاج الملابس الحاملة لعلامة 'صُنع في تونس'، مثلما تشهد على ذلك أفواج العاملات المرتديات زيا أبيض لدى مغادرتهن مقرات عملهن، علما أن هذا القطاع يوفر 170.000 موطن شغل.
وبحسب دراسة أجراها المركز الفني للنسيج في 2022، تحتل تونس المرتبة التاسعة - مباشرة بعد كمبوديا - في قائمة البلدان المصدرة للملابس نحو الاتحاد الأوروبي. ويُعتبر قطاع النسيج والملابس من أعمدة الاقتصاد التونسي حيث يضم رسميا 1530 شركة أي ما يمثل 31٪ من النسيج الوطني بحسب ما أوردته جمعية محامون بلا حدود. ويتم تصدير 82٪ من هذا الإنتاج نحو فرنسا وإيطاليا وبلجيكا وألمانيا وإسبانيا بالأساس.
غير بعيد عن مباني مستودعات بلافتات تحمل معظمها أسماء تنتهي بـ'تاكس' (TEX)، اتخذت بعض النسوة مجلسا لهن لتناول الغداء. قليلات هن من تجرأن على الكلام، وإحداهن تطرقت بالأساس إلى المشاكل الصحية المترتبة عن التعرض للمواد الكيميائية.
حول هذه النقطة، يؤكد الحبيب الحزامي، الكاتب العام للجامعة العامة للنسيج والملابس والجلود والأحذية: "لقد تلقينا العديد من الشكاوى المتعلقة بالمشاكل الصحية المنجرة عن معالجة منتجات الجينز وصباغتها". كما تبين بعض الدراسات أن عمال وعاملات قطاع النسيج - وخاصة صناعة الجينز- من بين الأكثر عرضةً إلى التهاب الجلد والأعين إضافة إلى أمراض الجهاز التنفسي والسرطان.
جدير بالذكر أن التلوث لا يضر فقط عمال وعاملات قطاع النسيج، بل يشمل جميع أهالي القصيبة. تشرح فاطمة بن عمر عن جمعية حماية البيئة بقصيبة المديوني: "نجهل ما تحتوي عليه مياه البحر بالضبط والكثير منا يفضل عدم معرفة ذلك. لم نتمكن من إجراء تحاليل مخبرية نظرا لتكلفتها الباهظة".
وتواصل: "كل ما نعلمه هو أن كل عائلة تضم على الأقل فردا مصابا بداء السرطان."
وتؤكد دراسة أجرتها مؤسسة هاينريش بول (Heinrich Böll Stiftung) الألمانية حول انتشار داء السرطان في القصيبة أنه "بحسب استطلاع الرأي الذي أجرته جمعية حماية البيئة بقصيبة المديوني في جويلية 2016، تبلغ نسبة الإصابة بالسرطان 4,3٪ وهي من أعلى المعدلات على الصعيد العالمي". وقد سبق وأن تم الكشف عن العديد من الأمراض السرطانية لدى الأهالي وإن لم يقع مسك سجل للحالات المعنيّة.
وكشأن جميع المدن الساحلية، تشتهر المنستير بصيد الأسماك الزرقاء والوراطة وسمك القد وغيرها من الأصناف المتوسطية. غير أن عملية الصيد البحري على الطريقة التقليدية باتت أكثر تعقيدا قبالة خليج قصيبة المديوني وأصبحت الصبغة الصناعية تطغى على القطاع برمته، مع هجر الصيادين لميناء البلدة.
يوضح أحد عمال الميناء الذي طلب عدم الكشف عن هويته أن "ميناء القصيبة أصبح مقفرا في حين أن كلا من ميناء صيادة وطبلبة في الناحية الأخرى من الخليج لا يزالان في طور النشاط. لم يتبق سوى عدد قليل من صغار الصيادين، بينما في السابق كنا معتادين على صيد الأخطبوط بأيدينا".
ويضيف قائلا: "منذ ثلاثين عاماً مضت، كانت المنطقة محضنةً للعديد من الأنواع السمكية المتوسطية بسبب ضحل عمق مياهها... أما اليوم، فلم يتبق شيء يُذكر"، ويؤكد العديد من صيادي المنطقة أنهم شهدوا حالات نفوق العديد من الأسماك، آخرها يعود إلى سنة 2020.
يقول عامل الميناء: "منذ بضع سنوات، قمنا بشفط الطحالب والنفايات بما في ذلك الكيميائية منها قصد إنجاز مشروع تهيئة الخليج. وبمجرد تنظيف البحر، دبت فيه الحياة من جديد. لاحظنا لعدة أيام عودة أسماك لم نكن قد رأيناها منذ عدة سنوات. لكن سرعان ما ابتلعتها الرمال المتحركة من جديد".
تم إنجاز هذا المقال بدعم من شبكة صحافة الأرض التابعة لإنترنيوز.