في عام 2021، قُبلت شيماء وهي مهندسة معمارية مقيمة بتونس لتواصل دراستها في جامعة باريس 1 بانتيون سوربون من أجل الحصول على شهادة ماجستير بحث في تاريخ الفن. وبينما كانت الشابة منشغلة بتصوّر مستقبلٍ لها في حضن عائلتها المقيمة بالعاصمة الفرنسية صُدمت برفض منحها التأشيرة. مرت على ذلك سنتان ولا تزال المهندسة لا تفهم السبب.
مرت إجراءات مطلب التأشيرة التي اتّبعتها شيماء بسلاسة، ذهبت إلى مقابلة إلزامية لدى كامبوس فرانس Campus France، وهي وكالة تابعة للمعهد الفرنسي في تونس (IFT)، ودفعت الرسوم المقدّرة بـ 250 دينارا. خلال المقابلة، سألها موظّفون·ات تونسيون باللغة الفرنسية عن اختيارها: "لماذا فرنسا ولماذا هذا الماجستير بالذات؟". فأجابت الطالبة الشابة بكل ثقة في النفس بأن هذا الشهادة تكملة مثالية لدراستها التي دامت تسع سنوات في التعليم العالي، وخرجت شيماء من المقابلة عالية الرأس.
جاءت الصدمة عندما تلقّت رسالة من قبل القنصلية الفرنسية تفيد برفض التأشيرة:
"لم أكن الوحيدة فهناك غيري الكثير من الطلاب الذين وجدوا أنفسهم في هذه الوضعية وهو أمر مؤسف"، تتحسر شيماء .
قضيّتها ليست حادثة معزولةً، فخيبة الأمل وعدم الفهم هي مشاعر مألوفة لدى التونسيين والتونسيات المتطلّعين للسفر إلى أوروبا عموما وإلى فرنسا خصوصاً، وهو أملٌ تصدّه إجراءات الفيزا.
منصة إعلامية مستقلة في طليعة الابتكار التحريري
أنشئ حسابك الآن وتمتع بميزات النفاذ الحصري ومختلف الخاصيات المتقدمة التي توفرها لك. تحصّل على عضويتك وساهم في تدعيم استقلاليتنا.
تسجيل الدخولمسار أشبه بمضمار عقبات
شهدت مطالب الفيزا نحو أوروبا تزايدا كبيرا في تونس، وتتبوأ فرنسا المرتبة الأولى بعدد مطالب يتجاوز 170,000 في عام 2019 *. بالتوازي مع ذلك، يواصل معدل الرفض من قبل القنصليات الأوروبية ارتفاعه هو الآخر إذ كان يبلغ في المتوسط 12.04٪ فحسب في سنة 2012، ليقفز إلى 24.3٪ في 2019. في المقابل، تقول القنصلية الألمانية باتصالنا بها أن تونس تتميز بأضعف معدل رفض من بين بلدان المغرب العربي وأن هذا المعدل "لم يرتفع بشكل كبير منذ 2017" على حد تعبيرها.
لا ريب في أن هذه الأرقام تخلّف لدى طالبي التأشيرة من التونسيين والتونسيات شعورا بالمذلّة والمرارة في مواجهة عملية طويلة ومبهمة. ينطلق مضمار العقبات بمجرد تحديدك لموعد على موقع تي إل إس كونتاكت (TLScontact)*، وهي الشركة الخاصة التي تضطلع بدور الوسيط لحساب القنصليات وتدير الإجراءات الإدارية المتعلقة بالتأشيرات.
تمثّل عملية مطلب الفيزا محنة عويصة تشمل، على سبيل الذكر لا الحصر، آجال الانتظار الطويلة للحصول على موعد وما يتطلبه الملف من وثائق. "لا شيء مؤكد، لقد أرسلت جميع الإثباتات وسندات الملكية وشهادات العمل وكشوف المرتبات وإثباتات الصرف وحجوزات الفندق…"، تسرد زينب* وقد تقدّمت بمطلب منذ مدة.
"ملف يزن أكثر من كيلوغرامين! من الغريب أن أضطر إلى إعداد ملف بهذا الحجم لمجرّد زيارة بلد ما !"
ولتسهيل عملية إعداد ملفاتهم، يستعين بعض المتقدمين بوسطاء خارجيين يوفرون شتى أنواع الخدمات بدءا من النسخ إلى التجميع الكامل للملف مقابل بضع مئات من الدنانير الإضافية، ويمكن العثور على هؤلاء بسهولة في المكاتب المنتشرة حول مقر شركة تي ال اس كونتاكت. لكن الهيئات الرسمية تعتبر الخدمات التي يقدمها العديد منهم احتيالية.
يقول حمزة وهو مزود خدمات لإعداد ملفات مطالب التأشيرة يعمل منذ أكثر من ثماني سنوات: "هم أحرار في النظر إلى الأمر على هذا النحو، أعتبر أنني أبيع خدمة قانونية، لدي معرف جبائي وأدفع الضرائب ولدي موظفون، بالتالي ووفقا للقانون أنا في وضعية شفافية كاملة".
بالنسبة لحمزة، هذه المهنة أمر عائلي: "كان لوالدي بعض العلاقات مع بعض رجال الأعمال وكان يعدّ لهم تأشيراتهم. وبمجرد أن تقاعد افتتح مكتبه الخاص وكان لديه حرفاء فنصحني بتعلّم هذه المهنة". تهتم شقيقة حمزة بملفات الفيزا إلى الولايات المتحدة أو كندا، بينما يركز حمزة على دول فضاء شنغن. ورغم أن الأخير لم يكن شغوفا في البداية بهذا العمل إلا أنه تعلّم أن يستسيغه في نهاية المطاف.
"أحاول مساعدة الناس واستنباط الحيل لجعل ملفاتهم مرغوبة أكثر" يخبرنا حمزة بحماس.
تأتيه جنسيات تونسية وجزائرية وليبية، ومهنٌ على اختلافها من قضاة وأطباء ومعلمين وفلاحين... يقول حمزة بفخر "أنا أخدم الجميع فالتأشيرة ليست امتيازا لبعض الناس دون غيرهم". كما لا يستعصي على حمزة أن يجد لكل ملف يأتيه - وفي غضون سويعات - طريقةً لمزيد تثمينه على أمل إقناع القنصلية بالنظر إليه بعين الرضا. "على سبيل الذكر شخصٌ لديه متجر لبيع الملابس. أقدّم فواتير الشراء وفواتير البيع وأشرح سبب رغبته في المغادرة: إما من أجل موسم التخفيضات أو للحصول على أسعار لا نظير لها في تونس ونحو ذلك".
"على سبيل المثال مزارعٌ يطلب تأشيرة. هل لديه أبقار؟ هل يقوم بتطعيمها؟ أطلب منه عندئذ شهادة التلقيح. هل يشتري لها الأعلاف؟ أطلب منه أن يحضر إلي الفواتير. فيصبح الملف بذلك شديد الوضوح، وهي استراتيجية متكاملة".
تتمثل الخطوة الموالية فور تجميع الملف في الحصول على موعد. في شهر ماي 2022، أعلن القنصل العام الفرنسي دومينيك ماس عن تخفيض عدد الاتصالات التي يُسمح لكل حاسوب بالقيام بها على موقع TLS الإلكتروني إلى ثلاثة اتصالات فقط في اليوم، بهدف الحد من جدولة المواعيد التلقائية بواسطة برمجيات "روبوتيّة". كما تُعرض الفتحات الشاغرة في الرزنامة ابتداء من منتصف كل ليلة، وهو الوقت الذي يكون فيه حمزة على أهبة الاستعداد لخوض السباق من أجل الحصول على مواعيد لحرفائه. يصف حمزة بحماسة: "أقوم بإعداد جميع الملفات وجميع النماذج. أفتح متصفّحات الانترنت بأنواعها، قوقل كروم و فايرفوكس وغيرها، وأقوم بالتحديث مرة بعد مرة… أبي وأختي لديهما مساعِدتان، وبمجرد أن يرى أحدنا فتحة نتصل ببعضنا البعض مباشرة." ومن ثمة يوزّعون المواعيد على حرفائهم.
بالرغم من خبرته في هذا المجال وحماسته، فإن حمزة لم يعد يقبل ملفات التأشيرة إلى فرنسا لأن الحصول على مواعيد أصبح على مدى الأشهر الأربعة الماضية أمرا على غاية من التعقيد. "من الأفضل أن ننسى أمر فرنسا! ليس هناك أي فرصة للحصول على موعد!" يؤكد حمزة قبل أن يضيف "في السابق وحتى خلال فترات الذروة كان يمكنك الحصول على موعد في غضون ثلاثة أسابيع كحد أقصى. ولكن منذ جائحة [كوفيد 19]، صار عدد المواعيد المتاحة محدودا للغاية".
في مداخلة إعلاميةٍ له، وعد القنصل الفرنسي دومينيك ماس بإصلاح شامل لنظام المواعيد بهدف معالجة العدد الهائل من المطالب. والآن صار يتم عرض المواعيد الشاغرة في الرزنامة قبل شهر واحد عبر الإنترنت، غير أن آخرها والتي كانت متاحة في شهر ماي 2023 المنقضي ذهبت في غضون ساعات قليلة. وبسؤالها عن هذا الموضوع أعرضت القنصلية الفرنسية عن مدّنا بمزيد من المعلومات.
500 دينار في مهبّ الريح
جويلية 2022. روعة* في إجازة، لكنها لم تشرع في الاستمتاع بعطلتها بعدُ، إذ وجدت الموظفة في شركة تيليبيرفورمنس (Teleperformance) نفسها تقضّي الوقت كله في طوابير الإدارات التي لا تنتهي. روعة عازمةٌ على حضور حفل زفاف أختها في شهر سبتمبر رفقة ابنها البالغ من العمر سبع سنوات، وهي ليست حديثة العهد بالإجراءات وليست هذه المرة الأولى التي تسافر فيها إلى فرنسا بتأشيرة شنغن**.
في نفس الموضوع
تطلّب إعداد ملفها شهورا من التنظيم المحكم وكان "يجب التخطيط لأيام الإجازة قبل أسبوعين أو ثلاثة... وفي تيليبيرفورمنس حيث أعمل ليس من السهل الحصول على إجازة خصيصا إذا كان السبب يتعلق بأوراق إدارية". اغتنمت المرأة ساعات فراغها لتجوب جميع أنحاء العاصمة من أجل جمع الوثائق اللازمة على غرار الضمان الاجتماعي وشهادة العمل والتأمين وحجوزات الفنادق وتذاكر الطائرة. وعلى الرغم من أنها ترى أن كمية المعلومات المطلوبة مبالغ فيها وليست من العدل في شيء، إلا أنها بذلت قصارى جهدها للتأكد من عدم وجود أي نقصان.
"لا تحتاج فرنسا إلى الاطلاع على بياناتي الشخصية وحياتي الخاصة [...] لكنني فعلت كل ما طُلب مني حتى أنني أرفقت مضمون ولادة ابنتي مع تصريح الإجازة الخاص بي كدليلٍ على أني لن أبقى في فرنسا وأن لدي حياةً وشغلاً وعائلةً هنا".
خصصت روعة مبلغا كبيرا من المال لرحلتها وضمّنت دليلا على ذلك في ملفها. من بين الوثائق الداعمة التي يقترحها الموقع الرسمي France-Visas تقديم الميزانية التي سيتم استخدامها على الأراضي الفرنسية. كما يجب تحويل المبلغ إلى الأورو وإضافة إثبات الصرف إلى الملف. تقول روعة: "إذا قمت بالحجز في فندق فعليك أن تضع جانبا 120 أورو في اليوم للشخص الواحد وهذا ما فعلته بطبيعة الحال مثلما فعلت في المرات السابقة". كما يضاف إلى ذلك رسوم التأشيرة المقدرة بـ 404 دينار لروعة وابنها، "وفي حالة الرفض لا نسترجع المصاريف !"
أنفقت روعة في المجمل ما يقرب من 500 دينار وخصصت ميزانية بـ 2800 دينار لرحلتها، كما أهدرت أيام عطلتها وقضت شهرا من الانتظار القلق. هذا هو الثمن الذي يجب دفعه مقابل عطلة تدوم أسبوعا في فرنسا.
تبلغ تكلفة تأشيرة شنغن للإقامة القصيرة الأجل 80 أورو أو ما يعادل 269 دينارا تونسيا بينما تكلّف تأشيرة الإقامة طويلة الأجل 99 أورو (333 دينارا) في حين يدفع الطلاب 50 أورو. تُعتبر هذه التكاليف مستقلة عن رسوم الخدمة التي تُدفع مباشرة إلى تي ال اس كونتاكت والبالغة حوالي 100 دينار دون احتساب الخدمات الاختيارية على غرار خدمة البريميوم والبالغة تكلفتها 111 دينارا.
موقع تي ال اس كونتاكت بتاريخ 22 جوان 2023.
على الرغم من كل جهودها، قوبلت روعة وابنها بالرفض بموجب السبب عدد 10 الذي يعني تشكيكا في موثوقية الوثائق المقدمة، وبالتالي أخلفت الأم وابنها الزفاف العائلي. لا تخفي روعة حنقها لكن ذلك لا يجعلها تعزف عن فكرة الذهاب إلى فرنسا: "لن أستسلم. لدي أختي وأبناء عمومتي وجميع أفراد الأسرة تقريبا في فرنسا وابني يحلم برؤية برج إيفل". قضت روعة الأشهر التالية تتصفح موقع TLS لتحديد موعد جديد غير أن المواعيد نادرة للغاية وتُحجز بسرعة كبيرة.
يتلقى المتقدمون في حالة الرفض ورقة مرفقة بجواز سفرهم تذكر بعجالة بمختلف الأسباب التي بُني عليها القرار دون تقديم أي تفسير أو مستندات تبرره. أكثر أسباب الرفض التي يتلقاها التونسيون والتونسيات شيوعا هي: السبب عدد 4 المتعلق بالمبلغ المخصص للرحلة، والسبب عدد 10 الذي يعتبر المعلومات التي تبرر الغرض من الإقامة غير موثوقة، والسبب عدد 13 الذي يشكك في "الرغبة في مغادرة فضاء شنغن قبل انتهاء صلاحية التأشيرة"، وفق العديد من الشهادات التي جمعتها إنكفاضة.
"اليوم، حتى لو كانت كل الأوراق سليمة فإنهم يعتمدون السبب 10"، يقول حمزة الذي يلاحظ تزايد الملفات المرفوضة بناء على السبب المذكور. وفقا له، فإن غياب تفصيل الأسباب بشأن الرفض يمنع المتقدمين من الطعن في هذا القرار لأن القنصلية لا تحدد الوثائق التي تعتبرها "مشكوكا في مصداقيتها".
"أصبح الحصول على تأشيرة اليوم شبيها بما كان عليه أوائل السنوات 2000 وخصوصا بعد هجمات 11 سبتمبر [2001] عندما كان الأمر معقدا للغاية. نحن نعيش اليوم نفس الوضع".
تؤكد القنصليات المعنية من جهتها أن هذا الرفض سببه الملفات المنقوصة وهي الذريعة التي اعتمدتها كذلك القنصلية الألمانية باتصالنا بها، بينما لم ترغب نظيرتها الفرنسية في مدنا بمزيد من التفاصيل، في حين لا يزال رد القنصلية البلجيكية معلّقا.
كامبوس فرانس «حارس الحدود»
بالرغم من رفض مطلبها للحصول على تأشيرة، لم تتخل شيماء المهندسة المعمارية عن طموحها للدراسة في باريس وفكرة المغادرة إلى فرنسا. فبدأت بمناشدة القنصلية الفرنسية مصحوبة برسالة داعمة من رئيسة قسم تاريخ الفن في جامعة السوربون ولكن دون جدوى.
"انتقلت عندئذ إلى الخطوة الثانية وهي الطعن في قرار رفض التأشيرة لدى اللجنة في نانت، ولكن مرة أخرى، لا حياة لمن تنادي. عندها استوعبت أنه لا جدوى من ذلك" تقول شيماء باستسلام. في هذا السياق، تدل الإحصائيات المتاحة على أن اللجنة المذكورة لا تستجيب سوى لـ 45٪ من المطالب وترفض 98.6٪ من جملة الطعون.
كمحاولة أخيرة، حاولت شيماء الاتصال برئيس المعهد الفرنسي بتونس آملة في الحصول على نوع من الدعم لكنها جوبهت بالصمت المطبق. لذلك تراود الشابة شكوك في أن كامبوس فرانس قد رفضت مدها بتأشيرة بسبب رفض سابق يعود لسنة 2016، عندما تقدمت للحصول على شهادة في الهندسة المعمارية في فرنسا: "إنها [أي كامبوس فرانس] هي التي تصدّنا حيث يتم إعداد تقرير أثناء المقابلة وإرساله إلى القنصلية". لكن شيماء لا تستطيع التحقق من نظريتها لأن كامبوس فرانس لم يردوا عليها خلال كل الإجراءات التي اتبعتها.
من جهته، يؤكد الباحث المختص في الحدود بين تونس والاتحاد الأوروبي، أحمد جمعة، على الدور الحاسم لـ كامبوس فرانس في عملية الحصول على تأشيرة دراسية: "تجري كامبوس فرانس مقابلات مع الطلاب والتي يفترض بها أن تكون ذات صبغة أكاديمية. ولذلك نتوقع منهم طرح أسئلة حول الدراسة والمسار الأكاديمي [...]. لكن الجزء الرئيسي من المقابلة يركّز على المراقبة عن بعد".
"تقبل المؤسسة الجامعية الفرنسية الطلاب بناء على الأعداد والمقابلات والأداء الدراسي. فليس من المنطقي أن تقبل مؤسسة هذا الطالب وترفض أخرى منحه التأشيرة".
وفقا لأحمد جمعة تلعب كامبوس فرانس دور "حارس الحدود" وتسعى المؤسسة إلى تحديد "مخاطر الهجرة" التي يمثلها كل طالب واكتشاف من يُحتمل أن يبقوا في فرنسا بعد دراستهم وهو ما يعتبره "تناقضا مؤسسيا" على حد تعبيره.
ويشير الباحث إلى حقيقة أن الطلبة التونسيين والتونسيات "مقوْلبون للدراسة في فرنسا" مذكرا بأن البلدين يشتركان في اللغة الفرنسية وشكل النظام التعليمي. "من الأسهل عليهم الذهاب إلى فرنسا لأن هناك شراكات وعدة صلات وعلاقات قوة، مما يعني أن لدينا جزءاً كبيرا من الناس الذين لا يستطيعون الذهاب إلا إلى فرنسا".
"يذهب الطلاب للدراسة في الخارج آملين في عيش تجربة جديدة من شأنها أن تدفعهم قدما في حياتهم المهنية... وعندما يتم رفضهم تتحطّم كل أحلامهم وطموحاتهم. إنها حقا تجربة مدمّرة".
باتصالنا بها لم تستجب كامبوس فرانس لطلباتنا لإجراء مقابلة.
عملية مبهمة واعتباطية
مرت سنتان منذ رضخت شيماء للوضع وتخلت عن فكرة أن يُجمع شملها بأمها في فرنسا. تعمل الشابة اليوم في مكتب هندسة بتونس وتدرس الإيطالية والإنجليزية "علني أجد فرصة أفضل في بلدان أخرى" كما تقول. غير أن الحيرة بشأن قرار كامبوس فرانس والقنصلية لا تفارقها ويحدث أن تتساءل أحيانا عما كان بوسعها فعله بشكل مختلف.
"يبدو أنهم يعتمدون أيضا على تاريخ المترشح المدرج على منصتهم وهي معطيات لا يمكن الوصول إليها. إنه أمر سري للغاية. منظومة كامبوس فرانس هي في واقع الأمر على غاية من الغموض" تقول شيماء.
من جهته يقول أحمد جمعة: "لا شيء واضح ولذا لا يمكنك معرفة ما عليك فعله بالضبط". كما يندد الباحث بفقر المعلومات والغموض المتعمد حول إصدار التأشيرات الدراسية، ويدل على ذلك انتشار مجموعات على المنصات الاجتماعية يتبادل فيها الطلاب المشورة ويحاولون فهم هذا النظام بشكل أفضل. "إنها ليست مسألة استعدادية، إنه أمر عشوائي جدا. التقيت بأشخاص قُبلوا في جامعات مرموقة ولم يستطيعوا الحصول على التأشيرة".
لا يخفي حمزة صاحب مكتب خدمات التأشيرة حيرته إزاء نزعة الرفض من طرف القنصلية الفرنسية، فمنذ سنة 2019 لاحظ تزايدا الرفض غير المبرر: "الأمر يحتكم إلى هواهم. يأتي أسبوع أتلقى فيه من أصل 25 جواز سفر 22 قبولا و 3 حالات رفض كنت أتوقعها، ثم أسبوع آخر من أصل 20 جواز سفر 15 رفضا. إنه أمر اعتباطي فعلا" يقول الرجل بارتباك.
من جملة الملفات التي اعترضته يشير حمزة إلى حالات رفض مفاجئة "مثل ما حدث لقاض خمسيني يعمل في المحكمة الابتدائية بتونس رأى مطلبه مرفوضا". يرجح حمزة أن القنصلية تقسّم الملفات حسب الفئة الوظيفية للمتقدمين وتحدد بناء على ذلك الأولويات: على سبيل المثال، من المرجح أن تكون الأفضلية لإطارٍ يتقاضى أجرا جيدا أكثر من طالبٍ. لكن يبدو أن الرفض تمادى في الآونة الأخيرة ليشمل بنفس القدر حتى الملفات التي كان يفترض بها أن تحصد رضا أصحاب القرار. وهو ما يدفع حمزة إلى القول بأن "[المسؤولين القنصليين] ينظرون إلى الملفات بلا تمعّن".
حتى " النخبة" لم تسلم
"رُفضت أنا وتحصّل زوجي على تأشيرة. "أهلا وسهلا بزوجي!"" تروي زينب ضاحكة.
في شهر جويلية 2022، كانت زينب وهي صحفية تونسية وإطار في قطاع المالية، تتطلّع لمرافقة زوجها "وهو مسؤول تنفيذي كبير في مؤسسة عامة" في رحلة في إطار عمله إلى فرنسا لتغتنم الفرصة للقيام ببعض السياحة لمدة ستة أيام. مشروعٌ كان يبدو للوهلة الأولى بسيطا في نظر الزوجين بما أنهما قد زارا فرنسا في عدة مناسبات سابقة.
بعد أن قضيا أسابيع منغمسيْن في تجميع الملف، وأنفقا مئات الدنانير على إجراءات إدارية طويلة، قطعت زينب وزوجها الطريق من مقر إقامتهما في قابس في رحلة استغرقت أكثر من خمس ساعات إلى مكاتب تي ال اس كونتاكت بضاحية البحيرة في العاصمة تونس. عند استلام جواز سفرها، وجدت زينب ورقةً بسيطة بها مربع مشطوب يشير إلى رفض مطلبها بسبب "عدم كفاية الموارد طوال مدة الإقامة" أو ما يُعرف بـ "السبب عدد 4".
"كان الأمر صادما. كنت غاضبة وأحسست بالإهانة لأنني وبعد كل جهودي، تلقيت رفضا غير مبرر في نظري. [...] لقد كانت لحظة صعبة للغاية، كأن شيئا أصابني في أعماقي وأثر في بشكل كبير"، تروي زينب وصوتها يرتجف.
زوجها من جهته تحصّل على تأشيرته لكنه أبى المغادرة بدونها وألغى رحلته. ترى زينب أن في هذه القرارات تمييزا ضد التونسيين والتونسيات: "الجميع مرحب بهم في بلدنا ولا أرى أي سبب للحد من حرية تنقل الأشخاص".
أفادت عديد الشهادات لإنكفاضة بحالات رفض في حق أفراد وقبول أفراد آخرين من نفس الأسرة أثناء تقديم مطلب متزامن. وبالرغم من أن مطلب التأشيرة يعتبر امتيازاً للشريحة التي تستطيع تحمل تكاليفه، لم يعد حتى دافع "لم شمل الأسرة" وغيره من الروابط مع فرنسا ضمانا للنفاذ إلى حق التنقل.
يخبرنا أحمد جمعة أن "الإمكانيات المادية هي أكبر الصعوبات (...). فالطلاب والعاملون لحسابهم الخاص وغيرهم من الأشخاص الذين يعيشون بمستوى محترم في تونس، لا يجرؤون على التقدم بمطالب لأنهم يخشون الرفض" .
«نكران الجميل»
زياد* طبيب أشعة كان يشغل منصب رئيس مصحة لمدة ثلاث سنوات في تونس قبل أن يقرر الهجرة والاستقرار في فرنسا مع زوجته وابنتهما البالغة من العمر عامين. في البداية ذهب زياد وحيدا واستقرّ في بلدة صغيرة في مقاطعة لا مانش ليمهد الطريق لمجيء عائلته بفضل تأشيرة إقامة طويلة المدة. لكن الطبيب وجد نفسه يقضّي شهورا معزولا عنها، وانعرجت مخططاته عندما رُفضت تأشيرتا زوجته وابنته في شهر سبتمبر 2022: "أنا مصاب بحالة اكتئاب وكذلك زوجتي. أجدني عالقا في هذا الموقف".
"كنت متحمسا جدا في بداية هذه التجربة لدرجة أني كنت أقضي ثلاثة أرباع يومي في المستشفى. لقد مر شهر منذ أن فقدت تماما الرغبة في العمل وصرت أشعر بخيبة أمل كبيرة"، يفصح أخصائي الأشعة.
هو أيضا لا يزال ينتظر بطاقة إقامته. في المستشفى حيث يعمل، حشد الموظفون والموظفات جهودهم ووقّع 1600 منهم على عريضة داعمة كي يتمكن من استلام أوراقه وجلب عائلته. يقول زياد: "نحن أربعة أخصائيي أشعة نعمل بين مستشفيين اثنين. إذا غادرت أنا فلن يبقى سوى ثلاثة وهذا النقص في الأطباء يمثّل مأزقا للمرضى والطاقم الطبي".
يجابه زياد صعوبات كبيرة في حياته اليومية في ضوء غياب زوجته، إذ تعرض لحادث مرور في سنة 2011 أدى إلى إصابته بإعاقة شديدة: "أعاني من شلل في الضفيرة العضدية مما يعني أن كل شطري الأيمن مشلول". تقدم زياد بطلب الحصول على بطاقة إعاقة تمكنه من تلقي المساعدة في مسكنه: "لا يمكنني القيام بالمهام المنزلية بيد واحدة فقط [...] أحاول تناول الطعام بالخارج وأبذل قصارى جهدي لإيجاد حلول فأغسل الصحون بيد واحدة على سبيل المثال".
"نحن نفعل ما في وسعنا لجلب أسرنا وتحقيق استقرار مهني وعيش حياة متوازنة لكن ما يحدث يؤثر علينا شخصيا. إنه شعور بالقلق ونكران الجميل… أنا طبيب وأحاول تقديم المساعدة".
انتهت صلاحية تأشيرته الحالية في شهر ماي المنقضي لكن أُُتيحت له إمكانية البقاء في فرنسا حتى شهر أوت بفضل تمديد استثنائي على الأجل بشرط ألا يغادر الأراضي الفرنسية. وهو حلٌّ حلو ومرير بالنسبة إلى الطبيب، إذ مرت سنة منذ أن فارق عائلته وقد أنهكته الإجراءات الإدارية، ولذا حدد زياد لنفسه موعدا نهائيا: إذا لم يحصل على بطاقة إقامته في الأشهر المقبلة فسوف يقدم استقالته ويقفل راجعا إلى تونس أين "توجد العديد من الفرص أيضا" وفق قوله.
فيزا بطعم الهزيمة
تداول رواد الشبكات الاجتماعية ابتداء من يوم 11 جوان 2023، منشورا لوفاء، مخرجة شابة وطالبة هندسة معمارية، نددت فيه برفض مطلبها للحصول على تأشيرة دخول إلى فرنسا لها ولزميلها خليل، في سياق دعوتهما إلى مهرجان آنسي أين تم اختيار فيلمهما - وهو أول تجربة لهما - للمنافسة في مسابقة الأفلام القصيرة.
بدأ شعور بالقلق يساور وفاء فور بدء تجميع الملف، تقول "أنا أعرف السياق الذي نعيش فيه حق المعرفة، ولم أقابل يوما شخصا لم تعترضه مشكلة مع التأشيرة من قبل". لكن منظمي المهرجان طمأنوها قائلين أنهم قد اهتموا بكل شيء: الدعوة والإقامة والنفقات وغير ذلك... عندما جاء رد السلطات الفرنسية بالرفض أصيب المنظمون بصدمة أيضا، خصوصا وأن القنصلية التزمت بالصمت اعتبارا من يوم 25 ماي على الرغم من إرسالهم لوثائق إضافية.
انتشرت رسالتها على الشبكات الاجتماعية كالنار في الهشيم لدرجة أن القنصلية الفرنسية في تونس اضطرّت للتعليق تحت منشورها في يوم 13 جوان ذاكرة السبب المتعلّق بـ "نقص في الوثائق". علما وأن رسالة الرفض التي تحصلت عليها في تي ال اس تذكر أسباباً أخرى من قبيل "غير موثوقة" وأن وفاء لن تستطيع الحصول بشكل قانوني على "موارد عيش كافية" للإقامة. "وإجمالا رُفضت التأشيرة استناداً إلى أربعة أو خمسة أسباب" تقول المخرجة ضاحكةً.
ثم في يوم 15 جوان تلقت الشابة مكالمة غير منتظرة : "أهلا بك السيدة وفاء، يرجى إحضار جواز سفرك إلى القنصلية في الإبان" تروي لنا مشيرة إلى أن زميلها خليل لم يتلق دعوةً مثلها. امتثلت وفاء وانتقلت على فورها إلى القنصلية الفرنسية في تونس أين طُلب منها الانتظار على الجانب الآخر من الأسلاك الشائكة:
"أعطيت جواز سفري لامرأة من خلال السور الحديدي وعادت بعد عشرين أو ثلاثين دقيقة مع التأشيرة".
حجزت محدثتنا رحلةً في اللحظة الأخيرة وتمكنت من حضور آخر أيام المهرجان. لكن وفاء لا ترى في هذه النتيجة انتصارا فهي تطالب قبل كل شيء بمعرفة الأسباب الحقيقية وراء رفضهما هي وزميلها خليل.
"ما زلت لا أعرف السبب الحقيقي. صرت بقدرة قادر موثوقا بي من جديد دون أي تفسير، وبقي خليل على حاله بالرغم من أن لدينا نفس الملف. تواصل غضبي حتى في يوم المغادرة، لكن الأمر أسوأ بكثير بالنسبة لخليل الذي لم يستطع حتى حضور المهرجان".
ترى الفنانة أن تجربتها ليست الوحيدة من نوعها: "لقد رأى الجميع شبها بأنفسهم في ما جاء في منشوري. من الواضح إذاً أن هنالك مشكلة".