الهجرة عبر صربيا .."خيط" الأمل الجديد لشباب تطاوين

"لا يدفعك إلى المرّ إلّا الأمرّ، بلادنا تعاني البطالة وابني يحلم مثل أقرانه بأن يكوّن عائلة، الحرقة أهون من البقاء هنا ومشاهدة الناس يتطورون فيما هو عاجز وذليل لقلة ذات اليد، لن أنتظر حتى أراه يشنق نفسه". بهذه الكلمات يلخص محمود* دوافعه في جمع المال لابنه، ليسافر  في هجرة غير نظامية "حرقة" عبر صربيا إلى فرنسا، سالكا في ذلك درب مئات الشباب من ولاية تطاوين.
بقلم | 05 سبتمبر 2022 | reading-duration 15 دقيقة

متوفر باللغة الفرنسيةالإنجليزية

محمود* هو أب لـ6 أبناء، 4 أولاد وبنتين، ينحدر من عرش ضارب الجذور في جهة تطاوين. رغم أنه  تجاوز الـ 52 من عمره إلّا أنه لم يستقر طيلة حياته على عمل بعينه، بسبب غياب استدامة فرص العمل، وانحسار نشاط الفلاحة التي ورثها عن أجداده عاما بعد عام، نتيجة الجفاف وغلاء المواد العلفية. اضطر محمود إلى العمل اليومي في حظائر البناء، أو تحميل السلع وغيرها من المهن العرضية التي تدر رزقا يأتي به النهار ويذهب به الليل.   

كما يعاني محمود في الحصول على عمل بعائد مادي يجنبه ضيق الحال، عجز كذلك ابنه البكر  أحمد* ذو الـ18 عاما عن إيجاد عمل يُشبع طموحاته حتى ضاقت به البلاد. وبما أن كل الطرق القانونية نحو فرنسا مغلقة في وجهه كشاب تونسي لا يملك شهادات علمية تؤهله للعمل في القطاعات الأكثر استقطابا من الخارج مثل الطب والهندسة، لم يتبق أمامه إلا الطريقة غير النظامية التي بات خط تركيا صربيا المجر أأمنها. 

يستوجب البحث عن هجرة سرية وآمنة في نفس الوقت دفع مبالغ أعلى، عجز محمود في البداية عن توفيرها لابنه، رغم أنه لم يتردد في بيع قطعة أرض ورثها عن جده إضافة إلى أربع نعجات بات يؤرقه إطعامهن، فما كان إلا أن تدخل أبناء عمومته لمساعدته. يقول محمود: "تعب ابني وعانى على الحدود ولم يهدأ بالي إلا بعد أن أراني إخوته صورته مع مجموعة الكزاوي على الفيسبوك. بقيت لأيام مضطرب البال وخائفا على سلامته لأنه حينما يتصل بي لم يكن يريني أين يبيت ويتحرك". 

أحمد هو واحد من مئات الشباب من تطاوين الذين اختاروا أن يسلكوا خط صربيا باتجاه فرنسا أملا في الحصول على وظيفة تنتشلهم وعائلاتهم من الضيق واليأس المتناميين، أين تقل فرص العمل والتنمية وتقسو الطبيعة أكثر فأكثر. يؤكد أحد موظفي بلدية مدينة تطاوين في حديث لإنكفاضة، إمضاء أكثر من 5000 تصريح أبوي للسفر نحو تركيا بين جانفي وأوت 2022 ببلديتهم وحدها وهو وفق ذات المصدر رقم كبير مقارنة بالسنوات الماضية. 

رغبة تؤججها أوضاع المدينة وموقعها

بعد رحلة في السيارة انطلقت من تونس العاصمة ودامت حوالي سبع ساعات، وصلنا أخيرا مدينة تطاوين على الساعة الرابعة ظهرا. كانت المدينة الصحراوية شبه خالية من السكان، تغيب عنها مظاهر أي أنشطة اقتصادية ضخمة، عدا محلات البقالة أو بعض المقاهي التي كانت عامرة ببضع أنفار.  

جلسنا صباح اليوم الموالي على الساعة التاسعة صباحا تحديدا في أحد المقاهي على الطريق الرئيسية بمدخل المدينة، منتظرين فتحي، الذي جاء من منطقة قلب الرخم التابعة لمعتمدية الصمار التي تبعد حوالي 50 كلم شرق مدينة تطاوين. رغم الابتسامة العريضة التي تميز سحنته، إلا أن قصة فتحي ليست بتلك القصة التي تبعث على الانشراح.  

"آسف على التأخير، الأمر خارج عن سيطرتي لقد بقيت أنتظر امتلاء جميع مقاعد التاكسي قبل أن نتحرك إلى هنا، فقد خفّت الحركة جدا في الأشهر الأخيرة وعلى هذا النحو لن يتبقى في المدينة غير الشوابين -يقصد من شابت رؤوسهم-" يقول فتحي الطويل.  

يشارك وليد هلال صاحب مقهى منذ 15 سنة فتحي الرأي إذ يقول: "خلال الأشهر الأخيرة تراجع عدد الحرفاء تراجعا ملحوظا لم يبقَ أحد، فبعد الظهر انخفضت مداخيلي من 250 دينار إلى حوالي 70 دينار فقط." 

حلم  فتحي في طفولته بمستقبل أفضل من واقعه الآن، ولكنه كلما تقدم في العمر اعترضته عراقيل، غادر مقاعد الدراسة في سن السادسة عشرة. ظل بعدها يعمل في مهن مختلفة، إلى أن قرر أن يجتاز تكوينا في الفندقة مدفوعا إلى هذا الاختصاص بولعه بالتبادل الثقافي والاكتشاف والتعلم.  

حاصلا على شهادة الكفاءة المهنية في الفندقة في نزل 5 نجوم ومؤهل مهني في الخدمات المطعمية، بدأ فتحي الطويل العمل في جزيرة جربة. ولكن بضعة أشهر كانت كفيلة بتغيير نظرته عن العمل. إذ تسبب خلاف عرضي مع رئيسه في العمل في قضاء 6 أشهر من المعاناة. إذ وضعه هذا الأخير صوب عينيه ممارسا عليه شتى أنواع المضايقات. 

"تتميز العلاقات بين الزملاء ورؤساء العمل بتسلط القوي على الضعيف، وهي العقلية السائدة في جميع القطاعات، هذه العقلية دفعتني إلى ترك العمل رغم أن النزل كان جيدا والراتب كذلك ولكن سوء المعاملة لا تطاق” يقول فتحي. 

لم يستطع الشاب أن يواصل العمل في قطاع النزل أكثر من 4 سنوات. تحول مؤخرا إلى العمل في شركة لتقديم الطعام في الصحراء، رغم الظروف المناخية وعدد ساعات الخدمة التي تتجاوز 12 ساعة يوميا. يقول فتحي: في نوفمبر الماضي اشتغلت في شركة لتقديم الطعام، بالكاد أتممت 14 يوما لأن رئيسي في العمل عاملني بشكل سيء لا يخلو من الاستغلال". 

متنقلا بين النزل والصحراء قرر فتحي في النهاية فتح مطعمه الخاص، أشهر قليلة حتى واجه الإفلاس مما اضطره إلى إغلاقه. بخصوص ذلك يقول: كنت أرغب في توسيع المحل ولكنني لم أملك المال الكافي، وحتى حينما رغبت في سلفة لم يبدِ أحد استعدادا لإقراضي لأن لا أحد يثق في نجاح المشاريع في تطاوين، بينما أبدى كلهم استعدادا لإقراضي في حال قررت الحرقة لأنها باتت مشروعا مضمونا". 

يعتزم اليوم فتحي الهجرة أكثر من أي وقت مضى متقفيا مسار 3 إخوة سبقوه إلى فرنسا. إذ نجح ثلاثتهم في ضمان وظيفة في صناعة الخبز في باريس وبأجر يعتبره جيدا. هاجر أخوه الأكبر منذ 2005 وتبعه الآخَرَيِْن عبر صربيا في ماي وجوان الماضيين. 

رغم أنه يفضل الاشتغال في مجاله في فرنسا، إلا أن فتحي لا يرى مشكلة في الالتحاق بصناعة الخبز رفقة إخوته إذا اضطر إلى ذلك. المهم بالنسبة إليه هو أن لا يبقى في تونس. كما أنه لا يرى في الهجرة عبر خط صربيا أي خطر، تطمئنه لذلك تجربة أخويه إذ يؤكد أنهما وصلا إلى فرنسا في 20 و17 يوما على التوالي، بتكلفة جملية بلغت 5500 و4500 يورو.  

"ليس من السهل أن تكون لك معرفة تجعلك تقتنص فرص للهجرة بمنطق التقليل من المخاطر باتباع ما يسمى نصف غير نظامي أو نصف سري، على اعتبار أن هناك رحلة تتم على نحو علني من تونس إلى تركيا ثم صربيا". يقول أستاذ علم الاجتماع المتخصص في الهجرة وصاحب كتاب الملح والشراع مهدي مبروك في حوار لإنكفاضة. 

 تمتلك تطاوين وفق مهدي مبروك إرثا تاريخيا ومعرفة دقيقة بالتجارة الحدودية والتهريب وطرق اشتغال شبكاتهما ما يجعل منها -أي تطاوين- قادرة على التغيير من وظائفها -أي الشبكات- والتقاط اللحظة. ويؤكد أنها من بين المناطق الخاصة التي تضم شبكات من المهربين عابرة للحدود وهي على عكس الساحل التونسي مثلا وجزيرة قرقنة، أين توجد شبكات تونسية على غرار "اللقاطة" يتولون التقاط الباحثين عن الهجرة السرية".   

يضيف مهدي مبروك: "هذه الشبكات وسطى وصغرى وكلما اتجهنا جنوبا فإن نوعية هذه الشبكات تتغير اذ يتحول النزوع نحو شبكات عابرة للحدود والدول فنجد مثلا تسميات الحاج الليبي، المصري والتركي".   

ويواصل: "هناك معارف خاصة في المناطق الحدودية، تراكمت أكثر بعد انهيار منظومة الحدود في ليبيا وتونس، فهناك نمط من الشبكات العابرة للقارات التي تستخدم اليوم أدوات التواصل مثل الواتساب وفايسبوك للتشبيك، فتجد شبكة متعددة الجنسيات وبتواطؤ غالبا مع شبكات أمنية. كما تظهر اليوم النزعة إلى الالتجاء إلى شبكات تهريب توفر خطوطا متنوعة بحرا وجوا وبرا." 

كيف يعمل المهربون؟ 

"من بلغراد كنت أنوي الذهاب إلى سوبوتيتسا ولكنهم حذروني من الذهاب إلى هناك بسبب القيود المفروضة على حركة تنقل الأجانب بسبب الاشتباه في نوايا الحرقة. نزلت هناك في جويلية 2021 في فندق وقد كان استثنائيا فعلا حيث يتحول بعد منتصف الليل إلى وكالة حرقة إذ يأتي المهربون إلى هناك لتقديم طلباتهم وتنسيق الرحلات"، يقول حسام شاب تونسي مقيم في بريطانيا حاليا وعاش فترة في صربيا سنة 2021. 

في بلغراد تعرف حسام على مهرب تركي في بداية الخمسينات من عمره، ربط معه علاقة سطحية قامت على مساعدته في الترجمة. يقدم هذا المهرب خدمة نقل من بلغراد إلى رين في سيارة من خمسة مقاعد مقابل 1200 يورو للشخص الواحد.  

يقول حسام: "في سوبوتيتسا تُقتسم مناطق النفوذ بين جنسيات مختلفة، الأتراك والصرب والأفغان والعرب. حيث يُمنع مثلا أن يسلك عربي طريق الأفغان. وقد حدث أن تفطن هؤلاء ذات مرة إلى تونسي حاول المرور عبر مناطق نفوذهم فتعرض إلى الضرب وتم تجريده من ملابسه."  

في الحقيقة تشهد مناطق النفوذ على الحدود الصربية المجرية صراعات مواقع حيث تعد بعض المناطق استراتيجية أكثر من غيرها. وقد يحدث أن تنشب مواجهات مسلحة بين شبكات المهربين مثلما حدث بداية شهر جويلية الماضي. أرجع موقع "برافدا" الصربي ما حدث إلى أن حكومة صربيا الحالية، تتعامل مع قضية دخول المهاجرين على نحو كارثي وبمنطق غض الطرف عنهم وتستشهد في ما وقع بداية شهر جويلية كنتائج لهذه السياسة "بلغت هذه السياسة الكارثية ذروتها في الأسبوعين الماضيين أولاً بنزاع مسلح بين المهربين مع سقوط ضحيتين، والآن مع اكتشاف كمية كبيرة من الأسلحة بين المهاجرين". 

عن هذه الواقعة حدثنا فتحي الطويل نقلا عن أصدقائه الذين كانوا هناك قائلا: يقوم الكزاوي يوميا بتمرير 6 أو 7 سيارات كل سيارة فيها أكثر من 20 شخصا. وقد تم مهاجمة كامب الكزاوي الذي يعد أحد أهم المهربين هناك من قبل الأفغان بالرصاص للسيطرة على المكان لأنه الأقرب للحدود ويحوز الموقع الأهم في المنطقة".  

الكزاوي هو كنية شخصية تنحدر من كازابلانكا في المغرب، غير معروفة الملامح ولا المكان ولكنها ذائعة الصيت بين شباب تطاوين باسم ياسين المغربي الكزاوي على موقع التواصل الاجتماعي فايسبوك. يثق التطاوينيون بخدمات الكزاوي لأنه يحافظ على حماية عملائه وإيصالهم إلى وجهاتهم في ظروف آمنة. 

 يعمد الكزاوي في ذلك إلى النشر باستمرار على صفحته الرسمية على موقع فايسبوك، وجوه الواصلين وأسماءهم. ولكن خدماته ما لبثت أن عرفت ارتفاعا جنونيا في الفترة الأخيرة، نتيجة ما يرجعه فتحي الطويل إلى زيادة عدد المقبلين على الحرقة عبر صربيا. 

 نشر موقع الإذاعة الصربية في 3 أوت الماضي، مقالا تضمن تأكيدا على الطفرة في عدد اللاجئين والمهاجرين في صربيا خلال الصيف، مؤكدا أن العدد تضاعف مقارنة بنهاية العام الماضي وأن "هناك حقيقة ثابتة أن مواطني صربيا يمكنهم الآن رؤية هؤلاء الناس على طول الطريق السريعة في المناطق الحدودية." 

ويؤكد ذات المقال أن الأفغان يهيمنون على تركيبة اللاجئين ويشكلون حوالي 40% من العدد الإجمالي، يليهم المهاجرون من سوريا وباكستان وبنغلادش والعراق ودول أخرى من الشرق الأوسط.  

حرقة بأقل التكاليف الممكنة

في مقهى آخر في بداية المدينة اتصلنا بجاسر الشيباني- 23 سنة- يقيم حاليا في باريس. يعتبر جاسر أنه كان ذكيا، وعرف كيف يمضي في طريقه بأقل التكاليف والأضرار عكس كثيرين، ففي الوقت الذي يدفع فيه آخرون أكثر من 5500 يورو للوصول إلى فرنسا نجح هو في ذلك بـ 1800 يورو فقط. يقول جاسر: "أردت أن أهاجر ووضعت في رأسي فكرة أن أحقق ذلك بأقل التكاليف". 

ويسترسل: "مثل البقية حجزت تذكرة سفر إلى تركيا إضافة إلى حجز في نزل 4 نجوم هناك، غير أنني ألغيت لاحقا هذا الحجز، ونزلت في فندق بـ 20 يورو لليلة الواحدة لمدة 3 ليال في منطقة أكسراي التركية. هناك وجدت عددا كبيرا من التونسيين والتطاوينية على وجه الخصوص." 

أثناء وجوده في أكسراي  قابل جاسر مجموعة من شباب تطاوين في المقهى، حينما بدأت تنتشر أخبار مفادها أن مطار صربيا قد اتخذ إجراءات لمنع دخول التونسيين والتونسيات إلى البلاد. ولكن ذلك لم يمنعه من مواصلة خطته، إذ اتصل بأحد أصدقائه في تطاوين ليحجز له تذكرة الطائرة إلى صربيا إلى جانب الحجز في أحد النزل هناك.

يعمد المهاجرون عبر خط صربيا غالبا إلى إلغاء حجوزات الفنادق قبل وصولهم إلى هناك، وبما أن السلطات الأمنية في مطار صربيا قد تفطنت لهذا الأمر، باتت تتصل بالفنادق للاستفسار عن صلوحية الحجز فإذا وجدوه مُلغًى يُرجعون الوافدين والوافدات من المطار مباشرة. 

بعد تفطنه لهذا الإجراء ترك جاسر الحجز ساريا، وقد نجح ذلك في السماح له وحده بدخول صربيا من بين 7 آخرين كانوا يرافقونه تم إرجاعهم من مركز الإيقاف إلى تركيا. 

بعد أن أطلق سراح جاسر ليخرج من مطار صربيا، استقل سيارة تاكسي باتجاه النزل أين قضّى ليلته هناك وما إن انبلج الصبح حتى غادر نحو محطة الحافلات باتجاه مدينة سوبوتيتسا على الحدود الصربية المجرية. 

في سوبوتيتسا أقام بنزل ستيفان روومز، يقول أنه نزل خاص بـ"الحراقة" حيث وجد ما لا يقل عن 200-250 تونسي وتونسية هناك. ويوضح: "كنت أسمع كثيرا مفردات التسليمة والتقاطيع ولكنني لم أكن أدرك معناها. وقد كانت حينها التسليمة بـ3000 دولار والتقاطيع بـ1000." 

تمثل التسليمة أخذ المهاجرين عبر السيارة من سوبوتيتسا إلى داخل الحدود المجرية أو النمساوية، دون الاضطرار إلى السير أو الحجز في وسائل نقل جماعية، فيما تمثل التقاطيع عبور الحدود إلى المجر عبر النهر والغابة، ومواصلة الطريق في وسائل النقل دون مساعدة المهربين الذين تنتهي مهمتهم عند الحدود المجرية. 

أمضى جاسر يومين في النزل قرر بعدها أن ينطلق ويختبر حظه بـ1000 دولار عبر خط الكزاوي. في اليوم الثالث أعدّ حقيبته وانطلق في تاكسي رفقة 3 آخرين إلى النقطة التي سيلتقي المهربون فيها حيث سيتم الاتفاق ومن ثمة الالتحاق بالمخيم قبل الانطلاق في محاولة العبور". 

 يقول جاسر:"خرجت مع رجال الكزاوي وقد كانت المعاملة جيدة جدا وارتحت بعد أن عرفت أن سلامة المهاجرين أولوية مطلقة لرجاله المسلحين، ويواصل بلهجة ساخرة: "خدماته أفضل من سفارة فرنسا في تونس، فهو يوفر الحماية ومغازة للتسوق قريبة من الغابة علاوة على مرشد داخل الغابة". 

ما إن حلّ الغروب حتى اصطف المهاجرون لشراء وصل حسب الطريقة التي يودّون العبور بها. تسلم جاسر وصل تقاطيع من فئة 1000 يورو يمنحه حق معاودة العبور بعدد غير محدود إلى أن ينجح. وهو ما يختلف عن الحرقة عبر البحر أين يتم الدفع في كل محاولة مهما كانت نتيجة المرة السابقة.  

في تلك الليلة خرج جاسر إلى النهر أين يتعيّن عليه بلوغ الضفة الأخرى التي تمثل البداية نحو دولة المجر. يقول جاسر إن النهر ليس بالكبير، إذ يركبون قاربا كهربائيا لمسافة حوالي 100 متر ليجدوا أنفسهم في غابة، أين سيواصلون السير لمدة تتراوح بين ساعة وساعة ونصف، يركنون بعدها إلى الراحة للتدخين والأكل. 

بعد السير في الغابة يعترضهم سياجان حديديان يفصلان الحدود الصربية-المجرية وقد عمد المهربون إلى قطعهما من الأسفل. بعد أن يتخطوا السياج يمرّون عبر غابة أخرى وفي هذه المرحلة يتعين عليهم السير متخفين فيها ولكن بمحاذاة طريق سريعة تمثل الخط العسكري بين البلدين.  

لم تسر محاولة جاسر الأولى كما خطط لها، إذ تم القبض عليهم من قبل الأمن المجري وأرجعوا حذو منطقة الأمن الحدودية الصربية، بعد أن تم تصويرهم أثناء الإيقاف الذي لم تتعدَّ مدّته نصف ساعة. من هناك عاد جاسر إلى النزل وقد قاربت الساعة السادسة صباحا آملا في أخذ قسط من النوم ولكن أخبره رفقاؤه بأنهم سيعيدون المحاولة مرة أخرى في تلك الليلة.

 هذه المرة ابتسم الحظ لجاسر واستطاع أن يمر بعيدا عن رقابة شرطة الحدود، ومن سوبوتيتسا وصل إلى مدينة ساجد المجرية أين استقل سيارة أجرة باتجاه العاصمة بودابست بـ250 يورو رفقة 3 مهاجرين آخرين. 

هناك في بودابست يعمل كهل مصري على اقتطاع تذاكر القطار عبر الإنترنت للمهاجرين الذين لا يمتلكون غالبا بطاقات ائتمان فعّالة. يأخذ المصري عن كل تذكرة بقيمة 15 أو 30 دولار 50 دولارا. ولكن جاسر لم يلجأ إليه بل اتصل بابن عمه الذي حجز له التذكرة مباشرة باتجاه براتسلافا، التي يقول أنه قد وصل إليها حينما كانت مدججة برجال الأمن.  

من براتسلافا اتجه بالقطار مرة أخرى إلى بيريكلاف في جمهورية التشيك. هناك عاود الاتصال بأحد أصدقائه مرة أخرى ليحجز له على القطار المتوجه إلى فيينا عاصمة النمسا. في فيينا تنفس الصعداء  لأنه بات يشعر أن قد تخطى الصعب وبات هدفه أقرب من اي وقت مضى، استطاع أن يرتب أفكاره ويأكل ويشرب بهدوء في محطة القطار. من هناك صعد القطار مرة أخرى  بنيّة التوجه إلى فرنسا ولكنه بعد 8 ساعات اكتشف أنه قد وصل إلى زيورخ في سويسرا. 

هناك، تم احتجازه في مركز الإيقاف ولكنه يؤكد على أن المعاملة كانت إنسانية مثل سؤاله عن دينه لتوفير أكل حلال له. ولكنهم في الصباح أعطوه ورقة وطلبوا منه مغادرة الأراضي السويسرية. غادر جاسر من هناك عائدا إلى سالزبورغ أين اعترضه عمه بالسيارة لينطلق به نحو باريس. 

 يحظى جاسر حاليا بحياة يصفها بالهادئة والعادية في فرنسا، يعمل يوميا في مخبزة عمّه بأحد ضواحي العاصمة باريس رفقة أخيه. يقول جاسر إن غالبية المهاجرين ممن لا يحملون أوراقا ويعملون في مخابز يبدؤون العمل بعد الثانية ظهرا وإلى العاشرة ليلا تجنبا للمراقبة الأمنية التي تكثر صباحا.

 يعتبر الشاب نفسه محظوظا بوجود أقاربه هناك ويؤكد على أن المغامرة بطريقة فردية صعبة للغاية وإن أي شخص لا يحوز وثائق إقامة سيعاني في الشارع قبل الحصول على عمل. ولكنه يؤكد وجود أرباب عمل يقبلون تشغييل مهاجرين بوثائق مزورة ليتسنى لهم دفع التأمين الاجتماعي والحصول على وثائق الإقامة في مرحلة لاحقة. 

يعمل عمال المخابز والمطاعم غالبا وفق نظام فترتين، فترة النهار تبدأ على الساعة العاشرة أو الحادية عشرة صباحا إلى الخامسة ظهرا ويباشر فيها غالبا من يمتلكون وثائق إقامة وعقود عمل قانونية. أما في الفترة الليلة فهم يبقون تقريبا على شخص واحد يمتلك وثائق قانونية حتى يستطيع التواصل مع رجال الأمن بطريقة عادية وحتى يتسنى للآخرين التخفي أو المغادرة. 

"يستغل أرباب العمل الطلب الكبير على اليد العاملة المختصة في المطاعم، ونقص توفرها بين الفرنسيين. ولكن هناك من ينتدب المهاجرين من بلدانهم بطريقة قانونية، وهناك من يحضرونهم بطرق أخرى ويدفعون لهم أقل من الأجر الأدنى المضمون بفرنسا أي في حدود 1200 يورو شهريا" تقول ياسمين شابة تونسية مقيمة بفرنسا في حوار لإنكفاضة. 

وتضيف ياسمين: "يتم غالبا إبرام عقد عمل عبر أحد الأقارب ما يتيح الحصول على فيزا مدتها 3 أشهر.  لتجنب إيقاف الشخص بعد تجاوز فترة الإقامة القانونية يعمد المشغلون الذين يمتلكون في الغالب أكثر من محل موزعين في مناطق متباعدة تسجيل مكان الشخص في محل غير الذي يكون الشخص المضيف موجودا فيه." 

وتواصل: "رغم ارتفاع غرامة تشغيل شخص دون وثائق قانونية والتي تتجاوز 35 ألف يورو إلا أن بعض أرباب العمل يعمدون إلى المخاطرة في سبيل أقاربهم. وأغلبية من عرفتهم هناك من تطاوين والمناطق القريبة منها حاول أربابهم في العمل مساعدتهم على بداية حياة جديدة هناك". 

في المقابل تؤكد ياسمين وجود طرق أخرى غير قانونية  يعمد إليها المهاجرون تتمثل مثلا لتزوير وثائق إقامة دولة أوروبية أخرى بل يستظهرون بنسخة منها في حال تم إيقافهم من قبل الشرطة.

الهدف هو الوصول إلى عدد محدد من شهادات خلاص الأجر يتجاو 10 أو 11 شهادة ليتمكنوا من تقديم طلب الحصول على وثائق إقامة قانونية ولكن الإجراءات تأخذ وقتا طويلا قد يتجاوز 3 سنوات كما تقول ياسمين. 

الحرقة مشروع عائلي

"ينطلق المهاجر اليوم من تطاوين باتجاه المطار تحت دعوات الأهل ومعاضدتهم وهو ما يختلف عن الحرقة التقليدية عبر البحر التي لا تزال غالبيتها تحدث بعيدا عن مباركة العائلة لارتفاع مخاطرها. لتظل رحلة سرية وخطرة لا تُعرف عواقبها، كما أن الحياة ما بعد الوصول إلى هناك ستكون أصعب في غياب مضيف من الأهل أو الأصدقاء المقربين وهنا يبرز دور التضامن العروشي" يقول مهدي مبروك.  

انطلاقا من رحلة جاسر مرورا باستعدادات فتحي، وعودة على الطريقة التي جمع بها أحمد مصاريف الهجرة، نفهم جيدا الدور المحوري للتضامن القرابي وأنثروبولوجيا المنطقة في تعزيز الشعور الكبير بالتضامن، وهنا لا نتحدث عن التضامن بمفهوم الحب والمودة، ولكن ذلك الذي يؤمن الحماية والهيبة وتبادل المصالح والمنافع، وقائم على إبداء نوع من القوة وتقليل المخاطر وحل المشاكل بعيدا عن السلطة السياسية وفق تعبير مبروك. 

هذه الأعمال التي تتحدى أجهزة الأمن وأنظمة غلق الحدود، لتنجح تحتاج الكثير من التضامن العائلي والعروشي، نظرا لارتفاع التكلفة التي تتطلب تقاسم الأعباء المالية والأدوار في إطار مشروع عائلي مثل التقصي عن المعلومات، وسلامة الرحلة والنقل لمناطق تجمع المهاجرين أو استقبالهم وغيرها. 

يرى مهدي مبروك أن العائلة بات في اعتقادها أن من غير الممكن تحقيق نقلة اجتماعية بموارد ذاتية وبزمن تونسي، بل لا بد من حرق المراحل التي تتطلب حرق الحدود نحو بلدان الشمال، ورغم أن ذلك قد يحمل نوعا من التناقض لدى البعض باعتبار أن العائلة هي الحامية  والمشعرة بالحنان ولكن سلم القيم اختلف تماما، لنشهد تفتيت المقولات القديمة وإعادة توزيع الأدوار لتتحول المساعدة على الحرقة إلى قيمة جديدة.

ظهر مصطلح الحرقة منذ سنة 1990 - 1991 حينما فرضت السلطات الإيطالية تأشيرة على دخول التونسيين، ما يحيل على نوع من الاستمرارية في الحرقة التي تتجدد دوافعها وبواعثها ومناخاتها في كل مرة، وعلى مدى عقود  ولكن الفاعلين فيها يتغيرون، مثلما نشهد اليوم ولادة الخط الجديد على صربيا.

في 2 أوت 2020 وتزامنا مع زيارته لمدينة صفاقس، اعترف الرئيس قيس سعيد بأن المقاربة الأمنية غير مجدية، ولكنه أرجع سبب موجات الحرقة إلى مؤامرة تحاك ضد البلاد. إلا أن الواقع يثبت لنا أننا مازلنا بعيدين عن تفعيل أية خيارات أو استراتيجيات اجتماعية وسياسية لتخفيف حدة موجات الهجرة غير أمننة المسألة، كما نجد أنفسنا إزاء طفرة في الأرقام خلال السنوات الثلاث الماضية.

تظهر محدودية أثر أمننة قضية الهجرة غير النظامية على كبح هذه الحركية بين ضفتي المتوسط من خلال ارتفاع عدد من حاولوا الهجرة خلال السنوات العشر الماضية من 2947 سنة 2012 إلى 42070 سنة 2021 . في المقابل نشهد تضييقا أكثرا على السواحل من خلال ارتفاع عدد الموقوفين أثناء اجتياز الحدود البحرية مقارنة بالواصلين إلى أوروبا عبر البحر بين 2011 و2021 من 26 %  إلى أكثر من 150% وفق التقرير السنوي الأخير حول الهجرة غير النظامية للمنتدى التونسي للحقوق الإجتماعية والإقتصادية.  

"من الخطاب الذي يتبناه الشباب الساعي إلى الهجرة اليوم يظهر جليا أن هذه الرغبة تتغذى على حالة نفسية متأزمة تنتعش من إحباط سياسي واجتماعي متواصل وفي كل مرة تتفتح بارقة أمل ما تلبث أن تنطفئ بسرعة،" يقول مهدي مبروك.  

رغم خصوصية موجة الهجرة التي تضرب تطاوين والمدن المحيطة بها، لا يمكن أن نتجاهل في النهاية أن في الشمال أيضا كبنزرت، هناك قرى مستها الهجرة السرية على نحو جليّ وواضح فلكل منطقة هناك خصوصيات، ففي الموانئ هناك شبكات وفي المناطق الساحلية شبكات وفي الحدود البرية شبكات أخرى، وكلها لها ميكانيزماتها وطرق اشتغالها الخاصة وفق الظروف  والمعدات ونوعية الجهاز الأمني الموجود، وقد نجد مهربي سلع يتحولون إلى مهربي بشر متسلحين بذات المعارف والشبكات.