تذهب سلمى كل ثلاثة أشهر إلى مستشفى الرابطة في ضواحي تونس العاصمة لأخذ عينة من دمها وتجديد وصفتها الطبية والحصول على العلاج. ولكن بانتشار الجائحة وفي ظل عدم توفر المواد الكاشفة الضرورية للتشخيص وخشيتها من الإصابة بكوفيد-19 نظرا لهشاشة جهازها المناعي، صارت سلمى عاجزة عن إجراء فحوصها. علما أن خطر الوفاة بسبب كوفيد-19 بين صفوف المتعايشين والمتعايشات مع فيروس نقص المناعة يبلغ الضعف مقارنة بعامة السكان، وفق دراسات أنجزها Onusida برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بفيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز في إنقلترا وجنوب أفريقيا.
على غرار سلمى، يقدر أن 4500 شخصا مصابون بهذا الفيروس في تونس وفقا لتقديرات برنامج الأمم المتحدة المشترك، لكن نصفهم بالكاد يتلقى العلاج.
وعلى الرغم من وجود جهاز وطني يعمل على توفير الأدوية مجانا منذ بداية الألفينات، فإن هؤلاء الأشخاص لا يحصلون دائما على أدويتهم بسبب تواتر انقطاع المخزون وعدم ملاءمة العلاجات في بعض الأحيان. كما يشجب الكثيرون الوصم الذي يعانون منه وتعثر تونس في التصدي لفيروس نقص المناعة البشرية.
حسب برنامج Onusida، يتابع 1300 شخص فقط العلاج، لذا آثرت إنكفاضة الاستئناس بأرقام جمعية ATP+ والبرنامج الوطني لمكافحة السيدا PNLS
"لا أريد أن أتذكر ذلك اليوم"
علمت سلمى أنها مصابة بفيروس نقص المناعة البشرية في سن الـ 29، تقول والعبرة تكاد تخنقها: "لا أريد أن أتذكر ذلك اليوم. كان ذلك منذ 30 عاما خلت وكانت صدمة مهولة". بعد محاولتين، نجحت المرأة ذات الستين عاما في أن تروي لنا ذلك الحدث: "كنت عاملة جنس في أحد بيوت الدعارة في ذلك الوقت" وكانت تخضع لفحوص شهرية لمراقبة خطر العدوى بمرض منقول جنسيا.
وفي شهر ديسمبر من سنة 1992، اتصل بها الطبيب ونطق تلك الجملة التي لا يزال يتردد صداها في أذنها إلى اليوم: "ليس بوسعك العمل بعد الآن. أنت إيجابية المصل".
في نفس الموضوع
كانت العلاجات آنذاك مكلفة وتقع تحت مسؤولية المريض أو المريضة. "شرعت في متابعة العلاج في عام 1998، أرسلته عائلتي من فرنسا واشتريته بمبلغ 750 دينارا، لكنه لم يناسبني وسبّب لي حساسية فأقلعت عنه، إلى أن قدم الصندوق العالمي إلى تونس في عام 2002". الصندوق العالمي لمكافحة الإيدز والسل والملاريا هو مؤسسة غير ربحية تهدف إلى وضع حدّ لهذه الأوبئة. وتتلقى عدة بلدان إعانات بما فيها تونس التي تسلمت 5 ملايين دولار للفترة 2019-2021 في حين تخصص وزارة الصحة من جهتها ما بين 5 ملايين دولار و 7 ملايين دولار سنويا وفقا لأقوال مستشار تابع للأمم المتحدة.
أدوية مجانية ولكنها غير متوفرة
يمكن للمرضى الذهاب إلى أربعة مستشفيات تقع على التوالي في تونس العاصمة والمنستير وسوسة وصفاقس للحصول على علاج مجاني. وتتعهد أقسام الأمراض الجرثومية والمعدية بتقديم العلاج المضاد للفيروسات القهقرية الذي يهدف إلى "إخماد الفيروس" وبالتالي منعه من التكاثر في الدم.
"ولكن يبقى الفيروس متواجدا في الجسم داخل الخلايا حتى تحت العلاج، وفي حال تابع المريض علاجه بشكل سليم، يظل الفيروس خامدا"، يشرح محمد شقرون رئيس قسم الأمراض الجرثومية والمعدية في مستشفى فطومة بورقيبة في المنستير.
بدايةً، يتلقى الفرد المصاب علاج "الخط الأول" بمجرد أن يحاط علما بإصابته وهي أدوية في شكل قرص يؤخذ مرة واحدة في اليوم. يقول الطبيب أن "90-95% من المتعايشين مع فيروس نقص المناعة البشرية يتناولونه".
وفي بعض الأحيان، يقاوم الجسم العلاج الذي يفقد نجاعته، فيستيقظ الفيروس ويتكاثر. حينها يتلقى المريض علاجا ثانيا يعرف باسم "الخط الثاني" وهو أكثر قوة ولكنه أكثر تقييدا أيضا. وإذا لم ينفع ذلك في إخماد الفيروس، يتم الانتقال إلى ما يسمى بعلاج "الخط الثالث" الذي يرتفع فيه عدد الأقراص والجرعات المأخوذة في اليوم وفقا للدكتور شقرون، وتتعاظم تكلفة العلاج "ليصبح باهظا للغاية".
تتابع سلمى على سبيل المثال علاج الخط الثالث وأخشى ما تخشاه أن يقوم جسمها "بمقاومة أخرى" فلا يتبقى لديها "خط نجدة" وأن تجد نفسها معرضة لخطر الوصول إلى مرحلة السيدا (متلازمة نقص المناعة المكتسب) وهي أكثر مراحل الإصابة بالفيروس تقدما. وبالتالي، فإننا لا نموت مباشرة من السيدا بل من العدوى الانتهازية التي يسببها الإيدز ومن ذلك خضعت سلمى مثلا إلى أربع عمليات جراحية على عينها أين طورت ورما لمفاوياً.
يهدف العلاج إلى تجنب مرحلة السيدا والحد من انتشار الفيروس في الجسم، كما يمكن بفضله قمع الحمل الفيروسي. ونتيجة لذلك، يظل الشخص المتعايش مع الفيروس إيجابي المصل ولكنه لا ينقله. وتنتقل العدوى بفيروس نقص المناعة البشرية في المقام الأول عن طريق الدم والمني والإفرازات المهبلية وحليب الثدي ولهذا السبب يتناول الأشخاص الحاملون له هذه العقاقير مدى الحياة "في انتظار أن يسمح البحث العلمي بتطوير أدوية من شأنها الوصول إلى الفيروس الكامن وتدميره"، على حد قول الطبيب.
غير انقطاع مخزون هذه الأدوية أمر معهود ومتواتر في تونس، ودرءا لذلك، تحاول الجمعيات المختصة في التصدي لهذا الوباء الحصول عليها من الخارج مثلما تفعل رئيسة الجمعية التونسية للوقاية الإيجابية (ATP+) سهيلة بن سعيد التي تلقّت 47 علبة أدوية قادمة من الأردن، دون أن يخلو ذلك من المشاقّ: "ذهبت في أفريل إلى الديوانة لتسريح الأدوية بنفسي، ظنوا أننا سنبيعها !" تروي سهيلة.
المرضى في مربع الخطر
واجهت سلمى أثناء جائحة كوفيد-19 صعوبات جمّة في الحصول على جميع الأدوية التي يفترض بها تناولها، وهو أمر لا يخلو من العواقب. تقول: "عندما آخذ علاجي كاملاً أبدو بخير وأشعر بالنشاط. أما حين يكون العلاج منقوصا، تترهل أجفاني ويصبح من الصعب علي فتح عيني المرهقتين، كأنني مكسورة من الداخل وكأن جسدي لم يعد كما كان [...] طفح الكيل، لم أحصل على كل أدويتي وهذا أمر خطير، أنا أيضا أستحق الاحترام!"
تقول سهيلة بن سعيد إن "برنامج الأمم المتحدة المشترك Onusida يؤكد على أهمية تناول الأدوية في الوقت المحدد وعدم وقف العلاج، ولكن في نفس الوقت نجد أنفسنا في تونس إزاء نفاد المخزون".
وتضيف رئيسة جمعية الوقاية الإيجابية أن انقطاع المخزون هذا يزيد من حالات المقاومة و "لم يحدث قط أن بلغ الحال ما هو عليه اليوم، إذ تدهورت جودة الرعاية ولم يعد فيروس فقدان المناعة أولوية سياسية".
يؤكد سمير الذي اكتشف إصابته بالفيروس في عام 2013 أنه "بالنظر إلى تواتر هذه الانقطاعات، أصبحت أتزود من الخارج". واليوم، انخفضت حمولته الفيروسية إلى مستوى غير قابل للكشف وما عاد معديا، غير أنه لا يخفي قلقه واحترازه الأمر الذي يدفعه إلى شراء كمية مضاعفة من الأدوية من فرنسا بفضل "أشخاص أعرفهم أرسل إليهم وصفتي الطبية". ولكن هذه الطريقة باهظة إذ يكلفه شهر من العلاج 900 دينار وهو يشتري في العادة مخزونا يكفيه ثلاثة أشهر على الأقل. خلال الحجر الصحي في 2020، "اضطررت لاستهلاك أدوية تجاوزت مدة صلاحيتها الثلاثة أو الأربعة أشهر"، أمر لا يرى الدكتور شقرون فيه خطرا "فمهما كانت الأدوية، هنالك دائما هامش أمان يمتد لثلاثة أشهر بعد انقضاء فترة الصلاحية".
على من يقع الخطأ؟
تقول سهيلة بن سعيد أن انقطاع المخزون بدأ في عام 2015. كان من المفترض أن يوقع وزير الصحة آنذاك سعيد العايدي اتفاقا إطاريا مع الصندوق العالمي ولم يحدث ذلك سوى بعد سنتين. تقصيرٌ أدى إلى إعاقة الصناديق التي تمول نصيب الأسد من آليات الاستجابة للفيروس بما في ذلك التزويد بالأدوية. ثم تفاقمت هذه الوضعية مع قدوم الوباء وأخذت تنفرج أوائل عام 2021 وفقا للدكتور شقرون. وفي المقابل، تؤكد سهيلة بن سعيد أن الأدوية لا تزال غير متوفرة خصوصا مضادات الفيروسات القهقرية المخصصة للأطفال.
تقول: "هناك عقبات سياسية تؤخر سيران الأمور بستة أشهر أو حتى بسنة".
ويقع البرنامج الوطني لمكافحة السيدا والأمراض المنقولة جنسيا تحت عهدة إدارة الرعاية الصحية الأساسية التابعة لوزارة الصحة حيث يتولّى منسّق هذا البرنامج إعداد طلبات التزويد بالأدوية. ومنذ تعيين فوزي عبيد في هذا المنصب في ديسمبر 2019 تنامى الأمل في انفراج المحنة. يرى الدكتور شقرون أن فوزي عبيد "بذل جهودا واتصل بالمزودين وبالشركاء المحليين وحاول اختصار المراحل الإدارية اللازمة لاستقبال هذه الطلبات". ويضيف سمير: "وجد المنسق الجديد الدكتور عبيد نفسه إزاء إرث كارثي على مستوى الإدارة الوطنية".
وباتصال انكفاضة به، أكد فوزي عبيد أنه لاحظ بالفعل وجود خلل ويضرب مثلا أنه "لم أجد مخزونا احتياطيا من الأدوية المضادة للفيروسات القهقرية. كما لم تكن الاحتياجات مقدرة تقديرا كافيا ولم يكن هناك تسيير جيد أو متابعة مناسبة لعمليات المراقبة".
يفسر زياد المحيرصي المختص في الصحة العمومية أن "نقص المخزون متواصل طوال الوقت في تونس ولا يخص هذا أدوية فيروس نقص المناعة البشرية فحسب. يكمن السبب في هشاشة عملية الشراء لدينا والثقل الإداري الموجود وما إلى ذلك. كما تُعتبر الطلبيات ضئيلة لأن عدد المرضى ليس كبيرا. غير أن هذا ليس مبررا لحدوث اضطرابات في المخزون بالنسبة للمتعايشين مع الفيروس، كما لا يوجد أي عذر لاضطرابات مخزونات كل الأدوية بشكل عام".
ثم جاءت أزمة كوفيد لتحدّ من توافر المخزون وتسلّط الضوء على سوء الإدارة. يقول المنسق أنه وفق تجربته "عليك أن تبالغ في تقدير الاحتياجات وأن يكون لديك رصيد احتياطي لـ 6 أشهر كحد أدنى، وبعض البلدان تحتفظ بمخزون لـ 9 أشهر. أما نحن فبحوزتنا في أفضل الأحوال مخزون يتراوح بين 3 و6 أشهر وهو مخزون هش".
وزادت الوضعية السياسية في الأشهر الأخيرة الأمر تعقيدا. يقول سمير: "الدولة التونسية مفلسة ولا تملك المزيد من المال، وإدارة أزمة الكوفيد ركزت جميع الجهود لأنها أكثر أولوية".
في نفس الموضوع
بروتوكول علاجي متخلّف
بالإضافة إلى الاختلالات المتصلة بمخزونات الأدوية، يشير العديد من الناس إلى أن تونس متأخرة في نوعية العلاجات التي تقدمها. يقول محمد شقرون الذي عُين كمستشار للإشراف على تحديث البروتوكول العلاجي في وزارة الصحة إن "تونس متخلفة كثيراً عن العديد من البلدان" فلعدة سنوات، ظل المنصب الذي يشغله الآن الدكتور شقرون شاغرا. وفي ظل غياب وسيط لمناقشة بروتوكولات جديدة مع منظمة الصحة العالمية، حدثت تأخيرات فادحة في تنفيذ العلاجات الجديدة. "تونس متخلفة عن الركب! بروتوكولاتنا العلاجية لا تتطور بتطور العلم لأنه يستغرق عدة سنوات قبل أن يبلغنا، ونفس الشيء يحدث في كل مرة"، يشرح زياد المحيرصي.
من ناحيتها، تتابع سلمى عن كثب "الأخبار الصيدلانية" في العالم وتستنكر هذا التأخير في تونس.
"إذا عجلت وزارة الصحة أو منظمة الصحة العالمية بتبني أجيال جديدة من الأدوية، فإن حياة العديد من الناس سوف ترى تحسنا. هم لا يدركون أن حياة البعض تعتمد حصرا على هذه الأدوية".
في موفى عام 2020، تم التصديق أخيرا على بروتوكولات علاجية جديدة لتزويد المرضى بعلاجات أقل تقييدا وأكثر فعالية، ولا سيما من خلال دواء "دولوتيغرافير Dolutégravir". وعلى الرغم من هذا التقدم، فإن وصول الأدوية الجديدة "شهد تأخرا مرة أخرى وأضحى الأمر مزعجاً لأنه يفترض من هذا العلاج أن يحل مشاكل عدة".
ويسبب العلاج الحالي العديد من الآثار الجانبية التي يصعب تحملها. "تنتابني هلوسات وأسمع تدفق دمي في أذني. لا أستطيع تحريك يدي، ولا تحريك رجليّ ولا النهوض، خصوصا أنه يُنصح بأخذه في وقت النوم لأنه من المستحيل البقاء واقفا بعدها. أنا أتناول الدواء منذ عام ولا تزال هذه الأعراض موجودة"، تروي حياة بوجه منهك وهي أم لطفلين حاملين للفيروس أيضا، غير أنهما يبدوان أكثر ارتياحا للأدوية: "إنهما معتادان على ذلك ولكن بمجرد أن يبذلا جهدا أو يلعبا، يصيبهما إعياء شديد بسبب الأدوية".
من جهتها تصف وسيلة البالغة من العمر 33 عاماً تأثيرات هذه العقاقير عليها: "أصبح أكثر توتراً ولا أستطيع تحمل الضجيج أوالضوء عندما أخرج (...). أفقد شهيتي ولا أستطيع النوم وجسدي يؤلمني". وبالنظر إلى هذه الآثار الجانبية، طلبت الشابة من طبيبها تغيير علاجها إلا أنها أعلمتها "أنه ليس هناك علاج آخر لأن المخزون منقطع". فما كان من وسيلة في ظل افتقارها للبدائل إلا أن تكيّف علاجها بمفردها بأخذه كل ثاني أسبوع ومن دون موافقة طبية.
وصمة عار موجعة
وعلى الرغم من تأثير العلاج، فإن معظم الأشخاص الذين يدلون بشهاداتهم يركزون بصفة خاصة على الوصمة التي تلحق بحياتهم اليومية وتجاربهم الأليمة لا سيما مع بعض موظفي وموظفات الرعاية الصحية.
من ذلك ما حدث لسمير حين ذهب إلى طبيب خاص "لم يكن إنسانيا" على حد قوله، "كان يعاملني كما لو أنني فعلت أمرا شنيعا". في ذلك الوقت، لم يكن سمير يتقبل بعدُ إصابته بالفيروس: "كنت غاضباً من نفسي"، يقول، وعندما اكتشف الطبيب أن دواء سمير لم يعد متوفرا أخبره "أن يتدبر أمره ليحصل عليه من الخارج".
"أنا لست الشخص الذي قام بعلاقات شاذة" قال له الطبيب.
في نفس الموضوع
تذكر حياة ذات الـ30 عاما أثناء ولادتها لابنها أن "الطبيبة جلبت ورقة مكتوبا عليها باللون الوردي VIH" لتعلقها على سريرها. ومن فرط خوفها أن تكتشف عائلة أصهارها حالتها الصحية، خرجت من غرفتها تبكي وهددت الطاقم الطبي بالمغادرة إن لم تُنتزع الورقة "هناك شخص واحد أو اثنان حولي على علم لا أكثر"، تقول حياة. وأمام ردة فعلها وتهديداتها، انتهى بهم الأمر بإزالة اللافتة.
بالنسبة لسهيلة بن سعيد، فإن هذا الشعور بالرفض ــ وخاصة من جانب الطاقم الطبي ــ يدفع المرضى الذين تسمّيهم "المغيّبين عن الأنظار" إلى الفرار من دوائر المستشفيات، وهو أمر يستدعي إنماء الوعي بين عامة السكان حسب قول الناشطة.
"الشخص الذي لديه حمل فيروسي غير قابل للكشف لا ينقل الفيروس. هذا أمر ينبغي على العاملين في القطاع الصحي والجميع معرفته، لا سيما وأنه يشكل جزءاً من عملية الوقاية، إذ أدركنا أن الوصم والتمييز يؤثران على علاقة الحاملين لفيروس نقص المناعة البشرية مع العلاج. إنه أمر جدّ حيوي!".