في اليوم الموالي، جاءت بضع عشرات من الشخصيات من بينهم ممثلون وممثلات عن منظمات المجتمع المدني ومسؤولين ومسؤولات سياسيات من أجل تقديم العزاء لعائلات الضحايا، ليتسع حجم تلك المقبرة الصغيرة القابعة في ربوة وسط دوار البلاهدية. كان الرجال منحنين يضعون آخر فرَشات الإسمنت فوق عشرات الأضرحة. وسط هذا المشهد، كان أحد الشباب ينظر شاردا وهو يجلس على قطعة آجر، عاصبا رأسه بوشاح أخضر تعلوه رسوم بالألوان. إنه وشاح أمه التي دفنت بالأمس.. هو ذات الوشاح الذي أصبح منذ تلك الحادثة رمزا لنضال النسوة الريفيات ضد شتى أنواع الظلم الذي يتعرضن له.
ما وراء الحوادث
كان على فاطمة أن تسير بعد لحوالي ربع ساعة لتصل إلى منزلها، حيث تقطن صحبة ستة من أبنائها في الجانب الآخر من الوادي الجاف، في غياب زوجها وابنها البكر اللذين يعملان في حضائر البناء في المدن الساحلية، سوسة والحمامات. لذلك فقد كانت الطريقة الوحيدة لإعالة أبنائها، هي أن تنهض كل صباح قبل شروق الشمس وتذهب إلى العمل في الحقول. من حسن حظها، فقد نجت من الحادث المأساوي الذي ضرب قريتها، حيث غيّرت مؤخرا صاحب العمل وكذلك سائق الشاحنة الذي توفي بدوره في الحادث.
كل يوم، ما عدا الأحد، تنطلق فاطمة سيرا على الأقدام نحو نقطة تجمع قريبة، وهناك تلتقي بعدد من النسوة وبعض الرجال والأطفال الذين ينتظرون مثلها قدوم سوّاق الشاحنات لنقلهم.
"أحيانا ننتظر لوقت طويل دون أن نظفر بعمل، فنعود أدراجنا إلى بيوتنا وننام ببطون خاوية."
عند دعوة العاملين/ات للعمل في الحقول لصالح أحد الفلاحين/ات في الجهة، يتم رصّهم في مؤخرة الشاحنة وهم واقفون. وقد تصل مدة الرحلة إلى ثلاث ساعات في طريق لا تكون دائما في حالة جيدة. "حينما نصل نكون متعبين، في حين يتوجب علينا الشروع فورا في العمل في الحقل". وعند الانتهاء من العمل، تسلك فاطمة الطريق ذاتها وفي نفس الظروف، لتعود إلى بيتها المتواضع.
يتكوّن منزلها من غرفتين صغيرتين تشققت جدرانهما بشكل خطير. تغطي الحشايا الرفيعة، المتآكلة والمغبرّة الأرضية الإسمنتية. ويحتوي البيت على جهاز تلفزيون من الطراز القديم وهو الوسيلة الوحيدة للترفيه، بالإضافة إلى براد قديم، ليكتمل المشهد بوجود بقايا طعام مبعثرة على الخزانة وركن صغير مخصص للخزن.
تتسائل فاطمة التي ولدت في البلاهدية وعاشت فيها كل حياتها: "أين عساني أذهب؟"
معركة البقاء اليومية
تتحصل العاملات الفلاحيات بالنسبة لكل يوم عمل، على أجرة 10 دنانير من أصل 14 دينارا يدفعها المٌشغل، في حين تذهب الدنانير الأربعة الباقية إلى سائق الشاحنة. ويبرر خميّس، ابن فاطمة، ذلك بالقول "هذا عادي، فثمن المحروقات ارتفع، في حين يتوجّب التنقل لمسافة 30 كيلومترا" ويضيف "بدون هؤلاء السوّاق، لا يمكن لنا أن نعمل.. سنموت جوعا !"
يبلغ خميّس من العمر 17 عاما، وهو الوحيد بين إخوته وأخواته الذي واصل دراسته. للوصول إلى المعهد، يجب عليه ركوب وسائل النقل ذاتها التي تركبها والدته للعمل في الحقول. وقد نجا بدوره من أحد الحوادث، حيث تحمل ساقه اليمنى إلى الآن آثار ذلك. في المقابل، تركت أخته الصغرى التي تبلغ من العمر 12 عاما المدرسة، وهي تعمل حاليا مع أمها في الحقول بشكل موسمي، رغم رفض الفلاحين تشغيلها لأنهم يرون أنها غير قادرة على تقديم القوة الجسدية المطلوبة للعمل.
في نفس الموضوع
لا يزور زوج فاطمة عائلته سوى مرة كل ثلاثة أشهر ويساعد بالكاد في تحمّل مصاريف الأسرة، حيث تقول الزوجة في هذا الصدد، "إذا ما تم اقتطاع مصاريفه اليومية في سوسة وإيجار البيت، فإن ما يبقى من أجرته بالكاد يعيلنا"، مضيفة " إنه يرسل لنا، عند المقدرة، ما بين 150 أو 200 دينار لا أكثر" ولكنها تسارع مبرّرة "العمل غير متوفر باستمرار، ناهيك عن الخطر، فقد تعرّض إلى حادث سقوط".
ولكن من المسؤول عن هذا الوضع؟ إنها الدولة ومن يمسكون بزمام الحكم، حسب فاطمة التي تؤكد: "لم نتلقّ أية مساعدة منهم. فمالذي يفعلونه هنا إذا كانوا عاجزين على مساعدتنا؟". فالكهرباء مقطوعة في القرية، وآبار المياه غالبا ما تكون غير صالحة للإستعمال، مما يجبر متساكني/ ات البلاهدية على السير لعديد الكيلومترات مشيا على الأقدام للوصول إلى منبع مياه مشترك أنشأته وزارة الفلاحة.
في نفس الموضوع
لدى فاطمة العديد من الأفواه لإطعامها، وهي التي أنجبت 7 أطفال وحدها في بيتها، وذلك بحوالي 300 دينار فقط في الشهر. وعلى الرغم من المشاكل الصحية التي تعاني منها، إلا أنها لا تملك المال اللازم للعلاج. وهي لا تنفكّ تتسائل: "لماذا لا نملك مستشفيات أو مستوصفات في قريتنا؟ نحن أيضا تونسيون".
بالنسبة لها، لا يمكن إلقاء اللوم فيما حصل على سائقي الشاحنات، فهم يقطنون بدورهم القرية ذاتها ويعيشون في نفس الظروف. "إنهم جيراننا، تؤكد فاطمة، وصاحب الشاحنة التي انقلبت كان يقلّ أمه أيضا، التي توفيت في الحادث"، مضيفة "هم من يعرفون الفلاحين وهم أيضا من يجدون لنا عملا عندهم".
عالم آخر
تؤكد بسمة، جارة فاطمة، كلام هذه الأخيرة. وتضيف المرأتان أنهما كانتا شاهدتين على حالات فساد، تورّط فيها أعوان الحرس الوطني في المنطقة، حيث تقول بسمة أنهم "يوقفون الشاحنة ويطلبون الرشوة من السائق. وفي إحدى المرّات، طلبوا منه 150 دينارا!" وتتسائل: من أين له أن يجدها؟"، ثم تضيف "لهذا السبب أيضا يقوم السواق بنقل عدد كبير من الأشخاص، وإلا فلن يربحوا شيئا".
بسمة لا تشتغل بسبب رعايتها لطفليها الصغيرين، في حين يقوم زوجها، العامل الفلاحي بتأمين قوت العائلة. لكنها لا تخفي غضبها من الوضعية المزرية لحالة النقل في جهتها، خاصة وأن ابنتها مصابة بحساسية وعليها أن تعالجها في سوسة.
"لأخذها إلى مستشفى سوسة، يجب أن أدفع 100 دينار حتى أُغطي مصاريف التنقل".
"لا أستطيع ذلك"، تتذمّر بسمة وهي تلقي بحزمة من الوصفات الطبية والوثائق على الأرض. وتضيف "يكلفني مرهم معالجة الحساسية لوحده 14 دينارا! وعندما أذهب إلى الصيدلية أجد نفسي مجبرة على الدفع ولا أحد يعيد لي مالي". لذلك، ونظرا لعدم قدرتها على التنقل، تكتفي بسمة بتلك التكاليف، راجية أن لا يتفاقم مرض ابنتها.
يوم الحادث، فتحت بسمة التلفاز على أمل أن تجد مواكبة إعلامية للظلم الذي يواجهه سكان وساكنات البلاهدية. لكن البرامج الترفيهية كانت تتالى، لتعكس "عالما آخر".
"إنه لأمر غريب" تقول بسمة، "أفتح التلفاز فأجد برامج تتحدث عن الموضة والزينة، في حين نموت نحن جوعا هنا، ويتم استغلالنا وامتصاص دمائنا، وبعد كل ذلك لا نرى سوى هذه البرامج على التلفاز. إنه لأمر عجيب حقا".
نداء الجبل
رغم جمال الطبيعة، كان الجو ثقيلا في البلاهدية، حيث تحوم طائرات الهليكوبتر حول الجبل المطل على الوادي. فمنذ سنوات، يُعدّ جبل المغيلة مسرحا للمواجهة بين عناصر الجيش التونسي والمجموعات المسلحة والقيام بعمليات أمنية، لذلك يعيش السكان في سفح الجبل على إيقاع هذه العمليات.
تستنكر بسمة هذا الوضع قائلة: "تمر طائرات الجيش عشرين مرة في اليوم ويحاصرون الجبل بأسلحتهم، لكنهم لا يعيرون لنا أي اهتمام"، مضيفة: "كيف لهم أن يُحسوّا بنا؟".
"من الجيد أننا لم نصعد إلى الجبل ولم نقاوم هذا الوضع.. وإلا لتم التعامل معنا على أننا إرهابيون"
تخشى بسمة وفاطمة وأمهات أخريات في القرية على مستقبل أبنائهن، حيث يُعدّدن العقبات التي تعترض الأبناء منذ نعومة أظافرهم، مثل صعوبة الالتحاق بمقاعد الدراسة وانسداد الآفاق والمستقبل المجهول...
"لا يجد أبنائنا سوى الجدران أمامهم.. كل شيء موصد بإحكام"، وهذا يضعهم أمام إحتمالين: إما الموت أو مغادرة البلاد".
"إذا دفعت أحدهم للجوء إلى الغابة، فلا تتعجب من أن يصبح متوحشا ولا يشعر بشيء لأن قلبه حتما سيموت".
زرع الفتنة
عدد الجرحى بين 2015 و2019
كل عام، يقع العشرات من العاملين/ات في القطاع الفلاحي ضحايا لحوادث الطرقات. فمنذ الـ27 من أفريل، تم رصد حادثين مشابهين، في كل من القصرين ومدنين، أسفرا عن العديد من الجرحى والجريحات. وكان المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أحصى بين 2015 وماي 2019، 40 قتيلا وأكثر من 500 جريح وجريحة.
وتُسجّل ولاية القيروان أعلى عدد من الضحايا ـ يفوق المائة ـ متجاوزة ولاية المنستير. ولكن وبعد حادثة السبالة، فإن ولاية سيدي بوزيد أصبحت تتصدر الترتيب من حيث عدد القتلى ـ حوالي خمسة عشر قتيلا ـ و70 ضحية منذ 2015.
عدد القتلى بين 2015 و2019
أثارت فاجعة السبالة، والتغطية الإعلامية الواسعة التي حظيت بها، العديد من ردود الفعل. فقد قدمت العديد من الجمعيات الخيرية والحركات السياسية دعما ماليا وتبرعات عينية لعائلات الضحايا في دوار البلاهدية.
"هناك الكثير من الأموال والتبرعات التي وصلت إلى هنا، لكننا لم نتلق منها شيئا"، تقول فاطمة في بداية شهر ماي.
أما بسمة، فحذّرت من أن هذه الإمتيازات التي مُنحت لعدد محدود من الناس خلقت مناخا متوترا بين سكان القرية، حيث تؤكد في هذا الصدد، "هناك عدد من الأشخاص يغلقون الطرقات لمنع دخول هذه التبرعات، لذا وجب الحذر".
أعلنت الحكومة بدورها عن عدد من الإجراءات لفائدة العملة والعاملات في الميدان الفلاحي، من بينها مبادرة "احميني" التي تم بعثها يوم 10 ماي 2019 من قبل وزارة الفلاحة، والتي تهدف إلى تمكين الفئات الهشة من الانتفاع بالتغطية الاجتماعية شرط التسجيل في المنظومة عبر الهاتف وتسديد معلوم المساهمات (50 دينارا كل ثلاثة أشهر).
تُشكّك بسمة، التي تحتاج ابنتها إلى رعاية منتظمة، في نجاعة هذا الإجراء. "علينا أن ندفع المزيد من المال، في حين أننا بالكاد نملك ما يسد رمقنا! من سيدفع لي ثمن التنقل للذهاب إلى المستشفى؟ لقد أحضروا حافلة لنقل العمال. عدا ذلك، لا شيء تغير".