#مكبات_صحراوية

الترحيل المتسلسل.. قصص مهاجرين·ـات تم نفيهم إلى الصحراء أكثر من مرة

عبد الله مهاجر سوداني، وهو واحد من آلاف المهاجرين·ـات الذين كانوا ضحايا لما يُسمّى بـ"تقاذف العبء". آخر عملية طرد تعرّض لها قادته إلى النيجر، أين يشهد عدد المطرودين·ـات من الدول المجاورة ارتفاعا منذ عام 2023.
15 دقيقة
فرّ عبد الله من الحرب في السودان، فوصل أولا إلى ليبيا ثم إلى تونس. وفي ظرف أقل من شهرين وجد نفسه في مرحلة أولى مطرودا من تونس العاصمة إلى الجزائر، ثم إلى النيجر، على بُعد أكثر من ثلاثة آلاف كيلومتر من محطته الأولى.

في هذا التحقيق، تحاول 'إيربي ميديا'، بفضل تظافر جهود باحثين·ـات ونشطاء، إعادة تشكيل سلسلة الترحيل التي تعرّض إليها عبد الله، بعد أن تم طرده من قبل السلطات التونسية رفقة عشرات الأشخاص الآخرين إلى الحدود مع الجزائر، أين التقطته قوات الأمن الجزائرية لترحّله مجددا إلى الحدود مع النيجر.

هذه الممارسات تطال في معظم الأحيان المهاجرين·ات الراغبين·ـات في بلوغ دول الاتحاد الأوروبي، أين يضمن لهم القانون الأوروبي والدولي إمكانية طلب الحماية الدولية ويقيهم من الطرد الفوري.

ممارسات الترحيل المتسلسل هذه تحدّ من جهة من عدد الواصلين·ـات إلى السواحل الأوروبية، لكن من جهة أخرى، إذا تم تحليلها من منظور سياسي فإنها تكشف عن التحولات التي تشهدها موازين القوى الإقليمية المتأثرة بسياسات الاتحاد الأوروبي لتصدير حدود الخارجية إلى دول شمال إفريقيا.

تشير منظمة 'هاتف إنذار الصحراء' الناشطة في النيجر على الحدود مع ليبيا والجزائر إلى "تصاعد عمليات الطرد المتسلسل" منذ سنة 2023. وهي ظاهرة أكدها تقرير صادر سنة 2024 عن الوكالتين الأمميتين المعنيتين بالهجرة، المفوضية السامية لشؤون اللاجئين (UNHCR) والمنظمة الدولية للهجرة (IOM)، والمنجز بالتعاون مع 'مركز الهجرة المختلطة' وهو مركز أبحاث تابع لمجلس اللاجئين الدنماركي، وقد أشار التقرير إلى "مخاطر الترحيل المتسلسل في حق أشخاص يحتاجون إلى حماية دولية".

عبد الله (اسم مستعار) هو أحد هؤلاء، بدأت قصته في ماي 2024 بتونس العاصمة، على بُعد خطوات من مقري الوكالتين الأمميتين المذكورتين.

الإخلاء والطرد من تونس

في الليلة الفاصلة بين 2 و3 ماي 2024، أزالت قوات الأمن التونسية مخيَّماً مرتجلاً كان منتصباً قبالة مقر المفوضية السامية للاجئين بتونس العاصمة وعلى بعد مئات الأمتار من مقر المنظمة الدولية للهجرة، بطريقة عنيفة ودون سابق إنذار. كان المخيم يأوي مهاجرين·ـات وطالبي·ـات لجوء، معظمهم من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء، التجأوا إليه بعد تنامي موجة العنف العنصري والقمع في البلدان العربية.

كان عبد الله يعيش هناك منذ شهر فيفري 2024 وقد وثّق الحادثة بهاتفه المحمول. في ديسمبر 2023، تحصل السوداني على بطاقة طالب لجوء صادرة عن المفوضية، وهي وثيقة كان يفترض بها أن توفر له الحماية داخل البلاد. لكنه رغم ذلك لم يسلم من الاعتقال مع حوالي 500 شخص آخرين إثر عملية الإزالة، وتم شحنهم على حافلات وطردهم إلى الصحراء على مقربة من الحدود الجزائرية.

عن المشروع
هذا التحقيق هو ثمرة تعاون جمع 'إيربي ميديا' مع منظمات غير حكومية منها 'اللاجئون في ليبيا' و 'جمعية الدراسات القانونية حول الهجرة (ASGI)' وشبكة 'تحالف اللاجئين في ليبيا'، ومختبر 'ليمينال LIMINAL' للأبحاث في جامعة بولونيا حول عنف الحدود. وقد شارك عبد الله، المهاجر السوداني، رسائل وصوراً وفيديوهات وإحداثيات موقعه مع جمعية اللاجئون في ليبيا وجمعية الدراسات القانونية للهجرة قبل أن تصادر السلطات الجزائرية هاتفه. تمت إعادة تشكيل قصته باستخدام هذه البيانات وسلسلة من الشهادات التي قدّمها، ومن خلال شريط فيديو من إنتاج مخبر ليمينال. قضية عبد الله وأعضاء المجموعة الآخرين المُرحّلين من تونس مساء 3 ماي شكّل موضوع مراسلة رسمية وجهتها جمعية الدراسات القانونية حول الهجرة عبر محاميها إلى لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة طالبتها فيها باتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية المعنيين. جاء رد اللجنة الأممية يوم 10 ماي إيجابيا، لكن السلطات التونسية لم تكن متجاوبة وبادرت بترحيله إلى الجزائر في الأيام الموالية.

كتب عبد الله في إرسالية وجّهها إلى 'اللاجئون في ليبيا' بتاريخ 4 ماي 2024: "أخذونا إلى مكان مجهول بعد أن أهانتنا الشرطة وفتّشتنا. تُركنا جميعنا بلا طعام أو ماء، بمن فينا من النساء والأطفال".

حاول الرجل العودة إلى تونس ومعه حوالي 70 آخرين، غير أنهم مُنعوا من ركوب القطار من قبل أفراد ليس من الواضح إن كانوا مواطنين عاديين أو مسؤولين أو أعوان أمن، فاضطرت المجموعة في نهاية المطاف للسير على الأقدام حتى أوقفتهم قوات الأمن التونسية مرة أخرى، على بعد عشرات الكيلومترات من العاصمة. هناك، وُجّهت لهم تهمة الدخول غير القانوني إلى البلاد وحكمت عليهم محكمة الناحية بتبرسق بالسجن ثلاثة أشهر مع وقف التنفيذ. أُفرج عن المجموعة لكنها تم تقسيمها إلى قسمين: نُقلت العائلات والنساء والأطفال إلى مركز، في حين نُقل اثنا عشر شاباً، ومن بينهم عبد الله، إلى مركز شرطة بالعاصمة.

يوم 18 ماي، ودون تقديم أي تفسير، شُحن عبد الله ومن معه على متن عربتيْن تابعتين لقوات الأمن التونسية ليتم طردهم مجدداً غير بعيد عن المكان الذي تُركوا فيه سابقاً. وجدت المجموعة نفسها، في ليلة ماطرة، في منطقة جبلية كثيفة الأشجار. يتذكر عبد الله: "نظرت على يميني فرأيت لافتة تقول ’الحدود الجزائرية-التونسية‘". هناك، شارك السوداني موقعه الجغرافي مع 'اللاجئون في ليبيا'.

عملية إخلاء المخيم الذي عاش فيه عبد الله في تونس العاصمة كان حدثاً بارزا وتم توثيقه على نطاق واسع، وقد كشفت تحقيقات #مكبات_صحراوية عن الممارسات التي تعرّض لها عبد الله وغيره وطابعها الممنهج وتورط الاتحاد الأوروبي فيها.

الجديد في الأمر هو أن عمليات الترحيل المتسلسل من دولة إلى أخرى مثل التي تعرّض لها عبد الله ثبُت أنها ممارسة واسعة الانتشار، مثلما تؤكده أحدث البيانات والتحليلات.

وفقاً للمنظمة الدولية لمناهضة التعذيب، رحّلت السلطات التونسية أكثر من 9,000 شخص إلى الحدود بين تونس والجزائر في عام 2024 وما لا يقل عن 7,000 آخرين إلى الحدود مع ليبيا. وهي أرقام في ارتفاع هذه السنة أيضا إذ "يُقدّر أن السلطات التونسية رحّلت أكثر من 12,000 شخص بين جانفي وأفريل 2025. ويُعتقد أن أكثر من 8,000 شخص رُحّلوا إلى الجزائر، ما يعرّضهم لخطر الترحيل مرة أخرى إلى ليبيا أو النيجر"، بحسب تقرير نشرته المنظمة مطلع شهر سبتمبر.

عمليات الطرد الممنهج هذه ليست أمرا مستجدّا في في بلدان مثل المغرب وموريتانيا وهي متواصلة منذ سنوات عديدة. أما في الجزائر فقد تم توثيقها منذ عقود، بينما تظلّ الظاهرة حديثة نسبيا في تونس.

يكتب الصحفي الجزائري سفيان فيليب ناصر أن "الغالبية العظمى من المهاجرين قبل عام 2023 كان يعبرون الجزائر إلى تونس، سواء بحثاً عن عمل في تونس أو يمرون بها في طريقهم إلى ليبيا أو إيطاليا". لكن منذ أن بدأت السلطات التونسية بتنظيم حملات منتظمة ضد المهاجرين في سنة 2023، يقول ناصر أن "عمليات الطرد الجماعية إلى الحدود مع الجزائر أو ليبيا أصبحت أمراً اعتيادياً".

أنجز ناصر تقرير "قمع التنقّل" الذي نشره المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، أشار فيه إلى أن "الجزائر ردت على هذا الواقع الجديد على حدودها الشمالية الشرقية بتكثيف التواجد الأمني وتنفيذ عمليات الصدّ والترحيل المتسلسل إلى النيجر أو ليبيا".

الجزائر تمارس نوعيْن من الطرد إلى النيجر

بعد طرده إلى الصحراء للمرة الثانية، خيّر عبد الله مع رفقائه التوجه هذه المرة نحو الجزائر، فوجدوا أنفسهم عند أبواب مدينة تبسّة شرقي البلاد، أين صادف "العديد من الأصدقاء الذين كانوا معنا في تونس وطُردوا هم أيضا، وكانوا في حالة صحية حرجة للغاية بسبب الضرب وسوء المعاملة الذي تعرّضوا له هناك".

مرت أيام على ذلك الوضع الذي وصفه عبد الله وقتها بأنه " صعب للغاية.. هناك معلومات عن عمليات تقوم بها الشرطة الجزائرية في العاصمة حاليا. [...] عمليات الترحيل إلى النيجر ستمتدّ إلى هنا [أي تبسّة] غداً أو بعد غد"، ولذلك لجأ هو ورفاقه إلى الاختباء، لكن دون جدوى. فبحسب ما رواه لاحقاً، عثرت السلطات الجزائرية عليهم في مخيم مرتجلٍ في الجبال حوالي مدينة تبسة وقامت باعتقالهم.

تشرح المحللة تسنيم عبد الرحيم أن ممارسات الطرد من الجزائر "المثيرة للجدل" تلك بدأت في منتصف الألفينات. تكتب الباحثة في مقال للمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية: "في ديسمبر 2014، وسّعت الجزائر هذا النهج من خلال اتفاق غير رسمي مع النيجر، يسمح بإعادة الآلاف من المهاجرين سنوياً غالبيتهم العظمى من مواطني النيجر. [...] عادة ما تتضمن عملية الطرد هذه مداهمات تقوم بها الشرطة في مدن مثل الجزائر ووهران، حيث يُحتجز المهاجرون في مراكز مؤقتة قبل نقلهم إلى تمنراست في جنوب البلاد. ومن هناك، يتم نقلهم في قوافل عسكرية إلى النيجر" .

تمارس الجزائر في الوقت الحاضر نوعيْن من الترحيل إلى النيجر: القوافل بموجب الاتفاقية بين الجزائر والنيجر في 2014 وهي صالحة بالنسبة للنيجريين·ـات، والقوافل "غير الرسمية".

في الحالة الأولى تتفق سلطات البلدين على التسليم مباشرة إلى مدينة أساماكا الصغيرة في صحراء النيجر. أما الحالة الثانية فهي مخصصة لجميع الأشخاص من الجنسيات الأخرى الذين يُتركون في ما يُسمى "النقطة صفر"، وهي منطقة في قلب الصحراء على الحدود بين البلدين، يُجبر المطرودون·ـات المتروكون·ـات فيها على السير حوالي 15 كيلومتراً للوصول إلى أساماكا، وهو بالضبط ما حصل لعبد الله.

يروي الشاب أنه قضى أحد عشر يوماً إثر اعتقاله محتجزاً في مركز بتبسة، قبل أن يُنقل إلى مركز آخر على بُعد أكثر من 1,500 كيلومتر في منطقة تمنراست جنوبي البلاد. كان المركز الأول "مكتظاً" والظروف فيه "كارثية" والمعاملة  "مروّعة".

يتذكر عبد الله: "عندما جاؤوا لتوزيع الطعام، جلبوا معهم العصي وأجهزة الصعق الكهربائي. وفي يوم من الأيام، اندلع شجار داخل القاعة فاستخدموا الغاز المسيل للدموع ضد النساء والأطفال". ويضيف: "بعد أن عشنا الجحيم في تمنراست، بدأ الضرب والشتائم والإهانات". وبعد كل ذلك، وقع الترحيل الفعلي.

شُحن الناس بين الثامنة والتاسعة صباحاً على متن حافلات متجهة جنوباً، وتُركوا بلا ماء أو طعام أو مساعدة عند الحدود مع النيجر على الطريق المؤدية إلى بلدة أساماكا. تُعرف هذه المنطقة باسم النقطة صفر لكن من الصعب تأكيد ما إذا كان عبد الله قد مرّ بها تحديداً. ويُجبر المطرودون·ـات المعنّفون·ـات من النساء والأطفال والرجال على السير على أقدامهم لعدة كيلومترات في قيظ الصحراء، يتقدّمهم بعض الأشخاص الذين يعرفون الطريق حق المعرفة كونها ليست المرة الأولى التي يُطردون فيها.

وفقاً لوثيقة من المفوضية الأوروبية نُشرت في أواخر شهر أوت مسنودة ببيانات مفوضية شؤون اللاجئين وخدمة العمل الخارجي الأوروبي فإن "الأوضاع في الساحل تتسم بالنزوح الناتج عن النزاعات، وعمليات الطرد الجماعية والترحيلات المجراة في ظروف قاسية". وتؤكد الوثيقة أن عمليات الطرد من الجزائر إلى النيجر "متواصلة وتشمل أيضاً لاجئين وطالبي لجوء مسجلين".

تحالف مغاربي جديد

تُعيد رحلة عبد الله إلى الأذهان صورة كثيرا ما يتم تداولها في إيطاليا للتعليق على سياسات الهجرة، وهي "تقاذف العبء". وتتلخص الفكرة الوحشيّة في أن المهاجرين·ـات "عبء" يحاول كل بلد "قذفه" إلى البلد الذي يسبقه على طول طرق الهجرة المختلفة.

في البداية، كان المفهوم يُطبق بين الدول الأوروبية، لكنه صار يشمل أيضاً دول البحر المتوسط في إطار سياسات الاتحاد الأوروبي لتصدير حدوده. واليوم صار هذا النمط يظهر بين الدول الإفريقية نفسها، وأصبحت عمليات الطرد في مناسبات عدة سبباً للتوتر الدبلوماسي بين الجزائر والنيجر أو بين تونس وليبيا على سبيل المثال. وفي ذات الوقت، باتت هذه الممارسات تحدث في فترةٍ تشهد تعاوناً وتنسيقاً أكبر بين الدول المغاربية خصوصاً منها الجزائر وليبيا وتونس.

يوضح مختار دان ياي عن 'هاتف إنذار الصحراء' أن منظمته، التقت خلال أنشطتها الإنسانية على الحدود بين النيجر والجزائر "أشخاصاً يقولون إنهم جاؤوا من تونس" منذ فيفري 2023. وقد جمعت المنظمة على موقعها الإلكتروني عدة شهادات مشابهة لقصة عبد الله، وبناءً عليها يؤكد دان ياي أن "عمليات الطرد المتسلسل هذه تجري بانتظام منذ بداية 2024".

في أفريل 2024، التقى قادة الدول الثلاث في تونس في أول قمة تعلن عن "تحالف مغاربي" جديد. وصف عدة مراقبين هذه المبادرة بأنها "برعاية الجزائر ضد المغرب"، وقررت خلالها الدول الثلاث "إنشاء فرق عمل مشتركة لتنسيق الجهود من أجل حماية أمن الحدود المشتركة من تدفقات الهجرة غير النظامية وغيرها من أشكال الجريمة المنظمة".

يكتب عبد الرحيم في ورقته الصادرة عن المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية أن "الهجرة برزت كموضوع رئيسي [خلال القمة]". ويوضح أن دول شمال إفريقيا لطالما أبدت على مدى سنوات ترددا في تعميق تعاونها، لكن تزايد عدد الوافدين·ـات إلى المنطقة، وما صاحب ذلك من التوترات الاجتماعية المتزايدة، دفعها إلى تغيير موقفها. "لم يكن اهتمام القادة بالهجرة مفاجئاً"، يقول عبد الرحيم مذكّراً بـ "سنوات عديدة من المحادثات والاتفاقيات والتفاهمات بين دول شمال إفريقيا ونظرائها الأوروبيين".

وهي محادثات واتفاقيات لا تزال مستمرة إلى اليوم خصوصاً مع إيطاليا، بل إنها في بعض الحالات شهدت كثافة أكبر.

يكتب المحلل أنطوني دوركين: "تعتبر الحكومة الإيطالية نفسها رائدة نموذج جديد من العلاقات مع شمال إفريقيا". وقد لعبت البلاد دوراً محورياً في سياسات تصدير الحدود الأوروبية إلى ليبيا وتونس، وهي الآن تتمتع بعلاقات ممتازة مع الجزائر وقد ناقشت معها مسألة الهجرة منذ عهد وزيري الداخلية ماركو مينيتي (2016-2018) و لوتشيانا لامورغيزي (2019-2022).

أما خليفتهما، الوزير الحالي ماتيو بيانتيدوزي، فقد وقع اتفاقية أمنية مع الجزائر في سنة 2024 لـ "مراقبة ومنع ومكافحة تجار البشر". كما التقى بيانتيدوزي بوزراء الجزائر وليبيا وتونس في عدة مناسبات ؛ من بينها لقاءٌ جرى في وزارة الداخلية الإيطالية في شهر ماي 2024، ثم في أكتوبر من نفس السنة عندما دعاهم إلى حضور قمة مجموعة السبع بقيادة إيطاليا، وأخيراً في نابولي في شهر أفريل الماضي. وقد صرح الوزير آنذاك: "علينا أن نواصل العمل معاً لتعزيز العودة الطوعية المسنودة [...] مع الحفاظ على تماسك هذا الإطار".

"العودة الطوعية" هل هي فعلا طوعية؟

تُعد العودة الطوعية من دول المغرب أداة مثيرة للجدل، تُنفذها المنظمة الدولية للهجرة بفضل تمويل الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء. قد تكون مفيدةً في ظل ظروف معينة، لكنها في حالات أخرى تثير الشكوك من حيث حقيقة طابعها "الطوعي" نظرا للظروف التي يجد فيها المهاجرون·ـات أنفسهم. لكن ذلك ما يكبح استخدامها المتزايد في دول المغرب، بما في ذلك الجزائر.

بعد سنوات من الانخراط المحدود جداً، "أبدت السلطات الجزائرية اهتماماً متجدداً بالتعاون في مجال الهجرة"، خصوصاً في مجال "العودة الطوعية إلى إفريقيا جنوب الصحراء"، وفق وثيقة لمجلس الاتحاد الأوروبي بتاريخ جويلية 2024 تحصلت عليها منظمة 'ستيتووتش'. بينما تشير وثيقة أخرى للمفوضية إلى ما يصل إلى "10,000 عودة طوعية سنوياً من البلاد". ورغم الارتفاع الذي تشهده الأرقام فإنها تبقى محدودة، في ظل مواصلة الجزائر وليبيا وتونس عمليات المداهمة والترحيل.

عمليات الطرد مخالفة للقانون الدولي
تابعت جمعية الدراسات القانونية حول الهجرة قضية عبد الله عن كثب وخلصت إلى أن عمليات الطرد التي تعرّض لها في تونس والجزائر لا تتوافق مع المعايير الدولية لعدة أسباب. توضح أديلايد ماسّيمي من الجمعية أنه "لا يمكن بأي حال من الأحوال لسلطات أي بلد أن تعتقل شخصاً ما – بغض النظر عن جنسيته أو وضعيته القانونية – من دون أي إجراء قانوني، وتنقله قسراً إلى مكان آخر وتحرمه من حريته". وتضيف: "عموما يجب على الشخص المحتجز أو المنقول قسراً أن يكون على علم بقرار قضائي صادر في حقه وأن يكون له إمكانية الطعن فيه بآليات فعالة تضمن له حق الدفاع في إطار محاكمة عادلة". وتشير ماسّيمي أيضاً إلى أن عبد الله والمجموعة التي كانت معه تعرّضوا خلال عمليات الطرد إلى "تهديدات" ونُقلوا "في ظروف غير ملائمة إطلاقاً". وبالتالي، فإن الطريقة التي جرت بها هذه الممارسات "تتعارض تماماً مع الحقوق المنصوص عليها في الاتفاقيات الدولية". وتؤكد الجمعية بشكل خاص أن عمليات الطرد التي نفذتها تونس والجزائر تنتهك اتفاقيات مناهضة التعذيب والمعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة (الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب، العهد الدولي المعني بالحقوق المدنية والسياسية، واتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب). كما تم انتهاك مبدأ عدم الإعادة القسرية (اتفاقية جنيف 1951 الخاصة باللاجئين، واتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب)؛ ومبدأ حظر الطرد الجماعي (الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب). كما أنها تنتهك حق المطرودين·ـات في حياة كريمة وحقهم في طلب اللجوء، مثلما هو منصوص عليه في الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

في الأسابيع التي تلت قمة نابولي بين إيطاليا والجزائر وليبيا وتونس، كثّفت الدول المغاربية الثلاث إجراءاتها. في تونس، قام الحرس الوطني التونسي بإخلاء مخيمات غير رسمية تؤوي ما لا يقل عن 9,000 شخص قرب مدينة صفاقس، ونفذ عددا من عمليات الترحيل إلى المناطق الحدودية مع الجزائر. وفي ليبيا، وقعت عدة اعتقالات وعمليات طرد حيث سجّلت 'هاتف إنذار الصحراء' قدوم ما يقارب 800 شخص على الحدود الليبية مع النيجر خلال أقل من شهر.

أما في الجزائر، فيؤكد توبو لانسينيت، منسق 'أطباء العالم-بلجيكا' والمتواجد بالنيجر أن منظمته "لاحظت منذ بداية أفريل 2025 زيادة في عدد المهاجرين المطرودين من الجزائر إلى النيجر"، مضيفاً أن "الاعتقالات وعمليات الطرد من الجزائر ليست حديثة العهد لكننا بتنا نشهد زيادة في العمليات الجماعية".

أفادت السلطات النيجرية بأن أكثر من 16,000 شخص طُردوا إلى أراضيها من المغرب في ظرف شهرين فقط، من أفريل إلى مطلع جوان، وهو ما يعادل نصف عدد المطرودين·ـات طوال العام السابق. حيث بلغ العدد أكثر من 31,000 شخصاً عام 2024، في حين كان في حدود 26,000 سنة 2023.

المحطة الأخيرة: أغاديس

لدى وصوله إلى بلدة أساماكا النيجرية، تمكن عبد الله من مواصلة طريقه بمفرده، أولاً إلى مدينة أرليت ثم إلى أغاديس، المدينة الرئيسية شمال البلاد. هناك، وجد مكاناً ابتداءً من شهر أكتوبر 2024 في المركز الإنساني بالمدينة دون أن تشهد أوضاعه المعيشية أي تحسّن يذكر.

مركز أغاديس الذي افتُتح في 2018 بتمويل أوروبي وإيطالي، يقع تحت إدارة الحكومة النيجرية بالتعاون مع مفوضية اللاجئين ومنظمات شريكة أخرى. كان المركز يضم إلى حدود منتصف سبتمبر حوالي 2,000 شخص، كثير منهم من السودان ودول إفريقية أخرى من جنوب الصحراء. منهم من ينتفع بصفة لاجئ·ـة، لكن السواد الأعظم من طالبي·ـات اللجوء الذين ينتظرون رد الدولة النيجرية على طلباتهم للحماية الدولية، وقد يدوم انتظارهم أحياناً لسنوات. ووفق منظمة 'أخبار المهاجرين' فإن أغلبهم وصلوا بعد أن طُردوا إلى الصحراء من قبل القوات الجزائرية.

تصف منظمة 'اللاجئون في ليبيا' المركز في أغاديس بأنه "معسكر احتجاز صحراوي". وفي منشور حديث بعنوان "كتاب العار"، تذكر المنظمة أن المفوضية الأممية "تُبقي اللاجئين في خيام في الصحراء لسنوات، بلا حلول، بينما تدّعي أنها تقدم لهم الحماية.. وفي المقابل يرفض الناس الخنوع".

قبل أسابيع من وصول عبد الله، بدأت احتجاجات في المركز لا تزال مستمرة إلى اليوم. وجاء في عريضة وقّعها المقيمون·ـات أن "احتجاجاتنا ستستمر حتى تُلبّى مطالبنا البسيطة. لا نريد أن نبقى هنا، نحن نستحق العيش ككل البشر". كما طالب المحتجون·ـات بتحسين ظروف المعيشة ولكن قبل كل شيء بإعادة توطينهم في بلد آخر.

وردا على ذلك، يقول فافا أوليفييه أتيتزا عن المفوضية في النيجر: "لسوء الحظ فإن فرص إعادة التوطين على الصعيد العالمي محدودة للغاية"، موضحاً أن المنظمة "تواصل حث الحكومات على توسيع برامج إعادة التوطين"، لكن "الطلب يفوق العرض بكثير". ويصف أتيتزا الوضع في المركز بأنه "صعب خاصة في ظل نقص التمويل الإنساني"، ويضيف أن المفوضية تواصل "رفع الوعي بين صفوف المانحين للحصول على موارد إضافية".

النيجر بعد الإنقلاب

ردّت الحكومة النيجرية على الاحتجاجات بالترهيب والاعتقالات فطردت بعضهم وأفرجت عن آخرين وأخريات، فيما لا يزال مصير عدد منهم مجهولاً بعد اعتقالهم في أواخر أوت. وكان وزير الداخلية النيجري قد أعلن في جانفي الماضي أن المطرودين·ـات من الجزائر "يُقوضون أمن النيجر"، بينما أعلنت الحكومة في شهر ماي عن خطة لإعادة 4,000 مهاجر·ة، بالتعاون مع المنظمة الدولية للهجرة.

لكن الكثيرين منهم لا يمكنهم بأي حال من الأحوال العودة إلى أوطانهم، كشأن عبد الله وكل القادمين·ـات من السودان، في ظل الحرب الضروس المتواصلة هناك. يوضح أتيتزا من المفوضية أن "الحل الأكثر واقعية بالنسبة إليهم هو إدماجهم قدر الإمكان في منظومات التعليم، والخدمات الصحية والاقتصاد المحلي بالنيجر". لكن عبارة "قدر الإمكان" هنا تحتاج إلى توضيح.

ذلك أن النيجر بلد فقير للغاية، يحتل المرتبة 188 من بين 193 دولة في مؤشر التنمية البشرية للأمم المتحدة، الذي يقيس الصحة ومستوى المعيشة وإمكانية الوصول إلى التعليم. ويستضيف البلد منذ سنوات عدداً ضخما من اللاجئين·ـات يتجاوز حاليا 430,000 لاجئ·ـة وفقاً لأحدث البيانات، معظمهم من مالي ونيجيريا، هذا إضافةً إلى أكثر من 460,000 نازح·ـة داخلي·ـة.

في السنوات الأخيرة، تبوّأ النيجر مكانة هامة في التحالف مع الاتحاد الأوروبي في إطار تنفيذ سياسات تصدير الحدود الأوروبية. وكان المستفيد الرئيسي من مشاريع بلغت قيمتها 250 مليون أورو بين 2015 و2020، متأتية بشكل رئيسي من "صندوق الطوارئ الأوروبي لإفريقيا"، الذي أنشئ خصيصاً لكبح الهجرة غير النظامية. لكن الوضع تغيّر بشكل جذري بعد الانقلاب الذي شهدته البلاد في شهر جويلية 2023.

إحدى أولى الخطوات التي اتخذتها الطغمة العسكرية الجديدة التي استولت على السلطة في العاصمة نيامي كانت إلغاء القانون 36 لعام 2015، الذي كان يجرّم الاتجار غير المشروع بالمهاجرين·ـات منهيةً عملياً التعاون مع الاتحاد الأوروبي في هذا المجال. انجرت عن ذلك تداعيات كبرى على الدول المجاورة، إذ أن ارتفاع عدد المطرودين·ـات من النيجر في اتجاه الجزائر وليبيا كان أحد العوامل التي ساهمت، كردة فعل، في تزايد عمليات الطرد المعاكس من البلديْن.

وهكذا، نجد أن النيجر هو الأفقر من بين دول العبور للمهاجرين·ـات، لكنه في ذات الوقت البلد الذي استضاف أكبر عدد من اللاجئين·ـات وطالبي·ـات اللجوء، وهو أيضا الأقل قدرة على مواصلة نمط "تقاذف العبء" على حساب حياة المهاجرين·ـات وحرياتهم. وبالتالي فهي أكثر دولة تعاني من عمليات الطرد المتسلسل، ومعها، كل الأشخاص مثل عبد الله، الذين وقعوا ضحايا لهذه الممارسات.

Inkyfada Landing Image

منصة إعلامية مستقلة في طليعة الابتكار التحريري

أنشئ حسابك الآن وتمتع بميزات النفاذ الحصري ومختلف الخاصيات المتقدمة التي توفرها لك. تحصّل على عضويتك وساهم في تدعيم استقلاليتنا.

منصة إعلامية مستقلة في طليعة الابتكار التحريري. تسجيل الدخول