هذا الارتفاع اللافت في الأسعار لم يقتصر فقط على اللحوم، بل طال الأضاحي أيضًا، حيث تجاوز سعر الخروف الواحد في بعض الحالات 1500 دينار، وفقا لرصد قامت به وكالة الأناضول، ما جعل من حلم اقتناء الأضحية عبئًا ثقيلاً على كاهل العائلات التونسية، خاصة ذات الدخل المحدود.
بين "السعر المرجعي" وحقيقة السوق
يوم 20 ماي 2025، أعلن المجمع المهني المشترك للحوم الحمراء والألبان أنه وبالتنسيق مع وزارة التجارة "تم الاتفاق على اعتماد سعر مرجعي في حدود 21.900 د للكلغ الحي لكافة الأوزان بنقاط البيع بالميزان المنظمة التي يشرف عليها". غير أن السعر المرجعي ليس مُلزماً "بل يتم الاستئناس به " وفقا للرياحي. وهو أيضا ما أكده مدير الأبحاث الاقتصادية بوزارة التجارة وتنمية الصادرات، زهير بوزيان عندما أكد أن الوزارة "لم تقم بتسعير الأضاحي" في هذا الموسم.
في حوار مع إنكفاضة، صرّح أنور الحراثي، عضو المكتب التنفيذي للاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري، أن "هذا السعر المرجعي لا يتم احترامه فعليًا، خاصة في ظل الفجوة الكبيرة بين سعر الخروف الحي وسعر لحم الخروف المذبوح المعروض في محلات الجزارة، والذي وصل إلى حوالي 50 دينارًا للكيلوغرام الواحد".
ووفقا للحراثي، فإن فهذا التفاوت في الأسعار يجعل سعر العلوش الحي في الرحبات مرتفعًا "نظرًا لأن سعر اللحوم الحمراء لدى الجزارين يتراوح بين 25 و26 دينارًا للكيلوغرام الحي، مما يدفع المربين إلى بيع خرافهم بأسعار أعلى بدلاً من الالتزام بالسعر المرجعي."
الحل: أربع حاويات من اللحوم الرومانية ؟
في تصريح بتاريخ يوم 2 جوان، أعلن المتصرف المفوّض لشركة اللحوم بتونس، محمد البحري القابسي، أن "الشركة قامت بتوريد كميات من اللحوم الحمراء المبرّدة لتغطية الحاجيات بمناسبة عيد الأضحى" وستواصل التوريد خلال فصل الصيف، كما نفى أن تكون الشركة قد استوردت خرفاناً حية.
وأكد القابسي أن الكلغ من لحم الضأن الروماني المورد سوف يُباع بسعر 38.900د. وهو سعر مرجعي تم التخفيض فيه لاحقا بين 37,5 و 38د وفق تأكيد أحمد العميري، رئيس الغرفة الوطنية للقصّابين. ويأتي ذلك في إطار "مبادرة وطنية تهدف إلى تعديل أسعار لحوم الأضاحي".
وسيتم توزيع اللحوم الرومانية المذبوحة والمجهزة عبر نقاط بيع بالميزان في عدة ولايات، منها: السوق المركزية وسوق سيدي البحري بالعاصمة، مناطق العمران، الجبل الأحمر، والكبارية في تونس الكبرى، باب الجبلي بولاية صفاقس، إلى جانب نقاط بيع أخرى بولايات منوبة، سوسة، نابل، زغوان وغيرها.
لم تكن هذه المرة الأولى التي تلجأ فيها تونس إلى استيراد الأغنام من رومانيا، حيث قامت بذلك لأول مرة بعد الثورة في عام 2012، مستوردة حوالي 9700 رأس غنم، وذلك ضمن صفقة تجارية كانت تهدف إلى تغطية حاجيات السوق خلال فترة عيد الأضحى.
من جانبه يقول أنور الحراثي، عضو مكتب اتحاد الفلاحة، أن "الاتحاد يرفض مبدئياً خيار التوريد، ويؤكد في المقابل دعمه للمنتوج الوطني وتشجيع استهلاكه، باعتبار أن توجّه الدولة والسياسة العليا يقومان على مبدأ الاعتماد على الذات وتعزيز الإنتاج المحلي."
ويؤكد الحراثي أن الاتحاد "يشارك بانتظام في الجلسات المركزية واللجان الوطنية، ويقدّم مقترحات وتوصيات، لكننا لا نُعدّ جهة تنفيذية أو صاحبة قرار، بل طرف استشاري فقط." ورغم تقديم الاتحاد مقترحات بخصوص التسعيرة المرجعية "إلا أنه لم يتم الأخذ بها من قبل وزارتي الفلاحة والتجارة، وهو ما نجهل أسبابه حتى اليوم" وفق تأكيده.
يضيف الحراثي: "نحن كملاحظين نعتبر أن وزارتيْ التجارة والفلاحة لم تقوما بدورهما المعتاد لتهدئة أسعار الخروف هذه السنة".
أزمة هيكلية أم "لوبيات" ؟
يشير الرياحي عن منظمة إرشاد المستهلك، والعميري عن الغرفة الوطنية للقصابين، إلى ضلوع "اللوبيات" أو "الوسطاء" في تأجيج أسعار الأضاحي واللحوم على المستوى الوطني. وهي مصطلحات كثيرا ما يتم تداولها في وسائل الإعلام ودوائر السلطة لإيجاد تفسير للوضع. إلا أن عدة دراسات تثبت أن القطاع يمر بأزمة ممتدة منذ سنوات لا يمكن اختزالها في طرف مجهول.
يُعدّ قطاع تربية الأغنام العمود الفقري للريف التونسي، خصوصًا في الوسط والجنوب. وقد بلغ قطيع الأغنام في تونس سنة 2022 حوالي 4.637 مليون رأس، وتتم تربيتها في الغالب ضمن مستغلات عائلية صغيرة (غالبًا متنقلة).
للأغنام نصيب الأسد في إنتاج اللحوم الحمراء على المستوى الوطني، إذ ارتفع إنتاج لحم الضأن من نحو 106,700 طن سنة 2014 إلى 132,200 طن في 2022، مقارنةً بلحم البقر الذي تراوحت الكميات المنتجة منه بين 86 و97 ألف طن خلال الفترة نفسها، وفقا للمعهد الوطني للإحصاء.
ويُعدّ التزوّد بالأعلاف أولى التحديات التي تواجه مربي الأغنام، حيث تُقدّر نسبة الأعلاف من كلفة تربية الخروف الواحد بحوالي 70 إلى 80٪. وقد أدّت موجات الجفاف المتكررة وانخفاض منسوب السدود إلى نحو 23٪ سنة 2024 مقابل 50٪ سنة 2019 إلى تقلّص المراعي والمساحات المخصّصة لزراعة الأعلاف.
وفي الوقت ذاته، أدت الحرب في أوكرانيا إلى ارتفاع حاد في أسعار الأعلاف المركبة، حيث ارتفع سعر كيس الذرة من 48 إلى 79 دينارًا بين عامي 2019 و2022. وتُظهر دراسة ميدانية أن بعض أنظمة الإنتاج، مثل تربية "الأكباش المسمّنة" حيث يتم تسمين الخراف المشتراة باستخدام الحبوب، أصبحت أكثر عرضة لتقلبات أسعار المكملات الغذائية.
وقد برز ذلك بوضوح خلال أزمة سنة 2022، عندما تسبّب ارتفاع أسعار الأعلاف في موجة احتجاجات طالب فيها المربون بتجميد أسعار الشراء.
في نفس الموضوع
ورغم أن بعض الدراسات تظهر نزعة لدى المربين نحو استخدام كميات أقل من الأعلاف المركبة المستوردة باهظة الثمن وتعويضها ببدائل غذائية محلية لتخفيض كلفة الإنتاج، إلا أن تقلّبات أسعار الأعلاف وفترات الجفاف الطويلة دفعت بعدد كبير منهم إلى تقليص حجم القطيع أو الانسحاب نهائيًا من النشاط.
وعمومًا، يعاني المربّون من هوامش ربح ضعيفة، فبالتوازي مع ارتفاع تكاليف التغذية والمدخلات، طبّقت الحكومات المتعاقبة لفترات طويلة أسعار مسقّفة، على غرار ما قامت به وزارة التجارة في السنة الماضية بتسقيف سعر الكيلوغرام من اللحوم الحمراء عند 43 دينار، ما حدّ من مداخيل المنتجين.
في تصريحه للإذاعة الوطنية، دعا الرياحي إلى "تسقيف الأسعار عند تجار التفصيل بنفس سعر السنة الماضية"، غير أنه من الواضح أن اللجوء إلى الإجراءات المسقطة من قبيل تحديد التسعيرة، والإجراءات الظرفية مثل التوريد عند ذروة الطلب (خصوصا في المناسبات الدينية) يكشفان عن أزمة هيكلية أعمق تتشابك فيها عوامل محليّة مؤسساتية، ومناخية ودولية.