وسط حشد النساء، توزع مسؤولة (الشّاف) كمامات للوجه وسط تفاجئ العاملات. «فمّا مسؤول جاي» تهمس إحداهن. حاولت إنكفاضة الانفراد مع إحداهن للحديث عن ظروف العمل، وما إن علمت بقية العاملات بوجود الصحافة حتى تهافتن في لحظة واحدة وامتزجت أصواتهن، كل واحدة منهن تريد الحديث عن وضعيتها الاجتماعية وظروف عملها. جذبت الجلبة انتباه المسؤول الأول الذي علا صوته في وجوههن «هيا ما بقاش بكري عالخدمة».
«الظروف تلزّ»
على بعد حوالي 100 متر من مقر بلدية الزهور، وتحديدا بشارع الحبيب بورقيبة وسط مدينة القصرين، تُحرّك مْهَنْيَة ذات الـ 54 سنة مكنستها جيئة وذهابا، في حركة آليّة، كما اعتادت كل صباح منذ سنة 2011 عندما انطلقت في عملها كعون نظافة تابعة لبلدية القصرين المدينة على آلية الحضيرة. حال سؤالها عما دفعها لامتهان هذه المهنة، أجابت مهنية باختصار: «الظروف تلزّ». فُرض عليها هذا العمل حتى تعيل نفسها وزوجها المريض وغير القادر على الحركة خاصة وأنها لم تُرزَق بأبناء.
هي نفسها لم تنج من أثر العمل على صحتها: «أعاني بدوري من عديد الأمراض المزمنة كضغط الدم والسكّري. مجبورة على هذا العمل كي أتمكن من شراء الدّواء. يبلغ راتبي الشهري 450 دينار لا تكفي ثمن الدواء لي وزوجي».
رفيقتها صليحة امرأة خمسينية تتقاسم مع مهنيّة لا فقط تنظيف نفس الشوارع والأزقة، بل أيضا نفس الظروف التي تدفعها لممارسة هذه المهنة. «أشتغل لأقتات» تقول صليحة وقد غلبها البكاء. توفي والداها منذ سنوات، فصارت المرأة تعيش بمفردها، دون وجود من يُعيلها. تقول صليحة بعد أن أزاحت لحافها الذي تحمي به وجهها: «لا يوجد حل آخر وليس هناك من يُسندني».
مريم، 58 سنة، تعمل هي الأخرى على آلية الحضيرة في بلدية الزهور. «أجمع القمامة بيدي منذُ 2008» كما تقول. توفي زوجها تاركا في عهدتها 5 أبناء وفقدت «جنينيْن في مناسَبَتَيْن جرّاء ظروف العمل الشاقة والمُهينة.»
في كثير من الأحيان، تتعرض هؤلاء العاملات لمخاطر صحية وبدنية بسبب عدم توفر القفازات، الكمامات، وأحذية العمل الواقية التي تقيهن من المواد الضارة أو الإصابات المحتملة. كما أن غياب أدوات العمل الحديثة والمريحة يزيد من عبء العمل عليهن.
«مكنستي أشتريها بمالي الخاص»
تشترك عاملات النظافة هؤلاء في عدم ارتدائهن زيّ عمل موحّد ولا أي شارة تدل على انتمائهن للبلدية. صباح التقت بهن انكفاضة، كن يرتدين لباسهن اليومي، مع وضع لحاف يحمين به وجوههن من الغبار.
تقول مهنية: «لا توفر البلدية أية معدّات ولا أزياء عمل ولا وسائل حماية. أَعْمَلُ بمكنستي الخاصة وكيس أحمله معي من المنزل. كلما امتلأ حملته على ظهري لأسكبه في الحاوية المرتكزة في الشارع الآخر، وأعيد الكرّة عديد المرّات.»
تدعم المنسقة الجهوية لعمال الحضائر 45 - 55 سنة جليلة غضباني كلامها، حيث تؤكد أن «غياب وسائل العمل المناسبة يسبب لهن الكثير من الإرهاق، حيث يتم تكديس القمامة في مكان واحد وفي حال تردّي الأحوال الجوية وهبوب الرّياح تتبعثر القمامة فتقوم العاملات بإعادة جمعها مرّة أخرى.»
تواصل غضباني قولها: «لا تتمتع العاملات بأزياء عمل سواء في فصل الصيف أو في الشتاء، بل يرتدين نفس الملابس خلال العمل ويعدن بها إلى منازلهن، ولا يعلمن أي نوع من أنواع الجراثيم والأمراض المعدية التي قد ينقلنها إلى أُسَرٍهنّ.»
صليحة مثلا تعاني من مرض الحساسية وصعوبة في التنفس تزداد وطأتها بسبب الغبار والأتربة والرّوائح الكريهة التي تلاقيها كل يوم خلال عملها. ويحدث أن تعاني من نوبات سعالٍ متواصلة وحروق في الحلق. تؤكد صليحة أن مصالح البلدية لم توفر لها لا قفازات ولا كمّامات ولا معقمات ولا غيرها من أدوات الحماية «سوى قفاز وفرته البلدية مرة واحدة وكان ذلك منذ 15 سنة. طالبتُ منذ مدة بقفازات أحمي بها يديّ لكن لم يستجب أحد لطلبي». وهي اليوم ترتدي قفازا اشترته «منذ سنوات من مالي الخاص»، كما تقول.
تستذكر جليلة غضباني فترة انتشار فيروس كورونا حين لم تتمتّع العاملات المُصابات بالمرض بالعلاج ولم تتوفّر لهن وسائل الوقاية. «ما عمّق أزمة عاملات النظافة غياب أي إطار قانوني يحميهنّ أو زملاءهن من العمال الذكور في صورة التعرض لحادث شغل أو إصابة بعدوى لأنهم لا ينضوون تحت قانون مجلة الشغل، ويتمتعن فقط بالمنحة التي توفرها وزارة التنمية بالنسبة لعاملات وعمال النظافة التابعين للبلديات، أو وزارة الفلاحة بالنسبة لعمّال الحضائر الفلاحية.»
وُضعت آلية الحضائر في تونس بعد الاستقلال كأحد أشكال العمل الهش، بهدف مواجهة الإرث الاستعماري واستيعاب جحافل العاطلين عن العمل غير المؤهلين. استُخدمت الآلية بشكل أساسي في مشاريع البنية التحتية والأعمال الفلاحية. خلال الثمانينات، ومع تفاقم البطالة والفقر واندلاع انتفاضة الخبز سنة 1984، توسّعت الدولة في استخدامها لامتصاص الاحتقان الاجتماعي. بعد انقلاب بن علي في سنة 1987، شهدت الآلية تحولًا نوعيًا بانفتاحها على أصحاب الشهادات، بينما زاد انتشار آلية الحضيرة في التسعينات في إطار ما يعرف بالمرونة في التشغيل. عقب الثورة، ارتفع عدد العاملين في الحضائر إلى أكثر من 125.000 سنة 2011 وتقلص ليستقر عند 85 ألفًا بحلول 2017، أغلبهم في مناطق الحراك الاحتجاجي الأعنف. وفي 2020، أُقرّ اتفاق بين الحكومة واتحاد الشغل لتسوية وضعياتهم تدريجيًا بحسب الشرائح العمرية وفق القانون 27 لسنة 2021، مع إنهاء العمل بهذا الشكل من الانتداب.
«الترسيم كان أملي الأخير»
تفيد جليلة الغضباني أن «عدد عمّال وعاملات الحضائر من الفئة العمرية بين 45-55 سنة بولاية القصرين يبلغ 4.482 عاملا وعاملة من جملة 15.285 عاملا وعاملة على المستوى الوطني، منهم 3 آلاف يعملون بالحضائر الفلاحية». ومنذ صدور القانون، دخلت العاملات والعمّال من هذه الفئة في سلسلة من التحركات الاحتجاجية سواء كانت على المستوى الجهوي أو حتى على المستوى المركزي، للمطالبة بترسيمهم وبتسوية وضعياتهم المهنية وفق القانون.
عائشة، امرأة ستينية، تنظف شوارع القصرين منذ 20 سنة، أصرّت على تقديم شهادتها رغم امتعاض الشاف. حالفها الحظ بأن تحصلت على الترسيم منذ 2007، ولكن «لم نحصل على شئ آخر من حقوقنا غير الرّاتب الشهري. لا ترقيات ولا غير ذلك» وفق قولها. أما رفيقتاها مهنيّة (54 سنة) وصليحة (54 سنة) فتنتظران بدورهما بفارغ الصبر الترسيم الذي طال أمده.
في يوم 4 سبتمبر 2024، أصدرت رئاسة الحكومة بلاغا حول الإنطلاق في تسوية عملة الحضائر الجهوية والحضائر الفلاحية من فئة 45 - 55 سنة، لكن هذا الإجراء استثنى العديد من عاملات النظافة ممّن التقيناهن أمام بلدية الزهور بسبب تجاوز أعمارهن 55 سنة.
من بين المقصيّات مريم، يبلغ عمرها اليوم 58 سنة، وقد انتظرت طويلا على أمل ترسيمها لكن لم يشملها القانون. تقول بحسرة «لم أتحصّل على أي حق من حقوقي، وحتى الترسيم الذي كان أملي الأخير لن أتمتع به رغم السنوات العديدة التي أمضيتها في تنظيف شوارع المدينة.»
أما مهنية فتؤكد أنها تتمتع بالحماية الاجتماعية ودفتر العلاج المجاني، لكنها تقول «أنتظر الترسيم ولا أريد التقاعد» وتتساءل: «في حال التقاعد، ماذا ستفعل جراية 180 دينار لشخصين وسط غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار وثمن الأدوية ؟ مرتب 400 دينار -ولو أنه لا يكفي أصلا- أفضل من جراية لا تَفي بالحاجة».
«الحُقرة والدُّونيّة»
لا تقتصر الصّعوبات التي تواجه عاملات النظافة في مدينة القصرين على المخاطر الصحية والظروف الاجتماعية وتقاعس الدولة عن إيفائها بوعودها إزاءهن، بل تتعرض العديدات منهنّ لمختلف أشكال المُضايقات الذي يصل إلى حدّ العنف والإزدراء، ويتم التعامل معهن وكأنهن غير مرئيات.
تضطرّ مهنية وزميلاتها للخروج من المنزل على الساعة السّادسة صباحا. يتسابقن مع الوقت لإنهاء تنظيف 5 أنهج يوميًّا على الأقل دون احتساب الأزقّة، قبل تكاثف عدد السيارات والدراجات النارية على الطريق التي تزعجها ولا تتركها تعمل في أريحية.
ورغم أنها وزميلاتها يؤدين دورًا أساسيًا في الحفاظ على نظافة الأماكن التي يعملن فيها، تقول مهنية أن «سائقي السيّارات والدراجات النّارية يُزعجوننا. ويتعمّدون حصرنا في زاوية ضيقة من الشارع رغم إدراكهم أننا نقوم بواجبنا و أن تنظيف الشارع في مصلحة الجميع.
«لا يتفهّمون طبيعة عملنا ويَعمدون في أغلب الأوقات إلى نَهٔرنا أو مضايقتنا بالكلام العنيف» تقول مهنية التي لا تردّ الفعل على المضايقات التي تتعرض لها. في حين أن صليحة تفعل العكس وتواجه الأشخاص الذين يعمدون إلى مُضايقتها، خاصة الباعة المنتصبين على جانبَي الطريق والذين يمارسون عليها عنفا لفظيا يتمثل أساسا في الكلام البذيء.
تعتبر جليلة غضباني أن الكثيرات من عاملات النظافة يتعرضن إلى السخرية و «الحڨرة» من طبيعة عملهنّ قائلة أن «كلمة حضيرة وحدها تكفي لتعرض العاملات والعمّال للوصم والنّظرة الدونية من المجتمع، لِكونها آلية شغل هشة». وتختم المنسّقة أن كل ذلك «يُسبّبُ لهم أضرارا نفسية تُضاف إلى المعاناة الاجتماعية والمادية والصحية».