ما هي أبرز الإصلاحات القضائية في السنوات الخمس الأخيرة؟
منذ انتخابه في أكتوبر 2019، شرع قيس سعيد في تنفيذ عدة إصلاحات في مجال العدالة، داعيا لاستقلالية القضاء ومكافحة الفساد. في سنة 2020، أنشأ لجنة تحقيق بشأن قضايا فساد داخل حكومته. ثم في عام 2021، انتقد المنظومة القضائية، مما وتّر علاقته بالقضاة.
بدءا من 25 جويلية 2021، غيّر إعلان حالة الاستثناء المشهد السياسي والقضائي في تونس بتولي سعيّد رئاسة النيابة العمومية وإقالة حسناء بن سليمان، وزيرة العدل بالنيابة في اليوم الموالي مباشرة. ومثّل المجلس الأعلى للقضاء الذي يُعتبر ضمانة استقلال السلطة القضائية، أولى أهدافه. ففي 19 جانفي من العام التالي، تم إصدار مرسوم رئاسي ينقح القانون عدد 34 لسنة 2016 ويلغي المنح والامتيازات المخوّلة لأعضاء هذا المجلس.
وبعد أقل من ثلاثة أسابيع، أعلن قيس سعيد في خطاب ليليّ من مقر وزارة الداخلية حل المجلس الأعلى للقضاء قائلا: «ليعتبر هذا المجلس نفسه الآن جزءًا من الماضي». إثر ذلك، قامت قوات الأمن بإغلاق مقر المجلس مانعة بذلك الموظفين.ـات من الدخول فنددوا بهذا الأمر واصفينه بـ «المساس بالدستور وضمانات استقلال القضاء».
في 12 فيفري 2022، صدر المرسوم عدد 11 لسنة 2022 الذي أقرّ إلغاء المجلس الأعلى للقضاء واستبداله بهيئة جديدة تُدعى المجلس الأعلى المؤقت للقضاء الذي تولى مهامه بعد ثلاثة أيام. وخلافا لسابقه، أصبح هذا المجلس المؤقت أكثر تبعية للسلطة التنفيذية.
ولئن كان ثلثا أعضاء المجلس السابق منتخبين من قبل أقرانهم·ـن، فإن المجلس المؤقت الجديد صار يتكون من 21 قاضياً وقاضية، جميعهم معيّنون وتسعة منهم يختارهم الرئيس مباشرة. يلخص سعيد بن عربية، المدير التنفيذي للجنة الدولية للحقوقيين هذه المسألة قائلا «إن سيطرة السلطة التنفيذية على تشكيلة المجلس المؤقت تكاد تكون مطلقة».
من جانبه يتأسف يوسف بوزاخر، الرئيس السابق للمجلس الأعلى للقضاء، لكون «الآلية الانتخابية التي كانت تضمن تمثيل مختلف درجات ورتب الجهاز القضائي قد اختفت».
لم يتوقف إصلاح المنظومة عند هذا الحد. في غرة جوان 2022، صدر المرسوم عدد 35 لسنة 2022 ليمنح قيس سعيد صلاحية غير مسبوقة في تاريخ تونس: القدرة على عزل أي قاضٍ وقاضية بمجرد أمر رئاسي لا غير. وفي ذات اليوم استخدم الرئيس هذه الصلاحية لإقالة 57 قاضياً وقاضية بتهمة عرقلة التحقيقات المتعلقة بالإرهاب والفساد المالي. وبرر سعيد قراره هذا قائلاً: «ثمة تأخير وتردد متعمد في فتح هذه الملفات على الرغم من اكتمالها. لم يعد بإمكاننا تحمل هذه الوضع».
تندرج هذه الإصلاحات ضمن رؤية أشمل يتبناها قيس سعيد لإعادة هيكلة القضاءحيث يؤكد أنه «أعطى العديد من الفرص وأطلق عدة تحذيرات لكي يطهر القضاء نفسه بنفسه». ويرى الرئيس أنه من غير الممكن مكافحة الفساد وسوء استغلال السلطة «دون تطهير شامل للمنظومة القضائية».
كرّس الدستور الجديد المُعتمد إثر استفتاء 25 جويلية 2022 إعادة هيكلة النظام القضائي رسميًا. و أعاد تعريف القضاء كـ«وظيفة مستقلّة يباشرها قضاة لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون». كما استبدل النص الجديد الفصل السابق الذي يحمل عنوان "السلطة القضائية" بفصل جديد معنون بـ "الوظيفة القضائية". ولم يُذكر دور القضاء في «إرساء العدالة وضمان علوية الدستور وسيادة القانون وحماية الحقوق والحريات» مثلما كان منصوصا عليه في الفصل 102 من دستور 2014. هذا التغيير، وفقا لربيع الخرايفي، أستاذ القانون الدستوري «يعكس رؤية مختلفة للعدالة ويطرح تساؤلات حول مبدأ الفصل بين السلط الثلاث».
من جانبه، يضيف مهدي العش، الباحث في القانون، أن «السلطة لا يمكن استبدالها بوظيفة نظرًا لأن هذه الأخيرة ستكون إذًا خاضعة لتوجيهات ورغبات الوزارة الوصية عليها، مما يحرمها من القدرة على مراقبة السلطة التنفيذية ومساءلتها».
لم يكن تغيير ماهية القضاء مفاجأةً، إذ عبر قيس سعيد مرارًا عن اقتناعه بأن «القضاء هو وظيفة عمومية وهو مستقل عن السلطات الأخرى. لكنه لا يجب أن يصبح سلطة قائمة بذاتها داخل الدولة ومنفصلا عنها».
في نفس الموضوع
يذكر تقرير لمنظمة العفو الدولية أن «دستور 2022 لا يحترم المعايير الدولية المتعلقة باستقلال القضاء». إذ تؤكد مبادئ الأمم المتحدة الأساسية بشأن استقلال القضاء أنه «يجب أن تكفله الدولة وتنص عليه في الدستور أو التشريعات الوطنية».
وتثير هذه الإصلاحات مخاوف بشأن استقلالية القضاء والمنحى السلطوي المتنامي الذي ينتهجه الرئيس. ففي نداء نُشر في ماي 2023 مُوقّع من عديد الفاعلين·ـات في المجتمع المدني، أشارت منظمة هيومن رايتس ووتش إلى أنه «في خضمّ هذه التهديدات الموجهة بطريقة بالكاد مستترة إلى العدالة والفصل التعسّفي للقضاة، لم يعُد بإمكان نظام العدالة التونسي اليوم أن يؤدّي دوره كاملا كضامن للحريات والحقوق الأساسيّة».
في نفس الموضوع
ما هي التحديات التي واجهها القضاء خلال الفترة الانتخابية؟
بنسبة مشاركة بلغت 28.8%، أسفرت الانتخابات الرئاسية في 6 أكتوبر عن إعادة انتخاب قيس سعيد بنسبة 90.7% من الأصوات، محققا بذلك فوزا ساحقا ضد منافسيْه الاثنين.
جاءت هذه الانتخابات بعد عملية ترشح انطلقت قبل شهرين قُدِّم خلالها 17 ترشحا إلى الهيئة العليا المستقلة للانتخابات. وعقب النظر فيها، قُبِلت ثلاثة ترشحات فقط في القائمة الأولية: قيس سعيد، الرئيس المنتهية ولايته، زهير المغزاوي، الأمين العام لحركة الشعب، والعيّاشي الزمال، مؤسس حزب "عازمون" الذي اعتُقِل في 2 سبتمبر وحكمت عليه الدائرة الجنائية بالمحكمة الابتدائية بسليانة بالسجن لمدة 19 عامًا وشهرين بتهمة تزوير التزكيات.
إثر هذا القرار، تم تقديم ستة طعون لدى المحكمة الإدارية المختصة في النزاعات المتعلقة بالترشحات الانتخابية. ورغم رفض هذه الطعون في طورها الابتدائي، قُدِّمت طعون استئنافية ابتداءً من يوم 22 أوت.
في بيان صادر بعد أسبوع من ذلك، قبلت المحكمة الإدارية طلبات استئناف كل من عماد الدايمي، منذر الزنايدي، وعبد اللطيف المكي، وقررت «إلغاء قرار الهيئة المنتقد وقَبُول مطلب الطّاعنين في الترشح للانتخابات الرئاسيّة». وأضاف البيان أن هذا القرار «باتّ وغير قابل لأي وجه من أوجه الطعن ولو بالتعقيب طبقًا لمقتضيات القانون الانتخابي».
ومن ضمن أسباب القرار المذكورة، رأت المحكمة أن شرط تقديم بطاقة السوابق العدلية (البطاقة عدد 3) في ملف الترشح باطل. وأوضحت أن «الهيئة أضافت شرطًا جديدًا غير منصوص عليه في القانون الانتخابي». وأضافت إن النصوص القانونية المتعلقة بقواعد وإجراءات الترشح للانتخابات الرئاسية «لا تشترط أن يقدم المترشح للانتخابات بطاقة السوابق العدلية ضمن ملف ترشحه».
وبغض النظر عن شرعية اشتراط البطاقة عدد 3 ضمن ملف الترشح من عدمه، أكدت المحكمة الإدارية أنه نظرًا لكون الطاعن أثبت أنه قام بالإجراءات اللازمة للحصول على الوثيقة المطلوبة، فإن «عدم استجابة الجهات الإدارية المعنية لطلبه» يضعه في موقف «لا يتحمل عنه أية مسؤولية، لا سيما وأن الوثيقة المطلوبة موجودة لدى جهة إدارية».
في نفس الموضوع
ومنذ ذلك الحين، نشب خلاف حاد بين المؤسستين، حيث امتنعت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات عند إعلان القائمة النهائية للمترشحين عن إدراج الأسماء التي أقرتها المحكمة الإدارية. ولم يُذكر سوى قيس سعيد والعياشي الزمال وزهير المغزاوي، أي أولئك الذين تمت الموافقة أوليا على ملفات ترشحهم يوم 10 أوت.
في غضون 24 ساعة، تقاذفت المؤسستان عددا من التصريحات والبيانات حتى أعلن فاروق بوعسكر، رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، خلال مؤتمر صحفي عُقد يوم 2 سبتمبر أنه لم يكن ممكنا الاطلاع على قرارات الجلسة العامة للمحكمة الإدارية في غضون 48 ساعة من إصدارها رغم تقديم الهيئة طلبا بخصوص ذلك. وفي المقابل، أوضحت المحكمة أنها قد بلّغت الهيئة بنسخ الأحكام التي ألغت قراراتها في يوم انعقاد المؤتمر، مذكّرة بأنها «قدمت شهادات في منطوق الأحكام المذكورة لطرفي النزاع، عملا بأحكام الفصل 24 من القرار عدد 18 لسنة 2014 الصادر عن الهيئة».
ردت الهيئة بسرعة، معلنة أنها تلقت عبر البريد الإلكتروني يوم الاثنين على الساعة 9 مساءً، الأحكام الثلاثة الصادرة عن المحكمة الإدارية. وقالت: «حدث ذلك بعد اجتماع مجلس الهيئة والمصادقة على القائمة النهائية للمترشحين للانتخابات الرئاسية». وحسب الهيئة، فقد بلغتها هذه الأحكام بعد انعقاد مجلس الهيئة وإقرار القائمة النهائية للمترشحين. كما أوضحت الهيئة أن المحكمة الإدارية تجاوزت الأجل الزمني المحدد بـ 48 ساعة الذي نص عليه الفصل 47 من القانون الانتخابي.
انتهى الخلاف في يوم 28 سبتمبر بمصادقة البرلمان في اللحظات الأخيرة على مشروع قانون يهدف إلى تقليص صلاحيات المحكمة الإدارية. حيث قدم النائب يوسف طرشون بمشاركة 33 نائبًا آخر، اقتراحًا بتحويل اختصاص النظر في النزاعات المتعلقة بالانتخابات الرئاسية من المحكمة الإدارية إلى القضاء العدلي (محكمة الاستئناف ومحكمة التعقيب بتونس). وقال النائب المذكور في خضم ذلك أنه «عندما تصبح مؤسسات الدولة (...) أدوات في يد الحركات السياسية لتحقيق أهدافها، يجب على البرلمان أن يتحرك».
وفي اليوم الموالي، استقبل قيس سعيد رئيس مجلس نواب الشعب، إبراهيم بودربالة، ليشيد «بالموقف المسؤول والوطني» للبرلمان، ولينقل إليهم «تحياته الصادقة لإدراكهم التهديدات المحدقة بوطننا العزيز».
تنطبق التعديلات التي أُدخلت على القانون الانتخابي على كل النزاعات المتعلقة بالانتخابات الرئاسية، سواء تلك التي تم فضّها أو التي لا تزال قيد النظر في تاريخ المصادقة على القانون. وتبعا لذلك، فقد المترشحون الثلاثة الذين ثبّتت المحكمة الإدارية ترشحهم مكانهم في السباق الرئاسي. بينما أثار هذا القرار ردود فعل قوية من الأحزاب والمجتمع المدني التونسي وكذلك من الأطراف الفاعلة في الجسم القضائي التونسي.
يقول القاضي الإداري السابق أحمد صواب: «قبل 14 جانفي، كان جزء من النزاعات المتعلقة بقائمات الناخبين يدخل في اختصاص القضاء العدلي لكن من العبث الإشارة إلى انتخابات ما قبل الثورة. بعد 14 جانفي، أصبح النزاع الانتخابي حكرا على القضاء الإداري».
علاوة على ذلك، رفض المجلس الأعلى المؤقت للقضاء هذا التعديل، مؤكدًا أن نصوصه «تتعارض مع حجية الأحكام الصادرة عن المحكمة الإدارية بشأن النزاعات التي تم البت فيها بالنسبة إلى الانتخابات الرئاسية الحالية». وأوضح المجلس أن هذه الوضعية «تقوض الثقة المشروuة في القضاء ونزاهة أعماله».