ضحايا الألغام من المدنيين·ـات بالقصرين: معاناة متواصلة في ظل تخاذل الدولة

يتواصل منذ سنوات سقوط ضحايا الألغام المدنيين·ـات من سكان المناطق العسكرية المغلقة بجبال القصرين، في ظل تهاون السلطات في الإحاطة بهم، وتقاعس الدولة عن تنفيذ التزاماتها الدولية في مجال نزع الألغام. روبرتاج في العمق.
بقلم | 10 ماي 2024 | reading-duration 15 دقيقة

متوفر باللغة الفرنسية
«أهملتُ مواعيدي الطبية بسبب بُعد المسافة عن المستشفى العسكري وتكاليف العلاج التي لا أستطيع تحملها بنفسي. لم أرَ من السلطات شيئا منذ الحادثة رغم أننا كنا في خط الدفاع الأول ضد العناصر الإرهابية...» هكذا تحدثت نجمة رحيمي (42 سنة) إحدى الناجيات من حادث انفجار لغم أرضي بمرتفعات القصرين.

أُصيبت نجمة في انفجار لغم سنة 2018 عندما صعدت جبل السلوم رفقة جارتها خديجة لجمع الحطب ورعي الأغنام. نجمة واحدة من عديد المصابين·ـات في إنفجارات الألغام المتواصلة منذ سنة 2013 بمختلف جبال القصرين المصنفة مناطق عسكرية مغلقة. هذه الجبال توجد على سفوحها مناطق آهلة بالسكان يتخذون منها مواطن رزق ويصعدون إليها بحثا عن لقمة العيش في غياب بدائل أخرى رغم تحجير السلطات الولوج إليها.

شهدت الجهة إنفجار أول لغم أرضي يوم 29 أفريل من سنة 2013 بجبل الشعانبي. استهدف اللغم عسكريين كانوا آنذاك يقومون بتمشيط الجبل بحثا عن عناصر إرهابية تسللت من الحدود التونسية الجزائرية بعد ثورة 2011. وكانت هذه العناصر منتمية الى كتيبة عقبة بن نافع التابعة لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وجماعة "جند الخلافة" المبايعة لتنظيم داعش. ومنذ ذلك اليوم إلى وقتنا الحاضر، بالكاد مرت سنة لم تعرف فيها الجهة انفجارا.

يستند الرسم البياني أعلاه إلى قائمة اسمية تحصلت عليها انكفاضة من ولاية القصرين، إضافة إلى عدد من الضحايا لم يُذكروا في الوثيقة الرسمية قامت إنكفاضة بجردهم، دون احتساب القتلى والقتيلات والجرحى من العسكريين، والمدنيين·ـات القاطنين·ـات في المناطق التابعة إداريا إلى ولاية سيدي بوزيد (جزء من جبل مغيلة).

أحصت إنكفاضة عدد المصابين·ـات بالقصرين في حوادث الألغام لسنة 2023 وحدها ليبلغ عددهم 9، من بينهم عسكري ومهاجر من إفريقيا جنوب الصحراء، وتلميذ باكالوريا كان يجمع الحطب لبيعه لتوفير مستلزمات العودة المدرسية فقد على إثر الحادث عينه اليمنى ويده، وفق التقارير الإعلامية التي تابعت هذه الحوادث.

يوم 6 جويلية من سنة 2015، صدر أمر رئاسي عدد 120 لسنة 2015 يتعلق بإعلان جبال الشعانبي و سمامة السلوم ومغيلة والمناطق المتاخمة لها بولاية القصرين مناطق عمليات عسكرية مغلقة. كما تم إعلان جبال خشم الكلب، الدولاب، عبد العظيم، طم صميدة، درناية، تيوشة بيرينو ولجرد والمناطق المتاخمة لها بولاية القصرين مناطق عمليات عسكرية. 

في تقريره لسنة 2023، يورد مرصد الألغام الأرضية أن ضحايا الألغام في البلاد التونسية يتركّزون أساسا بالمناطق الجبلية في الوسط الغربي، وقد شهد عددهم تناقصا منذ سنة 2018 ليبلغ الصفر بحلول 2022 وفق التقرير، قبل أن يعاود الارتفاع في سنة 2023.

إسعاف بعد الانفجار ؟

«لحظة الإنفجار، ظننتُ أنني الوحيدة التي أُصيبت، وعندما أفقتُ من صدمة الحادثة وجدت جارتي مبتورة السّاق. حملتها بنفسي على ظهري ونزلت بها نحو التجمع السكّاني بدوار الرحايمية على سفح الجبل لانتظار سيارات الإسعاف.» هكذا تروي نجمة يوم الحادثة حين دخلت الجبل لرعي قطيع الماعز في التلة المُطلة على بيتها.

ما إن نزلت من مكان الحادث حاملةً جارتها حتى دخلت في حالة إغماء من قوة الإصابة. استفاقت بعدها في المستشفى الجهوي بالقصرين أين اكتشفت ما خلفه لها الانفجار من أضرار على مستوى عينها اليمنى وشظايا اخترقت جسدها، فيما بُترت ساق جارتها خديجة.

توهامي البرانصي (45 سنة) عاش ذات الشيء أيضا. كان ذلك في يوم رمضاني من شهر أفريل من سنة 2023، لما صعد أصيل منطقة عين زيان بمعتمدية سبيبة إلى الجبل لرعي قطيعه كعادته خلال الأيام التي لا يجد فيها عملا في القطاع الفلاحي كي يُعيل عائلته المتكونة من 4 أفراد.

«دخلتُ الجبل خلف القطيع، وفي مسلك ضيق انفجر اللغم ولم أعد أشعر بوجود ساقي» يروي البرانصي.

اتصل عدد من الجيران بالإسعاف «لكنها تأخرت ولم تستطع الصعود إلى مكان الحادث المصنف من الأماكن الوعرة، فاضطروا إلى إنزالي بأنفسهم من الجبل إلى الطريق حيث وصلت سيارة الإسعاف ونقلتني إلى المستشفى الجهوي بالقصرين» أين بُترت ساقه.

تتعدد أمثلة الشهادات التي جمعتها إنكفاضة أين يتأخر أو يغيب تدخل الأجهزة الصحية والأمنية، لكن المدير الجهوي للصحة بالقصرين عبد الغني الشعباني يؤكد في حوار مع إنكفاضة أنه عند كل حادثة «يقع التنسيق بين الإطارات الصحية والصحة العسكرية والجيش الوطني لتحديد طريقة إنزال المصاب من مكان الحادث ونقله إلى المستشفى».

 ويضيف الشعباني أن خلال كل عملية «يتحول فريق طبي متكامل على عين المكان على متن سيارة إسعاف مجهزة». ويستشهد الشعباني بحادثة انفجار اللغم التي جدت سنة 2018 وراحت ضحيتها شريفة وخيرة هلالي بينما كانتا تجمعان الإكليل بعمق جبل سمّامة، فتم تجنيد سيارات الإسعاف ومروحية عسكرية نقلت الضحيتين إلى المستشفى.

في وقت غير بعيد، يوم 14 مارس 2024، وجدت صليحة قرميطي نفسها إحدى أحدث ضحايا الألغام بالمنطقة. انفجر تحتها لغم بجبل السلوم من الجهة المُطلّة على معتمدية حاسي الفريد ولم يسعفها الحظ بكل ذلك التجند الذي يذكره المدير الجهوي للصحة.

 تروي صليحة «بعد الانفجار اتصل إبني بالإسعاف لكن لم يأت أحد إلى المنطقة، فاضطرَّ إلى نقلي على دراجة نارية إلى مستشفى حاسي الفريد ومن هناك حولتني سيارة إسعاف إلى المستشفى الجهوي بدر الدين العلوي بالقصرين».

مخاطر على طريق الإسعاف

وصول سيارات الإسعاف إلى أماكن الإنفجارات ليس بالأمر الهين نظرا إلى تواجدها في أغلب الأحيان في عمق المناطق العسكرية أو بمناطق وَعرة وذات طرقات أو مسالك غير مهيئة.

عصام فقراوي أحد المسعفين بالجهة، كانت له تجربة في نقل ضحيتي انفجار لغم بمنطقة بوحيّة المتاخمة لجبل عبد العظيم بمعتمدية فريانة، في الفترة التي عمل فيها بالمستشفى المحلّي هناك، قبل أن ينتقل للعمل بالمستشفى الجهوي بدر الدين العلوي بالقصرين.

يستذكرُ عصام تفاصيل الانفجار الذي جدّ يوم 24 سبتمبر 2018، وراح ضحيتها الشاب حمزة قريري البالغ من العمر (26 سنة) وهو أب لطفلين، وابن عمه الشاب يوسف القريري البالغ من العمر حينها 24 سنة خلال مرورهما بالسيارة فوق اللغم.

يروي المسعف: «عند التنقل إلى منطقة بوحيّة من أجل نقل الجثتين إلى المستشفى لتشريحهما وعرضهما على الطبيب الشرعي، كانت الطريق وَعرة، تتخلّلها أودية ومنعرجات خطيرة، ويعمُّ المنطقة هدوء غريبٌ ومخيف.»

«شعرتُ بأن الخطر مُحدِق بنا على طول المسافة الفاصلة بين المستشفى المحلي بفريانة ومنزل القتيلين، رغم أننا كنا مرافَقين بوحدات الجيش والحرس الوطني.»

كان شعور عصام في محلّه، فعلاوة على المخاطر الإرهابية وهاجس تعرّض سيارة الإسعاف بطاقمها الطبي لهجوم، كانت ردّة فعل أهل الضحية أنفسهم عنيفة. «عند الوصول إلى مسقط رأس الضحيتين وجدنا أن عائلتيهما قد قامتا بدفنهما ورفضوا إعادة استخراج جثتيهما وتحويلهما إلى الطبيب الشرعي. وتم الاعتداء بالحجارة على سيارات الإسعاف والحرس والمعتمد.» يروي عصام.

فرَّ سائق سيارة الإسعاف بينما اختبأ عصام تحت المقود ظانا أنه لن ينجو «لكن تدخل شيخ من متساكني الجهة وأخرجني من السيارة ليبعدني عن مكان الفوضى إلى أن هدأت الأوضاع وتمكنتُ من العودة إلى مدينة فريانة، بدون جثث الضحايا.»

يتم نقل ضحايا الألغام عادة إلى أقرب مستشفى محلّي من موقع الحادثة أو يقع نقلهم مباشرة إلى مستشفى بدر الدين العلوي، وهو المستشفى الجهوي الوحيد بولاية القصرين التي تضمّ أكثر من نصف مليون نسمة.

«لم أتلقّ أي مساعدة أو إحاطة نفسية»

بعد إقامة دامت خمسة أيام بمستشفى القصرين، نُقلت نجمة إلى المستشفى العسكري بالعاصمة لإجراء عملية جراحية.

في الحالات التي يتم فيها نقل الضحايا إلى المستشفى الجهوي بالقصرين، مثل نجمة، يؤكد المدير الجهوي للصحة أن «الطواقم الطبية بالجهة قد اكتسبت خبرة في التعامل مع الحوادث الإرهابية وخاصة مع حوادث انفجارات الألغام.»

يقول الشعباني «يتم تجنيد كل الطواقم الطبية بأقسام الاستعجالي والأشعة وتحضير أماكن لإستقبال المُصابين داخل المستشفى، كما يتم التنسيق في كيفية نقل المريض [إلى المستشفى العسكري] ومتابعة وضعيته الصحية وتتكفل الدولة بكل المصاريف.»

قضت نجمة إذاً الأسبوعين بالمستشفى العسكري بالعاصمة «وحيدة [...] وفي حالة صحية نفسية وجسدية صعبة» كما تقول، بينما بقي أطفالها بمفردهم بمنزلها في دوّار الرحيمات. عند مغادرتها، طلب منها الإطار الطبي العودة إلى المستشفى العسكري لمتابعة العلاج والمراقبة الصحية عبر مواعيد منتظمة. ورغم أن متابعة الحالة الصحية تكون «بصفة مجانية إلى غاية التماثل للشفاء» حسب تأكيد المدير الجهوي للصحة، إلا أن المصاريف اللازمة للتنقل بين القصرين والعاصمة لمتابعة العلاج قد أثقلت كاهل نجمة.

«لم أتمكن من المواظبة على المواعيد بسبب قلة ذات اليد وتردي وضعيتي الاجتماعية ما تسبب في تعكر حالتي الصحية وضعف بصري». كما تدهورت حالة نجمة النفسية وتغير نمط عيشها منذ الحادثة: «فقدت التركيز وأصبحت أعيش توترا متواصلا انعكس على صحتي الجسدية وعلى علاقتي بعائلتي. لم أتلقّ أي مساعدة أو إحاطة نفسية».

في المقابل، يرى المعتمد الأول لولاية القصرين أحمد الحامدي أن «السلط الجهوية سباقة في مثل هذه الحوادث للتواصل مع المُصاب والاطلاع على حالته الصحية في المستشفى إضافة إلى متابعة وضعيته من الجانبين النفسي والاجتماعي.»

منذ الانفجار، فقدت نجمة مورد رزقها القديم من رعي الأغنام وجمع الحطب وصنع المردومة "الفحم" وبيعها بسبب استحالة الولوج إلى الجبل مرة أخرى، فغادرت الأم لثلاثة أبناء منطقة المثنانية الواقعة على سفح جبل السلوم باحثة عن مورد رزق تعيل به أبنائها. وصارت تقطن في منزل تغيب فيه أدنى مقومات العيش الكريم بمنطقة حي الزهور في مدينة القصرين.

تروي ربة العائلة «أعيشُ مع أطفالي على منحة العائلات المعوزة التي تقدر بـ 200 دينار في الشهر.» وتواصل «تضطرّ والدة زوجي للتسول في العاصمة لمساعدتنا على مجابهة مصاريف الحياة اليومية في ظل تدهور الظروف الاقتصادية وغلاء الأسعار».

تؤكد نجمة «لم أتحصل على تعويضات من الدولة إلى غاية اليوم سوى تمكيني من مبلغ قدره 500 دينار يوم الحادثة بالمستشفى الجهوي بالقصرين».

في حوار مع إنكفاضة، يؤكد المعتمد الأول لولاية القصرين أحمد الحامدي على وجود «زيارات ميدانية للمواطنين المتضررين من الألغام، وقد تم تمكين عدد منهم من عدة إمتيازات. كما أن هناك من في طور استكمال الإجراءات اللازمة للحصول على تعويضات، إضافة إلى مجهودات السلط الجهوية لوضع خلية متابعة لتحسين موارد رزقهم وتوفير أرضية ملائمة تساعدهم على العيش بكرامة».

«يوجد تنسيق تام بين السلط الجهوية والهيئة العامة للمقاومين وشهداء وجرحى الثورة والعمليات الإرهابية التي تتابع هذا الملف» يؤكد أحمد الحامدي.

بمناسبة إحياء ذكرى الثورة، زارت رئيسة الهيئة العامة للمقاومين وشهداء وجرحى الثورة والعمليات الإرهابية فوزية اليعقوبي ولاية القصرين يوم 8 جانفي 2023 أين صرحت لوكالة الأنباء الرسمية أن «القضاء والأمن يحددان ما إذا كانت إصابات (بتر أعضاء) الجرحى من المدنيين·ـات من سكان المناطق العسكرية المغلقة نتيجة عمليات إرهابيّة من عدمها.»

وأضافت أن «المتضررين الذين ثبتت إصاباتهم في عمليات إرهابيّة، قد نالوا مستحقاتهم من التعويضات، كلٌّ حسب نسبة العجز الجسدي لدى كل مصاب والتي حددتها اللجنة الوطنية الطبية المركزية.»

إلا أن قائمةً اسميةً لجرحى العمليات الإرهابية في ولاية القصرين تحصلت عليها إنكفاضة، تظهر أن ما مجموعه 19 مصابا·ـة قد تمتعوا بإحاطة طبية تتمثل في نقلهم إلى المستشفى وإجراء عملية جراحية لهم. كما تتضمن نفس الوثيقة ما تم إنجازه أو تقريره لفائدة المُصاب·ـة من تعويضات مالية أو عينية من قبل الهيئة العامة للمقاومين وجرحى الثورة والعمليات الإرهابية. بينما لا يوجد ذكر لأي إحاطة نفسية أو اجتماعية انتفع بها المصابون·ـات.

تظهر الوثيقة أن 18 مصابا·ـة من بين 19 اسما مسجلا بالقائمة، ومن بينهم نجمة رحيمي، لم يتحصلوا على تعويضات من الهيئة إلى غاية اليوم. فيما يغيب اسم توهامي البرانصي أصلا عن القائمة.

فقراء السفوح « جدار الصد الأول ضد الإرهاب»

نجمة، خديجة، التوهامي، صليحة وآخرون غيرهم وغيرهن أُصيبوا بينما هم يقتاتون مما توفره الجبال من موارد رزق. شاء الحظ أن يُولدوا في جهة أضحت منذ سنوات «ذات خصوصية بتواجدها بين 4 مناطق عسكرية مغلقة يهدد ساكنيها الإرهاب وحوادث الألغام» على حد تعبير المعتمد الأول لولاية القصرين محمد الحامدي.

 «لا يمكن للدولة والسلط الجهوية التقصير في حق متساكني المناطق المحاذية للجبال، بل يجب تثبيت المواطنين في تلك المناطق حتى لا يحدث فراغ يفسح المجال للعناصر الإرهابية للاستيطان بها» يضيف الحامدي.

«خصوصية» الجهة لا تتوقف عند الجبال الملغّمة المغلقة، حيث تشير آخر إحصائية حول تطور مؤشر التنمية الجهوية لسنة 2024 إلى أن ولاية القصرين تحتل المرتبة الأخيرة على المستوى الوطني بـ 0.35 مقارنة بولاية تونس الأعلى ترتيبا بـ 0.57. فيما تصدرت 5 معتمديات بالجهة قائمة الفقر سنة 2020 وقد احتلت معتمدية حاسي الفريد المرتبة الأولى كأفقر معتمدية في تونس. 

يشرح نعمان محمدي، ناشط بالمجتمع المدني وأحد متساكني معتمدية حاسي الفريد، في حديثه لـ إنكفاضة، أن «متساكني سفوح الجبال هم جدار الصد الأول ضد الإرهاب، وهم يقتاتون رأسا من الجبال.»

تتركز الأنشطة الاقتصادية في هذه المناطق على تربية الأغنام والماعز «ولذلك تسعى السلط إلى توفير موارد رزق تتمثل في رؤوس أغنام» وفق قول المعتمد الأول لولاية القصرين. «فالسلط الجهوية تساند مصابي الألغام في بعث المشاريع وتشجعهم على تقديم أفكار مشاريع لانجازها في هذه المناطق» يتبع الحامدي.

إلا أن توهامي البرانصي، المبتورة ساقه منذ شهر أفريل 2023، لا يزال ينتظر إلى غاية اليوم تحقق وعود السلط الجهوية بإسناده رخصة كشك، أو رخصة لبيع العلف علّها تساعده على العيش بكرامة بعد أن أصبح عاجزًا عن العمل في القطاع الفلاحي أو رعي أغنامه.

يقول الناشط نعمان المحمدي: «هذه الشريحة الاجتماعية تمت معاقبتها مرّتين، المرة الأولى وللضرورة الأمنية أصبحت كل الأماكن التي يقتاتون منها مناطق عسكرية مغلقة فبُترت أرزاقهم وتدهورت أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، أما المرة الثانية فقد تمت معاقبتهم بزرع الألغام التي مازال ضحاياها يتساقطون إلى غاية اليوم.»

برنامج نزع الألغام من الجبال « فكرة مطروحة»

يوم الخميس 10 أوت 2023، عاد الرئيس قيس سعيد التلميذَ عدنان المعموري المُصاب في انفجار لغم والمقيم في المستشفى العسكري أين صرح أنه «يجب على الدولة بكافة أجهزتها أن ترفع الغبن والظلم عن الفقراء والبؤساء حتى يعيش المواطن آمنا في دولة محفوظة الكرامة ومحفوظة السيادة.» 

كان عدنان ذو الـ17 سنة قد أُصيب قبل ثلاثة أيام من ذلك في انفجار لغم أسفر عن فقدانه عينه ويده اليمنى، وهو بصدد جمع الإكليل في جبل المغيلة بعدما خرج «للعمل بسبب الفقر من أجل إكمال تعليمه وشراء مستلزمات العودة المدرسية» وفق قول أخته.

بعد مرور عقد من الزمن على تواصل حوادث الألغام وسقوط الضحايا بين قتلى ومصابين·ـات، لا يوجد إلى الآن حديث حول إستراتيجية وطنية متكاملة لنزع الألغام من الجبال الآهلة سفوحها بالسكان. حاولت إنكفاضة الاتصال بوزارة الدفاع الوطني لمعرفة عدد ضحايا الألغام داخل الجبال المُصنّفة مناطق عسكرية مغلقة، من المدنيين·ـات والعسكريين، وما إذا كانت هناك إستراتيجية لنزع الألغام من هذه الجبال إلا أننا لم نتلقَّ ردًّا الى غاية كتابة المقال.

في غياب أرقام على النطاق الوطني صادرة عن جهات رسمية، يظهر تقرير مرصد الألغام الأرضية الدولي أن عدد الضحايا الجملي بين قتلى ومصابين·ـات من مدنيين·ـات وعسكريين في البلاد التونسية، منذ سنة 2000 إلى حدود 2022، قد بلغ 279 شخصا. علما أن هذه الأرقام تشمل فيما تشمله انفجارات الألغام الموروثة عن مخلفات الحرب.

في عين سيدي محمود* بولاية القصرين أين أُصيبت صليحة قرميطي، يقول زوجها بلقاسم الذيبي أنه طلب «عديد المرات من الوحدات العسكرية التي كانت تقوم بتمشيط الجبل بإعدام الألغام المزروعة بالمكان لخطورتها على متساكني المنطقة العاملين في جمع مادة الحلفاء داخل الجبل. توجهنا بنداءات مباشرة إلى السلط الجهوية وعبر وسائل الإعلام، لكن لا من مجيب».

وجود برنامج لنزع الألغام من الجبال من عدمه هي «فكرة مطروحة مع السلطات المركزية» حسب قول المعتمد الأول لولاية القصرين أحمد الحامدي، «لكن لا توجد الآن رؤية واضحة حول هذا الموضوع.»

ويضيف المعتمد أن «هناك سعيا لإيجاد حلول خاصة وأن هذه المناطق هي تمثل مواطن رزق المواطنين ويجب الحفاظ عليه.»

في يوم 4 ديسمبر سنة 1997، وقّعت تونس على اتفاقية الأمم المتحدة لحظر واستعمال وتخزين وإنتاج ونقل الألغام المضادة للأفراد وتدمير تلك الألغام، المعروفة بمعاهدة أوتاوا*. وكانت تونس من بين 164 دولة ممضية على المعاهدة التي دخلت حيز التنفيذ منذ سنة 1999*. ثم في سنة 2003، أُحدثت لجنة وطنية حسب الأمر عدد 1266 لسنة 2003 تتولى متابعة تطبيق أحكام الاتفاقية «وتنسيق الجهود الوطنية الرامية إلى وقاية المواطنين من مخاطر الألغام المضادة للأفراد».

أعلنت تونس منذ شهر مارس 2009 بمقتضى المادة الخامسة من المعاهدة استكمالها تطهير المناطق الملغومة المؤكدة، لتنضم بذلك إلى قائمة 30 بلدا استكمل تطهير الألغام. إلا أن تقرير مرصد الألغام الأرضية لسنة 2023 يذكر أنه «بالرغم من ورود عدة أخبار عن حوادث انفجار ألغام مرتجلة، إلا أن البلاد [تونس] لم تقدم إلى الآن أية تقارير للدول الأعضاء عن تلوثها بالألغام المرتجلة، كما يجب عليها توضيح نوع وامتداد هذا التلوث».

وفي انتظار « اتضاح الرؤية» حول وضع خطة لنزع الألغام من الجبال المصنفة مناطق عسكرية مغلقة بالقصرين، تتواصل حوادث الانفجارات ويبقى ضحاياها هم أنفسهم ضحايا أوضاع إجتماعية واقتصادية هشة. «ومن لا يموت منهم على يد الإرهابيين أو في انفجار لغم يعيش بقية حياته بإعاقة مستديمة. ولن يكون هؤلاء آخر الضحايا…» يختتم نعمان محمدي. وبالفعل لم يكن هؤلاء آخر الضحايا، إذ انفجر لغم أرضي يوم 24 مارس 2024، بجبل مغيلة وأسفر عن إصابة شاب آخر على مستوى الساق ظل ينتظر وصول سيارات الإسعاف إلى مكان الحادث ونقله الى المستشفى للعلاج.