في تلك الليلة، امتطت إسراء السيارة رفقة أحد أقاربها على الثالثة صباحًا متجهة نحو المطار : "كان المطر يتهاطل بغزارة وكان الضباب قد بلغ ذروته". وعلاوة على سوء الأحوال الجوية التي تحول دون تشبث العجلات بالطريق، كانت العتمة ليلتها تغطي المكان.
تقول إسراء مستنكرة: "لم يكن هناك أي بصيص ضياء. أُجبر الناس على إنارة المصابيح الأمامية العالية الشعاع، وهو ما يتسبب في إبهار السائق القادم في الاتجاه المعاكس مما قد يؤدي إلى كارثة".
في الوقت الذي كانت السيارة تشق فيه طريقها بصعوبة كان الضباب يتراكم على الزجاج الأمامي. وفجأة، اصطدم السائق بحاجز خرساني وفقد السيطرة على السيارة: "لم نكن نتبين شيئا، كنا نسير في الفراغ... وفجأة، تدحرجت السيارة قبل أن تنقلب تمامًا".
"لم يكن هناك فريق نجدة"، تواصل الشابة. "أنقذني سائقو شاحنات كانوا يقصدون عملهم. وهم الذين أقلوني إلى المطار". بعد تأكدها من عدم إصابتها، قررت ركوب الطائرة وقصدت المستشفى بمجرد بلوغ وجهتها في سويسرا.
"كانت الصدمة العاطفية أشد وقعا"، تقول إسراء التي تعترف بأن الحظ كان حليفها لاتباعها قواعد السلامة المرورية: "أعتقد أنني كنت سأهلك لا محالة لولا ارتدائي لحزام الأمان".
تُعزى الحوادث القاتلة بحسب المعطيات الرسمية أساسا إلى "السهو وقلة الانتباه" و "السرعة المفرطة". لكن إسراء أكدت لنا أن سرعة السيارة لم تكن تتجاوز حينها عشرين كيلومترًا في الساعة وأن السائق لم يكن يستخدم الهاتف. "كانت الظروف الجوية معقدةا بما فيه الكفاية!".
تركز الحملات الوقائية الرسمية على سلوك مستخدمي.ات الطريق. بمناسبة عيد الأضحى على سبيل المثال، أوصت السلطات التونسيين.ات "بالالتزام بالسياقة المتزنة وباحترام القانون". وبعد أيام قليلة من ذلك أعلنت وزارة الداخلية عن إطلاق حملة "العطلة الآمنة" التي امتدت من غرة جويلية إلى غاية 15 سبتمبر (إحدى أكثر فترات السنة دموية على الطرقات التونسية) تحت شعار: "سلامتكم أمانة الجميع".
وإذ لا يمكن إنكار الدور الذي يمكن أن تلعبه السلوكيات المحفوفة بالمخاطر في وقوع الحوادث*، فإن الاختلالات الهيكلية تتحمل أيضًا قدرا من المسؤولية في انعدام السلامة المرورية. حالة البنى التحتية وتنظيم وحدات الإسعاف وضآلة عدد الدراسات الإحصائية وقلة التنسيق… كلّها نواقص تتراكم - ومعها الوفيات.
يبدو أن سنة 2023 ستكون دموية بامتياز مع تسجيل 573 حالة وفاة خلال السداسي الأول أي بزيادة تفوق 33٪ قياسا بنفس الفترة من سنة 2022. كما فاق هذا العدد المستوى المسجل خلال نفس الفترة من سنة 2019 (549 قتيلا.ة).
16 قتيلا.ة لكل 100.000 نسمة
على مدى السنوات الماضية، بذلت الدولة عديد الجهود الرامية إلى التقليص من عدد الوفيات الناجمة عن حوادث المرور، منها صياغة "استراتيجية وطنية" للسلامة المرورية في سنة 2020 ووضع برامج سنوية للدراسات حول حوادث المرور ومشاريع لتحديث البنية التحتية بدعم من البنك الأفريقي للتنمية علاوة على الانضمام إلى مبادرات الاتحاد الأوروبي و الأمم المتحدة في هذا المجال.
سمح كل ذلك بتحقيق نتائج إيجابية خلال العقد الماضي حيث سُجل تراجع عدد الوفيات والإصابات الناجمة عن حوادث المرور بين سنتي 2013 و 2022، حتى إذا ما أخذنا بعين الاعتبار التأثير الإيجابي "الزائف" لوباء كوفيد 19 على السلامة المرورية*.
كما كانت النتائج مشجعة على المستوى الإقليمي: إذ كانت الطرق التونسية قبل عشرين عامًا تحتل المراكز الأولى من حيث الخطورة في منطقة المغرب العربي خلف موريتانيا والمغرب، بحساب 23,35 حالة وفاة لكل 100.000 نسمة. وتراجعت هذه النسبة لتبلغ 16,49 حالة وفاة لكل 100.000 نسمة في سنة 2019 وهو ما جعل تونس تحتل المرتبة الثانية في المنطقة بعد مصر، وإن كانت نسبة الوفيات في الأخيرة تفوق المعدل الأفريقي بكثير (27,21 قتيلا.ة).
ومع ذلك، احتلت تونس المرتبة 103 من أصل 183 بلدا من حيث عدد الوفيات الناجمة عن حوادث المرور في سنة 2019. بيد أن هذا التطور الإيجابي المسجَل على المدى الطويل يتناقض مع حقيقة تنامي عدد الوفيات الناجمة عن حوادث الطرق خلال السنوات الثلاث الأخيرة الموالية للجائحة.
أرقام مشجعة بشكل مغالط، ونقائص المنظومة الإحصائية
جدير بالذكر أن هذه الإحصائيات تشوبها العديد من النقائص. إذ يشير الباحث لوران كارنيس Laurent Carnis، مدير الأبحاث في جامعة غوستاف إيفل Gustave Eiffel ومؤلف العديد من المنشورات حول السلامة المرورية في إفريقيا، وبخاصة في تونس*، إلى ضرورة توفر منظومة إحصائية فعالة بهدف تحليل الاتجاهات على المدى القصير أو الطويل.
أُوكلت مهمة تجميع هذه البيانات في تونس إلى المرصد الوطني لسلامة المرور (Observatoire National de la Sécurité Routière-ONSR). ومع ذلك، فإن الإحصائيات بعيدة كل البعد عن أن تكون شاملة. فعلى سبيل المثال، لا يقوم المرصد بجمع بيانات دقيقة لرسم الخرائط مما يحول دون تحديد أكثر الطرقات فتكًا.
وفقًا للوران كارنيس، "تواجه العديد من البلدان الأخرى معضلة موثوقية البيانات الإحصائية لغياب الإمكانيات اللازمة لتجميعها".
يتركز اهتمام المرصد الوطني لسلامة المرور خاصة على سلوكيات مستخدمي ومستخدمات الطريق حيث يقدم أرقاماً مفصّلة حول عدد الحوادث والقتلى والمصابين جراء "السهو وعدم الانتباه" و "السرعة" و "شق الطريق" و "السياقة في حالة سكر" و "السير ليلاً بدون إنارة".
وفي المقابل لا يقع التطرق بتاتا إلى أي من العوامل المرتبطة بالبنية التحتية مثل حالة الطريق وغياب إشارات المرور أو حتى نقص الإنارة. يحذر لوران كارنيس من أن "التركيز على السلوكيات سيجعلنا نعتقد أنها السبب في كل شيء".
باتصالنا به، لم يمدنا المرصد الوطني لسلامة المرور بأية تفاصيل للإلمام بالمنهجية المتبعة لتجميع الإحصائيات أو إنشائها.
أقسام استعجالية مهيَّأة ولكن توزيعها غير متكافئ
يقر صبري*، أحد الأطباء الأولين صلب قسم المساعدة الطبية الاستعجالية 01 (SAMU 01)*: "صحيح أن عدد الحوادث ليس في ارتفاع، لكن عدد الحوادث الخطيرة شهد ازديادا كبيرا". ويرى الطبيب الذي كان قد التحق بقسم المساعدة الطبية الاستعجالية في أواخر الثمانينات وهو حاليا على أبواب التقاعد، أن تطور الأرقام على مدى هذه السنوات يشير إلى أننا سجلنا قفزة إلى الوراء في هذا المجال.
يضيف الطبيب الأول: "يجب أن نعي أننا نعيش وضعا أشبه بحرب أهلية في تونس فالقتلى والجرحى يتساقطون كل يوم".
يأسف الدكتور كذلك لنقص الإمكانيات الموضوعة على ذمة أقسام المساعدة الطبية الاستعجالية. "المشكلة ليست مادية أو مرتبطة بتوفر سيارات الإسعاف بقدر ما هي متعلقة بنقص الموارد البشرية". ويشير في هذا الصدد إلى أن سيارة الإسعاف التي تعمل على مدار اليوم تتطلب تدخل "حوالي 17 شخصًا" وعددا كبيرا من الأعوان الأكفاء. غير أن أقسام المساعدة الطبية الاستعجالية تصطدم بصعوبة حشد القوى العاملة اللازمة: "الميزانية المرصودة للانتدابات محدودة" يشرح صبري مضيفا أنه "علاوة على هجرة الكثير من المتخرجين ... فإن هذا يعرقل عملنا حقا".
لهذا الوضع تأثير مباشر على خدمات الإسعاف المقدمة في تونس ولا سيما على توزيعها الجهوي. إذ تُلاحظ تفاوتات جهوية تمس خاصة الجهات الداخلية التي تعاني من نقص على مستوى الأقسام شبه الطبية المتنقلة للإسعاف والإنعاش (أي التي لا تضم طبيب إسعاف) مقارنة ببعض الجهات الأخرى على غرار المناطق الساحلية. وهو ما يعني أن المرضى في هذه الجهات محرومون من بعض التدخلات الجراحية أو حتى التخدير العام.
ما يزيد الطين بلة هو أن بعض هذه المناطق التي لا تحظى بتغطية صحية جيدة هي الأكثر عرضة لانعدام السلامة المرورية، ومن بينها على سبيل المثال ولاية القيروان التي تجاوزت فيها نسبة حوادث المرور القاتلة 50% في المتوسط من جملة الحوادث المسجلة فيها لسنة 2021. ومع ذلك، لا يتوفر في هذه الولاية سوى قسم طبي متنقل للإسعاف والإنعاش واحد منتصب بالعاصمة الجهوية.
Template Not found:
@inkube/component/null
وبالمقارنة، تحظى ولاية تونس التي يبلغ فيها معدل الحوادث القاتلة 14٪ بأفضل خدمات إسعافية على الإطلاق على مستوى الجمهورية. بيد أنه حتى في العاصمة وإزاء الارتفاع المهول لعدد الحوادث، أصبح الوضع أكثر تعقيدا وأصبح المسعفون يرزحون تحت عبء العمل. في مواجهة هذا الوضع ينادي الدكتور صبري بـ"إنشاء المزيد من الأقسام الطبية المتنقلة للإسعاف والإنعاش " في القريب العاجل.
"من غير المعقول الاضطرار إلى التدخل في حادث مرور جد في ولاية منوبة التي تبعد عنا أكثر من 25 كم لعدم وجود قسم طبي متنقل للإسعاف والإنعاش فيها."
كما يتأسف الطبيب لسلوك الضحايا الذين عادة ما "يهرعون للاتصال بالحماية المدنية نظرا إلى العدد الهام من الثكنات المتوفرة" والذي يفوق عدد وحدات الإسعاف. وهو وضع بعيد عن أن يكون مثاليا نظرا إلى أنه حتى وإن كان رجال الحماية المدنية يحظون بشبكة ممتدة الأطراف، فإنهم ليسوا على نفس الدرجة من القدرات والمهارات عندما يتعلق الأمر بالتكفل بالضحايا.
يشرح أخصائي الإسعاف: "إنها خدمة نجدة وليست وسيلة نقل طبية"، كما يرى أن الأقسام الطبية المتنقلة للإسعاف والإنعاش أكثر نجاعة عندما يتعلق الأمر بالحوادث الأكثر خطورة: "إنها سيارات إسعاف للإنعاش تضم أطباء إسعاف وتتوفر فيها جميع المعدات الطبية اللازمة للتخدير والتهوية والمراقبة وإزالة رجفان القلب...".
وبالإضافة إلى نقص الإمكانيات، يشكو الطبيب صبري كذلك من جملة من العوامل الأخرى الكفيلة بتعقيد عمل وحدات الإسعاف. فعلى سبيل المثال، تنص مجلة الطرقات التونسية على أنه يجب على مستخدمي الطريق الآخرين "فسح مجال المرور"* لسيارات الإسعاف. غير أنه نادراً ما يتم التقيد بذلك على أرض الواقع مما يعرقل لا محالة عمل وحدات الإسعاف. ولا يخفي طبيب الإسعاف امتعاضه قائلا: "هذا غير معقول! لدينا ترسانة من القوانين الملائمة لكننا نتجاهل تطبيقها".
احترام القانون لا يقف عند الردع
تُجمع عديد الدراسات المنجزة خلال السنوات الأخيرة حول السلامة المرورية في تونس على أن المشكل المطروح لا ينبع من صياغة القوانين وكمها بقدر ما يتعلق بإنفاذها على أرض الواقع*.
ويشاطر لوران كارنيس هذا الرأي مؤكدا على أن " الإنفاذ الفعلي للقانون أمر ضروري. هذا ما نراهن عليه". ويرى الباحث أن بلوغ الهدف المنشود يمر لا محالة عبر الإقرار الفعلي لعقوبات رادعة. "إن إيتاء سلوك محظور مع عدم تسليط عقوبة رادعة بما فيه الكفاية مرادف لعدم تطبيق القانون" يقول لوران كارنيس.
ومع ذلك، فإن إنفاذ القوانين الردعية التي تستهدف السلوكيات المحفوفة بالمخاطر غير كفيل لوحده بمكافحة حوادث المرور القاتلة. يؤكد لوران كارنيس على "وجوب وضع جملة من المعايير تتعدى مستوى السلوكيات" مشددا كذلك على ضرورة السهر على "التقيد بالممارسات الفضلى ذات الصلة بالمرافق".
وبالفعل يُعتبر تصميم البنية التحتية إلى جانب عددها وجودتها عاملا حاسما في وقوع الحوادث من عدمه. يوضح لوران كارنيس حول هذه النقطة: "أبرزت دراسة نشرت في فرنسا قبل عامين أن السلوك البشري يتسبب في 80٪ من الحوادث المسجَلة وإن كانت معظم الحوادث تعزى إلى تظافر عدة عوامل متصلة لا فقط بالسلوك البشري بل كذلك بالبنية التحتية ووسيلة النقل..."
على سبيل المثال، أعلنت وزارة التجهيز والإسكان في العام الماضي عن إطلاق حملة لإزالة مخفضات السرعة العشوائية علما وأن قرارا وزاريا مؤرخا في 2017 ينص على أن ارتفاع مخفضات السرعة يجب ألا يتجاوز عشرة سنتيمترات. ومع ذلك، لا تتوفر إلى حد هذه الساعة أية بيانات عمومية لقياس نتائج هذه الحملة وتقييمها أو لتقدير تداعيات هذه المخفضات على إحصائيات حوادث المرور.
كما وتشير بعض الدراسات العلمية المنجزة في بلدان وسياقات أخرى إلى أهمية الإنارة الكافية في تقليص عدد الوفيات الناجمة عن حوادث المرور*.
فضلا عن ذلك، تحدد العديد من المعايير الدولية متطلبات الأداء الدنيا ومنها مثلا المعيار الأوروبي لسنة 2005 الذي يحدد أهداف صيانة الإنارة وتعميمها على الطرقات. وتم الاستناد إلى هذا المعيار لدى إعداد المقتضيات الفنية الأساسية لضمان جودة الإنارة العمومية التي نشرتها وزارة الشؤون المحلية والبيئة في جوان 2021 (أي قبل أربعة أشهر من حلها من قبل رئيس الدولة).
ومع ذلك، فإن الطريق الحزامية بسوسة مثلا، تفتقر إلى أدنى مبادئ الصيانة وتوحيد الإنارة على امتداد البنية التحتية. كما أن الطريق السريعة المحيطة بالمدينة الساحلية والتي تقع مسؤولية صيانتها على عاتق الإدارة الجهوية للتجهيز خالية تماما من الإنارة في بعض النقاط.
يفصل بين حي العوينة وبلدة الزاوية المفقّرين والواقعيْن جنوب سوسة جزءٌ غير مضاء من الطريق الحزامية، وهو ما ينعكس سلبا لا فقط على سلامة مستخدمي ومستخدمات الطريق بل كذلك على سلامة المشاة من متساكني ومتساكنات المنطقة.
كما يُلاحظ تفاوت شاسع على مستوى جودة البنية التحتية للطرق بين جهة وأخرى. فكما هو الحال بالنسبة لتوزيع وحدات الإسعاف، تشكو بعض الولايات، لا سيما الداخلية منها، من نقص عدد الطرقات وقدمها*.
يرجح الخبير لوران كارنيس تواصل هذه التفاوتات مستقبلا لارتباطها بـ"ظواهر هيكلية" مذكرا بأن هذا الصنف من الديناميكيات بعيد كل البعد عن كونه خاصًا بتونس: "نواجه نفس المشكل في فرنسا حيث المناطق الريفية أقل حظا نسبيا من بعض المناطق الحضرية".
"يُتوقع أن يتواصل افتقار الولايات الريفية والأقل جاذبية إلى البنية التحتية في مجالي الصحة والطرقات وهو ما سيرفّع من تعرض مستخدمي الطريق إلى المخاطر".
المبادرات المواطنية قاطرة التغيير؟
"يوم 5 سبتمبر 2011، تاريخ لا يُمحى من الذاكرة. كان يوما كارثيا، مأساة لكامل الأسرة" تروي عفاف بن غنية. في ذلك اليوم، لقي شقيقها حتفه في حادث مرور. مأساة شخصية شكلت نقطة الانطلاق للمشاركة المدنية وبعث هذه الحقوقية لمبادرة "سفراء السلامة المرورية (Ambassadeurs de la Sécurité Routière-ASR)" سنة 2013.
تهدف الجمعية إلى أن "تصبح هيكلا داعما ووسيلة ضغط على أصحاب القرار" باعتبار أن تحسين السلامة المرورية يمر حتما عبر الحوار والتعاون مع الجهات الحكومية المعنية وفق عفاف بن غنية.
وتضيف رئيسة جمعية سفراء السلامة المرورية أنه يجب "أن نسلم بحقيقة أن السلامة المرورية بعيدة عن تكون مسألة ذات أولوية في تونس" حيث أن الدولة ترصد إمكانيات أهم لقضايا تعتبرها أكثر إلحاحًا على غرار "التعليم أو البطالة".
"صحيح أن البلاد تشهد أزمة اقتصادية لكنني أعتبر أن الحياة البشرية لا تقدَر بثمن".
وإزاء نقص الإرادة السياسية و "افتقار الدولة إلى الإمكانيات أو الخبرة اللازمة"، اختارت عفاف بن غنية أن تجعل من جمعية سفراء السلامة المرورية جهة مسؤولة عن "تعزيز العمل الحكومي" وفقا لـ"تمشٍّ بناء".
في مقر الجمعية بالعاصمة، يمتلئ مكتب الرئيسة بأكداس من الدراسات والتقارير والوثائق التقييمية والتدريبية والتحسيسية وما إلى ذلك… ترسانةٌ تسمح لجمعية سفراء السلامة المرورية بالتأثير مباشرة على السياسات العامة.
ويتبلور ذلك مثلا من خلال صدور الأمر عدد 454 لسنة 2023 المنقح للتشريع الجاري به العمل بالرائد الرسمي المؤرخ في 5 جوان 2023: حيث أصبح التخفيض في السرعة إلى حد 30 كم/الساعة إجباريا "بالمناطق المحيطة بالمؤسسات التربوية والتكوينية" من بين أمور أخرى. وتشرح عفاف بن غنية في هذا الصدد: "انطلقت حملة المناصرة للتخفيض في السرعة إلى حدود 30 كم/الساعة بالمناطق المحيطة بالمؤسسات المدرسية منذ سنة 2018. وأخيرًا، أثمرت جهودنا."
وكما هو الشأن بالنسبة لجمعية سفراء السلامة المرورية، أطلقت العديد من الجمعيات الأخرى، على غرار الجمعية التونسية للسلامة المرورية (Association Tunisienne de Sécurité Routière- ATSR) أو الجمعية التونسية للوقاية من حوادث الطرقات (Association Tunisienne de Prévention Routière-ATPR) مبادرات مواطنية إسهاما منها في الجهد الجماعي لمكافحة انعدام السلامة المرورية. ووفقًا للوران كارنيس فإن "المجتمع المدني مطالب بلعب دور هام في هذا المجال" لكنه "لا ينبغي أن يحل محل السلطة السياسية".
ومع ذلك، فإن الجمعيات كجمعية سفراء السلامة المرورية أضحت تلعب دورا لا غنى عنه في العمل العمومي في مجال السلامة المرورية، لا سيما من خلال تعهدها بمهمة مهملة نسبيًا ألا وهي التنسيق بين مختلف الجهات الفاعلة.
وهكذا، تمكنت انكفاضة من حضور اجتماع عمل نظمته جمعية سفراء السلامة المرورية بعد مضي أسبوعين من صدور الأمر عدد 454 لسنة 2023 المتعلق بأساليب ضبط المناطق التي تحدد فيها السرعة القصوى بـ30 كم/الساعة. وترى عفاف بن غنية أن "المعضلة تتمثل حاليا في كيفية تطبيق الأمر".
ضم اجتماع العمل المذكور عشرين مشاركًا من بينهم ضباط بشرطة المرور وممثلون عن وزارتي التجهيز والنقل ومسؤولون صلب المرصد الوطني لسلامة المرور وبعض البلديات بإقليم تونس الكبرى... ودار النقاش على مدار صبيحة ذلك اليوم حول الإجراءات الكفيلة بضمان تطبيق القانون التي يتعين وضعها.
وتجدر الإشارة إلى أنه فيما عدا بعض الاجتماعات من هذا القبيل، لا توفر أي مؤسسة أو هيكل رسمي مساحةً للتنسيق بين مختلف الجهات الفاعلة في ميدان السلامة المرورية. تعرب عفاف بن غنية عن بالغ أسفها بقولها "يجب أن تتبنى مختلف الجهات المتدخلة نفس الرؤية وأن تعمل في نفس الاتجاه لبلوغ النتائج المنشودة".
تعالت الأصوات المنادية بضرورة التنسيق على أعلى مستوى إزاء تعدد الجهات المعنية والعوامل المتسببة في انعدام السلامة المرورية. فمن وجهة نظر الدكتور صبري مثلا، يتمثل أفضل حل لتذليل العقبات التي تعترض أقسام المساعدة الطبية الاستعجالية في "إنشاء هيكل مستقل مسؤول عن التنسيق" بين مختلف المتدخلين والمتدخلات في مجال الإسعاف وخاصة منهم الحماية المدنية.
من ناحيته يطالب لوران كارنيس ببعث "وكالة قيادة مشتركة بين الوزارات" مكلفة بـ"تشريك مختلف المتدخلين على مستوى الجهات والوزارات". ويلخص الباحث المشكل القائم في جملة واحدة: "السلامة المرورية قضية تحتاج إلى التنظيم"، واضعا بذلك إصبعه على مكمن الداء الذي هو أحد نقاط ضعف أداء الدولة التونسية في هذا المجال.