تضم هذه البعثة التي قدمت من موسكو في اليوم نفسه أعضاء من الغرفة المدنية لروسيا الاتحادية (OPRF) وهي هيكل يُعنى بمراقبة وتقييم العمل الحكومي، وإن كانت لا تتمتع في الواقع سوى بصلاحيات محدودة للغاية تحت حكم فلاديمير بوتين. ومع ذلك، استُقبل أعضاء الوفد بنفس الترحيب الذي تحظى به في العادة بعثات الاتحاد الأوروبي، كما تم مدهم بنسخة من المجلة الانتخابية الجديدة.
وتتمثل مهمة أعضاء الوفد المذكور الذين حلوا بتونس بدعوة من فاروق بوعسكر -المقرَب من رئيس الدولة قيس سعيد- في متابعة وتحليل سير العملية الانتخابية التشريعية المقرر إجراؤها في اليوم الموالي، والتي تُعتبر الأولى من نوعها منذ انقلاب 25 جويلية 2021. وتُعتبر هذه الزيارة إلى تونس سابقة من نوعها. وإن كانت مهمة أعضاء الوفد لا تختلف عن مهمة أسلافهم من الأوروبيين، فإن سياق زيارتهم لم يكن وليد الصدفة.
يد نحو الشرق وإعراض عن الغرب؟
في اليوم السابق لوصول الوفد الروسي، نشر البرلمان الأوروبي بيانًا يُعلن فيه أنه خلافًا لما عهده، "لن يراقب سير العملية الانتخابية" المقرر تنظيمها في غضون ديسمبر 2022 على عكس سابقاتها عندما راقب أعضاؤه انتخابات 2011 و 2014 و 2018 و 2019.
موقف إن دل على شيء فإنما يدل على تعمق القطيعة بين قيس سعيد وشركائه الغربيين الذين ما فتئوا ينتقدون الطريقة التي ينتهجها الرئيس لإدارة دواليب الدولة. وقد أعرب وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في جويلية 2022 عن انشغاله بشأن "تآكل احترام المعايير الديمقراطية" في تونس في علاقة مع ضعف إقبال الناخبين على التصويت على مشروع الدستور الجديد.
في نفس الموضوع
شهدت الأشهر الموالية موجة من الانتقادات الموجهة من الجانبيْن الأمريكي والأوروبي على حد السواء إزاء استبداد قيس سعيد. من ذلك على سبيل المثال حينما أعربت الحكومة الألمانية عن "عميق قلقها" بشأن موجة الاعتقالات المسجلة في شهر فيفري 2023، بينما تبنى البرلمان الأوروبي بعد شهر من ذلك قرارا يشجب فيه ما وصفه بـ "الانجراف الاستبدادي للرئيس سعيد".
ذهبت الخارجية الفرنسية إلى التأكيد على "تمسكها بحرية التعبير" كردة فعل على اعتقال راشد الغنوشي يوم 20 أفريل الماضي، بالرغم من أن فرنسا دأبت - شأنها شأن إيطاليا - على تبني موقف تصالحي حيال حكومة قيس سعيد: "هنالك دولتان لا يمكننا الحديث عن قطيعة معهما: فرنسا وإيطاليا"، كما يوضح سليم اللغماني، أستاذ القانون في جامعة تونس ومؤلف العديد من الكتب المختصة في القانون الدولي.
"الطرف الإيطالي بالذات يمارس حاليا ضغطا شديدا على الاتحاد الأوروبي، لا فقط لتفادي قطيعة محتملة بل كذلك لدفع دعمه لتونس."
يرى رجل القانون أن الاتحاد الأوروبي إذا برهن إلى حد الآن عن موقف متوازن دون اتخاذ أي عقوبة، فذلك لأن بروكسل والدول الأعضاء لن تسمح لنفسها بالتنكر للحكومة التونسية. "بشكل عام، إذا تعارضت المبادئ والمصالح فإن الغلبة تكون للمصالح" يعلّق الأستاذ. "ولذا، يتم تبني موقف وسطي من خلال الإعراب عن الانشغال بشأن تطور الأوضاع السياسية في تونس ولكن مع الأخذ في الحسبان ضرورة تفادي أي انهيار اقتصادي من شأنه زعزعة استقرار الاتحاد الأوروبي".
في نفس الموضوع
في المقابل، كثفت الحكومة التونسية من التصريحات التي تستهدف الحلف الغربي مباشرة مع تبني خطاب مناهض للإمبريالية. ففي رده على الانتقادات الأمريكية والأوروبية التي طالت تنظيم الاستفتاء، أكد قيس سعيد في عدة تصريحات في أفريل و ماي 2022 تمسكه بمحاربة "التدخل في الشأن الداخلي بأي شكل من الأشكال".
وقد تم مؤخرا تكرار مثل هذا الخطاب في انتقاد صريح لصندوق النقد الدولي الذي تتفاوض معه تونس حاليا سعيا للحصول على قرض بقيمة حوالي ملياري دولار. وكان قيس سعيد قد ندد لدى لقائه برئيسة الحكومة نجلاء بودن في فيفري 2023 بـ"نهب" البلاد من قبل دائنيها، وشجب بـ "إملاءات" و "شروط" صندوق النقد الدولي في الخطاب الذي ألقاه بالمنستير يوم 6 أفريل.
في نفس الموضوع
لم يكتف موقف رئيس الدولة تجاه كل من بروكسل وواشنطن بمستوى الخطابات، بل تعداها إلى اتخاذ إجراءات ملموسة تستهدفهما. وتبلور ذلك مثلا من خلال اتهام العديد من المعارضين·ـات في فيفري 2023 بالتآمر ضد أمن الدولة على إثر لقائهم بثلة من الدبلوماسيين الأمريكيين والفرنسيين والإيطاليين، علاوة على طرد الأمينة العامة للاتحاد الأوروبي للنقابات بسبب "تدخلها السافر" على إثر مشاركتها في احتجاج نظمه الاتحاد العام التونسي للشغل.
في هذا السياق، يطرح التقارب مع شركاء دوليين جدد العديد من التساؤلات. كما أن سعي تونس للحصول على دعم من بلدان خارج أوروبا أو الولايات المتحدة ليس وليد اللحظة. فقد عملت البلاد خلال السنوات الأخيرة مثلا على تكثيف جهود التعاون مع كل من المملكة العربية السعودية و قطر و تركيا ومن ذلك توقيع اتفاقية تعاون عسكري على غاية من الأهمية مع أنقرة سنة 2017.
ورغم ذلك، فإن توطيد العلاقات مع مثل هذه الدول لا يؤرق الغرب بقدر ما يفعله التقارب مع موسكو. فحتى قبل اندلاع الحرب في أوكرانيا، انتقدت العديد من القوى الأوروبية – وعلى رأسها فرنسا – تغلغل النفوذ الروسي في العديد من البلدان الإفريقية. و أبدى الغرب منذ بداية الصراع في أوروبا تخوفا من التملّق الذي يُبديه بعض رؤساء الدول الأفريقية لروسيا، من قبيل ما يفعله رئيس المجلس العسكري بمالي أسيمي غوتا ورئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا.
من جانبها، عززت حكومة قيس سعيد المكانة التي تتبوأها روسيا في سياستها الدبلوماسية، مثلما يشهد على ذلك فحوى المحادثة الهاتفية المجراة في أواخر شهر مارس 2023 بين وزيري خارجية البلدين، وقد شدّدا فيها على أهمية تعزيز "سبل التعاون الثنائي" بحسب تغريدة وزير الخارجية التونسي نبيل عمار. وكان من المقرَر أن تستقبل السلطات نظيره الروسي، سيرجي لافروف، في مطلع شهر فيفري 2023 قبل أن يقع إلغاء الزيارة في آخر لحظة تحت غطاء "أسباب أمنية". يذكّرنا سليم اللغماني في هذا الصدد بما تداولته الصحافة من "ضغط أمريكي على تونس" وهي فرضية يعتبرها الأستاذ ذات مصداقية ودالّة على "حركة وقائية من طرف الولايات المتحدة".
إلى جانب ذلك، يتجلى تعميق أواصر العلاقات مع روسيا من خلال تعزيز التعاون الاستراتيجي في مجال الطاقة. ومما يؤكد متانة التعاون في هذا المجال هو التزايد المطرد المسجّل خلال الأشهر الأخيرة على مستوى الواردات التونسية من المنتجات النفطية الروسية في حين أن كمية هذه الواردات كانت محدودة إلى غاية العام الماضي. حيث استوردت تونس على سبيل المثال نحو 77.000 برميل من الديزل الروسي يوميا في فيفري 2023 أي ما يمثل ثلاثة أضعاف وارداتها بعنوان كل من الشهرين السابقين.
اعتماد تونس على الإنتاج الروسي في مزيجها الطاقيّ يُسهم كذلك في تعزيز صمود اقتصادٍ روسي واقعٍ تحت مطرقة العقوبات الغربية. هذا وإن كانت تونس لا تُعتبر وجهة تصدير على نفس القدر من الأهمية مقارنة بالهند أو الصين مثلا، فإنها تسهم لا محالة في تنويع قائمة حرفاء الاقتصاد النفطي الروسي.
أنظار روسية تتجه نحو تونس
بالنسبة للكرملين، يُعتبر قيس سعيد شريكا فريدا من نوعه وغير مسبوق من وجهة نظر تاريخية. ذلك أن تونس كانت عبر التاريخ بلدا غير منحاز ولكن معاديا للنظام السوفييتي تحت حكم بورقيبة، قبل أن تتحول إلى بلد موالٍ للولايات المتحدة في عهد بن علي، وظلت لفترة طويلة منغلقة على التعاون مع روسيا.
المنعرج اللافت في العلاقات التونسية الروسية تطور في أعقاب الثورة حين بدأت تبرز بوادر تقارب محتشم مع روسيا. وتعود أول زيارة رسمية يؤديها وزير الخارجية الروسي إلى تونس إلى سنة 2014 لكن دون إقامة شراكة ذات أهمية تُذكر. ومع تقلد قيس سعيد الحكم، أصبحت تونس منفتحة على موسكو أكثر من أي وقت مضى وهو ما من شأنه تحقيق طموحات روسيا في المنطقة.
يجدر التذكير هنا بأن روسيا تطمح منذ سنوات عدة إلى بسط نفوذها في منطقة المغرب العربي. وقد سجّلت بالفعل حضورها على الحدود التونسية، باعتبارها شريكا استراتيجيا بامتياز للجزائر منذ الحرب الباردة دون أن يشوب العلاقة بين البلدين أي فتور يُذكر مذّاك. ففي أكتوبر 2021، دُعيت القوات الجزائرية للمشاركة في مناورات عسكرية في أوسيتيا الشمالية الواقعة على حدود المنطقة الانفصالية الموالية لروسيا والتي خاضت موسكو من أجلها حربًا ضد جورجيا سنة 2008. كما كان الجنود الجزائريون الأفارقة الوحيدين المشاركين في تدريبات "فوستوك-2022" المنظمة في سيبيريا في شهر سبتمبر 2022.
في نفس الموضوع
روسيا حاضرة كذلك على الجانب الآخر من الحدود، وتحديدا في شرقي ليبيا، حيث يدعم مرتزقة مجموعة فاغنر قوات المشير حفتر. وسواء في المغرب العربي أو في أي مكان آخر، تعتمد موسكو أساسا على قوتها العسكرية لتوطيد علاقاتها وذلك من خلال تقديم خدمات شركاتها العسكرية الخاصة، و تدريب القوات المسلحة التابعة لشركائها من الدول، وترويج معداتها العسكرية. فأضحت روسيا بذلك المزود الرئيسي للأسلحة في إفريقيا حيث استحوذت على 40٪ من إجمالي الواردات من السلاح في القارة خلال الفترة الممتدة بين 2018 و 2022.
وبالعودة إلى تونس، فإن التعاون بين البلدين لم يكتسِ هذه الصبغة بعدُ. حيث أن شراكة عسكريةً مع روسيا من شأنها أن تؤدي إلى انقلاب شامل للمنظومة القائمة وأن تجعل من موسكو حليفًا رئيسيًا، وهو أمر غير وارد حاليا. "مثل هذه الخيارات تؤخذ بترو" يقول لنا سليم اللغماني الذي يعتبر أن مثل هذه الاتفاقية "قرار شائك للغاية". لكن ذلك لا ينفي حقيقة أن روسيا بدأت تبسط نفوذها في البلاد شيئًا فشيئًا.
يتجلى ذلك أولا على الصعيد الثقافي مع سعي موسكو إلى تلميع صورتها في تونس. فعلى سبيل المثال، كان البيت الروسي في تونس، وهو مركز ثقافي تحت رعاية السفارة، يركز أنشطته حتى وقت قريب على تلقين اللغة الروسية قبل أن يشرع ابتداءً من العام الماضي في توسيع أنشطته لا سيما في الوسط التربوي. ويؤكد ذلك مترجم تابع للبيت الروسي بقوله: "هنالك توجه نحو تكثيف جميع أنشطتنا الثقافية".
في هذا الإطار، دأب البيت الروسي منذ شهر جانفي على تنظيم زيارات تستهدف تلاميذ المعاهد الثانوية من متلقي دروس في اللغة الروسية. وتساهم هذه الأنشطة الموجهة للتلاميذ بطبيعة الحال في تعزيز التعاون الأكاديمي، علما وأن البيت الروسي يوفر مساعدة للطلاب والطالبات الراغبين.ات في الحصول على منح للدراسة في روسيا. وهو ما يؤكده لنا أحد الموظفين بابتهاج قائلا أن " عدد المنح الدراسية بلغ 40 منحة لهذا العام مقابل 17 منحة سابقا".
ويشدد البيت الروسي على كونه مؤسسة "غير سياسية" ولا يتلقى سوى "القليل من التوجيهات" من السفارة. ومع ذلك، يبدو أعضاؤه واعين بحقيقة اندراج أنشطتهم في سياق سياسي معين - وملائم. يوضح المترجم التابع للبيت الروسي أن "الوضع الاقتصادي العالمي وضع أوروبا في مأزق ومن حق تونس أن تبحث عن شركاء آخرين خدمة لمصالحها إدراكاً منها أنه لا يوجد قطب واحد في هذا العالم، بل عدة أقطاب".
ويواصل قائلاً: "نحن نسعى إلى مساعدة أصدقائنا التونسيين لاكتساب مهارات لغوية ولكن كذلك إلى تعريفهم بالموروث الحضاري والتاريخي والثقافي الروسي"، مضيفا أن "هدف البيت الروسي لا يقف عند تكوين متحدثين باللغة الروسية ولكن يصبو كذلك إلى تكوين روسوفيليين [محبّين لروسيا]".
يؤكد ممثل البيت الروسي "إن الجمهور التونسي واع تمام الوعي بمكانة روسيا في العالم، ويعرف جيدا أنه على تونس تنويع مراكز اهتمامها [...] ويسرنا أن نرى أن التونسيين يميلون إلى روسيا ليس فقط لاعتبارها مركز قوة" .
وتُعتبر السياحة رافعة أخرى غير مباشرة للتقارب الثقافي بين البلدين، حيث أسهم السياح الروس في إنقاذ القطاع السياحي على إثر الهجوم الذي جد عام 2015 وهجْر الأوروبيين للفنادق التونسية.
وتشهد السياحة الروسية الخارجية حاليا انتعاشة بعد أن سجلت انتكاسة بسبب انتشار وباء كوفيد-19 إلى جانب إيقاف جميع الرحلات الجوية التجارية تقريبًا لدى اندلاع الحرب في أوكرانيا. وكانت شركة الطيران الوطنية الروسية "إيروفلوت" قد أعلنت عن استئناف رحلاتها المتجهة إلى مطار النفيضة-الحمامات اعتبارًا من 30 ماي 2023.
في نفس الموضوع
يمكن كذلك لموسكو الرهان على سياستها الدبلوماسية التقليدية لترسيخ نفوذها في تونس. وقد اتخذت بالفعل خطوة في هذا الاتجاه مع مبادرتها بتعويض السفير السابق سيرجي نيكولاييف بدبلوماسي آخر في جانفي 2022. يُعتبر سيرجي نيكولاييف الذي تقلد منصبه منذ سنة 2015 متحفظا نسبيًا. ومن بين الإنجازات الأخيرة المحسوبة له مرافقة الشراكة بين البلدين في مجال الفضاء خصوصا من خلال إطلاق أول قمر صناعي تونسي "تحدي 1" (Challenge One) من ميناء بايكونور الفضائي الروسي في مارس 2021.
ويبدو السفير الروسي المعيّن حديثا، ألكسندر زولوتوف، أنسب منه لتحقيق التقارب المنشود مع حكومة قيس سعيد. هذا السفير الجديد يتقن اللغة العربية وخبير بمنطقة المغرب العربي، كما شغل سابقا منصب سفير روسيا الاتحادية في الجزائر بين عامي 2011 و 2017. ومنذ تقلد منصبه في تونس، لم يتوان عن القيام بعدة أنشطة ذات رمزية جديدة كما يتجسم ذلك من خلال تدشين نصب تذكاري للجنود الروس الذين شاركوا في الحرب العالمية الأولى في منزل بورقيبة في شهر مارس الماضي وهو نصب فريد من نوعه في شمال إفريقيا.
كما أن من بواعث ابتهاج روسيا اصطفافُ تونس تدريجيا وراء البعض من مصالحها الإقليمية، ومن ذلك قرار قيس سعيد إعادة العلاقات الدبلوماسية مع سوريا في مطلع العام بعد انقطاعها منذ فيفري 2012، وهي خطوة تتماشى مع مصالح الكرملين في العالم العربي.
وتسعى موسكو بالفعل إلى تطبيع العلاقات بين حليفها بشار الأسد والدول الأخرى في المنطقة، مثلما يشهد على ذلك اللقاء المنظّم بين الوفدين السوري والتركي في روسيا في أواخر شهر أفريل. ثم جاء قرار إعادة دمج سوريا بجامعة الدول العربية في 7 ماي 2023 فرحبت به الدبلوماسية الروسية مشيرة إلى أنها "لم تتوقف عن دعوة العواصم العربية إلى إعادة العلاقات مع دمشق بصفة كلية".
حملة الكرملين الدعائية في تونس كما في أي بلد إفريقي آخر
تعتمد روسيا على استراتيجيتها الاتصالية لتبليغ صوتها في تونس مثلما تفعله في منطقة الساحل أو في إفريقيا الوسطى. فمنذ عدة أسابيع، لجأت وكالة الأنباء الحكومية، سبوتنيك، إلى تكثيف المنشورات التي تشير إلى تونس بشكل مباشر أو غير مباشر.
خلافا لوسائل الإعلام الغربية الدولية الأخرى التي ترتبط وتيرة منشوراتها المتعلقة بتونس بالمستجدات الوطنية، تميزت سبوتنيك مؤخرا بتكثيف مقالاتها ذات الصلة على إثر تصريحات قيس سعيد المعادية لصندوق النقد الدولي، متجاوزة بذلك ولأول مرة عدد المقالات التي نشرتها فرانس 24 بخصوص تونس خلال شهر أفريل 2023.
"قد يكون تواتر المستجدات في تونس هو الذي أملى هذا التوجه" يرجّح كمال لواج، الصحفي والمراسل الروسي الجزائري لدى الوكالة منذ حوالي سبع سنوات. ويكرس الصحفي نفسه منذ سنة لـ سبوتنيك إفريقيا، النسخة الناطقة بالفرنسية للموقع. ووفقًا له فإن الوكالة كانت في السابق تستهدف بالأساس الجمهور الفرنسي أو البلجيكي، غير أنها اختارت إعادة توجيه محتواها إلى القراء الأفارقة الناطقين بالفرنسية، على إثر منعها من البث في أوروبا لدى اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية.
يؤكد الصحفي أنه "يتم التركيز [على تونس] من حين إلى آخر باعتبار الحضور الروسي في المنطقة المغاربية منذ أمد بعيد، علاوة على الشراكة الاستراتيجية التي تجمع روسيا بالجزائر فضلا عن علاقاتها الممتازة مع تونس".
يتم تناول المستجدات التونسية وتحليلها من زاوية معينة. فعلى سبيل المثال، تمت دعوة المؤرخ الحبيب الكزدغلي يوم 9 أفريل الفارط للحديث حول إحياء الذكرى الخامسة والثمانين لعيد الشهداء. واغتنمت سبوتنيك الفرصة لتقديم احتجاجات عام 1938 على أنها "أحداث يجب أن تُلهم النضال الحالي من أجل عالم متعدد الأقطاب".
في نفس الموضوع
كما دأبت سبوتنيك إفريقيا في منشوراتها على استهداف الحلف الغربي دون مواراة حيث نشرت يوم 13 أفريل فحوى مقابلة مع ضابط سابق في الحرس الوطني التونسي يصف فيها دعم الناتو العسكري لأوكرانيا على أنه "كابوس بالنسبة لإفريقيا".
"يجب أن نضع نصب أعيننا أن سبوتنيك وكالة عمومية. نحن نتبع الحكومة، وبالأساس وزارة الخارجية الروسية. وبالتالي فإن الخط التحريري يعكس مبادئ السياسة الخارجية والدبلوماسية الروسية" يقول كمال لواج.
سبوتنيك ليس الأداة الوحيدة التي توظفها روسيا في القارة الإفريقية، إذ توظّف أيضا القناة الإخبارية "روسيا اليوم" (RT) التابعة للكرملين والتي أطلقت أيضًا بوابة الكترونية كما عينت مؤخرا، في ديسمبر 2022، مراسلة صحفية في تونس. غير أن قناة "روسيا اليوم" المحظورة في أوروبا، معروفة بتقديم مادة إعلامية عشوائية وحتى مضللة.
على سبيل الذكر، نُشر يوم 24 مارس مقال على النسخة الإنجليزية للموقع مفاده اكتشاف "حقول جديدة للنفط والغاز" في شمال إفريقيا، لا سيما في سواحل بنزرت وتونس. غير أن المعلومة كانت مستقاة من تقرير صادر عن هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية ومعروفة لدى العموم منذ عدة سنوات. وتم تصحيح المقال في اليوم الموالي.
تصحيح جاء بعد فوات الأوان، حيث تم تداول المعلومة من قبل مواقع الأخبار الليبية ثم سبوتنيك إفريقيا قبل أن تنتشر على شبكات التواصل الاجتماعي التونسية مثل فيسبوك و تويتر. وقد استهدفت العديد من التعليقات على المعلومة المذكورة القوى الغربية، لا سيما منها فرنسا والولايات المتحدة. "الغرب والولايات المتحدة سوف يخترعون حربًا لنهب هذه الموارد" كما جاء في إحدى التعليقات الساخرة.
الحضور الفرنسي في إفريقيا - والذي يبلور امتعاض الأهالي في عدة مستعمرات سابقة للقارة - يقع في مرمى نيران وسائل الإعلام الروسية بدرجة أولى، لا فقط في تونس وإنما في إفريقيا بأسرها. حيث كثف موقع "روسيا اليوم" -على مدى عدة أشهر في نسخته الفرنسية- من المنشورات المناهضة للفرنسيين في منطقة الساحل، سواء في علاقة بمالي أو النيجر أو بوركينا فاسو.
وبالتالي فإن تونس تندرج ضمن استراتيجية شاملة ينتهجها الكرملين في إفريقيا الفرنكوفونية. وقد نجحت هذه الاستراتيجية في وقت قصير في تأليب بعض البلدان المرتبطة تاريخيا بفرنسا ضدها، وتوجّه هذه الدول إلى عقد تحالفات وثيقة مع روسيا خصوصا في المجال الأمني، مثلما هو الشأن في إفريقيا الوسطى و مالي.
وتهدف القمة الروسية الإفريقية القادمة والمقرر عقدها في سانت بطرسبرغ في غضون شهر جويلية 2023 إلى تعزيز مجالات التعاون مع دول القارة. غير أنه لم يتم بعدُ تأكيد مشاركة قيس سعيد أو أعضاء حكومته فيها.
تشبث راسخ بالغرب؟
يبدو اصطفاف تونس خلف روسيا بالكامل أمرا عسيرا في الوقت الراهن وذلك لعدة اعتبارات، أولها الجانب المالي: في سنة 2019، كان البنك الدولي يتصدر قائمة المانحين الماليين للبلاد بـ 9.5 مليار دينار، يليه البنك الإفريقي للتنمية (7,7 مليار دينار) فصندوق النقد الدولي (4,9 مليار دينار).
وحتى بالنسبة للقروض الثنائية، تتصدر كل من فرنسا (2,6 مليار دولار) والمملكة العربية السعودية (ملياري دولار) قائمة شركاء تونس بدون منازع. وفي الوقت الذي يحاول فيه رئيس الدولة إيجاد مقرضين جدد، يبدو أن الاقتصاد الروسي الذي أنهكته الحرب عاجز عن تقديم بديل عملي. يصرح سليم اللغماني في هذا الصدد: "ما عليك سوى أن تنظر إلى قيمة الناتج الداخلي الخام الروسي".
كما يذكر المحامي بحقيقة أنه "في الوضع الراهن روسيا نفسها هي التي تحتاج إلى الدعم!"
مع ذلك، قد يتأتى البديل عن الغرب من الصين التي تتفوق على موسكو في مجال القطاع المالي في إفريقيا، لا سيما وأن حضورها في تونس يعود إلى عدة سنوات مضت. فبكين تقف مثلا وراء العديد من المشاريع الضخمة في تونس، سواء في قطاع العقارات أو البنية التحتية، ومن ذلك سد وادي ملاق الحديث بالكاف الذي شُرع في إنجازه سنة 2016 ومن المنتظر انتهاء أشغاله في سبتمبر 2023.
كما أن الصين تحرز حاليا تقدما على الصعيد الثقافي والسياسي كما يتجلى من خلال افتتاح معهد كونفوشيوس (الذي تحتضنه جامعة قرطاج) في عام 2019 والذي يُسهم في الترويج للثقافة الصينية مع التركيز على التكوين اللغوي. أما على الصعيد الدبلوماسي، فقد التقى قيس سعيد بـ شي جين بينغ لأول مرة على هامش القمة الصينية العربية الأولى المنعقدة بالرياض في ديسمبر 2022.
برزت بكين مؤخرا كمنافس شرس مباشر لشركاء تونس المنضوين تحت لواء الحلف الغربي. فبعد قرار البرلمان الأوروبي المذكور آنفا، شدد السفير الصيني في تونس على رفضه لأي شكل من أشكال "التدخل" في البلاد، مستلهما من العناصر الخطابية المأثورة لدى قيس سعيد. وقد صنفت الولايات المتحدة الحضور الصيني في القارة الإفريقية كمصدر تهديد لها منذ عدة سنوات.
من جانب آخر، حتى وإن أطنبت وسائل الإعلام الروسية مثل سبوتنيك في التعليق على "انضمام تونس إلى مجموعة بريكس*" التي تنتمي إليها كل من بكين وموسكو، فإن الحصول على قرض ما يزال بعيد المنال. وبسؤاله حول انضمام تونس إلى شراكة بريكس، رد المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية ببساطة أن الهدف يتمثل في "العمل المشترك على توسيع عضوية بريكس".
تتناقض هذه الوتيرة مع حاجة حكومة قيس سعيد الملحة للتمويلات بغرض إعادة توازن المالية العمومية. ويشدد سليم اللغماني على عجز مجموعة بريكس عن اقتراح حلول قائلا "لا يمكن في الوضع الراهن لمجموعة بريكس أن تمثل بديلاً سواء لصندوق النقد الدولي أو للاتحاد الأوروبي".
كما يوضح المحامي أن "مجموعة بريكس كيان ليس بالتجانس الذي قد يُخيّل لنا. إننا نغالي في تقدير أهميتها".
في نفس الموضوع
وحتى في صورة إقامة تونس لعلاقات مع شركاء جدد خارج المعسكر الغربي مستقبلا، من المرجّح أن يظل التعاون المرتبط بالمسائل السيادية موضع شك. إذ لا يُبدي قيس سعيد أي تردد لقبول الدعم المقدم من قبل إيمانويل ماكرون وجورجيا ميلوني فيما يتعلق بمسألة تأمين الحدود. حتى أن وزير الداخلية الإيطالي، ماتيو بينتيدوسي، أعلن في أوائل أفريل عن تخصيص دوريات بحرية وبرية مشتركة سعيا لوقف تدفقات الهجرة.
أما بالنسبة للقضايا المتعلقة بمجال الدفاع، فإن الولايات المتحدة تظل أبرز شريك للقوات المسلحة التونسية. إذ تواصل الشركات العسكرية الأمريكية تنفيذ عقود التسليح المبرمة مع الجيش ، مثل ما يدل على ذلك تسليم ثماني طائرات من طراز تكسان II من (تصنيع شركة بيتشكرافت) للقاعدة الجوية بصفاقس في نوفمبر الماضي، مع تدريب طياري القوات الجوية في كانساس الأمريكية. وفي وقت سابق من نفس السنة، في شهر جوان تحديدا، احتضنت البلاد أيضًا جزءًا من المناورات العسكرية المشتركة المسماة "الأسد الإفريقي" (African lion) التي نظمتها قوات الأفريكوم الأمريكية تحت شعار "معا أقوى".
لكن هنالك نقطة تلقي بظلالها السلبية على العلاقات التونسية الأمريكية: قرار خفض المساعدات الممنوحة لتأمين الحدود على خلفية توتر العلاقات مع حكومة قيس سعيد. فمثل هذا القرار وما يعنيه من إضعاف تموقع الولايات المتحدة كشريك لا غنى عنه في مجال الدفاع، من شأنه أن يفتح الباب على مصراعيه أمام شركاء آخرين. "الطبيعة تكره الفراغ" يذكّرنا المحامي سليم اللغماني، موضحا أنه وبالرغم من ذبول شراكتهم مع تونس، فإن "الأمريكيين غير مستعدين لإفساح المجال لروسيا" في البلاد خصوصا في الوقت الحاضر.