بين مربعات الصور كتب والد هيرمان عبارة جاء فيها: "تذكروا دائما أخاكم العزيز هيرمان الذي مات بطلا في إفريقيا. أصيب في 22 فيفري 1943 وتوفي في المستشفى الميداني في السابع والعشرين من نفس الشهر.
أسفل هذا النص صورة لقبر هيرمان وهو عبارة عن صليب خشبي بسيط يحمل اسمه وتاريخ ميلاده ووفاته، محاطا بثلاثة أواني زهور موضوعة على أرضية مغبرّة. التقطت هذه الصورة في صفاقس أين دُفن هيرمان بعد أن مات متأثرا بجروحه الناجمة عن شظايا أصابته أثناء القتال على مقربة من القصرين.
كان هيرمان فرانز عمي الأكبر. انضم إلى 170.000 جندي ألماني للقتال في تونس خلال الحرب العالمية الثانية وهو واحد من أكثر من 8500 لقوا حتفهم هنا. عندما كنت جالسة في غرفة معيشة عمتي، أتأمل صور هيرمان، راودني سؤال عما كان يفعله الجنود الألمان بمن فيهم عمي الأكبر في تونس خلال الحرب العالمية الثانية؟ وكيف أثّر ذلك على حياة التونسيين والتونسيات في ذلك الوقت؟
كيف أُقحم شمال إفريقيا في الحرب العالمية الثانية؟
"أعزائي! تحياتي الحارة من إفريقيا. لقد وصلنا إلى وجهتنا. توقعنا أن يكون الجو حارا جدا هنا لكننا شعرنا بخيبة أمل حيث لا يزال بإمكاننا ارتداء المعاطف. نحن حاليا في انتظار أن يأتوا لنقلنا. إلى يسارنا نرى الماء وإلى يميننا الحجارة والرمل على مد البصر". هكذا وصف هيرمان فرانز في رسالة إلى عائلته في أوائل ماي 1942 الوقت الذي نزل فيه هو ووحدته في ليبيا.
أُرسل الجنود الألمان إلى شمال إفريقيا بشكل أساسي لدعم حليفتهم إيطاليا التي دخلت الحرب في جويلية 1940 إلى جانب ألمانيا ضد بريطانيا وفرنسا بعد أن أعلن الديكتاتور الفاشي بينيتو موسوليني عن هدفه في جعل إيطاليا قوة عالمية عظمى من خلال توسيع مستعمراتها إلى دول مثل مصر وتونس.
ولتحقيق ذلك الهدف، شنت إيطاليا هجوما كبيرا في سبتمبر 1940 ضد قوات الكومنولث البريطانية المتمركزة في مصر. هُزم موسوليني وجيشه بسرعة خاطفة. فاضطر أدولف هتلر إلى إرسال قوات ألمانية إلى طرابلس في فيفري 1941 درءا لانهيار حليفه الإيطالي. تبع ذلك عامان من الاقتتال شارك فيه عمي الأكبر هيرمان في شهر ماي 1942. ولم تكد تمضي ستة أشهر حتى هُزم تحالف المحور المكوّن من القوات الألمانية والإيطالية شرّ هزيمة على يد بريطانيا في معركة العلميْن بمصر.
لفترة وجيزة بعد ذلك، كان هيرمان يأمل في العودة إلى بيت ذويه وقد كتب في إحدى رسائله المؤرخة في 22 نوفمبر 1942:
"من المضحكات المبكيات في كل ذلك هو أننا كنا نتوقع إجلاءنا من إفريقيا في الأيام القليلة المقبلة. لم أكتب إليكم أي شيء لأنني أردتها أن تكون مفاجأة. لكن الآن من المرجّح ألا يحدث ذلك. تم تغليف كل شيء بعناية بما في ذلك أطعمة جيّدة، لكن حُرِق كل شيء. لم يبق لدي سوى بعض البطانيات ومعطفي والملابس التي على ظهري".
أوضح لي المؤرخ العسكري بيتر ليب المختص في تاريخ ألمانيا النازية والحرب العالمية الثانية أنه وعلى الرغم من وجود خطط للانسحاب المؤقت من شمال إفريقيا، إلا أن هيرمان من المرجح أنه لم يكن على علم بهذا القرار."أنا مقتنع بأن عمك الأكبر لم يتم إبلاغه بذلك ولكن كما هو الحال في كل الجيوش، تنتشر الشائعات فيها كالنار في الهشيم. الجيوش هي أكبر صانعي الشائعات في العالم".
تونس ساحة حرب
في نفس وقت الهزيمة التي تكبدها المحور في العلمين المصرية، أطلق الحلفاء عملية الشعلة من خلال إنزال 107.000 جندي بريطاني وأمريكي في المغرب والجزائر ومن ثم تم نقلهم بسرعة في اتجاه تونس. كان انتصار الحلفاء في شمال إفريقيا خطوة ضرورية لضمان هزيمة الرايخ الألماني في المستقبل. وفي المقابل، مثلت عملية الشعلة كارثة استراتيجية بالنسبة إلى هتلر وموسوليني لأنها كانت تهدد غرب البحر الأبيض المتوسط بأكمله انطلاقا من الجنوب.
يخبرني المؤرخ ليب أنه "لو استولى الحلفاء على شمال إفريقيا لما تطلبهم الأمر كثيرا للنزول في جنوب إيطاليا، مما كان يمثل تهديدا للأراضي الإيطالية". ولذلك كان هدف المحور يتمثل في إبقاء الجنود البريطانيين والأمريكيين بعيدا عن تونس قدر الإمكان.
وهكذا، اعتبارا من نوفمبر 1942 "أرسل الألمان والإيطاليون إلى تونس كميات مذهلة من العتاد والجنود" مثلما يوضح بيتر ليب. ونُقل ما مجموعه 137.000 جندي ألماني و 40.000 جندي إيطالي و 495 دبابة وحوالي 975 قطعة مدفعية إلى تونس بين شهري نوفمبر 1942 وأفريل 1943.
في الوقت نفسه، أي في نوفمبر 1942، بدأ الجيش العرمرم بقيادة ثعلب الصحراء المشير إرفين رومل ينسحب غربا عبر ليبيا حتى بلغ الحدود التونسية بين منتصف وأواخر جانفي 1943.
وبينما كانت ألمانيا وإيطاليا منكبّتين على إرسال التعزيزات إلى شمال تونس، دخل رومل بجيشه من جنوب البلاد. وكان عمي الأكبر هيرمان أحد هؤلاء وقد كتب إلى عائلته في 29 جانفي 1943 قائلا:
"وصلنا إلى تونس وليبيا الآن بحوزة تومي*. أنا على يقين من أنكم امتعضتم جميعا عندما سمعتم أنه تم إخلاء طرابلس. لقد كنا نتوقع هذا لفترة طويلة. المنطقة الممتدة من أليكوراتا * إلى طرابلس ساحرة الجمال. شعرنا بارتياح كبير هناك. في تونس أيضا ليس لدينا ما نشكو منه. الوضع يتحسن بمرور الأيام. لا يمكنكم تخيّل كم هو جميل أن تعود إلى منطقة توجد فيها مدن حقيقية والأرض فيها مغطاة بالنباتات بعد العيش في الصحراء لزمن طويل".
أصبحت تونس بين 17 نوفمبر 1942 و 13 ماي 1943 مسرحا لمعركة كبرى من معارك الحرب العالمية الثانية. من ناحية أولى، تصادمت ألمانيا وإيطاليا مع بريطانيا وقوات الكومنولث، بينما واجهتا على الجانب الآخر الولايات المتحدة والقوات الفرنسية الحرة. لم يكن الصراع بين تحالفين فحسب بل كان أيضا بين أيديولوجيتين عالميتين: الاشتراكية القومية مع الفاشية، ضد الديمقراطية.
قوة احتلال جديدة
بوصول قوات الحلفاء والمحور إلى تونس في شهر نوفمبر 1942 كانت البلاد لا تزال تحت الحكم الاستعماري الفرنسي. لكن ذلك لم يمنع إيطاليا من إدعاء سيادتها على تونس وهو ما أراد الألمان تجنبه خشية أن يحظى الإيطاليون بشعبية كبيرة لدى السكان التونسيين والتونسيات.
لكن ألمانيا لم تبدُ مهتمّة بالاحتلال المباشر للبلاد. "كانت أولوية الجيش الألماني هي المعارك وكسب الحرب. لم يكن يسعهم الوقت لممارسة السياسة. كل شيء يحدث في ساحة المعركة" يخبرنا فيصل الشريف، أستاذ التاريخ العسكري بجامعة منوبة ومؤلف أطروحة عن الحرب العالمية الثانية. وهكذا -بدلا من احتلال البلاد مباشرة- وضعت ألمانيا الإدارة الاستعمارية الفرنسية تحت سطوتها و "بسط الألمان لمدة ستة أشهر حكمهم على تونس" مثلما يوضح الأستاذ.
حظي المحتلّ الجديد بشعبية كبيرة بين السكان التونسيين·ـات. "ربما لم يُنظر إلى الألمان كمحررين ولكنهم بالنسبة لجزء كبير من السكان كانوا يمثلون قوة قد تبشر بنهاية الاستعمار. الألمان هم خصوم البريطانيين والفرنسيين، وعدو عدوي صديقي إذا جاز التعبير".
عاش هيرمان ذلك أيضا وكتب عنه في رسالة أرسلها من تونس إلى عائلته: "العرب يحبوننا كثيرا ويستقبلوننا بحفاوة كبيرة أينما حللنا".
استخدم الألمان شعبيتهم بين السكان المحليين لاستهداف البريطانيين والفرنسيين بشكل غير مباشر من خلال البروباغندا. ووفقا لفيصل الشريف كانت الرسالة الموجهة للناس تتلخّص في: "نحن لا نحاول استعماركم. نحن هنا من أجل هزيمة القوات الفرنسية والبريطانية والأمريكية فحسب". انضم حوالي 5000 رجل من الجزائر والمغرب وتونس إلى القتال على الجانب الألماني بينما قاتل آخرون إلى جانب الحلفاء في القوات الاستعمارية الفرنسية.
حياة بلدٍ مزّقته الحرب
كتب هيرمان في 21 فيفري 1942 : "أصدقائي الأعزاء! أترك ورائي أياما من المعارك الصعبة. لقي بعض الرفاق حتفهم لسوء الحظ. لكن لا مفر من القدر. لقد كنت محظوظا إلى حد الساعة وآمل أن يستمر الحظ في ملازمتي في الأيام المقبلة. (...) أردت أن أطمئنكم وأخبركم ألا تقلقوا إذا لم تتلقوا بريدا مني لفترة من الوقت. محبّتي، هيرمان" - في ما ستكون رسالته الأخيرة، حيث أُصيب بعد يوم من ذلك بجروح أودت بحياته.
كان للقتال بين الحلفاء ودول المحور في جميع أنحاء تونس عواقب كبيرة لا فقط على حياة الجنود وإنما على حياة التونسيين والتونسيات كذلك. اضطر الكثيرون إلى مغادرة بيوتهم التي دكّها القصف وتحوّل آلاف الأشخاص إلى لاجئين في بلدهم. وشُلّت حركة الناس في تونس بسبب الصراع الدائر، حيث اقتصر استعمال القطارات على نقل القوات المسلحة فقط كما شهد جزء كبير من البنية التحتية دمارا واسعا.
زيادة على ذلك، أعاقت عمليات القصف المتتالية للمدن والقرى لوجستيات النقل والعمل الميداني. ومنعت المعارك البحرية سفن التوريد من الوصول إلى تونس. فأصبحت السلع نتيجة لذلك نادرة وارتفع التضخم بشكل حاد وازدهرت السوق السوداء.
كان السعر الرسمي للكيلوغرام من الخبز آنذاك 4.40 فرنك تونسي بينما كانت نفس الكمية تباع في السوق السوداء بين 20 و60 فرنكا تونسيا. كما ارتفع سعر السكر بنسبة 3800٪ تقريبا وسعر الدجاج بأكثر من 500٪. وفي ذات الوقت، أصبح توزيع الحصص من الأغذية أكثر صرامة حيث يتلقى كل شخص 300 غرام فحسب من الخبز يوميا و نصف لتر من الزيت في الشهر.
يكتب فيصل الشريف في كتابه تونس في دوامة الحرب العالمية الثانية: "كانت الطوابير تمتد إلى ما لا نهاية أمام المحلات التجارية أين كانت تباع أحيانا بعض المنتجات، وكان الجنود بالزي العسكري يحظون بالأولوية المطلقة". بينما تشتري القوى الأجنبية التي تحتل البلد السلع القليلة المتبقية مما فاقم حالة السكان المحليين.
أدى الوضع الكارثي للحرب أيضا إلى انتشار الأوبئة مثل التيفوس* الذي تسبب في وفاة حوالي 863 شخصا بين عامي 1942 و 1943. وللمقارنة بفترة ما قبل الحرب لم تتجاوز حصيلة ضحايا هذا المرض، من عام 1935 إلى عام 1939، سوى 33 شخصا.
تدهورت مستويات المعيشة في البلاد تدريجيا بسبب نقص الوقود وقصف السكك الحديدية والطرق والموانئ ومحطات الطاقة. واضطرت المدارس إلى الإغلاق وارتفعت مستويات البطالة. كانت الطريقة الوحيدة بالنسبة للعديد من التونسيين والتونسيات لكسب بعض المال وشراء الضروريات الأساسية هي العمل لحساب الألمان والإيطاليين في تنظيف الشوارع من الأنقاض واستخراج القتلى أو الجرحى المغمورين تحت المباني المدمرة.
لا تنص اتفاقية لاهاي التي تحدّد قوانين وأعراف الحرب البرية صراحةً على حظر العمل القسري ولكنه يجب أن يتم بمقابل. وفي حين أن بعض التونسيين المسلمين كانوا يتقاضون أجورا مقابل عملهم في خدمة قوة الاحتلال الألمانية، كان الوضع شديد الاختلاف بالنسبة للتونسيين اليهود. حيث فُرضت على هؤلاء اعتبارا من 6 ديسمبر 1942 السخرة [العمل القسري] خصوصا منهم القاطنين بتونس العاصمة.
كتبت المؤرخة درصاف النهدي في أطروحتها أن "العديد من الشباب اليهود حاولوا الاختباء هربا من العمل القسري في المعسكرات الألمانية. لم يكن الأمر هينا لأن للنازيين عيون في كل مكان، ولم يفلت من قبضتهم سوى نزر قليل". ونتيجة لذلك، أجبر الآلاف من الرجال اليهود على العمل في المعسكرات الألمانية في تونس ولم يتمكنوا من الخروج منها طوال فترة الاحتلال الألماني.
لكن العديد من اليهود التونسيين·ـات وجدوا ملجأ لدى المسلمين·ـات وتمكنوا من الهروب من القمع الألماني. علما وأن الجالية اليهودية في تونس -بالإضافة إلى إجبارها على العمل لدى سلطات الاحتلال- كان عليها دفع غرامات جماعية، كما تم تحويل الكنيس الكبير في تونس إلى مستودع. وكانت الجالية اليهودية الإيطالية بتونس بمنأى عن الإجراءات التي اتخذتها السلطات العسكرية الألمانية ضد اليهود التونسيين·ـات.
رسائل هيرمان من ساحة المعركة
"أمي العزيزة، أهنئك بحرارة بعيد ميلادك. آمل أن تتعافي بسرعة وتبقي معنا لفترة طويلة. وآمل أن تتاح لنا الفرصة في العام المقبل للاحتفال بعيد ميلادك معا في سلام. أتمنى لك كل التوفيق مرة أخرى. ابنك هيرمان فرانز".
بعد بضعة أشهر من وفاة هيرمان، قام والده - أي جدي الأكبر - بنسخ جميع رسائل ابنه باليد وجمعها في كتاب. وأضاف إليها الصور التي التقطها هيرمان وقائمة بالمعارك التي شارك فيها بالإضافة إلى كل الرسائل المتعلقة بوفاته والتي أرسلها كبير الأطباء وأحد رفاق هيرمان إلى العائلة.
تذكرني الطريقة التي يكتب بها هيرمان بأخي الأصغر. هناك نوع من الخفة في الطريقة التي يصف بها الوقت والمناطق التي يمر بها. إنه يبدي اهتماما كبيرا بأفراد عائلته، يهنئهم في أعياد ميلادهم ويهنئ والدته أو جدته بمناسبة عيد الأم. وتظهر بعض الرسائل إلى أي مدى كان يفتقد المنزل والعائلة.
لكم أشعر بالأسى على هذا الشاب الذي كان يبلغ من العمر 19 ربيعا عندما أصبح جنديا وعلى العائلة التي انتُزع من أحضانها. لكن عند قراءة رسائله تخامرني أيضا أسئلة عما إذا كان صادقا، أو عما إذا كان بإمكانه أن يكون صادقا فعلا. ما مدى اقتناعه بالأيديولوجية الإجرامية التي كان يقاتل من أجلها والتي أكنّ لها كرها عميقا؟
في كتابه "الحرب في شمال إفريقيا" يتحدث بيتر ليب عن أيديولوجية الجنود الألمان مثل هيرمان في ذلك الوقت: "وجد الحلفاء ميْلاً أكبر لأفكار النظام النازي بين صفوف الجنود الألمان الذين أُسروا في شمال إفريقيا أكثر مما وجدوه لدى غيرهم لاحقا في 1944 في أوروبا الغربية. كان جنود رومل لا يزالون واثقين من النصر، أو على الأقل حتى عام 1942. ولم تفقد القومية الاشتراكية بريقها بعد بالنسبة للكثيرين منهم".
يتجلى هذا الاعتقاد بأن الحرب لم تُحسم بعد في رسائل هيرمان، على الرغم من أنه لا يتحدث كثيرا عن أفكاره حول الحرب. وبما أنه لم يبق أحد على قيد الحياة يعرف عمي الأكبر شخصيا، لا أستطيع الجزم بمدى اقتناعه بالأيديولوجية والنظام الذي قاتل من أجله. يشير الرمز البريدي لهيرمان على إحدى رسائله، بحسب ما أخبرني به بيتر ليب، إلى أن هيرمان كان جزءا من "فوج تدريب براندنبورغ"، وهي وحدة خاصة قاتلت في مؤخرة الجبهة. كما أخبرني أيضا أن الجنود في هذه الوحدة بالذات كانوا في كثير من الأحيان من المنخرطين بمحض إرادتهم.
من المحتمل أن يكون هيرمان قد تطوع للخدمة العسكرية لكن لا شيء مؤكد. إذ يكتب عمي الأكبر في إحدى رسائله إلى شقيقه الأصغر رودي لمشاركته تأملاته حول الحرب كلماتٍ يبدو من خلالها أن أمله قد خاب، كما لو أن الحرب لم تكن كما توقعها:
"أنتم الشباب ترون الحرب كأنها صليب حديدي [نوع رفيع من الأوسمة] وأوسمة فقط بسبب لامبالاة شبابكم. كل هذا البريق ليس ذهبا وقد اعتدت عليه بالفعل. سوف تتعلم درسك بالطريقة الصعبة ! لا أريد أن أبدو جبانا، لكن دعني أقل لك هذا: أي شخص يعرف الطبيعة الحقيقية للحرب يعرف ما يجري في الواقع. كن سعيدا بالوقت الذي تقضيه في المنزل، عليك أن تعترف أنني على حق في بعض الأحيان. أنت تعرف جيدا كيف كنت أشعر في السابق." - هيرمان لشقيقه الأصغر رودي، 13 أكتوبر 1942.
الهجوم الأخير
في فيفري 1943 أطلق الألمان والإيطاليون هجومهم الأخير. كانوا يعتزمون اختراق جبهة القوات الأمريكية والفرنسية من أجل التقدم أكثر نحو الشمال الغربي من تونس ونحو الجزائر. تقدمت الـ دويتشس أفريكاكوربس [Deutsches Afrikakorps]* ومن بينهم عمي الأكبر هيرمان نحو القصرين حيث وقعت معركة القصرين في منتصف نفس الشهر.
خلال هذه المعركة أصيب هيرمان في يوم 22 فيفري تحديدا بشظايا اخترقت جدار بطنه شاقّة طريقها إلى القولون. وقعت الإصابة في الشارع بين القصرين وتبسة، على بعد 15 أو 20 كيلومترا من الحدود الجزائرية. وبعد خمسة أيام، في 27 فيفري، توفي هيرمان متأثرا بجروحه في مستشفى ميداني.
تم إبلاغ والديه بوفاته في 11 مارس 1943 حتى أن والد هيرمان كتب ملاحظة عن الوقت الذي تلقى فيه الرسالة: "بين الساعة السادسة و السابعة مساء".
بُعيد وفاة هيرمان، تبادل كبير الأطباء وهو أحد رفاقه رسائل مع والده يشرح فيها ظروف موته، كما أرسل له صورا لقبره إلى جانب رسالتين كتبهما هيرمان ولم يسعفه الوقت لإرسالهما إلى عائلته. ويذكر الطبيب أن هيرمان لما كان في المستشفى الميداني "لم تكن لديه أدنى فكرة عن مدى خطورة حالته. (...) ومات معتقدا أنه يستطيع العودة إلى المنزل على متن السفينة الاستشفائية التالية وكان يتحرّق شوقا لرؤية والديه مرة أخرى".
استسلام ألمانيا وإيطاليا في تونس
بعد فشل هجومهما الأخير في القصرين، كان من الواضح أن ألمانيا لن تكون قادرة على الحفاظ على سيطرتها على تونس. استسلمت القوات الألمانية والإيطالية أخيرا في تونس في 13 ماي 1943 بعد بضعة أسابيع أخرى من القتال.
يخبرنا الأستاذ فيصل الشريف أن حوالي 90,000 شخص فقدوا حياتهم في تونس، معظمهم من جنود الحلفاء أو جنود المحور. بينما بلغ عدد ضحايا المدنيين من التونسيين والتونسيات 8000 شخص وأُسر حوالي 250.000 جندي ألماني وإيطالي من قبل الحلفاء. ووفقا لبيتر ليب كان على الأسرى العمل من بين أعمال أخرى على إعادة بناء البنية التحتية التونسية التي دمرت. حاول بعض الجنود الألمان والإيطاليون الفرار بالقوارب إلى أوروبا هربا من السجن الوشيك بينما بقي آخرون في تونس حتى إلى ما بعد الحرب. "أخفى السكان عددا منهم وكانوا يتنكرون في ملابس التونسيين حتى لا يتم التعرف عليهم".
كانت تونس بحسب بيتر ليب "منطقة صراع على غاية الأهمية" خلال الحرب العالمية الثانية. وقد تزامنت الحملة في تونس مع معركة ستالينغراد التي مثلت أول هزيمة كبرى للألمان وواحدة من نقاط التحول في الحرب العالمية الثانية. يوضح بيتر ليب كيف كان للحملة التونسية أثر غير مباشر على المعركة المذكورة: "يمكن لنا أن نذهب بالقول إلى إنه إذا نشر الألمان طائراتهم ودباباتهم في ستالينغراد بدلا من إرسالها إلى تونس، لكانت معركة ستالينغراد قد اتخذت منعطفا مختلفا".
كان للحملة تأثيرها الدائم أيضا على تونس. يتفق فيصل الشريف وبيتر ليب على أن هذه الفترة سرّعت من حركة الاستقلال التونسية. "دفن الألمان والإيطاليون أسلحة كثيرة بعد هزيمتهم حتى لا تقع بيد الحلفاء. واستخدم تونسيون كثر هذه الأسلحة خلال الانتفاضة التونسية من عام 1952 إلى عام 1954 كما تعلموا كيف يمارسون الحرب وكيف يضعون الاستراتيجيات وينفذون الهجومات".
علاوة على ذلك فإن انتصار قوة الاحتلال الألمانية، ولو لفترة قصيرة، على المستعمر الفرنسي كان له تأثير متسارع على حركة الاستقلال التونسية. "هذه ظاهرة يمكن ملاحظتها على نطاق عالمي في بلدان أخرى من إفريقيا أو شرقي آسيا، لأن السكان رأوا بأم أعينهم أن هزيمة طغاتهم الاستعماريين هو أمر ممكن".
اليوم يرقد عمي الأكبر هيرمان في المقبرة العسكرية الألمانية ببرج السدرية مع 8561 جنديا ألمانيا آخرين لقوا حتفهم خلال الحرب في تونس. تم دفنهم لأول مرة في مقابر منتشرة في جميع أنحاء البلاد إلى حدود سنة 1966 لما وقعت تونس وألمانيا اتفاقية لإنشاء مقبرة برج سدرية العسكرية. وانتُشل الرفات وتم نقله في عام 1974 من قبل خدمة إعادة الدفن التابعة للجنة الألمانية لمقابر الحرب.
بعد رحلة استغرقت حوالي 45 دقيقة من تونس العاصمة، وصلنا إلى المقبرة العسكرية في برج السدرية الواقعة على قمة تل صغير مطل على البحر وعلى الحديقة الوطنية ببوقرنين. ويتكون المجمع من ستة أفنية يرمز كل منها للموقع الأصلي لإحدى المقابر العسكرية الأولى.
أمام جدار حجري يحمل نقش "صفاقس" نرى معظمةً [مكان دفن عظام الميت] تحمل الرقم 6، وعليها نقرأ اسم عمي الأكبر وتاريخ ميلاده وتاريخ وفاته. وهي المرة الأولى، بعد مضي أكثر من 80 عاما على وفاته، التي جاءه فيها أحد أفراد عائلته ليزوره عند قبره.