سوق نهج إسبانيا: اقتصاد الحد والشارع، اقتصاد قبَليّ

في قلب العاصمة تونس، يقع سوق نهج إسبانيا اللّانظامي أو الذي لا تعترف به الدولة. فيه سلع رخيصة في متناول الطبقات الدنيا، وباعة يفرّون يوميا من البوليس. لكن العشوائية الظاهرة تخفي وراءها نظاماً شديد الإحكام، ومجالا مغلقاً تغذّيه عصبيةٌ قبلية تعوّض غياب الدولة. فلماذا نهج إسبانيا؟ ولماذا هؤلاء الباعة بالذات، انتصبوا في هذا المكان دون غيره؟ وما الذي حملهم إلى الوصول إلى هناك؟   تغوص إنكفاضة في هذا العالم بالاعتماد على الدراسة الصادرة في أكتوبر 2022 عن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (FTDES) بعنوان "سوق نهج إسبانيا أو منهاج الاقتصاد الشارعي في تونس".
بقلم | 27 أفريل 2023 | reading-duration 30 دقيقة

متوفر باللغة الفرنسيةالإنجليزية
باعة متراصّون على طول النهج الممتد من ساحة برشلونة إلى ساحة الخربة. سلع عديدة ومختلفة على قارعة الطريق، سلع معروضة على الرصيف مباشرة لا تفصلها عن سطحه سوى رقعة بساط بلاستيكي "باش"، وأخرى على علب كرتون مقوّى "كردونة" وثالثة على عربة خشبية "برويطة".

أصوات الباعة تتعالى، تتنافس وتتغنى بالأثمان المغرية، وأخرى تفسّر وتفاوض وتنهر وتستنكر وتصرخ في بعض المارة أو في باعة آخرين، عوالم عدّة تتكاثف وتتوحد في مكان واحد.

روائح العطور، مستحضرات التجميل والأعشاب الطبية وروائح كريهة تنبعث من مداخل المباني المتراصّة على ضفتي النهج … وفجأة تتفجّر سرعةٌ مباغِتةٌ معلنةً عن حالة تأهب، فحالة طوارئٍ ...

لماذا هذا النهج دون غيره؟ ولماذا أولئك الباعة دون غيرهم، اختاروا هذا المكان دون غيره؟ ما الذي حملهم إلى الوصول إلى هناك؟ وهل فعلا انتصابهم "عشوائي" كما يصر على نعته الخطاب الرسمي؟

بالاعتماد على الدراسة الصادرة عن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في أكتوبر 2022 بعنوان "سوق نهج إسبانيا أو منهاج الاقتصاد الشارعي في تونس"، وبالاستئناس بالصور والرسومات والبيانات التفاعلية، تحاول إنكفاضة من خلال هذا العمل سبر أغوار نهج إسبانيا والخوض في ما وراء السلع المتناثرة ومسارات الباعة القائمين عليها.

التقسيمات المجالية

ينتصب الباعة على امتداد النهج كل يوم بدءا من النقطة الرابطة لنهج اسبانيا مع ساحة برشلونة وصولا إلى التقاطع الرابط بين نهج الكوميسيون ونهج سيدي بومنديل على الطرف الآخر. وينتصب الباعة أيضا على تقاطعات نهج إسبانيا مع الأنهج المحاذية وهم عادة المنتصبون الجدد الذين لم يتمكنوا من عرض سلعهم داخل النهج.

يَعُدّ سوق نهج اسبانيا حسب الدراسة بين 300 و 330 بائع. وشملت العينة موضوع الدراسة ثلث هؤلاء الباعة الذين يملكون جمليا %48 باش و %29 برويطة و %16 كردونة.

يُقسّم الباعة نهج اسبانيا وفق 3 معايير. فينقسم الشارع أولا حسب المناطق المجالية (تقسيما جغرافيا) إلى ثلاث مجالات ينتسب كل منها إلى مكان أو مبنى معلوم من الجميع. ويعكس التقسيم الثاني حسب درجة "التهديد" حركة النصابة في حالات الهروب من ملاحقات الشرطة البلدية فيكون الفرار عادة في اتجاه نهج سيدي بومنديل أو الأنهج المتفرعة من نهج اسبانيا خلال الحملات المكثفة. أما المعيار الثالث فيقسّم نهج إسبانيا حسب تدفق الزبائن وحركتهم أي أنه خاضع لفرص البيع.

بورتريه البائع

للبائع في نهج إسبانيا، في الواقع كما في الذهنية العامة لمرتادي ومرتادات السوق، صورة نمطية متميزة. فآثار العوامل الطبيعية بادية عليه كالدَّكَانة التي يخلفها التعرض المطول لأشعة الشمس، كما تبدو على ثيابه آثار المهنة من غبار وعرق. يرتدي أغلب هؤلاء الباعة في أرجلهم "شلاكة" وإن لم تكن الخيار الأمثل للفرار من مداهمات الشرطة البلدية، ويغيب عن ثيابهم التنسيق على اعتبار أن مصدرها إما مما يبيعونه من سلع أو الفريب، وأغلبهم يحلقون شعرهم بأكمله بالتساوي مع اتساخ باد للعيان.

ولكن تجاوزاً لنمطية الملامح الجسدية، يُظهر تتبّع المسارات الحياتية للباعة المتجولين أيضا عددا من السمات المشتركة بينهم. ولئن أثبت البحث أنّ 80% منهم ينحدرون من مدينة سبيبة وينتمون إلى عرش "الغلايقية" تحديدا، لا يعني ذلك بالضرورة أنهم كيان واحد متجانس. لكن السمات المشتركة بينهم هنا هو مدى تأثير الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في تشكيل بعض تصوّراتهم حول ذواتهم والدولة والمجتمع، أي كيف تتشكل نظرتهم للعالم من حولهم.