أصوات الباعة تتعالى، تتنافس وتتغنى بالأثمان المغرية، وأخرى تفسّر وتفاوض وتنهر وتستنكر وتصرخ في بعض المارة أو في باعة آخرين، عوالم عدّة تتكاثف وتتوحد في مكان واحد.
روائح العطور، مستحضرات التجميل والأعشاب الطبية وروائح كريهة تنبعث من مداخل المباني المتراصّة على ضفتي النهج … وفجأة تتفجّر سرعةٌ مباغِتةٌ معلنةً عن حالة تأهب، فحالة طوارئٍ ...
لماذا هذا النهج دون غيره؟ ولماذا أولئك الباعة دون غيرهم، اختاروا هذا المكان دون غيره؟ ما الذي حملهم إلى الوصول إلى هناك؟ وهل فعلا انتصابهم "عشوائي" كما يصر على نعته الخطاب الرسمي؟
بالاعتماد على الدراسة الصادرة عن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في أكتوبر 2022 بعنوان "سوق نهج إسبانيا أو منهاج الاقتصاد الشارعي في تونس"، وبالاستئناس بالصور والرسومات والبيانات التفاعلية، تحاول إنكفاضة من خلال هذا العمل سبر أغوار نهج إسبانيا والخوض في ما وراء السلع المتناثرة ومسارات الباعة القائمين عليها.
التقسيمات المجالية
ينتصب الباعة على امتداد النهج كل يوم بدءا من النقطة الرابطة لنهج اسبانيا مع ساحة برشلونة وصولا إلى التقاطع الرابط بين نهج الكوميسيون ونهج سيدي بومنديل على الطرف الآخر. وينتصب الباعة أيضا على تقاطعات نهج إسبانيا مع الأنهج المحاذية وهم عادة المنتصبون الجدد الذين لم يتمكنوا من عرض سلعهم داخل النهج.
يَعُدّ سوق نهج اسبانيا حسب الدراسة بين 300 و 330 بائع. وشملت العينة موضوع الدراسة ثلث هؤلاء الباعة الذين يملكون جمليا %48 باش و %29 برويطة و %16 كردونة.
يُقسّم الباعة نهج اسبانيا وفق 3 معايير. فينقسم الشارع أولا حسب المناطق المجالية (تقسيما جغرافيا) إلى ثلاث مجالات ينتسب كل منها إلى مكان أو مبنى معلوم من الجميع. ويعكس التقسيم الثاني حسب درجة "التهديد" حركة النصابة في حالات الهروب من ملاحقات الشرطة البلدية فيكون الفرار عادة في اتجاه نهج سيدي بومنديل أو الأنهج المتفرعة من نهج اسبانيا خلال الحملات المكثفة. أما المعيار الثالث فيقسّم نهج إسبانيا حسب تدفق الزبائن وحركتهم أي أنه خاضع لفرص البيع.
بورتريه البائع
للبائع في نهج إسبانيا، في الواقع كما في الذهنية العامة لمرتادي ومرتادات السوق، صورة نمطية متميزة. فآثار العوامل الطبيعية بادية عليه كالدَّكَانة التي يخلفها التعرض المطول لأشعة الشمس، كما تبدو على ثيابه آثار المهنة من غبار وعرق. يرتدي أغلب هؤلاء الباعة في أرجلهم "شلاكة" وإن لم تكن الخيار الأمثل للفرار من مداهمات الشرطة البلدية، ويغيب عن ثيابهم التنسيق على اعتبار أن مصدرها إما مما يبيعونه من سلع أو الفريب، وأغلبهم يحلقون شعرهم بأكمله بالتساوي مع اتساخ باد للعيان.
ولكن تجاوزاً لنمطية الملامح الجسدية، يُظهر تتبّع المسارات الحياتية للباعة المتجولين أيضا عددا من السمات المشتركة بينهم. ولئن أثبت البحث أنّ 80% منهم ينحدرون من مدينة سبيبة وينتمون إلى عرش "الغلايقية" تحديدا، لا يعني ذلك بالضرورة أنهم كيان واحد متجانس. لكن السمات المشتركة بينهم هنا هو مدى تأثير الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في تشكيل بعض تصوّراتهم حول ذواتهم والدولة والمجتمع، أي كيف تتشكل نظرتهم للعالم من حولهم.
ترتسم في الشارع الملامح الاقتصادية والثقافية للبائع المتجول الذي يخرج عن الشكل المألوف للفاعل الاقتصادي. فالنصّاب في نهج إسبانيا يستحيل "ذاتا مرتابة" على حد تعبير الدراسة، أي ذاتاً تشك في نوايا الآخرين تجاهها ولا تثق فيهم، نتيجةً لعدم الاستقرارية ولخيبات الأمل المتتالية والإحباط الذي يعيشه : في علاقة بماضيه الدراسي عبر ترك مقاعد الدراسة منذ المراهقة، وانقطاعه عن عائلته في "البلاد" باعتبار بعده عنها، والإحباط العاطفي نظرا لأن أغلب المستجوبين صرحوا عن فشل علاقاتهم العاطفية في فترة المراهقة، والإحباط الاقتصادي، والعنف الرمزي والمادي الذي يتعرض له في الشارع، وفي علاقته بالدولة... كل ذلك يؤثر سلبا على قدرته على بناء علاقات ثقة وتشكيل رأسمال اجتماعي يتجاوز شبكة العلاقات القرابية وصداقات العمل والزمالة في نهج اسبانيا الذي يجمعهم.
نهج إسبانيا بين الماضي والحاضر
يحتل نهج إسبانيا اليوم مجالا مركزيا في العاصمة، من موقعه على مرمى حجر من شارع الحبيب بورقيبة وساحة برشلونة، قريباً من سوق بومنديل (نهج سيدي بومنديل) ونهج الكوميسيون، ومجاورته للسوق المركزية.
يعود تأسيس نهج إسبانيا إلى النواة الأولى للمدينة الأوروبية التي تأسست بين 1835 و 1881. وكان تأسيس الأحياء خارج أسوار المدينة العربية وبنائها، ومن بينها الحي التجاري، حي الجزيرة-الصادقية الذي يوجد به نهج إسبانيا، نتيجة إنشاء بلدية تونس من قبل محمد باي في 30 أوت 1858. ومنذ ذلك التاريخ عرف الجانب العمراني والحضري للمدينة تطوّرا وصار أكثر تنظيما.
حرّك·ي السهم إلى اليمين أو اليسار للاطّلاع على الصورتين:
حمل النهج اسم السفارة الاسبانية التي تواجدت به منذ تأسيسه، على شاكلة الأنهج المحاذية التي تواجدت بها سفارات دول أخرى. كما تميّز أيضا بصبغته ووظيفته التجارية وخصوصا تجارة الجملة. وكانت تباع فيه المنتجات والسلع اليومية من البقول والفواكه بكل أنواعها وغيرها من المواد الغذائية التي لها علاقة مباشرة بفندق الغلة، سوق الجملة آنذاك، أو السوق المركزي اليوم. وكان أغلب متساكني ومتساكنات الحي في تلك الفترة من الإيطاليين·ات ويؤكد ذلك طابعه المعماري الإيطالي إذ لا تتجاوز طوابق كل بنايات الشارع الطابقين.
يتميز الشارع بحركية اقتصادية عالية ينشّطها انتشار الباعة والتجار على طرفي النهج والحضور المكثّف للمارة يوميا من موظفين·ـات وعملة وطلبة وتلاميذ وغيرهم باعتباره يتقاطع مع ساحة برشلونة.
شهدت الملامح الاقتصادية لهذا النهج على مر الزمن تغيرات بدأت بعد الاستقلال لما غادرت السفارات الأوروبية تباعا هذا الحي فطغت عليه الوظيفة التجارية دون غيرها، ثم خاصة خلال العشرية الماضية حيث قلت محلات البيع بالجملة وحلت محلها متاجر بيع الملابس الجاهزة ومواد التجميل إضافة إلى تواجد النّصابة على كلّ الأرصفة.
نهج اسبانيا يمكن اعتباره مثالا ناجحا أو "الشارع القدوة" للتجارة "الموازية"، غير المهيكلة وغير الخاضعة، وهو ما جعل النصابة يميلون للتواجد بالقرب منه لمعرفتهم بحيويته.
يتوفر النهج اليوم على سلع موسمية وملابس وأدوات منزلية وغيرها من المنتجات المرتبطة بالمناسبات والأعياد الدينية. وعادة ما تكون هذه السلع أقل سعرا أو جودة من نظيراتها في المراكز التجارية الكبرى أو المتاجر. ولا تمر السلع عبر مسالك الديوانة التونسية فهي تكون عادة مهرّبة من الجزائر بعد أن كانت تأتي من ليبيا قبل 2011.
يعود توطن نشاط التجارة على قارعة الطريق في أنهج العاصمة إلى التسعينات. وقد تزامن تعدد المنتصبين آنذاك مع توافد أعداد كبيرة من الرجال من جهات الوسط الغربي التونسي فرارا من الفقر وسعيا وراء القوت والعمل. بحثوا في ما يسمّى بالتجارة الموازية على أمل صعود اجتماعي لم توفره لهم الدولة ولا مؤسساتها المشروعة.
كان "الجلامة" أقدم مجموعة اشتغلت في هذا القطاع بين نهج "الكوميسيون" وسوق "سيدي بومنديل" وعُرفت هذه المهنة باسمها تاريخيا. مع مرور الزمن، اكتسبت هذه المجموعة ارتقاءً طبقيا ومراكمة رساميل متعددة. فصار لها محلات قارة ونظامية بسوق سيدي بومنديل أو سوق المنصف باي وعزفت عن البيع اللانظامي على قارعة الطريق.
تواترت الأجيال حتى تجاوز عدد الباعة المنتصبين من غلايقية سبيبة أولئك المنحدرين من مدينة جلمة، كونهم ينتمون إلى مجموعات قبلية كبيرة من مدينتي سبيبة وجلمة المتجاورتين، وهو ما يجعل من الوشائج الأولية عاملا رمزيا هاما.
تتنظّم شبكة العلاقات داخل نهج إسبانيا بناء على العروشية التي تقسم المجال بين الباعة، وتفرض معلوم كراء (المَكْس) على الباعة غير المنتمين إلى عرش الغلايقيّة المسيطر كعرش جلاص أو ولاد عيار أو الجنادبة مثلا. وإذا رفض البائع من هؤلاء دفع معلوم كراء قد تُحجز سلعته ويطرد من المكان. كما أن للأقدمية في السوق أهمية، فأوائل الواصلين إلى السوق يحجزون لأنفسهم أماكن تُعرّف بهم وتُسمى بأسمائهم، ثم مع مرور السنوات قد يقومون بالمتاجرة بها أو بيعها أو كرائها وكأنهم أصحاب عقود ملكية.
"نحن هنا أفراد عائلة يربط بيننا الدم والمهنة"
« البائع منهم، مهما كانت أداة عمله سواء عربة أو علبة كرتون مقوى 'كردونة' أو لحافا بلاستيكيا 'باش' او معلاق ملابس بعجلات 'شطار'، يمتلك فعليا المكان الذي يضع فوقه أداته وسلعته، من السادسة صباحا إلى حدود السادسة مساء مساحةً معينةً دون عقد »
ينتمي الباعة المنتصبون على طول نهج إسبانيا لنفس الوحدة التنظيمية القبلية: الغلايقيّة من فرقة ولاد خَلفه، من قبيلة ماجر أصيلي منطقة سبيبة، من ولاية القصرين.
يمتلك الباعة الشارع، وفق نتائج البحث الميداني، ملكية جماعية مادية، وليست مجازيّة أو رمزيّة فقط، ولكن دون عقود رسمية تثبت ذلك. تحصلوا على هذه الملكية عبر استحضار المنهاج القبلي "الغزو- الحوز- التصرف لمدة طويلة" أي عبر قدرتهم على افتكاك الشارع لا من الدولة فقط بل من كل المنافسين الذين لا ينتمون إلى العرش. وهي ملكيّةٌ تُورّث من الجيل الأول إلى الجيل الثاني حاليا وربما الجيل الثالث في ظرف عقدين آخرين.
ملكية الأرض بالنسبة إلى القبيلة في تونس تظل دائما ملكية جماعية على الشياع لكنها تواجه تهديدا مستمرا ولا بد من الدفاع عنها خاصة وأنها الأساس المادي لإعادة إنتاج القوى البشرية وتمكنها من توفير الشروط المادية للبقاء. وبالتالي مهما كانت طريقة امتلاك القبيلة لأراضيها، ومهما كانت الحدود غامضة، فإن العُرف والعادة والحوز والتصرف لمدة طويلة، وقوة القبيلة العسكرية، هي الشروط الكفيلة بإثبات الملكية واستقرارها.
نهج إسبانيا، من تقاطعه مع شارع الجزيرة وصولا إلى تقاطعه مع نهج هولندا، هو يتقاطع رمزيا مع معتمدية سبيبة وإن كانت تبعد مئات الكيلومترات، وهو يخضع لسلطة عرش الغلايڨية وإن كان ملكا للدولة وفق وثائقها الرسمية.
الانتماء إلى عرش الغلايقيّة هو انتماء إلى قبيلة ممتهنة لنشاط تجاري جيلا بعد جيل، من الحد إلى الشارع، محتكرةٌ إياه، منظمةٌ له، تنتدب له قوة العمل جينيا من أبناء العمومة فتخلق بذلك تضامنا ميكانيكيا يحمي الفرد والمجموعة ويعوّض غياب الدولة.
تفسر الدراسة ذلك بأن بطء التحولات الاقتصادية والاجتماعية في الأرياف وتعثر مشاريع التنمية أدى إلى جمود في أسس البناء الاجتماعي وتحكُّم المحددات التقليدية في المجتمعات المحلية. كما أن التهميش الاجتماعي والجهوي ساهم في الحفاظ على طابع الانكفاء في العلاقات ما بين المجموعات والجهات أي ضعف الاندماج الوطني. تشكل الوعى القبلي هنا إذن، على حيازة النهج لتحويله إلى سوق يحتكرها أفراد العرش نفسه عبر اعتماد عصبية قبلية.
عصبيّةٌ لم يفقدها عرش الغلايقيّة المنحدر من فرقة ولاد خلفه رغم "انتقال أفراده إلى المدينة". وهنا تحيلنا الدراسة إلى ابن خلدون الذي يعتبر العصبية نزعةً طبيعية لدى الإنسان تولّدها علاقات النسب والقرابة. ويرى أنها تتحلل وتتلاشى إذا أصبح النسب مجهولا. لكن في العمران البدوي لا يختفي النسب ولا يختلط، لأن قساوة الحياة في البادية تجعل القبيلة تعيش حياة العزلة والتوحش. فالصريح من النسب يوجد لدى من هم الأكثر فقرا، ذلك أن تطور الوضعية الاقتصادية والاجتماعية، والانتقال من الريف إلى المدينة سيضيع نسبهم حتما.
على العكس من ذلك، يعتبر غلايقيّة سبيبة انتقالهم إلى المدينة كحالة سفرٍ من أجل بيع السلع التي يورّدها حدوديا أبناء القبيلة الأم نفسها، قبيلة ماجر. وكأنهم قافلة تجارية منتمية إلى قبيلةٍ حلّت بالعاصمة وستعود إلى موطنها بعد انتهاء المهمة في نهج اسبانيا. هو انتقال جسدي مؤقت، يعيشون فيه وضعية هشاشة مهنية واقتصادية واجتماعية. لم ينتقلوا فرادى بل جماعات، ولم ينتقلوا ذهنيا وثقافيا. هي جماعات تعيش مع بعضها في معزل عن بقية المجتمع، وهدفهم من الانتقال إلى المدينة التجارة، وسيعودون يوما ما بشكل نهائي إلى مرابضهم الأولى، سبيبة، أو "البلاد" كما يسمونها.
إن نزوح باعة نهج إسبانيا هو إذن نزوح مؤقت. فالقبيلة لم تعد تهاجر قسرا كما في عهد البايات، أو تنقسم حدوديا بحكم الاستعمار، أو تتفكك بضغط دولة الاستقلال وتفقير الجمهورية لها بحثا عن العمل. بل استحضرت ماضي قوافلها التجارية المرتحلة لتسافر بسلعها وتنتج اقتصاد الحد والشارع، في استمراريةٍ تاريخيةٍ بعيدة عن أن تكون ظاهرةً وليدةَ المجتمعات المعاصرة.
هي ظاهرة بعيدة المدى، لها خاصيتها التاريخية والجغرا-بشرية. فإذا كان هذا النشاط في نظر الحكومة ممارسةً غير قانونية إلا أنه "نشاط تجاري عادي" بالنسبة للمجموعات البشرية التي تعيش على الحدود الغربية، وذلك في إطار تمثّلاتها الثقافية التي تعتبر حرية التنقل وعبور الحدود ممارسة حيوية وطبيعية.
الاقتصاد الحدودي والشارعي هو امتداد لاقتصادٍ كان مشروعاً وشرعياً تاريخيا لو لا فعل البايات والاستعمار ودولة الاستقلال.
موقع قبيلة ماجر الممتدة في الوسط والوسط الغربي لتونس والوسط الشرقي للجزائر كان عاملا حاسما في بروز ظاهرة التجارة الحدودية بصرف النظر عن نوع البضاعة. ولكن هذه الحدود الفاصلة لا تعترف بها قبائل الوسط في ذهنيتها. فالخصوصيات البشرية للمنطقة تتميز بتركيبة قبلية مبنية على روابط الدم وعلى تصور الفضاء المفتوح والحر أمام حركة تنقل البشر. الذهنية والتصورات القبلية يغيب عنها مفهوم الحدود والحاجز الفاصل بين الدولتين أو المجالين. لذلك يعتبر مفهوم الحرية من محددات القبيلة، فقد كانت تلك القبائل التي تعيش على الحل والترحال بشكل خاص تعتبر نفسها كيانا حرا شبه مستقل.
لطالما كانت قبيلة ماجر (وعنها تتفرع فرقة أولاد خلفة) عبر التاريخ معارضةً للسلطة في المركز (المخزن)، الأمر الذي يفسّر غياب أي سندٍ سياسي للقبيلة عامة ولفرقة "ولاد خلفة " تحديدا في أنشطتها الاقتصادية. ورغم كل إجراءات التغيير، عجزت الدولة على إلغاء البنية القبلية وتفكيكها في كل المستويات. حيث يعود ذلك إلى مقاومة هذه الجماعات لمفهوم الدولة نفسه وإمكانية تحول هذه المقاومة إلى نوع من التعايش الحذر بين بنتين تنفي كل منهما الأخرى.
الفارس والرّاعي x الكناتري والنصّاب
تُصنّف فرقة "ولاد خلفة" على أنها الوحدة القبلية التجارية الراسخة في قبيلة ماجر الكبرى بامتهانها تجارة سلع الاستهلاك الجماعي، وذلك في تباينٍ مع الأعمال والوظائف التي تقوم بها تاريخيا فرقٌ أخرى تنتمي إلى القبيلة نفسها: الفلاحية منها أي وظيفة الرعي، أو الدينية كالقيام على الزوايا والزرد مثلا أو الوظيفة الدفاعية.
ولئن كانت هناك ديمقراطية اقتصادية واجتماعية بين أفراد مجتمع النصابة ومساواة فيما بينهم فيما يتعلق بالأرض بوصفها وسيلة إنتاج، وهو ما ترادفه ملكية نهج إسبانيا باعتبارها أرضا امتُلكت جماعيا وتم توزيع المساحات فيها ديمقراطيا بين الأفراد المنتمين للقبيلة والمنطقة نفسها، إلا أنه يوجد تفاوت وتمايز اجتماعي داخل القبيلة له ركائزه التي تستند على الأدوار والوظائف التي يلعبها الفرد. إذ نشهد ضربا من المراوحة بين علاقات التضامن القبلية والعشائرية من جهة، وبين علاقات التقسيم والتناقض الطبقي من جهة أخرى، داخل مجموعةِ عملٍ يراها من هو خارجها متجانسة.
أن تكون بائعا لا نظاميا للسلع أو أن تكون موردا حدوديا غير نظامي لها، فذلك مرتبط أساسا بقَدَرك الاجتماعي، أي موقع عائلتك و رأسمالها الرمزي والمادي: فهل هي منتجة للفرسان أم العمال؟
المورّد الحدودي للسلع بصفة غير قانونية، أو "الكناتري" في رواية أخرى، يهرّب السلع بقيمة عشرات أو مئات الآلاف من الدنانير يوميا، عبر الحدود على متن شاحنته رباعية الدفع مواجها خطر الموت رميا بالرصاص أو في حادث مروري أو السجن في مواجهته لحرس الحدود الذي يترصّده ويلاحقه، ليس هو البائع الذي يبيع سلعا بقيمة مئات الدنانير يوميا في نهج إسبانيا.
الكناتري هو امتداد تاريخي للفارس في القبيلة، الذي كانت عائلته قادرة على توفير الحصان والسرج والسلاح (ما يعادل اليوم شاحنة D-max أو Toyota) لتحتكر شرف حماية القبيلة وما ينتجه هذا الشرف من فوائد، أي مراكمة رأس مال رمزي ينتج أو يحافظ على إنتاج رأس المال المادي وبالتالي بقاء القبيلة.
ولشراء سيارة والسماح لك بقيادتها حدوديا، وجب أن تنتمي إلى عائلات معينة داخل العرش لها علاقاتها على الضفة التونسية مع الأمن الحدودي من حرسٍ وديوانة، ولها علاقاتها على الضفة الجزائرية مع الوحدات القبلية المجاورة أو المتصاهرة أو المنتسبة لأصل قبلي مشترك والتي تبيع لهم السلع، ومع الأمن الحدودي الجزائري.
شباب العرش إذاً ليسوا جميعا قادرين أن يصيروا فرسانا أو ”كناترية“ في عصرنا وسياقنا وواقعنا هذا. فذلك مرتبط بقوة الوحدة التنظيمية العائلية داخل القبيلة ككل. مما يفرز في النهاية طبقتين: طبقة عاملة متمثلة في الباعة في نهج إسبانيا تبيع ما تورّده -عبر حدود الجزائر- طبقة ثرية مالكة لوسائل الإنتاج ومتكونة من كبار الموردين.
من سبيبة إلى نهج إسبانيا
« جئنا إلى هنا على مراحل وفترات.. عندما جئت إلى هنا لأول مرة.. كان عمري عشر سنوات.. استقبلني أقاربي »
تتجلّى لدى باعة نهج إسبانيا نظرية إعادة الإنتاج والرأسمال الثقافي. فالمستوى التعليمي للوالدين والرأسمال الثقافي للعائلة من جهة، والهشاشة الاقتصادية والاجتماعية للأسرة والمنطقة ككل من جهة أخرى، عوامل تجعل حظوظ الأبناء في المدرسة وما بعدها ضعيفة منذ البداية. و تؤسس هذه الشروط الموضوعية قدرا يمكن قياسه سوسيولوجيا من إعادة إنتاج الفقر ووراثة الانتماء الطبقي وامتهان المهن الشاقة.
فمن لم يحالفه الحظ في أن يولد صلب أسرة "كناترية"، يسوقه مصيره لا محالة إلى القيام على نصبة في نهج إسبانيا. تتواتر الأجيال التي تعمل في مجال التجارة هذا، حتى صار الوافد الشاب الجديد من ذوي الثمانية عشر ربيعا على أقصى تقدير يتعلم مهارات التجارة وأسرارها من أحد أبناء عمومته، واجدا لديه ملجأً في مدينة كبيرة لا يفقه عن جغرافيتها شيئا عند قدومه. وهكذا يصير متدربا على مهنة البيع والشراء، متخذا له من بني عشيرته معلّما يمرّر له مهارات وكفاءات تختص بها مجموعة التجار باعتبارها مجتمعاً مهنيا متكاملا.
التجار من ذوي التجربة والأكثر ثراءً وحيازةً على رساميل علائقية ورمزية هم قلة داخل المجموعة. وهم يلعبون دور المعلم الذي يوفر حماية وسقفا للوافدين الجدد مقابل توظيفهم كقوة عمل. يتم انتداب العمّال اعتمادا على صلة القرابة والحالة الاجتماعية الهشة للعائلات (ومن بينهم أطفال وقصر بين 12 و 16 سنة من العمر) بدايةً عبر اتصال هاتفي، أي تواصل مباشر بين أحد أصحاب الرأسمال الذي يمتلك العديد من الأماكن المخصصة للانتصاب والتي يمنحها للباعة العاملين تحت إمرته، لمزيد مراكمة ثروته وتدعيم أسطوله من النصبات.
في نهج إسبانيا، يحقق النصّابة أرباحا قد تساوي 50 بالمائة من المداخيل عموما. وتتغير هذه النسب بحسب البضاعة المعروضة والموسم. فتتجاوز المرابيح في بعض السلع الموسمية نسبة 300 بالمائة مثل أكياس تخزين اللحوم في موسم عيد الأضحى، وبين 100 بالمائة إلى 150 بالمائة بالنسبة للألعاب وملابس العيد والأدوات المدرسية في مواسمها. كما يجدر بالذكر أن البائع لا يدفع ثمن البضاعة إلا بعد بيعها، في إطار تعاملٍ تحدده الوشائج الأولية القبلية بين طبقة الموردين والباعة السالف ذكرهما.
وبهذا يكون مسار البائع النصّاب مشكّلا وفق خطوط واضحة، يبدأ عندما يغادر الطفل منطقة السبيبة ليبدأ في العمل برتبة "صانع" مقابل أجر يومي قدره 60 دينار لدى صاحب رأس المال، أو بصفة شريك في المداخيل التي تقسّم بينهما وفق تفاهم شفوي. ثم بعد 5 سنوات من العمل، حسب شهادات بعض الباعة، يمكن للصانع أن يصبح بدوره صاحب رأسمال قادر على تشغيل آخرين في نطاقه الجغرافي. ويمكنه أيضا التوجه للعمل بصفة فردية باعتباره صاحب نصبة يبيع عبرها بعض السلع غير المكلفة من ناحية القدرة الشرائية، ومن ناحية الخسارة في حال حجزها أعوان الأمن.
« نحن رهائن لدى الدولة »
ساهمت سياسات الدولة منذ البايات إلى اليوم، ومن الاستعمار إلى دولة الاستقلال مرورا بالإصلاح الهيكلي ودولة بن علي، في جعل الريف والمناطق الداخلية عموما مهمّشة ومفقّرة مقارنة بالمدن الكبرى خاصة العاصمة والساحل. ردّات الفعل اختلفت أشكالها تاريخيا من الانتفاضة إلى الخضوع إلى المهادنة حسب السياقات والمناطق والقبائل، لنجد اليوم ردة فعل من شكل جديد : اقتصاد غير رسمي بأسره يتحرك داخل نسق قبلي.
اقتصادٌ خفي ومعلن في آنٍ، لانظامي ونظامي، غير منظّم ومنظّم.
هو من جهة أولى إقتصاد لا نظامي أي لا يخضع للإقتصاد المقنن الرسمي، واقتصاد غير منظم أي لا يخضع لتنظيم العمل التعاقدي المتعارف عليه. وهو من جهة ثانية، نظاميّ فالدولة تعترف بوجوده حيث تعجز عن تدميره، لا من ناحية العجز الأمني بل لعجزها عن تعويض مكانته الإقتصادية والاجتماعية كونه يعوض غيابها. وهو منظم بتعاقدٍ غير معترف به قائم على تضامن ميكانيكي بين مجتمع الباعة المرتبطين بوشائج أولية.
لم تستطع الدولة حسم المواجهة أمنيا، عبر حرس الحدود والديوانة والبوليس والشرطة البلدية: لا في الحدود التي تحولت كلها إلى معابر، ولا في الأنهج والشوارع التي تحولت إلى أسواق، مع اقتصاد غير رسمي صار أكبر من الاقتصاد الرسمي وينافسه في عدة سلع لا يرغب الأخير في دخولها بأسعار تنافسية إلى الأسواق التونسية.
وهي لا ترغب، وليس من مصلحتها، القضاء على اقتصاد يوفر سوقا رخيصة لغالبية مستهلكي الطبقة المتوسطة والطبقات الفقيرة وأيضا موطن شغل مباشر وغير مباشر لآلاف الأشخاص. "السيستام" الحاكم غير قادر على تعويض هذا الاقتصاد ولا يرغب في خسارة السلم الاجتماعية. ومن أجل ذلك يتبع سياسة متجددة ومتلونة منذ عقود في تونس، حيث تتدخل السلطة، بما هي فاعل رئيسي، في تعديل الاقتصاد غير الرسمي.
لم تعد فرقة ولاد خلفة تطالب الدولة ولا تترك المجال لهذه الأخيرة لمطالبتها. فهي قبيلة تحرك اقتصادا كاملا لا يخضع إلى سلطة العاصمة. ولا تجمع الأخيرة به علاقة ضريبية وإنما مرادفٌ لها وهو الرشوة (الجعالة) لحرس الحدود أو الديوانة إذا ما وقعت شاحنة تهريب في كمين أو أحيانا دون كمين. أو عبر رشوة أعوان الشرطة البلدية في نهج اسبانيا (عاشور / خاموس)، أو المساهمة في تمويل حملة انتخابية لحزبٍ ما أو دعم مترشحٍ ما طلبا للسلم واتقاءً للشر، أو طلباً للحماية.
« نحن زملاء البوعزيزي »
سنة 2011، في وقت شهد دمقرطة العمل النقابي والمطلبي في جل القطاعات المهنية، تم تكوين "نقابة التجار المستقلين" التي انضمت إلى منظمة اتحاد عمال تونس المكونة في نفس السنة أيضا. حملت النقابة مطلبا مركزيا يتمثل في تنظيم مهنة "التجار المستقلين" قصد حماية رزقهم وتحسين ظروف عملهم.
تسمية "التجار المستقلين" لها "حمولة رمزية"، إذ تندرج في إطار رفع الوصم عن المنتصبين وذلك باقتراح صنف جديد ذي مقبولية اجتماعية. وقد عبّر الكاتب العام لهذه النقابة عن منظوريها ذات مرة قائلا: "نحن زملاء البوعزيزي". لكن الأمور داخل أوساط المنتصبين أنفسهم تبدو أكثر تعقيدا، حيث أن نقابة التجار المستقلين رغم ادعائها تمثيل الجميع هي محل مواقف متباينة تتحدد حسب النفعية الاقتصادية والانتماء العشائري.
رفعت النقابة مطلب تنظيم الانتصاب في فضاءات مخصصة مقابل معلوم كراء، على غرار فضاء شارع قرطاج الذي يتسع لألف بائع، وتهيئة فضاءات أخرى بالعاصمة وهي سيدي البشير والخربة والمنجي سليم والقلالين، وإذ لم يجهز فضاء شارع قرطاج فإن النقابة نجحت رغم ذلك في التحصّل على عدد من الفضاءات الأخرى.
ساهمت تهيئة فضاءات منظمة للانتصاب مثل الخربة وغيرها في تثبيت عشرات الباعة وإكسابهم نوعا من استقرارية المداخيل. لكن يبدو هذا خاضعا لسلطة أعضاء المكتب النقابي الذين يحررون قائمات لتحديد ذوي الأولوية من أجل حيازة أماكن في هذه الفضاءات المهيأة، حسب معايير لا تبدو واضحة للجميع. وهو ما يغذي ريبة بل ومنازعة لمشروعية هذه النقابة لدى طيف من منتصبي نهج إسبانيا.
لكن هل تمثل هذه الفضاءات حقا ما يريده كل المنتصبين؟ هذه المطالب تتقاطع بالفعل مع جزء منهم، وهم الذين لا يتمتعون بالموارد المادية الكافية لضمان قوت يومهم من خلال تواجدهم في نهج إسبانيا وتخومه. أما أولئك الذين تملّكوا المجال، أي الذين ينتمون إلى العشيرة الأكثر عددا وقوة مادية في نهج إسبانيا، فلا مصلحة لهم في مطالب الفضاءات المهيّأة.
في حوار مع إحدى الإذاعات الخاصة في شهر جانفي المنقضي، ذكر والي تونس سابقا، كمال الفقي، والذي عُيّن مؤخرا وزيرا للداخلية، أن الولاية تعمل بالشراكة مع البلديات الثمانية التابعة لها على إيجاد خطة للتصرف في هذه الأسواق. تتمثل هذه الخطة في اختلاق "سوق دائري يضم ما لا يقل عن 400 تاجر"، ينتصبون على مدار الأسبوع في مساحات تخصصها البلديات بشكل دوري. وأضاف الوالي أن هذه المنظومة ستفرض على الباعة مساهمة "رمزية" تغطي أعباء السوق وكراء المساحة والتغطية الاجتماعية. هذا "الحل الجذري" على حد قوله "قابل للتطبيق في غضون ستة أشهر".
و "في انتظار استكمال النقاشات المعمقة مع البلديات" يقترح والي تونس السابق "التقليل من هذه الظاهرة عبر المضايقات" خصوصا في علاقةٍ بأنواع معينة من السلع مثل الملابس المستعملة على قارعة الطريق والتي تعدّ "غير مقبولة" على حد قوله.
مضايقات الشرطة المتواترة التي تؤثث حياة هؤلاء النصّابة تكاد تكون رتيبة في نشاطهم اليومي، وهو ما يجعل من الكر والفر مع قوات الأمن أمرا روتينيا يدخل في إطار الممارسات اليومية من أجل الحفاظ على الرزق.
« دولةُ كلِّ يوم »
يتمركز حمّة* وهو أحد الباعة أمام كردونته في الرقعة الخاصة به برأس النهج كما كل يوم، من الصباح إلى المساء، يتغنّى بمحاسن بضاعته البسيطة عساه يجذب انتباه المارة أمامه.
فجأة تجتاح النهج موجة تأهب، صفارات إنذار، سيارات الشرطة البلدية تداهم المكان، وأصوات أعوان أمن تتعالى بعنف لفظي وعبارات نابية، تليها هبّةٌ جماعيةٌ بينما تشقُّ الأجواءَ كالصدى صيحاتُ الباعةِ لتنبيه بعضهم البعض.
"حملة كبيرة" يخاطب أحد النصّابة زميله الذي لم يلبث أن تمسّك بطرفي الباش خاصته وما عليها من سلع، وأخذ يجرها على الأرضية وجذعه منفتلٌ إلى الخلف، عينٌ على وجهة هروبه وعينٌ على الشرطة خلفه. يطلق النصّاب العنان لرجليه عارفا أن الحملة الكبيرة التي ترفقها شاحنة المصالح البلدية، على عكس "العادية"، يكون الغرض منها فعلا حجز البضاعة لا الترهيب فحسب.
تتصاعد الوتيرة في غضون ثوان من نسق بيعٍ وشراء عاديّ إلى حركة هروبٍ مستعجل. حمّة من جهته، وعلى عكس موجة الباعة المندفقين صوب نهج بومنديل أو الأنهج المتفرعة عن نهج إسبانيا، يلقي بنفسه في وجه البوليس بكردونته وكل ما لديه، مضحّيا بنفسه عساه يعطّل اندفاعهم ويُكسب زملاءه أسبقية بثوانٍ ثمينة.
حمّة إذن "شطّار"، وهي مهمته الموكولة إليه من موقعه في رأس النهج، ضمن هذا التكتيك الجماعي لمواجهة "دولة كل يوم" أي جهاز الشرطة بما هو الوجه اليومي والروتيني للدولة بالنسبة للمنتصبين.
الهروب هو تكتيك لاإرادي ومعتاد، هدفه حماية قوت اليوم من المصادرة، والتحكم في مقدار الاعتباطي واللايقين في نشاطٍ مقوّمه الأساسي الاعتباطي واللايقين.
تمثل الحملات الأمنية لحظات تكشف عن الأدائية التي تنتج من خلالها الدولة نفسها في الشارع. وتأتي الحملات في أوقات بإمكان الباعة توقعها أحيانا، بالأخص منهم ذوي الأقدمية. غير أن أعوان الشرطة يتحاشون الحملات الأمنية على منتصبي نهج إسبانيا في فترات "الميسرة"، أي عندما يكثر الإقبال على هؤلاء التجار بمناسبة عيد الفطر أو العودة المدرسية أو غيرها من الأعياد، والتي تشهد استهلاكا شعبيا أعلى من معدله باقي أيام السنة.
عودة إلى عصر القبيلة
لقد عوضت الثورة الصناعية منذ مئتي عام، العائلة والجماعة بالدولة والسوق. لكن ماذا إن لم تحدث ثورةٌ صناعيةٌ في مجتمعٍ ظلّت دولتُه وسوقُه تابعتيْن لدولٍ واقتصادات أخرى، ولم يشهد إقطاعاً ليتحوّل إلى الرأسمالية، بل انخرمت علاقات إنتاجه بسبب استعمارٍ مطوّل؟ هنا، يمثّل الباعة اللاّنظاميون في سوق نهج إسبانيا الدليل، ولو جزئياً، على جنيالوجيا التأخّر التاريخي التونسي كما يفسّره الهادي التيمومي، وتأثيرها على واقعنا الاقتصادي والاجتماعي اليوم.
غياب الدولة الراعية وعدم القدرة على خلق اقتصاد سوقٍ قادرٍ على إدماج غالبية المواطنين والمواطنات من جهة أولى، وتهميش الريف لصالح مدنٍ صار هـذا الأخير ينزح إليها بحثاً عـن الدولة وعن السوق من جهة ثانية، هما مؤشران يمكنّاننا من تفسير الأسباب التي أوجدت هؤلاء "النصابة" دون غيرهم، أفرادا وجماعات، بنهج إسبانيا.
دولتنا واقتصادنا الوطني وسوقنا لا تتّسع للجميع، وذلك بفعل سيرورة إصلاح هيكلي منذ عقود، خاضعٍ لتقسـيمٍ عالمي غير عادل للعمل، عجز عـن الإصلاح بل زاد الطين بلّة. لذلك سيكون عصرنا التونسي هذا، عصر العائلة ربما، أو العودة إليها، ولكنه أيضا عصر الجماعات والمجموعات، بـل عصر القبيلة وعصبيّتها وتضامنها لا محالة، مهما تغيّرت وستتغير أشكالها وتشكيلاتها.
***
لمزيد الإطّلاع على مختلف الجوانب التي تناولتها الدراسة، يمكنكم·ـن الاستماع إلى حلقتيْ البودكاست من سلسلة " لكل مقال حوار" مع سفيان جاب الله، منسق ومحرّر الدراسة، ورضا كارم، الباحث وكاتب محور "مقاربة تشكيل الذكورات".