مواصلة ذات السياسات غير المجدية
يطالب صندوق النقد منذ سنة 2012، بتخفيض كتلة أجور القطاع العام لتعديل عجز الميزانية، كما يقترح تقليص مخصصات الدعم وتراجع دور الدولة في الشركات التي تملكها لصالح القطاع الخاص. وهي 3 أسلحة تستهدف في الحقيقة الفئات الأقل حظا، الموظفون والطبقة الفقيرة والمتوسطة من المواطنين، إلى جانب ما تعنيه خصخصة المؤسسات العمومية من ارتفاع مرتقب في أسعار خدمات متعددة، على غرار النقل والكهرباء والغاز التي تقترح الشركة التونسية للكهرباء والغاز زيادة في أسعارهما بنسبة 30% و15% تواليا.
فيما يتعلق بالتقشف المالي، يبدو نهج صندوق النقد واضحا في التأكيد على ضرورة تبني سياسة توسعة القاعدة الضريبية، وتقديم إعفاءات ضريبية جديدة للشركات على أساس أنها ستحقق إيرادات ضريبية أعلى وستشجع العاملين في القطاع الموازي للدخول إلى القطاع الرسمي.
أما على مستوى السياسة النقدية، فإن الصندوق يستهدف من برنامجه تبسيط وتخفيض القواعد المنظمة لصرف العملة وتدفقات رأس المال، والتي أكدت التجربة في بلدان مثل الشيلي والأرجنتين سابقا، أنها كانت سببا في خروج رأس المال الوطني من هذه الدول وما رافقه من انخفاض قيمة عملتها. فالصندوق يصر على ضرورة تسهيل التدفق الحر للتجارة ورأس المال عبر تحريرها من القيود الحكومية.
الإذعان للصندوق
بين ما اقترحه الصندوق وتوجهات الحكومات المتعاقبة في تونس منذ 2013، يظهر أن الحكومات وإن ناورت في بعض الأحيان، أو تململت في تطبيق الشروط نتيجة الاصطدام مع المكونات الاجتماعية على غرار اتحاد الشغل -الذي تدهورت علاقته مع حكومة قيس سعيد- ومنظمات المجتمع المدني إلا أنها تذعن في الأخير لإملاءات الصندوق وشروطه.
في سياق التأكيد على هيمنة الصندوق، يقول أستاذ الفلسفة إرنست فولف، المتعمق في دراسة العلاقة بين الاقتصاد والسياسة في كتابه "صندوق النقد الدولي قوة عظمى في الساحة العالمية": "إن الزعم بأن ورقات استراتيجية الحد من الفقر يجري تصميمها من قبل حكومة البلد المعني، وأن دور الصندوق في هذا السياق لا يزيد على تقويم الورقة أولا والموافقة عليها أو رفضها من بعد، هو تضليل متعمد حقا وحقيقة. فمن حقائق الأمور أن أغلبية الدول الفقيرة اكتسبت خلال العقود المنصرمة تجارب مهمة لكيفية التعامل مع صندوق النقد الدولي وأن حكوماتها -التي هي فاسدة ومرتشية في أغلب الحالات- استطاعت، بيسر، أن تحاكي الصندوق، رياءً، وتقدم له الورقات الاستراتيجية التي تمناها هو نفسه".
في ذات الوقت تؤكد الحكومة الحالية بقيادة نجلاء بودن، على أن الوصفة المستخدمة اليوم في تونس هي وصفة تونسية-تونسية ولا دخل للصندوق في صياغتها غير أن الواقع يظهر عكس ذلك. ولعل أكثر مظاهر الإذعان للصندوق، هو تطبيق سياساته في قوانين المالية المتعاقبة منذ 2014، إذ جاء حينها إقرار تخفيض في الضريبة على الشركات من 30% إلى 25% في قانون المالية لسنة 2014. أتى هذا القرار بعد أن أدرج صندوق النقد الدولي ذلك، كسياسة يمكن أن تؤدي إلى خلق فرص عمل وتحقيق إيرادات ضريبية أكثر للدولة.
لم يقف التخفيض عند 25%، بل وقع تنزيل النسبة إلى 15% في قانون المالية لسنة 2020، عملا بتوصيات الصندوق الذي تقوم فلسفته على أن تخفيض الضريبة على الشركات يقود عمليا إلى ترفيع هذه الإيرادات. على عكس ذلك تشير الأرقام إلى أن مداخيل الضرائب على الشركات ما لبثت أن تراجعت منذ سنة 2015 على نحو حاد بلغ حولي 40% بين 2015 و 2016. ففي الوقت الذي استخلصت فيه الدولة من الشركات ما قيمته 3.4 مليار دينار من الضرائب سنة 2013 أي قبل التخفيض في الضرائب على الشركات، لم يتجاوز معدل الدخل على الشركات بين 2015 و 2019 2.6 مليار دينار سنويا.
إذعان الحكومة بشكل علني ورسمي لتوصيات الصندوق، تحديدا فيما يتعلق بتخفيض كتلة الأجور في القطاع العام، تجلى سنة 2016، إذ تُرجم حينها بتجميد الانتدابات في الوظيفة العمومية بداية من تلك السنة، مع بعض الاستثناءات في بعض الوزارات على غرار وزارتي الداخلية والدفاع.
الحكومة تطبق تعليمات الصندوق
لتعزيز حظوظها مع الصندوق، سارت الحكومة فعليا في تبني توصيات الصندوق بحذافيرها، فعلاوة على رفع الدعم عن المواد الغذائية، على غرار تحرير سعر الطماطم سابقا والتأخر في صرف مستحقات الدعم لمعامل تعليب الحليب، فهي تسعى إلى رفعه كليا عن المحروقات بنهاية 2023. كما أعلنت الشروع في إرساء التعديل الدوري لتعريفات الكهرباء والغاز إلى غاية بلوغ حقيقة الأسعار المتوقع في نهاية سنة 2026.
فالدولة التي تدعم منذ عقود ثلاثة، منتجات وخدمات تتمثل في المنتجات الغذائية الأساسية والطاقة والنقل، بدأت فعليا في 2021 بالترفيع التدريجي للدعم على الطاقة، حينما تم تطبيق زيادة شهرية على أسعار المحروقات ليرتفع سعر لتر البنزين الخالي من الرصاص مثلا من 1955 مليم في فيفري 2021 إلى 2525 مليما موفى نوفمبر 2022.
وتقول وزارة المالية في التقرير "إطار الميزانية متوسط المدى للفترة 2023-2025" ، إن تقديرات نفقات الدعم للفترة 2023-2025 تعتمد على مدى التقدم في تنفيذ برنامج الإصلاح، واعتماد منظومة الدعم الجديدة.
"ولكنها تقر بأن نسبتها ستتراجع من جملة نفقات الميزانية إلى حدود 5.7% في نهاية سنة 2025 أي ما يعادل نسبة 1.7% من الناتج المحلي الإجمالي مقابل نسبة %16.4 و5.4% على التوالي مقدرة سنة 2023"، وفقا للتقرير.
تأمل حكومة نجلاء بودن حاليا، في الحصول على القرض الذي تعنت الصندوق في الموافقة على صرفه هذه المرة، قبل ضمان تطبيق وصفته كاملة، ما يحيل إلى أن قانون المالية لسنة 2023 جاء ليستجيب لهذه الوصفة.
على نحو آخر، فإن الحكومة التي تصر على ارتفاع كلفة الدعم على الميزانية، تتغاضى عن معطى مهم وهو فرضها في ذات الوقت ضريبة القيمة المضافة، بنسبة تصل إلى حوالي 13% على الوقود والكهرباء علاوة على ضريبة الاستهلاك. ففي الوقت التي تتظاهر فيه الحكومة بأنها تدعم المحروقات من الميزانية يتبين أنها تحقق فائضا من بيعها.
يقدم الصندوق الضريبة على الاستهلاك دائما كضريبة جيدة يسهل استخلاصها. في ذات التمشي نجد أن تركيبة المداخيل الجبائية قد تغيرت على نحو كبير خلال العشرية الأخيرة، إذ أن هناك نزوعا متواصلا نحو فرض مزيد من الضرائب على الأفراد كضريبة القيمة المضافة أو الضريبة على الإستهلاك وضريبة الدخل الشخصي.
يسمي بروفيسور الاقتصاد الأسترالي جون كويغين، الأفكار الاقتصادية التي لن تموت رغم جملة التناقضات التي تحملها والإخفاقات التجريبية الضخمة التي أدت إليها تسمية مفيدة هي "اقتصاد الزومبي" والتقشف هو إحدى أفكار "إقتصاد الزومبي" لأن خطأها أثبت تكرارا لكنها لا تزال تطبق اليوم كوصفات."
نجد استتباعات التمشي مع سياسة تقشفية في قانون المالية لسنة 2023 كذلك، حيث تم الترفيع في المداخيل الجبائية لتبلغ 87% من إجمالي مداخيل الدولة. وفي الحالة العالمية اليوم، من خلال الرؤية التي يتبناها صندوق النقد الدولي لا يبدو أن فكرة التقشف ستموت، رغم وجود الفكرة الحدسية كما يعتبرها الاقتصادي الأميركي مارك بليث والتي تقول "إن دينا إضافيا لا يعالج الدين" تعتمد على تسديد الفقراء ثمن أخطاء الأغنياء.
يستمد الصندوق القوة في فرض قواعده، بالنظر إلى كونه "الملاذ الأخير للتزود بالسيولة"، لذا ليس أمام حكومات البلدان المأزومة، في الحالات العادية، غير قبول عرض الصندوق، وتنفيذ شروطه، وإن ترتب على ذلك السقوط، أكثر فأكثر، في فخ مديونية لا فرار منها.
تُظهر التجربة أن الدخول في حلقة التداين من الصندوق، سيخلف وراء الدين دينا آخر حيث لجأت تونس -كما عشرات الدول من قبلها- بعد القرض الأول، إلى قرض ثان ثم ثالث والآن تفاوض على قرض رابع.
على الرغم من طاعة الحكومات المتعاقبة، من خلال الشروع في تنفيذ برامج الصندوق وتعريض حياة التونسيين الأكثر هشاشة، إلى الحرمان من الرعاية الصحية الفعالة والنظام التعليمي المناسب ومستوى الأجور الذي يراعي الكرامة الإنسانية.
بالنظر إلى المحاور المتكررة والمتشابهة في وصفة الصندوق للدول المقترضة، تظهر الطبيعة الأيديولوجية لسياساته، وتفند في ذات الوقت الرواية السائدة من أن الصندوق يدرس الدول حالة بحالة ليقدم وصفة تخدم طبيعة البلد.
تقودنا هذه الملاحظة التي وردت في تقرير " عقد من التقشف" المنجز من قبل منظمة البوصلة، إلى رفض فكرة أن الصندوق يراعي مصالح الدول في إسداء القروض. فقروض بشروط معممة، لا يمكن أن تحل أسباب أزمات قُطرية مختلفة ولا استتباعاتها على اقتصاديات هذه الدول. نلاحظ في الحالة التونسية تواصل ارتفاع خدمة الدين سنويا، إلى جانب انحدار سعر العملة، وعدم تراجع معدلات البطالة مع ارتفاع معدلات الفقر وتراجع نسب النمو.
في أفريل 1978 جرى استكمال اللوائح الداخلية داخل الصندوق، من خلال 3 محاور أساسية وهي "المساندة المالية" والمساعدة الفنية" و"المراقبة". لتتحول المساندة المالية، إلى الوظيفة الأساسية الجديدة للصندوق تتمثل أساسا في منح قروض للبلدان المتأزمة اقتصاديا، أو التوسط لها لدى مانحين آخرين.
فيما يتعلق بالمساعدة الفنية، فمن الواضح اليوم في طول نقاشات تونس مع الصندوق مثلا هو ما يحوزه الصندوق لنفسه من حق في تقرير الخيارات والتوجهات الاقتصادية للدولة، والتي من ضمنها القرارات المتعلقة بالبنك المركزي بدءا من فرض تمرير قانون استقلاليته عن الحكومة وصولا إلى فرض تبني سياسات نقدية معينة.
غير أن أهم ما جاء في لوائح صندوق النقد الدولي منذ 1978، هو ما يتعلق بممارسة مهمة رقابية على الدول، فإن كان الصندوق حتى ذلك الحين قد حصر تدخلاته في مراقبة الإجراءات المتعلقة بالتطورات الاقتصادية الكلية، من قبيل خفض الكتلة النقدية المتداولة، ومكافحة التضخم وضبط الميزانية الحكومية ومديونية الدولة، فإنه استأثر لنفسه لاحقا بحق مراقبة مستوى الحوكمة الرشيدة، ومدى تنفيذ شروطه الاقتصادية ما يعني ذلك من تدخل في سيادة الدول.
مثلا نجد أن الصندوق في توصياته للحكومات التونسية، قد أصر منذ 2012 على ضرورة خفض كتلة الأجور في القطاع العام، مرتكزا في تبريره لذلك على مؤشر واحد وهو حصة كتلة الأجور من الناتج المحلي الإجمالي. هذه التوصية تحولت إلى قرار اتخذته الحكومة التونسية منذ 2016 التي جمدت الانتدابات في الوظيفة العمومية، عدا بعض الإدارات على غرار وزارة الداخلية كما صاغت قوانين جديدة للتشجيع على التقاعد المبكر.
تشخيص مضلل
في التقرير المذكور سابقا لمنظمة البوصلة، يرى المؤلف قيس عطية أن التشخيص الذي يقدمه صندوق النقد الدولي بخصوص كتلة الأجور في تونس هو تشخيص مضلل. ويبني حكمه في ذلك على حجتين اثنتين، أولاهما هو أن تقييم الصندوق يعتمد على أساس نمو الناتج المحلي الإجمالي، والذي يرتفع بفضل عاملين اثنين هما الزيادة غير الطبيعية في كتلة الأجور، وثانيهما هو أن الاقتصاد غير قادر على النمو لتلبية الزيادة الطبيعية في تكلفة أجور القطاع العام.
ويؤكد المؤلف، أنه رغم اتفاق الجميع على أن الاقتصاد التونسي يعاني ركودا متواصلا على مدى العشرية الأخيرة، إلا أن الصندوق يختار التركيز على التقليص في الميزانية، لضمان استقرار التوازنات المالية عوضا عن إعطاء الأولوية للسياسات العامة الرامية إلى تعزيز النمو الاقتصادي.
بناء على ما سبق، فإن تجميد الانتدابات لن يقود إلى انخفاض كتلة الأجور من الناتج المحلي الإجمالي، نظرا لتواصل الارتفاع الطبيعي في الأجور مقابل ركود الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما سيجعل من هذه التوصية تتكرر باستمرار مع كل مناقشات جديدة مع الصندوق ما يعني مواصلة الدوران في ذات الحلقة المفرغة.
علاوة على التشخيص غير السليم لكتلة الأجور، فإن الصندوق في معالجته للموضوع لم يقدم ولو مرة واحدة على التساؤل إن كانت تونس تشغل فعلا عددا كبيرا من الموظفين، خصوصا في ظل النقص الفادح في عدد الموظفين في قطاعي الصحة والتعليم مثلا.
على سبيل المقارنة نجد أن تونس تشغل 56 موظفا عن كل ألف ساكن، في حين أن دولا في أوروبا الغربية على غرار الدنمارك يرتفع بها العدد إلى 143 وفنلندا 112 والنرويج 160 أما في بلدان اخرى تعتمد التقشف ايضا كالولايات المتحدة الامريكية والمملكة المتحدة نجد 80 و 70 موظفا عن كل 1000 ساكن تواليا.
يغيب في هذه المعالجة أيضا، تأثير تخفيض عدد الموظفين الحكوميين على الخدمات العمومية الأساسية كما يغيب جانب آخر مهم، يتمثل في كيفية تشغيل هؤلاء الموظفين على نحو يضمن أن تحقق مؤسساتهم عوائد مالية، في ظل تواصل عجز أغلب المؤسسات العمومية عن الخروج بموازنات مالية إيجابية، دون أن ننسى دور التوظيف الحكومي في الحد من البطالة وخلق عدد أكبر من المواطنين القادرين على الاستهلاك والمشاركة الفعالة في الاقتصاد.
صندوق النقد الدولي الذي يقدم نفسه كمنقذ للدول المفلسة والمأزومة، وتقدمه الحكومة الحالية كما سابقاتها كحل أخير وملجأ لتفادي العجز التام، تظهر الأرقام والتجارب المقارنة أنه ليس الحل الأفضل، فتبني سياسة تقشفية يعني كما نرى اليوم في قوانين المالية المتعاقبة، زيادة الأعباء الضريبية على المواطنين وحماية الشركات لتحصيل أكثر عدد من الأرباح من خلال ضرائب أقل على الشركات، وأكثر على الأفراد. وهو ما سيقود حتما إلى توسيع الفوارق الإجتماعية بين المواطنين.
يظهر ذلك جليا من خلال احتكار 10% من أصحاب الدخل المرتفع 42% من الدخل القومي فيما لا تحوز الطبقة المتوسطة التي تمثل 40% من مجموع السكان إلا على 41.4%، ولا تتمتع الشريحة الأقل دخلا والمقدرة بـ50% من السكان إلا بـ 16.6% من الدخل القومي، وفق بيانات المعهد الوطني للإحصاء.
من البديهي أن تزيد هذه الفوارق في الاتساع، مع زيادة معدلات التضخم مقابل تثبيت الأجور علاوة على عدم وجود مؤشرات عن تحسن الوضع الإقتصادي، بل نزوعا نحو فرض مزيد من التقشف والترفيع في أسعار خدمات حياتية مثل توفير الطاقة.