في المياه، لسكان الأرخبيل نصيب من ثروة كبيرة من سمك وأحياء مائية أخرى، أو ما يُصطلح على تسميته بالموارد السمكية. وبالتالي يحتل الصيد المقام الرئيس في هذه العلاقة التي نشأت بين السكان وبيئتهم، فهو ينظم وتيرة حياتهم باعتباره وسيلة كفاف ورئة الاقتصاد، كما أن له وظيفة اجتماعية وقد يكون أحيانا هواية بسيطة.
الصيد كان موضوع عدسة المصور دريد السويسي أصيل الأرخبيل أين وُلد أبوه، وأين يذهب هو بانتظام. هذه الممارسة هي ثمرة تناقلٍ من جيل إلى جيل حيث "يبدأ الأطفال تعلمها من سن 7-8 سنوات" يقول المصور الذي يرى في الصيد أكثر من مجرد نشاط اقتصادي بل أسلوب حياة متكامل الأركان، الأمر الذي دفعه إلى تصويره. يعرف دريد حق المعرفة كيف يكون الصيد وكيف يُمارس كما أنه رافق الصيادين في رحلاتهم في البحر.
صوره الملتقطة في سنة 2013 لا يزال لها نفس الصدى حتى بعد 9 سنوات من وقت التقاطها، إذ لا تزال المشكلة هي ذاتها لم تتغير. ومن موقعه، يراقب المصور القضايا الاجتماعية والاقتصادية والبيئية التي يمر بها هذا النشاط وما يعترض سبيله من إشكاليات.
.
.
.
.
.
منذ قرن على أقل تقدير انقسم الصيد في الأرخبيل إلى طريقتين. أولاهما تضم عددا من التقنيات التقليدية منها الصيد بالشرفية وهي أكثرها لفتا للنظر، وتكون بإيداع فخاخ مصنوعة من سعف النخيل والشباك في المياه الضحلة لإنشاء مسار ينتهي بحبس الأسماك الداخلة فيه. يقول دريد إن "حجم المصيدة الواسع يتيح للأسماك البقاء وسطها والسباحة بهدوء دون أن تعاني من الإجهاد الناجم عن اصطيادها بالشباك التقليدية". وقد صنفت اليونسكو في عام 2020 هذه التقنية في قائمة التراث غير المادي.
تختص جزر قرقنة بهذه التقنية وتُمارسها بفضل المياه الضحلة المحيطة بها. ترسم الشرفية صورة وفية للأرخبيل بما هو من أراض منفتحة على البحر يستخدم بشرها ما أُتيح لهم من مواد لصنع أدوات للصيد. تُستخدم كذلك تقنيات صيد تقليدية أخرى من قبل القراقنة مثل الصيد بالشراك والصيد بالقلال الفخارية أو ما يُعرف بـ"القارور" لاصطياد "القرنيط" (الأخطبوط).
تأتي تقنية الكيس أو الصيد بشباك الجر القاعية لترمي بظلالها على الممارسات التقليدية. "شبكةٌ تشدّها إلى القاع سلاسل فتكشطه كشطا لكيلومترات رافعة الحيوانات والنباتات دون تمييز، بينما المركب يبحر ببطء شديد"، يصف دريد العملية بعد أن أمضى ما يقرب من 24 ساعة في البحر مع الصيادة المتمرّسين في الكيس. ورغم منع السلطات استخدامها رسميا في سنة 1942 إلا أن التقنية لا تزال حاضرة في مياه الأرخبيل إلى اليوم.
لهذه التقنية أهمية لدى ممارسيها خاصة كونها تتيح صيد كمية أسماك أكبر بكثير مما تسمح به الشرفية التي تتطلب رحلتين، الأولى لزرعها والثانية لرفعها. أما شباك الجر فتنتزع كل ما يعترض طريقها حسب ما لاحظه المصوّر قائلا "على 300 إلى 400 كغ تُرفع إلى السطح يُحتفظ ما لا يتعدى 10 إلى 15 كيلوغراما من الأسماك القابلة للاستغلال". "نزر قليل من الحبار على عدد ضئيل من القمبري (الكروفات)، ثم يُلقى بكل ما لا يتم الاحتفاظ به"، لكن الضرر حصل بالفعل على أحياء وطحالب القاع.
حتى تسنح له مشاهدة هذه الممارسة عن كثب، كان على دريد السويسي الالتزام بإخفاء هوية هؤلاء الصيادين حتى يقبلوا به على متن السفينة "بشرط عدم إظهار وجوههم، فهم يعرفون أن فعلهم مجرّم". يقول المصور أن هذه التقنية تسبب مرارة كبرى في أنفس الصيادين التقليديين الذين يرون قاع البحر مهددا بهذه التقنية "المُستسهَلة"، حتى أن التوتر بينهم بلغ مبلغه وأدى في إحدى المرات إلى قلب مركب صيد بالكيس.
.
.
.
.
جزر قرقنة أرض المفارقات. بحرها يوفر للسكان الأكل والدخل، ويسمح لهم بالعيش والبقاء على قيد الحياة. تعلم السكان الاستفادة من موارد البحر، ولكن هذا التوازن هش بالنظر إلى التهديد الذي يتعرض له الأرخبيل، فتغير المناخ وارتفاع المياه قد يؤديان يوما ما إلى ابتلاع هذه الجزر قليلة الارتفاع.
وزيادة على ارتفاع منسوب البحار، أدى تغير المناخ إلى ظهور أنواع جديدة مؤخرا في البحر الأبيض المتوسط منها السلطعون الأزرق الذي اتخذ في المياه الضحلة موطأ قدم له. مثلت هذه الفصيلة من القشريات في البداية كابوسا للصيادين فهو يمزق شباك الشرفية بكماشته ويتصيد الأسماك والأنواع المحلية الأخرى. "انتهى بهم الأمر إلى صيده ووصل إلى الأسواق في وقت ما لكن ذائقة المستهلكين التونسيين لم تكن معتادة على أكل هذا الحيوان"، يقول دريد بأسف ذاكرا أنه يمكن إيجاد هذا السلطعون حتى في أسواق العاصمة.
.
.
.
.
.
أمام هذه المعضلة قرر آخرون التخلي عن هذا النشاط، وبما أن موقع جزيرتهم على طريق الهجرة نحو أوروبا لأنها نقطة انطلاق مثالية إلى إيطاليا، يخبرنا المصور أن "هناك منهم من يجدون العمل في هذا المجال أفضل من محاولة العثور على الأسماك" وفقا للأصداء التي بلغته من الجزر أين يعيش أقاربه.
وتواجه جزر قرقنة المبسوطة على المياه الضحلة اختبار الزمن، فعلى الرغم من أن صيد الأسماك يقع في صميم هوية الأرخبيل إلا أن استنزاف الموارد السمكية يضعف من إمكانية نقله للأجيال القادمة. بالنسبة لشباب اليوم، لا شيء يضمن لهم أنهم، يوم يذهبون للصيد بمفردهم، سيجدون ما يكفي من السمك للأمل في كسب العيش منه.
.
.
.