هل يعزز الدستور الجديد السلطة المحلية؟

تتبوأ السلطة المحلية مكانة في صميم الإصلاحات التي لطالما نوّه ووعد بها قيس سعيد. ولكن هل يضمن الدستور الجديد فعلا مزيدا من السلطة المحلية؟ وما هي التغييرات التي يجلبها مقارنة بعملية إرساء اللامركزية التي كانت جارية بالفعل منذ عام 2014؟
بقلم | 04 أوت 2022 | reading-duration 10 دقائق

متوفر باللغة الفرنسية
"[ليس لدي] برنامج انتخابي. البرنامج هو إرادة الشعب"، هكذا خطب قيس سعيد على القناة التلفزية الوطنية خلال المناظرة الرئاسية مع نبيل القروي في عام 2019. في ذلك الوقت، أطلقت حملة قيس سعيد على نفسها عنوان "الشعب يريد"، مكرّرة أنها تعبر عن الإرادة الشعبية ومعتمدة في ذلك بشكل أساسي على مشروع يقوم على "بناء ديمقراطي قاعدي" ويتألف من مجالس على المستوىين المحلي والوطني.

واقعيا، يريد الرئيس إنشاء مجلس وطني للجهات والأقاليم الهدف الأساسي منه "السماح للمهمشين ومن تم إقصاؤهم كليا بالمشاركة في صنع القرار".

خلال ندوة حول البناء القاعدي، يشرح مهدي العش الباحث في المفكرة القانونية أن هذا المشروع هو "مشروع يختصر السياسة في مطالب التنمية المحلية". في دستوره الجديد، ينوي قيس سعيد إنشاء غرفة داخل البرلمان تسمى مجلس الجهات والأقاليم يتكون من مسؤولين·ـات منتخبين·ـات على المستوى المحلي "ويُنتظر منهم أن تربطهم صلات بالنسيج الاقتصادي والتنموي في جهاتهم"، وفق تعليق سرحان نصري رئيس حزب الائتلاف من أجل تونس المؤيد لقيس سعيد.

حسب مهدي العش عن المفكرة القانونية، تتلخص "الفكرة في أن إعطاء صوت للناس من خلال المجالس المحلية من شأنه أن يبرز تلقائيا المطالب الشعبية الحقيقية" وبالتالي "لا حاجة للمنظمات ولا النقابات وكل المشاكل ستُحلّ بطريقة شبه سحرية".

تحصلوا وتحصلن على أفضل منشورات إنكفاضة مباشرة على البريد الالكتروني.

اشترك واشتركي في نشرتنا الإخبارية حتى لا تفوتك آخر المقالات !

يمكن إلغاء الاشتراك في أي وقت.

"كدنا نحقق معجزة رغم إمكانياتنا المحدودة" 

هذه الرغبة في الدفع بمزيد من السلطة المحلية ليست حديثة العهد أو غير مسبوقة. لسنوات، كانت اللامركزية في قلب المشاريع والنقاشات السياسية، كما كان دستور 2014 يهدف إلى إيلاء الإشكاليات المحلية أهمية أكبر عبر تفويض العديد من الصلاحيات للجماعات المحلية ومنها إدارة النفايات أو المدارس أو حتى المرافق الصحية. 

لكن على أرض الواقع تدين هذه الجماعات المحلية أوجه قصور كثيرة. في مقابلة إعلامية له يقول عدنان بوعصيدة رئيس بلدية رواد ورئيس الجامعة الوطنية للبلديات التونسية (FNCT) أن "هناك فعلا قوانين صدرت تتماشى مع منحى اللامركزية، ولكن في الحقيقة لا وجود لهذه الأخيرة". حيث يلاقي طموح إرسائها صعوبات جمة من ناحية التطبيق نظرا إلى نقص التمويل والتأطير الموجه للسلط المحلية.

"وجدنا أنفسنا ندير الأمور اليومية دون أي رؤية على المدى الطويل. ما فعلناه كان معجزة تقريبا نظرا لقلة الموارد التي كانت بحوزتنا"، يقول هشام بن فطيمة رئيس بلدية الدندان في جانفي 2022 خلال ندوة عقدتها الجامعة الوطنية للبلديات.

انخفض التمويل الممنوح للبلديات بشكل حاد بين عامي 2018 و 2021، من 4٪ من ميزانية الدولة إلى 2.75٪. "ليس بوسع المسؤولين المنتخبين فعل أي شيء بدون وسائل"، تقول منية عجال رئيسة بلدية الخليدية بولاية بن عروس.

اقترنت عملية إرساء اللامركزية كذلك بانعدام إطار تشريعي يؤطرها، وبقي الأمر على ذلك الحال حتى عام 2018 حين تمخضت أخيرا النقاشات المضنية تحت قبة مجلس النواب عن مجلة الجماعات المحلية. نظم هذا النص لأول مرة صلاحيات البلديات التونسية وأرسى مبدأ التمييز الإيجابي واللامركزية المنصوص عليهما في دستور 2014. وبذلك حظيت السلط المحلية ولأول مرة بالاستقلال الإداري والمالي تحت إشراف السلطة المركزية.

أجريت أول انتخابات بلدية في ماي من سنة 2018 لكنها لم تجذب سوى نزر قليل من الناخبين والناخبات ولم تتجاوز نسبة المشاركة فيها 33.7٪ وهي ثاني أدنى نسبة مسجلة في تونس بعد استفتاء 2022.

لكن العوائق في وجه اللامركزية لم تنته بعد على رأي سارة يركيس الباحثة في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي التي تقول لإنكفاضة أن "سلطة المجالس البلدية ومسؤولياتها على غاية من التعقيد والإرباك". على سبيل المثال، دأبت العديد من البلديات على طلب موافقة الولاة على أي قرار يُتخذ في مجالسها، حتى وإن لم يكن ذلك ضروريا. "هناك الكثير من المتاهات الإدارية والآجال المتأخرة"، تضيف من ناحيتها منية عجال، رئيسة بلدية الخليدية.

زيادة على ذلك، تم نشر أقل من نصف المراسيم الحكومية المتعلقة بالبلديات وهكذا "ظلت اختصاصات المجالس البلدية عالقة، تعاني من شح الموارد ونقص التأطير"، يلخص معز عطية وهو ناشط سياسي متخصص في اللامركزية، مضيفا أن كل ذلك مرده الافتقار إلى الإرادة السياسية.

"لم تؤمن السلط المركزية والسياسيون باللامركزية وقدرتها على النهوض بالتنمية المحلية".

على الجهة المؤيدة لقيس سعيد، يذهب البعض إلى أبعد من ذلك موجهين أصابع الاتهام إلى النواب والنائبات بشكل مباشر. من بين هؤلاء سرحان نصري، رئيس حزب الائتلاف من أجل تونس الذي يقول أن "دستور 2014 والبرلمانات المتعاقبة أتاحت للنواب المساومة على القضايا المحلية من أجل مصالحهم الخاصة. النمو الاقتصادي في الجهات يتركز أساسا في أيدي قلة قليلة من العائلات الكبيرة ورجال الأعمال الذين يمولون حملاتهم الانتخابية".

ترافقت هذه الصعوبات مع حذف قيس سعيد لوزارة الشؤون المحلية في أكتوبر 2021 وهو قرار ترى فيه شيماء بوهلال الرئيسة السابقة لمنظمة البوصلة رمزيةً كبرى. وفقا لها، يكشف ذلك في المقام الأول عن نوايا قيس سعيد فهو يعتبر أن قانون السلطات المحلية "قد وُضع على القياس ولا يلزم [السلط المحلية] بأي مساءلة".

من ناحيته يصر سرحان النصري أن "اللامركزية لم تخدم البلاد ولا البلديات بل هي عملية استفادت منها أحزاب سياسية معينة فقط". لكن بالنسبة لمعز عطية المختص في اللامركزية ربما تكون الحصيلة أكثر تباينا من ذلك، إذ أن "هناك نوعا من الشيطنة موجهٌ لعمل البلديات ولعملية اللامركزية بشكل عام" ويوصي عطيّة بدلا من ذلك بإجراء تقييم موضوعي لتجربة اللامركزية في السنوات الأربع الماضية "مع ضرورة تمييز الغث من السمين".

ما هو التغيير الذي يفرضه دستور قيس سعيد؟

يقترح قيس سعيد العديد من التغييرات مقارنة بدستور 2014، إذ لا يتضمن نص دستوره أي ذكر للتمييز الإيجابي بين الجهات ولا الاستقلالية الإدارية والمالية المحالة للسلط المحلية منذ سنة 2011، كما حُذف الباب السابع المتعلق بالسلطة المحلية والمؤسس للامركزية برمته.

كان هذا الباب المذكور يكفل الاستقلالية الإدارية والمالية للجماعات المحلية فضلا عن التدبير الحر. كما يفرض على الجماعات اعتماد "آليات الديمقراطية التشاركية ومبادئ الحوكمة المفتوحة، لضمان إسهام أوسع للمواطنين والمجتمع المدني".

ضماناتٌ حذفها دستور 30 جوان وعوّضها بفصل وحيد ينص على أن صلاحيات السلط المحلية ستحدد بموجب قانون. وفي غياب إمكانية الاستفتاء بالمبادرة الشعبية أو أي طريقة لإنهاء عهدة الرئيس، لم يذكر الدستور الجديد سوى الاستفتاء الرئاسي كوسيلة متاحة لممارسة الديمقراطية المباشرة.

ترى سارة يركيس عن مؤسسة كارنيغي أن "سعيد بصدد تركيز السلطة في يده وبالتالي فإن هذا الدستور لا يعد باللامركزية ولا بمزيد من السلطة المحلية بل هو مشروع يرمي إلى مركزة السلطة ولا يشمل مشاركة المواطنين".

ثقل البارونات المحليين 

يثير مشروع قيس سعيد عددا من التساؤلات حول فعاليته في الحد من التفاوتات الجهوية وعن مدى تعبيره عن "إرادة شعبية" حقيقية. فمن ناحية، يجادل مؤيدوه ومؤيداته بأن من شأن الاقتراع على الأفراد عوض القوائم أن يقلل إلى أدنى حد من مخاطر الفساد وتضارب المصالح. يقول سرحان نصري عن حزب الائتلاف عن هذا النظام "إنه ينطوي على مخاطر أقل: فالشخص يقدم نفسه باسمه والناس يعرفونه، على عكس الاقتراع على القائمات".

وينص دستور 30 جوان أيضا على مبدأ سحب الوكالة من النواب التي من شأنها أن تتيح لسكان جهة ما إلغاء أصواتهم وبالتالي إلغاء ولاية ممثليهم وممثلاتهم المنتخبين في أي وقت. ووفقا لسرحان نصري فإن هذا المبدأ يجعل من الممكن مراقبة المسؤولين·ـات المنتخبين·ـات ومنع الفساد، مضيفا أنه من الضروري كذلك وضع إجراءات صارمة تستوجب وجود أدلة واضحة على الفساد من أجل سحب الوكالة "حتى لا تعم الفوضى وحتى لا نمضي وقتنا من انتخابات إلى أخرى" على حد تعبيره.

في المقابل يتخوف آخرون من أن نظام تصويت على نطاق مصغر قد يعزز قوة ذوي الجاه والنخب المحلية. يرى وحيد الفرشيشي، الأستاذ المبرز في القانون العام والرئيس الشرفي للجمعية التونسية للدفاع عن الحريات الفردية (ADLI) أنه "سيكون لدينا أشخاص، بالمعنى الحرفي للكلمة، بدلا من أن تكون لدينا أحزاب سياسية. هذا يصب في مصلحة الوجهاء، أي الرجال الأكبر سنا، على حساب الشباب والنساء".

يشير تقرير من صياغة المفكرة القانونية إلى أن هكذا مشروع قد "يؤجج المشاحنات القبلية، فضلا عن المحسوبية والرشوة الانتخابية. وتزداد هذه المخاطر كلما كانت المنطقة صغيرة، وباشتداد المنافسة حول الأفراد".

وعوض أن يكون شراء الأصوات مباشرا، يصبح الخطر طويل المدى على ولاء السكان والذي يمكن كسبه "سواء من خلال تقديم الخدمات أو المساعدات أو التدخل في الإدارات أو حتى من خلال الاستثمار في بنى تحتية وخدمات عامة".

لكن بالنسبة لسرحان نصري هذه المخاوف غير مبررة، "في هذه الحالات يلعب الضمير والمسؤولية المواطنية دورهما، حتى لا يتم انتخاب مرشح يأتي من عائلة كبيرة أو يستخدم مرشح ما أمواله الشخصية" وهو وعي اكتسبه المواطنون والمواطنات طيلة العقد الماضي وفق تقديره.

مخاطر برلمانٍ مفتتٍ 

سيتعين فيما بعد على البعض من هؤلاء الأفراد المنتخبين·ـات على المستويين الجهوي والإقليمي أخذ مقاعدهم في المجلس الوطني للجهات والأقاليم وهو أحد غرفتيْ البرلمان الجديد المنصوص عليه في الدستور.

شكوكٌ كثيرة تحوم حول الجدوى من هذا المجلس الذي يتألف من عدد كبير من النواب والنائبات الذين لا ينتمون بالضرورة إلى أحزاب ولا ينخرطون في أي برنامج مشترك. "كان احتجاجنا سابقا على برلمان يضم 7 إلى 10 ائتلافات، والآن مع هذا المشروع سيكون لدينا 217 ائتلافا"، يقول الباحث في العلوم السياسية الصحبي الخلفاوي بنبرة ساخرة.

"سيكون لدينا برلمان مفتّت. كل نائب سيكون بلدا في حد ذاته"، حمادي الرديسي أستاذ العلوم السياسية خلال ندوة من تنظيم المفكرة القانونية .

ناقش الخبيران أيضا التهديدات التي يطرحها هذا المشروع على الوحدة الوطنية. "الانتخابات [لهذا المجلس] ستقوم على البارونات المحليين مما سيساهم في تفتّت الدولة"، يضيف أستاذ العلوم السياسية حمادي الرديسي.

"يرسخ هذا المشروع فكرة مفادها أن رابطك السياسي الوحيد سيكون صلة الدم، والحظ الذي شاء أن يكون ميلادك في ذلك المكان"، الصحبي الخلفاوي.

تدين عدة جهات فاعلة في المجتمع المدني كذلك الانعدام التام للمساواة الانتخابية داخل هذا المجلس، حيث أن صوت مواطن·ـة من مطماطة، وهي المعتمدية الأقل كثافة سكانية في تونس، سيساوي 36 مرة صوت مواطن·ـة في سكرة التي يقطنها 147 ألف نسمة، وفقا لتقديرات المفكرة القانونية. ومن شأن هذا الأمر أن يضع بعض أحياء الطبقات العاملة المكتظة بالسكان والواقعة على هوامش المدن الكبرى في وضع غير متكافئ أكثر من أي وقت مضى.

ومع ذلك يرى سرحان نصري عن حزب الائتلاف المؤيد لقيس سعيد أنه من الممكن تصحيح هذه المشكلة بسهولة من خلال إضافة مقعد واحد لكل 50.000 أو 60.000 نسمة، وحسب كيفية تقسيم الدوائر الانتخابية: "كل شيء سيزداد وضوحا بصدور قانون الانتخابات".

"القانون الانتخابي هو المفتاح " 

لا تزال تتواجد عدة مناطق رمادية حتى بعد قبول الدستور الجديد يوم 25 جويلية 2022. لا يوفر هذا النص سوى لمحة عامة على تنظيم السلطات داخل الدولة ومن الضروري انتظار صدور القانون الانتخابي لفهم النظام السياسي القائم فهما حقيقيا.

سيحدد هذا القانون كيفية انتخاب نواب ونائبات المجلسيْن فضلا عن تقسيم الدوائر الانتخابية. يقول النصري في هذا الصدد أن "المفتاح هو القانون الانتخابي. وكنا قد دعونا في أعقاب الاستفتاء إلى الإسراع في عملية إصدار هذا القانون وإشراك الأحزاب السياسية والمجتمع المدني قدر الإمكان في عملية صياغته".

يوم 25 جويلية 2022 وفي طريقه إلى مركز اقتراع بتونس العاصمة، ألقى قيس سعيد خطابا أعلن فيه أنه ستتم صياغة قانون انتخابي جديد لتوضيح اللبس الذي يكتنف الانتخابات التشريعية المقرر إجراؤها في شهر ديسمبر 2022. لكن إلى حد هذه اللحظة لا تتوفر أية معلومات سواء عن تاريخ نشر هذا القانون أو عن الجهات المشاركة في صياغته.