الإنفاق العمومي على الصحة: بماذا تخبرنا الأرقام عن السياسات الصحية في تونس؟

الإنفاق العمومي على الصحة: بماذا تخبرنا الأرقام عن السياسات الصحية في تونس؟

يعد الإنفاق العمومي على الصحة مدخلا مهما لفهم مستوى جودة الخدمات الصحية وملامح السياسات الحكومية في هذا المجال. ما هي أوجه الخلل في الإنفاق العمومي على الصحة في تونس؟ وكيف تتجلّى اللامساواة في الحصول على الخدمات الصحية؟ 
بقلم | 25 جوان 2022 | reading-duration 12 دقيقة

متوفر باللغة الفرنسية

بعد انتظار حوالي 30 دقيقة في صف طويل تحت أشعة الشمس، تلقي الصيدلانية، نظرة سريعة على ملف دواء فاطمة، والدة أحمد، قبل أن تعيده له مباشرة ودون حتى النظر إليه تنطق بجملة وحيدة مقتضبة "الدواء لم يأت بعد". دون أي تعليق يسحب أحمد الملف من بين قضبان الشباك الحديدي  ليعود خارجا من بهو مركز الصحة الأساسية بمنزل تميم.

لحوالي ثماني سنوات كانت تأخذ فاطمة دواء ارتفاع ضغط الدم المزمن مجانا غير أنها منذ ما يزيد عن 3 سنوات صارت تحصل عليه نادرا. باتت الأم الستينية تتعرض أكثر من ذي قبل إلى نوبات ارتفاع ضغط الدم المصحوبة بارتفاع في درجات الحرارة واحساس بالدوار.

رغم حالات التوتر والإرهاق التي تلازمها هذه المدة، تعتبر فاطمة نفسها محظوظة من بين ألاف المرضى، تقول: "عندما أرى غيري أنسى معاناتي، هناك أمراض أسوأ من ضغط الدم، أصحابها  لا يقدرون على النوم وتتعكر حالتهم إذا ما فقدوا الدواء يوما". 

تحصلوا وتحصلن على أفضل منشورات إنكفاضة مباشرة على البريد الالكتروني.

اشترك واشتركي في نشرتنا الإخبارية حتى لا تفوتك آخر المقالات !

يمكن إلغاء الاشتراك في أي وقت.

وزارة الصحة وخيار التعتيم

تظهر بيانات معهد القياسات الصحية والتقييم التابع لجامعة واشنطن للطب أن أكثر الأمراض المتسببة في الوفاة في تونس بين 2009 و2019 هي مرض نقص تروية القلب والسكتة الدماغية والسكري. كما يتبين أن هذه الأمراض قد تطور تأثيرها في عدد الوفيات على نحو ملحوظ إذ بلغت حوالي 23% في ما يتعلق بمرضي نقص تروية القلب والسكري.

حاولنا التواصل مع وزارة الصحة لمعرفة استراتيجيتها في مكافحة هذه الأمراض وتوفيرها للأدوية المتعلقة بها. ورغم مراسلتنا لها 5 مرات واتصالاتنا بالمكلف بالاتصال مثلها من المرات أبت الوزارة إلا أن ترفض طلبنا في إجراء المقابلة رغم مهلة حوالي أسبوعين.

في ظل هذا التعتيم وغياب الإحصائيات حول توافر الأدوية، تشير الملاحظة  الميدانية في عدد من المستشفيات إلى غياب الأدوية. ففي استطلاع أجرته "انترناشيونال آلرت" في ولاية تطاوين سنة 2019 ، أفاد 70٪ من مرضى الرعاية الصحية أن الأدوية التي يبحثون عنها غائبة في مرافق الرعاية الصحية التي يترددون عليها.

هل تضمن الدولة حق الرعاية الصحية ؟ 

مع ظهور جائحة كوفيد-19 التي مست الجميع من مختلف الطبقات وفي كل الجهات في نفس الوقت، انكشف قصور النظام الصحي العمومي في تونس عن استيعاب جميع المرضى وظهر تأثير الفوارق الاجتماعية على الولوج إلى الخدمات الصحية الاستشفائية.

 يقول رئيس الإدارة العامة لحوصلة وتحليل النفقات بوزارة المالية أسد خليل في تصريح لإنكفاضة: "بالنسبة لسنوات الكوفيد تم تخصيص جزء من نفقات الميزانية لمجابهة هذه الآفة علما وأن العديد من مجالات الإنفاق في الحالة المذكورة تمت خارج إطار الميزانية خاصة في كل ما يتعلق بالهبات العينية التي تسلمتها تونس مثل اللقاحات وبعض المعدات الطبية." 

علاوة على مشاكل البُنية التحتية ونقص الطواقم الطبية كان النقاش حول التخطيط الحكومي والمفاضلة بين  إنقاذ الأرواح وتوفير الحماية الإجتماعية للمواطنين وبين إنقاذ الإقتصاد. وهنا تهاوى الفصل 38 من الدستورالذّي جاء فيه:"تضمن الدولة الوقاية والرعاية الصحية لكل مواطن، وتوفرالإمكانيات الضرورية لضمان السلامة وجودة الخدمات الصحية."

عمليا، لم تضمن الدولة للمواطنين والمواطنات الحق في الصحة، وكان الحل الأخير لهم·ن هو التوجه إلى المصحات الخاصة التي أملت شروطها على مرضى كوفيد- 19 وساومت التونسيين والتونسييات على أرواحهم، مثل فرض الدفع مسبقا أو رفض بداية العلاج دون إيداع صك بنكي.

 تظهر الفوارق بين القطاع الصحي العمومي  والخاص من حيث مستوى الخدمات لما يحوزه الأخير خصوصا من تجهيزات ثقيلة باهظة التكلفة وتتمثل في 85% من أجهزة الكشف بالرنين المغناطيسي و73% من الماسحات الضوئية (سكانار) و79% من قاعات القسطرة القلبية، سنة 2017.  فيما تواجه حتى التجهيزات الموجودة بالقطاع العمومي مشاكل في الصيانة إذ خلص تقرير محكمة المحاسبات إلى أن 42% من التجهيزات الطبية معطوبة، وفق ما جاء في تقرير "الحق في الصحة زمن جائحة كوفيد-19" الصادر عن المنتدى التونسي للحقوق الإجتماعية والإقتصادية في أفريل 2022. 

إنفاق لا يلبي الإحتياجات

يُعد الإنفاق على الرعاية الصحية مؤشرًا قويًا على الخدمات الصحية العمومية للبلد ويُستخدم أساسا في مؤشرات التنمية البشرية والتقدم الاجتماعي في علاقة بالوضع الصحي.

وفي  الوقت الذي تبرز فيه أهمية الإنفاق العمومي على الصحة كخيار اجتماعي ضروري فترة كوفيد-19، فإن الإنفاق العمومي على الرعاية الصحية له أهمية خاصة في رسم ملامح السياسات العمومية في ما يتعلق بتحسين المؤشرات الصحية وتوفير خدمات أكثر فعالية وقربا للمواطنين والمواطنات خارج فترات الأوبئة والأزمات العامة.

بالنظر إلى الأرقام، تجاوز الإنفاق العمومي على الصحة من الناتج الداخلي الخام سنة 2018، 7% غير أنه انخفض سنة 2019 إلى 5% فقط. أنفقت الدولة سنة 2018 بمعدل 253 دولار للفرد الواحد. إذا ما أردنا أن نقارن حجم هذا الرقم في السياق الإقليمي والعالمي نجد أن المغرب ينفق 174 دولار و لبنان 672 دولار، أما عالميا فإن المسافة بعيدة جدا، حيث أن حصة الفرد في النرويج تتجاوز الـ7 ألاف دولار سنويا من الناتج الداخلي الخام.

ورغم إن الأرقام  تشير بعد 2020 خصوصا إلى ارتفاع متواصل في نفقات الصحة من 2864,778 مليون دينار سنة 2018  إلى 4151,075  مليون دينار إلا أننا يجب أن لا نُغفل الفرق بين النمو الحقيقي والنمو الإسمي في إبراز التطور الفعلي. ذلك أن الأول يأخذ في الاعتبار النمو الحاصل في الإنفاق بناء على التغيرات في أسعار السلع والخدمات (التضخم) عكس الثاني الذي يحسب التطور دون النظر إلى التضخم. لذلك يعتبر  النمو الحقيقي المؤشر الأدق لحساب نسبة التطور في معدلات الإنفاق بناء على المقارنة بالأسعار الحقيقية مع سنة المرجع.

على هذا الأساس نرى أن معدل النمو الإسمي يلامس 45% في حين أن القيمة الحقيقية للنمو لا تتعدى 31%. كما أنه بالإمكان المضي أكثر في ترجمة الأرقام بالأخذ في الحسبان زيادة عدد السكان وتطور نسب الأمراض لدى السكان على سبيل المثال.

على نحو عام نجد أن التطور في الإنفاق على الصحة قد ارتفع في تونس بين سنتي 2000 و2018 من 5.05 إلى 7.29% من الناتج المحلي الإجمالي. تُرجم رفع معدل الإنفاق في تحسّن مؤشر جودة الخدمات الصحية وفق معهد القياسات الصحية والتقييم من 55.9 نقطة إلى 68.1 خلال نفس الفترة.

 تشير كذلك التوقعات في أفق 2050 إلى ارتفاع في نسبة الإنفاق الحكومي من مصادر الإنفاق- والتي تضم أيضا الإنفاق الخاص المدفوع مسبقا (التأمين على المرض)، الإنفاق الشخصي والمساعدة الإنمائية للصحة (مساعدات المنظمات العالمية)- من 57%  سنة 2018 إلى 67% سنة 2050. 

كم يُنفق على الصحة - الآن وفي المستقبل - ومن أية مصادر؟  

ربما لا يكون هذا التطور دقيقا بالقدر الكافي على اعتبار أنه مبنيّ على منحى النمو في السنوات السابقة، إذ قد تتغير السياسة العامة في الصحة بناء على تغيرات سياسية أو بيئية أواجتماعية مقبلة.

إنفاق أكثر وبنية تحتية أقل

عند النظر إلى توزيع نفقات أقسام مهمة الصحة، نجد أن التأجير يحوز الحصة الأكبر من نفقات الصحة في تونس فيما أن نسبة الإستثمار لا تتعدى 15%. الملفت للإنتباه هو تراجع عدد المستشفيات الجهوية خلال السنوات الأخيرة من 34 سنة 2009 إلى 31 سنة 2017، وفق المعهد الوطني للإحصاء.

برمجة نفقات الصحة حسب الأقسام 

يؤكد تقرير أعدته منظمة البوصلة وحصلت إنكفاضة على نسخة منه أن نظام الرعاية الصحية العمومي يعاني أيضًا من نقص الموارد المادية مثل أسرة المستشفيات، والمعدات الطبية الثقيلة، وغيرها من الضروريات مثل معدات الحماية الشخصية. 

يبرز ذات التقرير الركود الذي عرفته البنية التحتية الصحية في تونس منذ 2011 والتي نلاحظ أنها إما تراجعت في بعض الجوانب أو ظلت تراوح مكانها في أخرى. فمثلا ظل عدد مجموعات الرعاية الصحية الأساسية كما هو عند 28  مجموعة، وفيما زاد عدد مستشفيات المحلية بنسبة أقل من 1٪ من 109 إلى 110 مستشفى، انخفض عدد المستشفيات الجهوية بنسبة 6٪ من 33 إلى 31 مستشفى وتوقف عدد المستشفيات الجامعية والمراكز المتخصصة عند 32. 

في المقابل نلاحظ  نمو عدد المرافق الصحية الخاصة بنسبة 28% بين 2010 و2018 وفق التفاصيل التالية:  

العيادات الخاصة
ارتفع عدد العيادات الخاصة بحوالي 25% وتحديدا من 6273 عيادة إلى 8353.
المصحات الخاصة
زاد عدد المصحات الخاصة بنسبة %24 من 77 إلى 102.
عيادات طب الأسنان
شهد عدد عيادات طب الأسنان نموا بنسبة 36% وتحديدا من 2101 عيادة إلى 3315.

يبين لنا هذا التمايز  في النموّ بين القطاعين العمومي والخاص ازدهار القطاع الصحي الخاص على حساب القطاع العمومي الذي بات يعاني من شح الموارد وتردي البنية التحتية. وبما أن الحاجة إلى الرعاية الصحية ضرورة حياتية فإن التوجه المتزايد نحو العلاج في القطاع الخاص هو في الحقيقة خيار لمن يستطيعون دفع تكاليفه في ظل تردي الخدمات الصحية العمومية أو صعوبة الوصول إليها.

معضلة اللامساواة الجهوية

قسّم تقرير"الحق في الصحة زمن جائحة كوفيد-19" المنجز من قبل مجموعة من الباحثين لفائدة المنتدى التونسي للحقوق الاجتماعية والاقتصادية مثلما أسلفنا، قطاع الصحة العمومي إلى 3 خطوط. 

يتكون الخط الأول من مراكز الصحة الأساسية، والمستشفيات المحلية ويضطلعان لوحدهما بربع العيادات الطبية الإجمالية للبلاد وحوالي 70% من العيادات في القطاع العمومي وفق مسح إنفاق  الأسر سنة 2015." 

ويواصل مؤلفو·ات التقرير: "حتى إن كان عددها معقولا -أي العيادات- وتوزيعها الجغرافي شبه  مثالي بـ2517 مركز صحة أساسية و108 مستشفى محلي(..) فإن 45% من مراكز الصحة الأساسية في البلاد لا يوفر عيادات طبية سوى مرة واحدة في الأسبوع وأقل من 20% منها مفتوحة كامل أيام الأسبوع."

يشير التقرير إلى معطى مهم يكشف عن وجه اللامساواة الجهوية في الصحة، إذ إن 100% من مراكز الصحة الأساسية تفتح في تونس العاصمة كامل أيام الأسبوع خلافا لولايتي الجنوب توزر ومدنين  أين 3% فقط من هذه المراكز تفتح كامل الأسبوع.

في الخط الثاني لقطاع الصحة العمومي، نجد وفق تصنيف ذات التقرير أنه يتكون من 31 مستشفى جهوي موزعة على نحو نجمت عنه بعض الفوارق الجهوية بالنظر إلى معدل المسافات الفاصلة بين المستشفيات والتي تتراوح بين 60 كم في تطاوين و 8 كم في بن عروس.

أما في الخط الثالث، فيوفر قطاع الصحة العمومي 27 مؤسسة  للصحة ومركزا استشفائيا جامعيا إلى جانب 9 مراكز اختصاص. يعتبر تقرير"اللامساواة في الصحة زمن جائحة كوفيد-19" أن أفدح مظاهر اللامساواة الجهوية تتجلى في هذا الخط: "إذ بقدر ما يمكن أن توجد تفاوتات في الوسائل والتجهيزات أو في المسافات بالنسبة لهياكل الخطين الأول والثاني، فإن المؤسسات العمومية للصحة والمراكز الاستشفائية الجامعية لا توجد سوى في 13 ولاية مع غياب تام لها في الشمال الغربي والجنوب الغربي في حين لا نجد بكل من الوسط الغربي والجنوب الشرقي الا مركزا واحدا.

من جهته يخلص تقرير البوصلة إلى أن متوسط المسافة إلى مستشفى جامعي هو 2 كم في تونس العاصمة و 37 في صفاقس و 84 في نابل، ومع ذلك تصل تلك المسافة إلى 333 كم في توزر. وهذا ليس شاقا فحسب، بل يزيد أيضًا من  مخاطر اصطدام المرضى أو وفاتهم وهم في طريقهم لتلقي الرعاية المناسبة.

من المهم الإشارة إلى أن مستوى المساهمة الذاتية للمؤسسات الإستشفائية الجامعية يعد مهما في تركيبة موارد هذه المؤسسات إذ يتجاوز الثلث، وهو ما يمثل في الحقيقة مساهمة المتداويين والمتداويات في خلاص مصاريف العلاج.

توزع موارد برنامج البحث والخدمات الاستشفائية الجامعية سنة 2022  

رغم الارتفاع المتواصل في كتلة الأجور إلاّ أن هذا الإرتفاع لا يعكس بالضرورة ارتفاع عدد العاملين أو التعويل على تطوير الطاقم الطبي وتدعيم صفوفه. ففي الحقيقة تشير الأرقام  إلى تراجع عدد أطباء الصحة في القطاع العمومي بين 2011 و 2017. فوفق آخر تحديث للمعهد الوطني للإحصاء وبناء على تقارير وزارة الصحة فإن عدد هؤلاء قد تناقص بين هاتين السنتين من6971 إلى 6753  فيما ارتفع عدد الأطباء الخواص من6715 إلى 8139.

كذلك، اعتبر تقرير المنظمة  أن القطاع الصحي العمومي يعاني نقصا مروعا في الأطباء، لا سيما في بعض التخصصات الطبية والجراحية. وقد بلغ عدد الأطباء لكل 1000 شخص في تونس 1,3 في القطاع العام. في ذات الوقت ارتفع عدد ممتهني الطب العام من 3414 في عام 2017 إلى 4225 في عام 2019 (0,36 طبيب·ة لكل 1000 شخص) في المقابل شهد عدد الأطباء والطبيبات الأخصائيين·ات انخفاضًا حادًا في نفس الفترة الزمنية من 3339 إلى 2318 (0,19 طبيب·ة لكل 1000).

  تطور عدد الأطباء لكل 10000 ساكن  

  بخصوص احصائيات القوى العاملة في الجراحة المتخصصة، يُدرج تقرير منظمة البوصلة كذلك أرقاما مقلقة، إذ إن متوسطهم الوطني هو 11,54 لكل 100,000 من السكان (2014) وهو أقل بكثير من المتوسط العالمي البالغ 30,53 (2015)، وكذلك أقل من المتوسط في البلدان الأخرى مثل هندوراس (60 في 2014) وفنلندا (76 في 2014) وكوبا (100,89 في عام 2017).  

خدمات الصحة الأساسية وتعاظم الحِمل على الأطباء والطبيبات

حتى عندما ننظر إلى الخط الأول من خدمات الصحة الأساسية في القطاع العمومي والتي من ضمنها تنظيم الأسرة والصحة الإنجابية نجد أن خدمات العيادات ما قبل الولادة وما بعدها قد تراجعت بنسبة 30% و %23 تواليا بين 2011 و 2019. 

ومن المثير للقلق هو أن نقص هذه الخدمات  قابله ارتفاع معدلات الوفيات لدى الأمهات إذ ارتفع العدد بين 2007 و2017 من 36 وفاة لكل 100 ألف ولادة إلى 62 وفاة. وهنا يُثار مشكل مراكز الخدمات الصحية الأساسية والاشكاليات المتعلقة بها.

تقول الطبيبة ورئيسة دائرة صحية بمركز صحة أساسية بتونس الكبرى وئام بالحاج صالح* في حوار لإنكفاضة: "فترة الكوفيد-19 كنت اشتغل بطريقة تطوعية حتى أنني استخدمت سيارتي الشخصية في نقل المرضى، النقائص في قطاع الصحة تشمل كل شيء من أدوات الحماية الشخصية مرورا إلى القاعات المجهزة وصولا إلى غياب المعدات الثقيلة مثل أدوات الرنين المغناطيسي وغيرها" 

 ولكنها تستدرك: "على مستوى آخر لا يمكنأن نتحدث اليوم عن مشاكل مراكز الصحة الأساسية دون الحديث عن مشكل تهميش الطب العام لحساب الطب العائلي. ولكن هذا الأخير في حد ذاته لا يرى في القطاع الصحي العمومي فرصة لتحقيق انتظاراته وصنع المسيرة التي يأمل فيها"

وئام بن الحاج صالح* التي تتولى كذلك تأطير متربصي·ات الطب العائلي تؤكد: "إن 100% من هؤلاء يعتبرون أن عملهم في تونس فترة مؤقتة قبل الهجرة نحو بلدان أخرى على غرار فرنسا وألمانيا. وهنا تمكن معضلة أخرى تتمثل في نقص الموارد البشرية وسوء توزيعها كذلك، إذ يتم أحيانا إضافة موارد بشارية زائدة عن الحاجة في اختصاصات شبه طبية أغلب الأحيان فيما نكون في حاجة إلى طبيب أو طبيبة".

وتواصل: "عدا نقص التجهيزات والمرافق الضرورية التي تعرقل عمل الأطباء والطبيبات واجهنا كذلك نقصا في أدوية الأمراض المزمنة، إذ لأشهر متواصلة لم نكن نجد دواء مرضى السكري". تتابع وئام* التي اشتغلت سابقا بالمستشفى الجهوي بقابس أن هذه النقائص موجودة في مستشفيات تونس من شمالها إلى جنوبها وتُرجع السبب الأساسي إلى سوء التصرف وغياب الرقمنة إذ تؤكد أن بعض طلبات الأدوية تكون خاطئة فيما قد تتعرض أدوية أخرى إلى التلف نتيجة انتهاء صلوحيتها بسبب غياب قواعد بيانات رقمية منظمة.

تقول الطبيبة التي تتولى كذلك مسؤولية إدارية ومالية: "يجب أن تمنح اليوم الإستقلالية المالية والإدارية واتخاذ القرار لجميع الهياكل الصحية بهدف تحسين مستوى التصرف ونجاعته، فالهياكل المركزية من الأجدر أن يبقى دورها في مستوى تطوير السياسات والاستراتيجيات وخطط العمل الصحية."

قُدّر حجم الفساد وسوء التصرف في المجال الصحي على مستوى العالم بـ  5.59% من الإنفاق الصحي العالمي، وتبلغ نفقات الرعاية الصحية حسب تقديرات المنظمة العالمية للصحة حوالي 8.3 تريليون دولار أمريكي في 2020، وهو ما يعني تقريبا خسارة حوالي 464 مليار دولار أمريكي على المستوى العالمي بسبب الفساد وسوء التصرف.

في بحث ضمن التقرير السابق للمنتدى التونسي بعنوان "الفساد في قطاع الصحة: عندما يستشري الوباء ويغيب التلقيح" يقول المؤلف، شرف الدين يعقوبي، وهو مراقب عمومي:"تؤكد عديد التقارير التي تقيس حجم الفساد في تونس حسب القطاعات أن الفساد في القطاع الصحي يحتل دائما المراتب الثلاث الأولى ضمن أكثر القطاعات فسادا."

ويواصل: "في تقرير صادر في 2019 عن الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد احتل القطاع الصحي المرتبة الثالثة ضمن القطاعات الأكثر عرضة للفساد بعد الأمن والديوانة وذلك حسب 41.9%من المستجوبين. أما تقرير مدركات الفساد في تونس الصادر في 2018 ضمن استطلاع لـ "افروباروميتر" فقد قدّر أن 11 % من التونسيين مستعدون لدفع رشاوى للحصول على خدمات صحية."

هذا التشخيص للفساد في قطاع الصحة يمس من جودة الخدمات وتوفرها للمواطن العادي حيث، كما ذكر نص التقرير  إن الولوج للخدمات الصحية يصبح أحيانا مشروطا بدفع رشاوى وعمولات.

ذات البحث يشير أيضا إلى أمثلة عن سرقة الأدوية من قبل مهنيي الصحة لإعادة بيعها. واستدل في ذلك بتصريح رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد المنحلة عن أن سرقة الأدوية تكلف سنويا 100 مليون دينار فيما يكلف تهريب الأدوية للبلدان المجاورة 600 مليون ديناروقياسا على ذلك يمثل هذا الرقم حوالي 5% من نفقات وزارة الصحة لسنة 2022.

تبرز قوة الأرقام في الكشف عن أثر الشعارات على أرض الواقع ومدى اتفاقها مع ما ينجز عمليا. تفكيك ميزانية وزارة الصحة التونسية في الوقت الراهن يقودنا إلى استنتاج نقص فادح في الاستثمار في هذا القطاع، استثمار يجب أن  يشمل منظومة الصحة العمومية في كل جزئياتها بدءا من الطواقم الطبية وصولا إلى التجهيزات وتقريب الخدمات الصحية للتونسيين والتونسيات بعدل بين الجهات والطبقات.