من شاحنة الأكل مرورا بالعربة المجرورة ووصولا إلى البائع·ـة البسيط·ـة للوجبة الخفيفة المعروفة بـ "كسكروت عياري"، يحاول كثيرون على غرار مروان كسب قوتهم من بيع أكل الشوارع. وعلى قدر انتشار هذا النشاط على نطاق واسع في تونس، لا يزال رغم ذلك غير معترف به رسميا، ما يضع الباعة عرضة لنزوات أعوان الأمن المتقلبة.
سمير هو بائع كسكروت عياري وبيض مسلوق، يعمل "في نفس الحي منذ 21 عاما" وفق روايته. تعرض للإيقاف من قبل الشرطة في الآونة الأخيرة في ثلاث مناسبات. "شرحت لهم أنني هنا من 21 عاما ولكنهم رفضوا الإصغاء إليّ". صادر أعوان الأمن معداته وغُرّم بـ 60 دينارا لأنه كان يعمل بشكل غير قانوني: "أعرف كثيرين طلبوا تراخيص، ولكن الإدارة لا تسندها ولم تسندها لأحد قط"، على حد قوله. اضطر البائع إلى إعادة شراء معداته في كل مرة بتكلفة "ما بين 150 و200 دينار. لدي عائلة لأطعمها، وأكسب ما بين 20 و30 دينارا في اليوم تذهب لإطعام أطفالي".
"تفعل الشرطة ما يحلو لها، فإما أن تعتقلك في كل مرة أو تدعك وشأنك، حسب هواها".
أما مروان فقد واجه من ناحيته جملة من التناقضات الإدارية. أجبرته البلدية الراجع إليها بالنظر إلى تقديم مطلب في الغرض، ولما فعل كان ردها مبهما حسب شرحه: "لم ترفض، ولكنها تركت الموضوع مفتوحا وقيل لي أنه لا يوجد قانون مرجعي وأنها عاجزة عن فعل أي شيء من أجلي". ومن جانبها، منعته وزارة الداخلية منعا باتا من ممارسة هذا النشاط. ورغم ذلك حاول الشاب مزاولة العمل لكن "لم تكد تمضي ساعة واحدة حتى قدمت الشرطة لإيقافي".
وفي حين يتواصل قمع باعة أكل الشوارع، لم يتوقف الطلب عليه بل ازداد. يقول سمير أنه "على أي حال، لن ينقطع المواطن التونسي عن أكل كسكروت العياري أكان من عندي أو من عند غيري". "في الصباح لا يمكنك تناول وجبة خفيفة بسعر 9 دنانير، فذلك مكلف للغاية. ولذا يخيّر الناس الحصول على كسكروت عياري بسعر دينار ونصف ومعه بيضة مسلوقة".
إطار قانوني مفقود
في تونس، لا يوجد قانون يعترف بأكل الشوارع. ترى محامية الأعمال هيفاء سوداني في ذلك "فراغا قانونيا". "هذا شيء حديث نسبيا في تونس. ثم من الناحية القانونية، حين لا يكون هناك قانون خاص يتعلق بمجال بعينه، فإن القانون العام هو الذي ينطبق. نتحدث في هذه الحالة بالذات عن المجلة التجارية وقانون حماية المستهلك وكراريس الشروط البلدية"، تعدّد المحامية.
من ناحيتها، تفسر هادية عمر كاهية مدير إدارة حفظ الصحة ببلدية أريانة، أنه لا وجود لكراس شروط ينظم الشروط الصحية لأكل الشوارع، مضيفة أن "بلدية أريانة لا تعطي ترخيصا في هذا المجال بما أنه غير موجود قانونيا". فالقانون لا يعترف إلا بصفة تاجر التفصيل بالتجوال الذي لا يحق له سوى شراء السلع وإعادة بيعها "على حالتها" مثلما ورد في القرار المشترك بين وزير الداخلية والتنمية المحلية ووزير التجارة والصناعات التقليدية المؤرخ في 9 ديسمبر 2010 والمنظم للتجارة بالتجوال.
ترى هيفاء سوداني أنه ينبغي أن يكون هناك "قانون إطاري" يتموضع "ما بين التجارة بالتجوال وخدمات المطاعم". وتضيف الخبيرة أن هذا الأمر أضحى ملحا "نظرا لتزايد الأشخاص الراغبين في الاستثمار في هذا المجال الذي أصبح عصريا والذي يعتبر أقل تكلفة ومربحا"، وتضيف: "يجب أن يتولد القانون من رحم الميدان".
تشاطرها هادية عمر عن إدارة الصحة ببلدية أريانة نفس الرأي، إذ "يجب أن نتطور وأن تنسخ قوانيننا ما يحدث حقا على أرض الواقع وما هو موجود الآن" وفق قولها. وتوضح أنه إذا قررت بلدية أريانة في المستقبل القريب إسناد تراخيص للأشخاص الراغبين في الاستثمار في أكل الشوارع، فلن يكون أمام إدارة حفظ الصحة خيار سوى التماشي مع هذه الحركة. "سنبذل قصارى جهدنا للقيام بالمراقبة المتبعة" تضيف هادية عمر.
لكن المسؤولة ترى أيضا أن عملها سيلقى صعوبة تتمثل في تحرك شاحنة الأكل أو العربة المجرورة من مكان إلى آخر ،ما قد يفضي إلى صعوبة التتبع. "في حال سمحنا لهم بذلك، أنا أفضل أن نفرض عليهم مكانا ثابتا حتى نتمكن من مراقبتهم، وإلا فلن نتمكن من القيام بذلك بالشكل المناسب". وفقا لها، لن تستطيع إدارة حفظ الصحة تقفي مكان عمل بائع الأكل المتجول وهذا قد يعقّد المراقبة.
عائقٌ يعتبره مروان سخيفا: "مفهوم شاحنة الأكل يعني أنها تتحرك وإلا فما المغزى". يدين الشاب هذه الآليات الإدارية غير المنطقية ورحلات الذهاب والإياب بين شتات من المؤسسات، ففي حين يجاهد هو من أجل الحصول على ترخيص، يقف الإداريون عاجزين إزاء الوضع، ولا فكرة لديهم عما بوسعهم فعله. "منحتني البلدية في وقت ما مكانا طالبةً مني دفع ثمن الماء والكهرباء على الرغم من أن شاحنتي مستقلة لا تستهلك شيئا". انصاع الشاب لذلك أملا منه بالشروع في العمل. "فجاءت الشرطة ومنعتني من العمل، أخبرتهم أن البلدية أذنت لي بذلك فطلبوا مني دليلا خطيا. وعندما عدت إلى البلدية وطلبت منهم ذلك جوبهت بالرفض".
"كل شخص يخبرك بما يريد، ولكنها لا تعدو أن تكون مجرد أقوال لا يكتب منها حرف"
في الآونة الأخيرة، أوضح له المسؤول عن حفظ الصحة أنه ينبغي عليه تركيب مرحاض في شاحنة الأكل الخاصة به: "أصبت بالذهول، إنهم يجعلون أي خطوة مستحيلة" يقول باعث المشروع بحسرة. "كيف يمكن لهؤلاء الموظفين العموميين الذين يشغلون مناصبهم منذ 50 عاما أن يستوعبوا هذا المفهوم؟ هناك فجوة، الشباب متقدمون بأشواط على الحكومة".
لا يطلب بعض البائعين إزاء ذلك سوى تقنين مهنتهم. هذه هي حالة أحمد صاحب عربة أكل يشتغل بها ليلا منذ ثماني سنوات. "إذا قاموا مستقبلا بإصدار ترخيص خاص بنا سأتقدم بطلب للحصول عليه. أفضل أن أكون في وضعية قانونية وأن يسمح لي بالتواجد هنا، وإذا واجهتني مشاكل سأكون تحت حماية القانون".
مهدي مولهي هو مصور فوتوغرافي وشغوف بالأكل، أسس "الجمعية التونسية لأكل الشوارع" التي من المتوقع أن ترى النور قريبا. جمع الشاب طهاة وأطباء وسياسيين وغيرهم. ووضع لنفسه هدفا نهائيا يتمثل في الضغط من أجل المصادقة على قانون يعترف بهذا النشاط وينظمه ويولي أهمية لأكل الشوارع في تونس.
فراغ قانوني يغذي التعسف في استخدام السلطة
نظرا لغياب إطار قانوني يحميهم، وغياب الاعتراف بهم قانونيا، يعاني بائعو الأكل في الشوارع من نزوات أعوان الأمن. حسب الشهادات التي جمعتها إنكفاضة، يؤكد بعض الباعة على أنهم يشعرون بعدم القدرة على المطالبة بمستحقاتهم إذا كان الحريف عون أمن.
في المقابل، يقول أحمد على سبيل المثال إن الشرطة لا تمثل مصدر قلق بالنسبة إليه: "لقد أزعجوني مرة واحدة فقط في البداية عندما انتصبت". ثم رتب البائع مفاهمة معهم يُسمح له بمقتضاها بالبقاء هناك "شرط ألا يشتكي مني أحد، وألا أتسبب في قلق لأحد الجيران، وأن أنظف المكان بعدي". ومنذ ذلك الحين اختفت مشاكله مع الشرطة، موضحا أن الأعوان يعتمدون على تواجده في الحي لتأمينه نظرا "للحركية التي يخلقها حضوري هنا ليلا".
أمام هؤلاء الباعة إذاً خياران، إما الانغماس حد الاختناق في جهاز إداري لا يعترف بهم وبالتالي لن يسمح لهم أبدا بممارسة هذا النشاط، وإما حسن "ترتيبه" مع السلطات المحلية. وفي هذه الحالة، لن يقدروا على العمل بطمأنينة. "لو أردت شراء أعوان الأمن لفعلت منذ البداية، لكنني أريد شيئا قانونيا ومرخصا حتى أطمئن".
وفقا لشهادات الباعة، لبعض البلديات كراسات شروط مخصوصة لشاحنات الأكل، ولكنها "لا تريد الإعلام بها خوفا من أن يهبّ الجميع للاستثمار في هذا النشاط". غياب قانون إطاري على الصعيد الوطني يفسح المجال إذن لهكذا غموض وتعسف. يضاف إلى ذلك، وفقا للشهادات أيضا، أن هذه الكراسات تشترط على شاحنات الطعام تركيب ثلاثة مراحيض وتوصيل الماء الساخن، وهو "أمر غير معقول"، على حد تعبير أحدهم.
يجد البائعون أنفسهم عالقين بين جهاز إداري طاحن وأعوان أمن لهم بالمرصاد، في حين أنهم لا يأملون شيئا سوى تحقيق حلمهم أو تدعيم مصدر رزقهم. "أعترف بأن التعب بدأ يتمكن مني، وإذا لم ينجح الأمر أعتقد أنني سأبيع وأغادر البلاد"، يختم مروان بأسف.