علاوة على التنبيه من انفلات التضخم، حذر البنك المركزي التونسي في 3 فيفري الجاري من اللجوء إلى التمويل النقدي لاحتواء أزمة الرواتب وتعبئة عجز الميزانية عبر طباعة النقود. إذ صيغ قانون المالية الحالي وفق تقديرات بتعبئة أكثر من ثلث ميزانية الدولة عبر الاقتراض، في الوقت الذي لا تخفى فيه صعوبة إقناع المانحين.
يقول الخبير الاقتصادي عز الدين سعيدان: " إن الإشكال الكبير في قانون المالية 2022 هو ما قالته وكالة موديز بأنها بصدد مراجعة الترقيم السيادي لتونس وأنها لم تفهم ميزانية تونس خصوصا في علاقة بالموارد".
ويضيف سعيدان: "تتسائل وكالة التصنيف عن برمجة 20 مليار دينار كقروض جديدة إضافية دون وجود أية اتفاقات دولية. مع العلم أن القروض الأجنبية بقيمة بـ12.6 مليار دينار، دون أن تكون السلطات التونسية قد توصلت إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي ودون هذا الإتفاق لن تستطيع تعبئة أية موارد مهما كان نوعها".
من جهته يعلّق الأستاذ بكلية العلوم الإقتصادية والتصرف رضا الشكندالي على قانون المالية الجديد: "حكومات ما بعد الثورة كلها ودون استثناء ذهبت في إطار الميزانية المحاسبية عبر التركيز على إخراج أقل نسبة عجز من خلال تحصيل موارد أكثر وصرف كتلة أجور أقل بناء على تقنية 'زد من هنا واحذف من هناك'".
ميزانية مرتهنة بقرار الصندوق
ضُبطت ميزانية الدولة لهذا العام في حدود 57 مليار دينار، بجملة موارد اقتراض داخلي وخارجي تجاوزت 19 مليار دينار ما يمثل أكثر من ثلث الميزانية. قُدّر الاقتراض الخارجي بحوالي 12,6 مليار دينار فيما أُصدر مؤخرا قرض رقاعي وطني للاكتتاب وتسديده بالدينار التونسي، بهدف تلبية جزء من حاجيات ميزانية الدولة لسنة 2022. في ظل الحاجة الى اقتراض زهاء 7 مليارات دينار من السوق الداخلية.
مصادر تمويل ميزانية 2022
المصدر: قانون المالية 2022.
وصدرت البيانات المتعلقة بالقرض على شكل أمر رئاسي بالرائد الرسمي عدد 14 لسنة 2022، و نصّت على الاكتتاب فيه بحسابات تفتح لدى الوسطاء المرخص لهم المكلفين بالإدارة من شركات وساطة بالبورصة والبنوك.
"حينما نقرأ ميزانية الدولة إلى حدود 15 نوفمبر 2021 نجدها 48 مليار دينار في حين أُعد قانون المالية لسنة 2022 وفق ميزانية 57.3 مليار دينار لكامل السنة. يحيلنا ذلك إلى ميزانية توسعية، غير أن فرضيات ميزانية الدولة تكشف لنا عن أن 12.6 مليار دينار مرتهنة باتفاق مع صندوق النقد الدولي" يقول رضا شكندالي.
ويوضح شكندالي: "الاتفاق مع الصندوق يقتضي على الأقل 4 أو 5 أشهر في حين وضع قانون المالية موفى مارس كآخر تقدير للحصول على التمويل". في ذات الوقت، تداولت يوم 9 فيفري وسائل إعلام متعددة خبر انطلاق المفاوضات مجددا بداية من 14 فيفري 2022 في مواصلة لمناقشة الإصلاحات والسياسات الاقتصادية التي ستنفذها السلطات التونسية كجزء من برنامج الإصلاح المقترح.
في نفس الموضوع
من جهتها، أكدت المكلفة بالإعلام بوزارة المالية أمية الصحراوي لإنكفاضة: "إن خبراء وزارة المالية عاكفون على إعداد وثيقة سيتم التشاور فيها مع المنظمات الوطنية التي ستكون موضوع التفاوض مع صندوق النقد الدولي، هناك اتفاق على بداية المفاوضات ولكنها لم تبدأ بعد بل هي في طور الإعداد لوثيقة التفاوض".
من جانبه اعتبر الاتحاد العام التونسي للشغل في أكثر من مرة أن برنامج الحكومة الحالية "لا يختلف عن سابقيه وله ذات تمشي الحكومات المتعاقبة من خلال إضعاف دور الدولة في التخلي عن القطاع العام ورفع الدعم الذي من شأنه أن يمس من المقدرة الشرائية للمواطنين."
على نحو آخر نشرت صحيفة المغرب، في وقت سابق إن الإتحاد العام التونسي للشغل قد أكد أن الوثيقة المطولة التي أعدتها الحكومة استعدادا للتفاوض مع صندوق النقد الدولي تتضمن عديد الإصلاحات للخروج من الأزمة وتتعلّق أساسا بتجميد الزيادة في الأجور في القطاع العام بين سنتي 2022 و 2024 إلى جانب تجميد الانتداب في الوظيفة العموميّة والقطاع العام.
احتوت الخطة التقشفية "الرفع التدريجي لدعم المحروقات إلى أن تبلغ سعرها الحقيقي بحلول 2026، إضافة إلى الترفيع في معاليم استغلال الكهرباء والغاز ووضع منظومة إلكترونية تسمح بالتسجيل والتصرف في التحويلات المالية للفئات المعنية بتلقي التعويض عن رفع دعم المواد الأساسية ابتداء من سنة 2023"، وفق ذات الصحيفة.
لماذا تطول المفاوضات اليوم أكثر من سابقتها؟
بعد 20 سنة من سداد آخر قرض مع صندوق النقد الدولي تحديدا في 2013 حينما بدأت الأمور تسوء باختلال التوازنات المالية وارتفاع نسبة العجز، توجهت حكومة علي العريض حينها إلى صندوق النقد الدولي بطلب قرض وبرنامج، ولكن تونس لم تلتزم بالاتفاق. أدى ذلك إلى معاقبتها عبر إلغاء القسط الأخير من القرض. "في 2016 عدنا من جديد بتعلة الدستور والحكومة والبرلمان الجدد مقدمين وعدا بالالتزام بالإصلاحات"، يقول عز الدين سعيدان.
ويضيف: "تم التعهد حينها ببرنامج إصلاحات ثان ولكن تونس لم تلتزم مرة أخرى فألغى صندوق النقد البرنامج برمّته فترة حكومة يوسف الشاهد. تشبث هذا الأخير باستكمال البرنامج بأن وافق على إمضاء الاتفاق شخصيا عوضا عن وزير المالية ومحافظ البنك المركزي. ورغم ذلك لم تلتزم تونس مرة أخرى وعوقبت بإلغاء 1.2 مليار دولار من القرض من أصل 2.9."
حُمِّلت مسؤولية عدم استكمال برنامج الاصلاحات للاتحاد العام التونسي للشغل حينها، وهو ما جعل صندوق النقد يشترط اليوم اتفاق جميع الأطراف كتابيا للموافقة على صرف القرض. يوضح سعيدان: "صندوق النقد الدولي ليس بنكا، هو ما يسمى بمُقرض الملاذ الأخير وهو جزء من منظومة الأمم المتحدة يتدخل في حال عدم قدرة الدولة على الاقتراض من السوق المالية لتقديم تمويل بناءً على تبني برنامج إصلاحات قادرة على إخراج البلاد من أزمتها".
في المقابل، يظهر جليا التباين الكبير بين اتحاد الشغل والحكومة، وبناءً على شروط الصندوق، لن يكون من الممكن المضي في صرف القرض دون وجود إمضاء الإتحاد على الخطة المقترحة من الحكومة. في ذات الوقت، قد يفسر اللقاء الأخير بين قيس سعيّد وأمين عام الاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي نوايا الحكومة في تقريب وجهات النظر وإيجاد حل توافقي لتجاوز هذا المطب.
يعتبر رضا الشكندالي أن إعداد ميزانية قائمة على فرضيات اقتراض غير مضمون يرمي بالبلاد إلى المجهول، يقول "تخيل أن لا نجد هذا التمويل، وما تأخر صرف أجور شهر جانفي إلا دليلا على أن الدولة غير قادرة على تعبئة مبلغ 57 مليار دينار".
ويستدرك: "الحل الوحيد حينها هو التوجه إلى الإقتراض من البنك المركزي الذي سيرفض مديره الحالي، وبالتالي سيُؤتى بغيره ليقول نعم ممّا سيؤدي إلى ضخ السيولة على مستوى الاقتصاد الوطني دون مقابل مادي أي دون وجود ثروة، ما يرمي بنا إلى حالة لبنان. لذلك يحذر البنك الدولي كتابيا السلط التونسية "من اللجوء المتزايد لخلق الكتلة النقدية"، وفق قوله.
من جهتها أرجعت وزيرة المالية في تصريحات صحفية السبب في تأخر صرف الأجور إلى وجود عطلة نهاية أسبوع عطلت عمليات الصرف في البنوك مؤكدة أن البلاد لا تشكو عجزا في السيولة النقدية، ويعلّق عز الدين سعيدان عن ذلك: " البنك المركزي ووزارة المالية اختارا الذهاب في سياسة الإنكار التام وهذا في رأيي سيء جدا لأن سياسة الإنكار لا تؤدي إلى الحل".
أية حدود للسيولة الداخلية؟
علاوة على التداين الخارجي، لم تخلُ موازنات المالية المتعاقبة من التداين الداخلي وعلى نحو متصاعد، حيث ارتفعت من 2,4 مليار دينار سنة 2020 إلى 7,3 مليار دينار في 2022.
يقول عز الدين سعيدان: "إلى جانب نقطة الاستفهام بخصوص القروض الأجنبية فإن قانون المالية يقوم على تعبئة موارد داخلية بقيمة 7,3 مليار دينار، فيما تتفق كل السلط بما فيها البنك المركزي على أن قدرة الجهاز البنكي الداخلي المالي لا تتعدّى 2 أو 2,5 مليار دينار سنويا".
ويواصل: " الحل الوحيد المتبقي هو ما يسمّى بإصدار النقد دون مقابل اقتصادي أو ما عُرف بطبع الأوراق، وإن كان طبع الأوراق قد أصاب الناس بالجنون لأنه ليس من السهل فهمه، ولكن ما يجب قوله هو أن طباعة العملة مصطلح اقتصادي ولا يدل على الطبع المادي للأوراق المالية لأن الدولة لا تدفع إلى موظفيها ولا مزوديها نقدا كما لا تسدد ديونها بالأوراق النقدية. وإنما يدل المصطلح على كل عملية تمويل من طرف البنك المركزي لميزانية الدولة سواء كان ذلك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة عبر البنوك التونسية".
ويتفق الخبراء على أن عمليات التمويل النقدي دون إنتاج وخلق كتل نقدية لها أصول مادية تمنحها قيمتها، يقود حتما إلى رفع معدلات التضخم الذي سينجم عنه انفجار الأسعار.
يذكر أنّ قانون المالية التعديلي لـ 2020 رافقه جدل وتباين في المواقف بين وزارة المالية والبنك المركزي حينما اشترط البنك إضافة فصل في قانون المالية التعديلي لتمويل خزينة الدولة. أُضيف على إثره الفصل 5 الذي رخّص للبنك المركزي تقديم تمويل مباشر قُدّر بـ 2.8 مليار دينار.
يؤكد عز الدين سعيدان أن التمويل أُدرج كقرض مباشر، ويتساءل عن مصدر هذه الأموال "طالما أن البنك المركزي لا يمتلك رصيدا بالدينارات والرصيد الذي لديه بالعملة الأجنبية كمكلّف بالتصرف في مخزون تونس"، وفق قوله.
يعود سعيدان ليفسر بأن ما حدث هو إصدار عملة دون مقابل عبر تسجيل رصيد في خزينة الدولة بالقيمة المذكورة. ويذكّر في هذا السياق بما حدث يوم 23 جويلية 2021 حينما كانت الحكومة مطالبة بتسديد قرض بـ500 مليون دولار ولكنها لم تكن تملك الرصيد الكافي. ما دفعها إلى التوجه يوم 22 جويلية بطلب إلى البنوك التونسية لإصدار ما يسمى بـ أذون الخزينة قصيرة الأجل Bons de trésor à court terme بمدة 3 أشهر لاقتراض 1,3 مليار دينار لسداد القرض. غير أن البنوك امتنعت بحجة عدم توفر السيولة الكافية.
بوجود هكذا مأزق حينها، تدخل البنك المركزي طالبا من البنوك شراء رقاع الخزينة حتى يعيد هو شراءها منهم في نفس اليوم. يشدّد سعيدان على أن "ما حصل يومها من شراء البنك المركزي لرقاع الخزينة هو بالضبط طباعة العملة وقد تكرّر مرة أخرى يوم 5 أوت 2021 حينما كانت الحكومة مطالبة بتسديد 500 مليون دولار أخرى".
ارتفاع في النفقات رغم شحّ الموارد
تقول السلطات الحالية إن نفقات الميزانية ارتفعت في الموازنة المالية الحالية بـ 6.6% مقارنة بالنتائج المحينة في قانون المالية التعديلي لسنة 2021. فيما تُحيلنا المقارنة بقانون المالية الأصلي لسنة 2021 إلى ارتفاع في نفقات الدولة بـ17.3%.
وهو ما يثير استغراب عز الدّين سعيدان الذي يعتبره رقما هائلا بالنظر إلى ما يشهده الاقتصاد التونسي من ركود عميق. حيث سجل النمو الوطني -8.8 % سنة 2020 ويُنتظر أن تكون نسبة النمو قريبة من 0% في 2021. يقول سعيدان: " كيف لدولة لا يفرز اقتصادها أية ثروة أن ترتفع نفقاتها بـ17.3 % في ظل معدل نمو قريب من الصفر منذ 2011 !"
نفقات ميزانية سنة 2022
المصدر: وزارة المالية
غياب سياسات خلق الثروة والمواصلة في الميزانية "المحاسبية"
جاء في مستهل التقرير حول قانون المالية لسنة 2022 تذكير بأن القرارات الرئاسية لـ25 جويلية 2021 جاءت لتصحيح مسار الانتقال الديمقراطي ولتلافي مزيد تدهور الوضع الاقتصادي وخاصة المالية العمومية. واعتبر التقرير أن ما حدث خلال العشرية الماضية هو اختلال كبير للتوازنات المالية نتيجة تراجع موارد الدولة وتزايد نفقاتها، ما أدى إلى عجز بلغ 8.3% في موفى 2021 وارتفاع نسبة حجم الدين العمومي ليناهز حوالي 86% في نفس الفترة.
"لا أجد أثرا لأي سياسة اقتصادية، فقانون المالية الحالي كما سابقيه هو مجرد وثيقة محاسبية، من جانب بها النفقات التي لا مفر منها، ومن جانب آخر فيها الموارد غير المتوفرة والمشكوك في توفرها" يقول عز الدين سعيدان.
"نعاني حاليا حالة انكماش اقتصادي تتميز بصعوبة في النمو. التشخيص الذي نقوم به في 'بوصلة' يحيلنا إلى أن الأزمة الصحية كان لها تداعياتها الاقتصادية بأن غيرت من الوضعية المالية وتوازناتها، غير أنه لا يمكننا إنكار معاناتنا من أزمة هيكلية قديمة." يقول الخبير في الجباية والناشط ضمن منظمة "البوصلة" أمين بوزيان.
تركيبة المداخيل الجبائية لسنتي 2021 و 2022
المصدر: وزارة المالية
ارتفعت الموارد الجبائية بين قانون المالية التعديلي لـ2021 وتقديرات قانون المالية 2022 بقرابة 5 مليار دينار وبزيادة بحوالي 13.8 %. يعلق رضا الشكندالي على ذلك: "ميزانية الدولة على مستوى الموارد الجبائية وغير الجبائية مرتبطة باشتغال جيد على مستوى الاقتصاد الحقيقي مثلا حينما يحقق الاقتصاد نموا جيدا وتحقق الشركات أرباحا أكبر يصبح الترفيع في الضرائب منطقيا. وهو ما يعطي موارد أكثر للدولة بصعود الموارد الجبائية، ما يقلل من الاقتراض."
ويواصل: "لا يجب أن تكون المقاربة محاسبية، بل يتوجب إصلاح الاقتصاد وفق نسق قادر على دفع عجلة النمو. لا بد من الاستثمار الخاص، وهو الذي يستوجب خطاباً خاصاً من أعلى مستوى بعيدا عن التخويف والتشتيت، بل يجمع كل التونسيين ويفتح حوارا حول البرنامج الاقتصادي ويعطي طمأنة للجهات المانحة".
تواصل تهميش الإستثمار العمومي
تبرز بيانات قانون المالية لسنتي 2022 و 2021 محدودية الإستثمار العمومي الذي لا يتعدى هذه السنة 16% من نفقات ميزانية الدولة مقارنة بـ 14% بالسنة السابقة.
"الإجابة الوحيدة بالنسبة إلينا هي الاستثمار العمومي لإعادة إحياء الاقتصاد، إلى جانب الاستهلاك وتطوّر المؤسسات الخاصة. في حالة الأزمة، يتعيّن على الحكومة أن تكون لها رؤية واضحة لدعم الاستثمار العمومي" يقول أمين بوزيان الخبير الجبائي.
و يواصل: " لا توجد اليوم خطة معينة لإعادة النمو الاقتصادي في ظل غياب استثمار عمومي موجه للإنعاش الاقتصادي وأهمه الفلاحة وتحويل الطاقة. رغم أن هذه العوامل موجودة في موارد البلاد التونسية إلا أنني أعتبر قانون المالية الآن قانوناً تقشفياً بإمتياز دافعه تثبيت الميزانية المالية والتحكم في التوازن المالي".
ويضيف بوزيان: "نرى في منظمة 'البوصلة' أنه كان يمكن لقانون المالية أن يمول الاستثمار العمومي، وكان بالإمكان أن يُرفّع من ميزانية الكثير من الوزارات أولها الصحة والتعليم والنقل". ويظهر اليوم في قانون المالية، ارتفاع نفقات الاستثمار لوزارة الصحة مثلا بنسبة 1.2% مقارنة بسنة 2021 رغم ما كشفته أزمة كوفيد-19 من عيوب قطاع الصحة في تونس ونقائصه وعجز الدولة عن الاستثمار فيه.
نفقات الإستثمار والعمليات المالية لسنة 2022
المصدر: وزارة المالية
ورغم تأكيدات الحكومات المتعاقبة على دور الخدمات الاجتماعية كالتعليم والصحة، إلا أن نصيب قطاع الصحة العمومية لم يتجاوز %5 من ميزانية الدولة على مدى العشر سنوات الماضية وهو معدل ضعيف جدا، حسب رأي بوزيان.
ويؤكد الخبير أن منظمته -أي البوصلة- عملت على العديد من النقاط التي توضح أن الحكومة التونسية قد تنازلت عن تحسين وضع الصحة العمومية، ويعتبر أن هذه هي المخاطر الأساسية التي يطرحها قانون المالية بناءً على ما يراه من وجوب تحسين الوضع الإجتماعي قبل كل شيء. ويستدرك: "لا نتحدث عن رفاه اجتماعي وإنما عن توفير حد أدنى من الحقوق الإجتماعية والخدمات الأساسية".
من جهته يقول عز الدين سعيدان: " في 2010، كانت ميزانية الدولة 18 مليار دينار، رُبعها مخصص للاستثمار العمومي من بنية تحتية ومستشفيات ومدارس وسدود وغيره. ورغم تضاعف حجم الميزانية اليوم بأكثر من 3 أضعاف، تُوجّه 3% فقط من الميزانية إلى الاستثمار العمومي الحقيقي، وهذا تحول كبير جدا يبرهن على تخلي الدولة عن دورها، وله نتائج اقتصادية وخيمة".
ويواصل: "ذهبت القروض إلى تغطية الإنفاق، وهذا هو الخطر على أي اقتصاد يذهب في هذا الطريق، فالتخلي عن الاستثمار لديه انزلاقات خطيرة لأن القطاع الخاص الداخلي لن يستطيع الاستثمار وبالتالي لن يكون ممكنا استقطاب استثمار أجنبي وخلق حركية اقتصادية".
مع محدودية الاستثمار العمومي وبطء الاستثمار الخاص خصوصا عقب الأزمة الصحية وتراجع المقدرة الشرائية للتونسيين والتونسيات فقد أكثر من 161 ألف وظيفة خلال 2020. كان المعهد الوطني للإحصاء قد نشر كذلك خلال العام نفسه دراسة بعنوان "خريطة الفقر بالبلاد التونسية" توضح ارتفاع معدلات الفقر لمستويات قياسية خصوصا في المناطق الداخلية من البلاد.
ترفيع الضرائب وتهديد المقدرة الشرائية
ارتفعت نسبة التضخم خلال شهر نوفمبر 2021 إلى مستوى 6,4% وفق المعهد الوطني للإحصاء، وقد استأثرت مجموعة مواد التغذية والمشروبات غير الكحولية بالنصيب الأكبر من المساهمة في المستوى العام للتضخم بـ 29 % تليها مجموعة السكن والطاقة المنزلية بـ 14 % تليها مجموعة الملابس والأحذية بـ 11 % ثم مجموعة النقل بـ 10% ثم مجموعة التبغ والمشروبات الكحولية بـ %9.
ويبدو أن هذا التضخم سيواصل ارتفاعه في المواد المذكورة على الأقل، إذ جاء قانون المالية لسنة ـ2022 بفرض مراجعة على المعاليم الديوانية الموظفة على بعض المنتجات الاستهلاكية. إذ تقرر ترفيع المعاليم الديوانية المستوجبة على بعض البضائع والتجهيزات والمنتجات من 20 أو 30 أو 36 % إلى 43 أو % 50. وتشمل زيادة 43% منتجات مثل الرخام والمواد المكتبية والكتب الدراسية والاطارات المطاطية والسيارات المعدة لنقل 10 أشخاص أو أكثر.
أما بالنسبة للمعاليم بـ50%، فتشمل مواد مثل الأحذية وبعض أنواع الملابس الجاهزة ومواد غذائية مثل بذور عباد الشمس والأجبان والكاكاو. علاوة على ذلك، تم ترفيع نسب المعاليم الديوانية على توريد الموز الطازج والموز المجفف من 0 % إلى 50 % والهواتف الجوالة من 0% إلى %20.
"إذا كان الاقتصاد يشتغل في إطار منتظم وصحيح لاعتبرنا هذا الإجراء جيّدا، ولكن اليوم أكثر من 30% من الاقتصاد التونسي يعدّ اقتصادا موازيا. وحينما ترفّع الأداءات على مستوى المواد الاستهلاكية في حالة دولة غير قادرة على مراقبة اقتصادها الموازي، ستدخل السلع من نوافذ التهريب"، يقول رضا الشكندالي.
ويواصل: "هنالك مواد ربما تكون ضرورية مثل قطع الغيار على مستوى السيارات والترفيع في المعاليم الديوانية المفروضة عليها سيؤدي مثلا إلى ارتفاع تكاليف الصيانة، ما سيدفع المستهلك بدوره إلى البحث عن البدائل في السوق السوداء."
ومن جهته، يقول الخبير في الجباية أمين بوزيان: "تساهم ثلاثة أسباب في الترفيع من أسعار المنتجات: منها ارتفاع المعاليم الجبائية والضريبة على الاستهلاك إضافة إلى رفع الدعم". ويوضح: "الرفع التدريجي والآلي للدعم خاصة للمحروقات سيكون بداية سلسلة من الإجراءات التي تترجم ارتفاعا حتميا للأسعار يتبعه تدهور المقدرة الشرائية".
يُطرح اليوم موضوع ترشيد الدعم كأحد الشروط الأساسية للاستجابة لصرف القرض من صندوق النقد. إذ يشترط هذا الأخير على الحكومة تخفيض اعتمادات الدعم من حجم الإنفاق العمومي عبر توجيهه إلى مستحقيه.
وفي ذات الوقت، رفعت حكومة بودن في نفقات الدعم إلى 15% من نفقات الميزانية، فيما كانت سنة 2020 في حدود 11% ولم تتجاوز في قانون المالية 2021، 8.5%. ويرجع هذا الانخفاض في نسبة الدعم حينها إلى تقديرات دعم المحروقات بـ 401 مليون دينار فيما بلغت فعليا في قانون المالية التعديلي 3327 مليون دينار نتيجة ارتفاع سعر النفط عالميا.
إجراءات شكلية
أمام الحاجة إلى دعم الأفراد عبر إقرار المنح الاجتماعية عقب أزمة كوفيد-19، توجهت الحكومة في قانون المالية الحالي إلى إقرار الفصل 17 الذي يحدث بمقتضاه "خط تمويل بقيمة 25 مليون دينار لفائدة أصحاب المشاريع والمهن الصغرى في الأنشطة الاقتصادية التي تلاقي صعوبات ظرفية جراء تفشي فيروس كورونا. ويخصص خط التمويل لإسناد قروض دون فائدة لا تتجاوز 5 آلاف دينار للقرض الواحد خلال الفترة الممتدة من 1 جانفي إلى 31 ديسمبر 2022 ويتم تسديدها على مدة أقصاها 4 سنوات منها سنة إمهال."
"الاعتمادات ضعيفة جدا ولا يكاد أثرها يذكر، ثم إن فتح التمويل حتى لو كان يكفي فإن تكاليفه باهظة وعادة ما تغرق الإدارة الشركات بالشروط حتى يكاد أن لا يستجيب لها أحد وهو ما حدث منذ بداية الأزمة"، يقول الخبير الاقتصادي رضا الشكندالي. ثم يعود ويضيف: "عمليا لن تنتفع أكثر من 20 % من المؤسسات، بسبب البيروقراطية المقيتة. حيث توضع امتيازات نظريا، عادة ما لا تتوفر عمليا".
أقر قانون المالية، في نفس سياق دعم المؤسسات الإقتصادية أيضا، السماح للمؤسسات الصناعية المصدرة كليا بالترفيع خلال سنة 2022 في نسبة مبيعات منتجاتها بالسوق المحلية إلى 50% من رقم معاملاتها للتصدير المحقّق خلال سنة 2019. ولكن تخضع مبيعات المؤسسات عند وضعها للاستهلاك إلى دفع المعاليم والأداءات المستوجبة حسب نوع البضائع وحالتها عند وضعها تحت نظام التصدير الكلي وعلى أساس كمية هذه البضائع الداخلة في تصنيع المنتجات التعويضية عند وضعها للاستهلاك.
يعلق رضا الشكندالي على هذا الإجراء قائلا: "السوق المحلية مرتبطة بمستوى عيش التونسيين الذي وصل إلى أسوأ مستوياته، مما يعني أنه حتى إذا ما تم فتح السوق المحلية لن يكون ذلك عاملا كبير جدا للتشجيع نظرا لمحدودية الاستهلاك".
في سياق ترجمة الشعارات من خلال الإجراءات، وفي ما يتعلق بالتشجيع على تبني اقتصاد أخضر، تقرّر في قانون المالية 2022 تخفيف المعلوم على الإستهلاك على السيارات المجهزة بمحرك مزدوج كهربائي وحراري بنسبة 50 % ، مع إعفاء تام للسيارات المجهزة بمحرك كهربائي فقط من المعاليم الديوانية . كما خُفّضت المعاليم الديوانية المستوجبة بعنوان توريد اللاقطات الشمسية بنسبة 10% والترفيع في نسبة المعلوم للمحافظة على البيئة من 5 إلى 7%.
في نفس الموضوع
"ظاهريا، التوجه نحو تمويل الاقتصاد الأخضر وباطنيا هو موجه لدعم الكارتيلات القطاعية مثل قرار إعفاء السيارات الكهربائية من المعاليم الجمركية. سيتضح لنا ذلك حال رؤية من هم الوكلاء الذين سيستوردون هذه السيارات وكيف ستوزع الحصص"، يقول الخبير الاقتصادي حمدي حشاد في حوار لإنكفاضة.
يضيف حشاد: "كان هناك توجه نحو الاقتصاد الأخضر تم ضربه في قانون المالية لسنة 2018 حيث تم فرض أكثر صعوبات إدارية على الألواح الشمسية. حينذاك كانت هناك حزمة تشجيعات قادرة على وضع تونس على خارطة البلدان الصاعدة في مجال الطاقات المتجددة، حيث كان القانون سيضع حدا لاحتكار الطاقة الشمسية من الطبقة الغنية"
ويواصل: "القطاعات التي نجحت في سياق الاقتصاد الأخضر هي التي خرجت من طوق الدولة وهي السياحة الايكولوجية التي لا يمكن أن تكون قطاعية بحكم أنها موزعة. ثم نجد الفلاحة البيولوجية التي تعتبر تصديرية بالأساس ووراءها بعض الكارتيلات بحكم أن القطاع مغلق بالرخص وكراس الشروط الذي لا يمكن أن يستجيب له إلا أصحاب الأراضي الكبرى ورؤوس الأموال الضخمة".
ويرى حمدي حشاد أنه رغم عدد الحكومات الهائل بعد الثورة، تواصل العجز عن تحقيق أي نجاح اقتصادي. ويُرجع ذلك إلى ما يبدو له من أن القوانين تصاغ وفق أهواء العائلات المتحكمة في الاقتصاد. ويقول: "الاقتصاد الأخضر قطاعي في تونس، فنحن لازلنا نضع التعطيلات على الطاقات المتجددة ونجعلها حكرا على أشخاص معينين تؤول إليهم الأرباح. وبشكل عام، دعم تونس للاقتصاد الأخضر لا يرتقي لدعم الدول الأخرى التي قفزت نوعيا في النقل الإيكولوجي مثلا".
اعتمادات هشة لمكافحة تهرّب متجذر
على غرار اتهام الشركات الكبرى في تونس بالسيطرة على الاقتصاد الوطني من خلال جعل المجالات الأكثر ربحية مغلقة بالرخص ومجحفة بالشروط، تعترف الحكومة بقصور النظام الضريبي الحالي عن مكافحة التهرب الجبائي في علاقة بالشركات، وفي ذات الوقت لم تخصص في قانون المالية الحالي سوى 9.35 مليون دينار لذلك.
"عندما نتحدث عن قانون المالية الحالي وعن عجز بقيمة ثماني مليارات - وهو مؤشر لاختلال المالية العمومية في ذات الوقت الذي تخسر فيه تونس حسب التقديرات ما قيمته 25 مليار دينار في الاحتيال الضريبي- لا نرى أية سياسة ناجعة ولا اعتمادات نوعيّة لاستخلاص هذه المستحقات القادرة على تحقيق فوائض للميزانية العامة"، يقول الخبير في الجباية أمين بوزيان.
ويستنكر بوزيان مواصلة الحكومة في إصدار إجراءات عفو جبائي كل ثلاث أو أربع سنوات قبل قانون المالية الحالي. ويوضح: "هناك أرقام قمنا بها حول إدارة الجباية، مثلا في صفاقس نخسر 55% من الديون الضريبية جراء إجراءات المصالحة".
توظف الدولة التونسية 1646 عون مراقبة جبائية، وتعترف وزيرة المالية سهام بوغديري نمصية بمعاناة إدارة الجباية من نقص الموارد البشرية واللوجستية مثلما يؤكده التقرير الذي قام به صندوق النقد الدولي عند تشخيص مسار الإصلاح الجبائي و إدارة الجباية بأن هناك نقصا في اليد العاملة والتجهيزات مما جعل من تونس دولة غير قادرة على محاربة الفساد الجبائي.
في المقابل تمتنع الحكومة عن انتداب موظفين جدد بحجة ارتفاع كتلة الأجور التي يطالب صندوق النقد بخفضها لإستكمال البرنامج الإصلاحي رافضا أي إنتداب في الوظيفة العمومية. في المقابل يرى بوزيان أن تونس يجب أن تقدم رؤية واضحة بخصوص النفقات والموارد، ويتساءل ما الذي يمنعها من التوظيف في استراتيجية مكافحة التهرب الضريبي رغم ضمان عائدات ضخمة، ضاربا مثال الأردن الذي استطاع إقناع صندوق النقد الدولي لتوظيف أشخاص في إدارة الجباية لديها.
في المحصّلة، يبدو قانون المالية لسنة 2022 مُثيرا للقلق، حيث بُني ⅓ الميزانية المالية على أمل الحصول على قرض صعب. ولكن ما يعاب أكثر على الحكومة الحالية هو تواصل غياب الرؤية والسياسات القادرة على تحقيق قفزة اقتصادية وإخراج البلاد من حالة التداين وتردي المؤشرات الاجتماعية والإقتصادية الأخرى.