حركة واجهها المعنيّون برفض شديد تُرجم في بلاغ أصدره المجلس بتاريخ 6 فيفري 2022 قال فيه أنه "يعبّر عن رفضه المساس بالبناء الدستوري للسلطة القضائية والإهدار المفاجئ والمسقط لكافة ضمانات استقلالية القضاء". كما نددت جهات أخرى بهذا الإجراء منها بعض الأحزاب السياسية على غرار التكتل والجمهوري والتيار وأعربت جمعية القضاة التونسيين من ناحيتها عن "رفضها الشديد" لهذا القرار.
ما هو المجلس الأعلى للقضاء ؟
تتمثل مهمة المجلس في ضمان استقلالية القضاء وحسن سيره وله صلاحيات عديدة. وهو مؤسسة دستورية، أي أن دستور عام 2014 نص عليها مثلما نص على مجلس نواب الشعب أو المحكمة الدستورية.
واستُكملت الفصول الثلاث المخصصة له في الدستور بقانون أساسي صدر في عام 2016 يفصّل تنظيم المجلس وعمله وصلاحياته. وينص الفصل الأول من هذا القانون على أن "المجلس الأعلى للقضاء مؤسسة دستورية ضامنة في نطاق صلاحياتها حسن سير القضاء واستقلالية السلطة القضائية" ويتمتع المجلس "بالاستقلال الإداري والمالي والتسيير الذاتي وله السلطة الترتيبية في مجال اختصاصه[...]" كما يضبط ميزانيته ويعرضها على النقاش أمام لجنة برلمانية.
ويؤدّي أعضاء المجلس أمام رئيس الجمهورية اليمين التالية: "أقسم بالله العظيم أن أحافظ على استقلال السلطة القضائية طبق أحكام الدستور والقانون وأن أعمل بكل حياد ونزاهة وأن ألتزم بعدم إفشاء سرّ المداولات".
تفسر أخصائية في القانون العام في حوار لإنكفاضة أن "المجلس الأعلى للقضاء هو هيئة مستقلة شكّلت، منذ إحداثها في سنة 2016، قفزة كبيرة في توطيد الفصل بين السلطات في وقت أوّل، وضمان استقلال السلطة القضائية التي كانت ترزح لوقت طويل تحت قبضة السلطة التنفيذية في تونس في وقت ثان. فالمجلس الأعلى للقضاء هو بالنسبة للسلطة القضائية ما يمثله مجلس النواب بالنسبة للسلطة التشريعية".
ومن ضمن ما تشمله صلاحياته، يتمتع المجلس حصريا بصلاحية إصدار الرأي واقتراح تعيينات كبار القضاة، كما يجوز له أيضاً إنهاء مهام القضاة أو تعليقها بقرار معلل ويبت بصفة خاصة في المسار المهني للقضاة الراجعين إليه بالنظر.
"يبتّ كل مجلس قضائي في المسار المهني للقضاة الراجعين إليه بالنظر من تسمية وترقية ونقلة، كما يبتّ في مطالب رفع الحصانة ومطالب الاستقالة والإلحاق والإحالة على التقاعد المبكّر والإحالة على عدم المباشرة وفق أحكام الأنظمة الأساسية للقضاة." - الفصل 45 من القانون الأساسي 34-2016.
وتتولى الجلسة العامة للمجلس - كشأن رئيس الجمهورية أو مجلس نواب الشعب - تعيين أربعة أعضاء بالمحكمة الدستورية من أصل إثني عشر، وهي مُهمة ظلت معلّقة في ظل غياب المحكمة الدستورية. كما يبدي الرأي بخصوص مشاريع ومقترحات القوانين المتعلقة خاصة بتنظيم العدالة وإدارة القضاء ويقترح الإصلاحات التي يراها ضرورية.
في نفس الموضوع
وتتألف هذه المؤسسة من 45 عضواً وتنقسم إلى ثلاثة مجالس هي مجلس القضاء العدلي، ومجلس القضاء الإداري، ومجلس القضاء المالي، وكلها تجتمع أحياناً في جلسة عامة. يتكون كل مجلس من هؤلاء الثلاث من 15 عضواً: 4 قضاة معيّنين بالصفة من بينهم الرئيس الأول لمحكمة التعقيب والرئيس الأول لمحكمة المحاسبات، إضافة إلى 6 أعضاء منتخبين من نظرائهم و 5 خمس شخصيات مستقلة من ذوي الاختصاص (محام وعدل منفذ ومدرسّ باحث مختص ومحاسب وما إلى ذلك).
وليست هذه المؤسسة حديثة النشأة، فقد أُحدثت في عهد بورقيبة عام 1967 بموجب القانون 67-29 ولكن أعيد تأسيسها بعد الثورة.
لماذا يستهدف قيس سعيّد المجلس الأعلى للقضاء ؟
في ورقة إحاطة مؤرخة في ديسمبر 2021، أيدت اللجنة الدوليّة للحقوقيين ICJ توصيات هيئة الحقيقة والكرامة المتعلّقة بإصلاح المؤسسة القضائية ودعت إلى تعزيز دور المجلس الأعلى للقضاء وصلاحياته واختصاصاته من أجل ضمان استقلال القضاء وفصل السلطات وترسيخ قواعد دولة القانون.
وحثت اللجنة الدولية للحقوقيين السلطات التونسية على " إعطاء الصلاحيات للمجلس الأعلى للقضاء في جميع الشؤون المتعلقة بالمسيرة المهنية للقضاة، بما في ذلك اختيارهم وتعيينهم وتدريبهم وتقييمهم ونقلهم وترقيتهم وتأديبهم وعزلهم مع استبعاد أي دور هام في هذه القضايا للسلطتين التنفيذية والتشريعية في هذا المجال".
ولم يتوانَ قيس سعيّد في الجهة المقابلة عن مضاعفة هجماته على القضاء، واعتبرها " وظيفة من بين وظائف أخرى في الدولة " بدلا من أن تكون سلطة مستقلة بذاتها. وقد هاجم مرارا القضاة والقاضيات المتهم بعضهم بالفساد متحدّثاً في خطابه الذي ألقاه في الليلة الفاصلة بين 5 و 6 فيفري 2022 عن "أموال وممتلكات تحصل عليها عدد من القضاة، المليارات المليارات [...] هؤلاء مكانهم، المكان الذي يقف فيه المتهمون"، وخصّ المجلس الأعلى للقضاء بالنقد مؤكدا أن المناصب باتت تُباع فيه مضيفا: "بل ويتم وضع الحركة القضائية بناء على الولاءات".
و خلال السنوات الأخيرة ، هزت قضيتان تتعلقان بمسؤولين كبار النظام القضائي التونسي. أولاهما تلك المتعلقة برئيس محكمة التعقيب السابق، الطيب راشد، المتهم بالإثراء غير الشرعي، وثانيهما قضية تعلقت بوكيل الجمهورية السابق بالمحكمة الابتدائية بتونس العاصمة المقرب من حركة النهضة والقاضي المكلف سابقا بالتحقيق في قضية اغتيال شكري بلعيد. ويواجه العكرمي بالتلاعب في تحقيقات جرائم القتل السياسي التي وقعت في 2013.
وشدد الرئيس على الحاجة إلى الإصلاح مشيرا إلى أنه سيتبع إعلانه عن حل المجلس بمرسوم رئاسي يوضح مستقبل القضاء. غير أن إصلاح العدالة هي إحدى صلاحيات المجلس التي ينص عليها الفصل 114 من الدستور: "تقترح الجلسة العامة للمجالس القضائية الثلاثة الإصلاحات، وتبدي الراي في مقترحات ومشاريع القوانين المتعلقة بالقضاء التي تعرض عليها وجوبا". وفي ظل تجميد مجلس نواب الشعب وحل المجلس، صار المجال مفتوحا لقيس سعيّد لإنفاذ إصلاحات على العدالة من جانب واحد.
في نفس الموضوع
وبحسب مدير برنامج اللجنة الدولية للحقوقيين ICJ للشرق الأوسط وشمال إفريقيا فإن "الرئيس سعيد يبرهن بقراره حل المجلس الأعلى للقضاء على تصميمه على إزالة خط الدفاع الأخير ضد استفراده بالحكم في تونس، ألا وهي السلطة القضائية".
لماذا تم الإعلان عن حل المجلس في 6 فيفري 2022 ؟
التوترات بين قيس سعيد والقضاء ليست بالأمر الجديد، فقد أعلن الرئيس في خطابه التلفزيوني يوم 25 جويلية 2021 أنه سيتولى رئاسة النيابة العامة وسارع منذ الغد بإعفاء وزيرة العدل بالنيابة حسناء بن سليمان. كما هاجم قيس سعيد في عديد المناسبات أعضاء المجلس الأعلى للقضاء وذهب إلى إلغاء منحهم وامتيازاتهم في 19 جانفي 2022 بمقتضى مرسوم رئاسي نقّح به القانون عدد 34 لسنة 2016، ملمّحا إلى أنه سوف يتخذ المزيد من التدابير ضد المجلس وأعضائه.
وأخيرا، أعلن الرئيس عن قراره في ليلة الذكرى السنوية التاسعة لاغتيال شكري بلعيد المحامي والسياسي التونسي الذي لم تتضح ملابسات جريمة قتله يوم 6 فيفري 2013 بعدُ. وفي خطابه من وزارة الداخلية، ربط الرئيس بين الحدثين بحجة أن "هذا الملف للأسف تم التلاعب به من قبل بعض القضاة في النيابة والمحاكم" واعتبر هذه المحاكمة "ليست الأولى التي حاولوا فيها إخفاء الحقيقة لسنوات"، ملقيا بالمسؤولية عن التأخيرات القضائية على عاتق حزب النهضة ما يبرّر في نظره قرار حلّ المجلس.
وكان سعيد قد ذهب إلى وزارة الداخلية ليعلن عن السماح بالتظاهر إحياءً لذكرى استشهاد شكري بلعيد، في تعارض مع الحظر الرسمي المفروض منذ 13 جانفي - أي عشية الذكرى السنوية الحادية عشرة للثورة - على كل أشكال التجمعات والتظاهرات في البلاد.
هل لقيس سعيّد الحق في حلّ المجلس الأعلى للقضاء ؟
سارع المجلس الأعلى للقضاء بالرد على قرار سعيّد منوها إلى "غياب إطار قانوني ودستوري" يخول للرئيس حلّه، كما رفضت الجمعية التونسية للقضاة الشبان هذا الإجراء مؤكدة أن رئيس الجمهورية لا يحق له حل المجلس والواقع أنه لا دستور عام 2014 ولا القانون المتعلق به ينصان على حله.
بالعودة إلى 25 جويلية 2021، استند قيس سعيد إلى الفصل 80 لاتخاذ "التدابير التي تقتضيها حالة الاستثناء" واستغل عدم وجود محكمة دستورية للبت في مشروعية هذه التدابير ليحكم منذ ذلك الحين بمقتضى مراسيم رئاسية.
في نفس الموضوع
ثم في يوم الاثنين 7 فيفري 2021، اجتمع رجال الأمن أمام مقر المجلس بتونس العاصمة لغلقه ومنع الهيئة من مزاولة عملها وهو ما أكده رئيس المجلس، يوسف بوزاخر في تصريح لفرانس 24 : "لا نعرف من اتخذ هذا القرار غير القانوني، ولكن الشرطة المنتشرة قالت أنها تتبع التعليمات".
"هذا الغلق غير القانوني والفاقد للأسباب القانونية يثبت أننا وصلنا إلى مرحلة خطيرة تستولي فيها السلطة التنفيذية على مؤسسات الدولة وعلى السلطة القضائية باستخدام القوة"، يقول بوزاخر.
ما هي العواقب على العدالة ؟
استنكر المجلس الأعلى للقضاء ما يعتبره "اعتداء على الدستور ومساسا بضمانات استقلال القضاء" وأعلن أنه سيبقى "في حالة انعقاد دائم"، ولكن إمكانية انعقاد المجلس في مقرة تبدو صعبة نظرا لوفرة أعوان الأمن أمامه.
من جهتها، دعت جمعية القضاة التونسيين "جميع قضاة الفئات الثلاث القضائية والإدارية والمالية إلى الوقف الكامل للعمل" والإضراب في جميع محاكم البلاد يومي الأربعاء 9 والخميس 10 فيفري 2022 إحتجاجا على "الانتهاك الصارخ لاستقلالية السلطة القضائية من جانب رئيس الجمهورية".
وفي انتظار صدور المرسوم الرئاسي الذي يوضّح معالم مشروع قيس سعيد لإعادة تنظيم السلطة القضائية، يثير الوضع قلق العديد من المنظمات السياسية والمدنية المحلية والدولية، من ذلك ما جاء على لسان مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان ميشيل باشليه التي اعتبرت "حل المجلس الأعلى للقضاء في تونس يقوض بشكل خطير سيادة القانون في البلاد".
وتخلص أخصائية في القانون العام في حوار مع انكفاضة إلى أنه "في غياب مجلس أعلى للقضاء على النحو المنصوص عليه في الدستور التونسي والقانون المتعلق بتنظيم هذه المؤسسة، فإن قيس سعيد يدفع بنا نحو وضعية مقلقة يستأثر فيها بالمزيد من السلطات المطلقة، وإذا تم حل المجلس الآن، فلن يعود بإمكاننا ببساطة مجرد الحديث عن قضاء مستقل".