سرعان ما تصعّد الأمر في أعقاب هذه الجريمة وتفجرت انتفاضة في أحياء عديدة من المدينة أسفرت عن اشتباكات بين التونسيين والجالية الإيطالية. أُودع لاحقا تونسيون كثر في السجن وسُلّطت عليهم عقوبات تتراوح بين مدى الحياة و الأعمال الشاقة وأُعدم اثنان منهم تحت شفرة المقصلة بتهمة قتل شرطي فرنسي.
يعود أصل هذه المواجهات حين أعلنت البلدية عن مشروع تسجيل أرض المقبرة في حين أنها عقار ديني أو ما يُصطلح عليه بالحبوس* لا يُمكن التفويت فيه. وفي الأيام السابقة للمواجهات انتشرت دعوات لإقامة مظاهرة في الجلاز من طرف الشباب التونسي ، ولم يتأخر السكان عن تلبية النداء.
"أجلّ المقابر التونسية"
شرعت الصحافة التونسية في حشد الرأي العام منذ نُشر إعلان التسجيل في شهر أكتوبر. وذكّرت جريدة "المُشير" الناطقة بالعربية كيف كانت مقبرة الجلاز قبل ثمانية قرون "هنشيرا وهبه الشيخ الجلاز للعامّة خالصا للّه، حتى يدفنوا فيه موتاهم مجانا ودون رسوم" (المشير، 15 أكتوبر 1911).
جريدة الصواب من ناحيتها ذكّرت بأن المقبرة "هي أجلّ المقابر التونسية [...]، وأكبرها وأعظمها شأنا" لاحتوائها بالخصوص على مقام الولي سيدي أبو الحسن الشاذلي.
وعادت معظم الصحف على المشاعر الجياشة التي أججها الإعلان عن التسجيل:
"عندما انتشرت أنباء عن طلب البلدية تسجيل المقبرة، اجتاح الرأي العام شعور بالأسى والغضب. وجاءت الاحتجاجات من جميع فئات السكان وطُبعت صيغ المعارضة ووُقعت من قبل الآلاف والآلاف من الناس [...]. وسرعان ما تجلى الاستياء إزاء البلدية لأنها ادعت ملكيتها لما ليس ملكا لها وأرادت أن تضع يدها على الأحباس العامة". (المشير، 15 أكتوبر 1911)
ألحّت الصحف مستفسرةً عن الإبهام الذي صاحب هذا القرار ووصفته بـ "العمل الابتزازي" (الصواب، 13 أكتوبر)، كون المشروع يكتنفه الغموض في نظر كل السكان. كما كان من الصعب معرفة ما إذا كانت الفكرة تتمثل في تحويل المقبرة إلى أرض، أو حفر مناجم فيها أو ترسيمها بقصد حمايتها من المناجم القريبة، وفي غياب أي تفسير ملموس من جانب إدارة البلدية، حام الشك حول مصير المقبرة.
ذكّرت الصحف بكونيّة احترام الموتى نظرا إلى "الأهمية التي توليها جميع الشعوب لهذه المسألة مهما كانت" وأن "جميع الحكومات في كل بلدان العالم" لا تقبل بتدنيس المقابر. وبهذا المعنى ذكرت الصحف بتعهدات الحكومة الاستعمارية "باحترام طقوس المواطنين".
تؤكد المؤرخة قمر بن دانة، في حوار معها، أن فكرة المساس بهذه المقبرة الإسلامية هي "مسألة أنثروبولوجية" لأنها تُعتبر تهجّما على الموتى. ولكن "مسائل الموت والملكية تمسّ الناس في قرارة أنفسهم وتترك هذه الانتهاكات أثرا عنيفا. فتدنيس السلطة الاستعمارية للموتى يعني مساسا عكسيّا بالمستقبل باعتبار أنه عدوان على إسقاطات المجتمعات في المستقبل، وهنا بالضبط يكمن العنف. الهيمنة الاستعمارية هزّت العقائد الدينية، وإذا بلغ هذه الأخيرة الأذى، ينجرف السكان غضبا"، تفسر المؤرخة.
أُجهض المشروع أخيراً في أعقاب الضغوط التي مارسها التونسيون من أعضاء المجلس البلدي (بما في ذلك عبد الجليل الزاوش) دون أن يتم الإعلان عن التراجع عنه، بينما ظل السكان يعتقدون أن تقنيّين في قيس المساحات سيتوجهون في صبيحة يوم 7 نوفمبر لرسم حدود المقبرة. وبقدوم المحتجين (بين 4000 و 5000 شخص وفقاً للمصادر المختلفة) على عين المكان، تم منعهم من الدخول فتصاعد التوتر بينهم وبين أعوان الشرطة الذين لم يكونوا متأهّبين لحركةٍ حشدية بهذا الحجم.
القطرة التي أفاضت الكأس
لما هلك الطفل التونسي برصاص الرجل الإيطالي، انقلبت المظاهرة انتفاضةً جامحة ضد الشرطة والسكان الإيطاليين، واستمرت الصدامات بين الإيطاليين والتونسيين حتى اليوم الموالي في أحياء مختلفة من تونس العاصمة مثل باب جديد وباب سويقة وباب سعدون وغيرها. وكانت الحصيلة بضع عشرات من الوفيات على الجانب التونسي (تتراوح بين 20 و50، الأرقام غير دقيقة) و 7 أو 8 وفيات على الجانب الفرنسي (أعوان أمن) وبين صفوف المدنيين الإيطاليين.
انتشرت قوات الشرطة والقوات العسكرية بعد ذلك في المناطق التي تسود فيها الفوضى. حالة أتت على ذكرها مديرة مدرسة الفتيات المسلمات (معهد نهج الباشا* لاحقا) شارلوت آيغنشينك في رسالة وجهتها إلى قسم الدولة أثناء الاشتباكات حين طلبت "بعض الأخبار عن الوضع المضطرب
في المدينة"، وعبرت عن قلقها بشأن سلامتها وسلامة زميلاتها: "نحن نساء فحسب، ومعزولات للغاية هنا، هل تعتقدون أننا في خطر؟".
شكّلت المعركة بطريقة ما ذؤابة مناخ يشوبه الاضطراب من قبل. فمنذ بداية الحرب الإيطالية التركية (29 سبتمبر 1911)، أصبح التوتر واضحا تجاه الجالية الإيطالية* خصوصا بعد تواتر الغارات الإيطالية على إقليم طرابلس.
تناقلت الصحف وقتها أخبارا عن حوادث مختلفة مثل تعرض التونسيين والتونسيات لسوء معاملة سائقي الترام الإيطاليين، واقتلاع الشرطة للملصقات الداعية إلى مقاطعة المنتجات الإيطالية وتمزيقها في عدة مدن تونسية وتلاقف الشتائم بين الصحف المنحازة، والمشادات في دور السينما خلال بث الأفلام التي تروي أخبار الحرب الإيطالية التركية وتوقف العروض وغيرها...
وتشير صحيفة "الضحك" الصادرة في 1 نوفمبر 1911 إلى أن "مقاطعة الإيطاليين في الإيالة تزداد يوما بعد يوم. حيث انخفضت مبيعات المعكرونة والوقيد بنسبة 30% [...]. ويمتنع معظم التونسيين الآن عن ركوب الترامواي حتى لا تُستخدم أموالهم لدفع رواتب الموظفين الإيطاليين الذين يشكلون السواد الأعظم من عمّال شركة ترامواي". كما زادت من حدّة امتعاض السكان عشية 7 نوفمبر أخبار المجازر المتزايدة على يد الجيش الإيطالي في إقليم طرابلس (ضد النساء على وجه الخصوص)، وأخبار ضم المنطقة إلى الإمبراطورية الإيطالية في 5 نوفمبر 1911، .
كراهية ضد الإيطاليين أم كراهية ضد الفرنسيّين
تدل الطريقة التي تناقلت بها الصحف الأحداث على مدى تعقيدها وتباين الروايات من حولها. كما يختلف تناول الصحافة الفرنسية المتروبولية للوقائع عن قرينتها الصحافة الاستعمارية في تونس، والتي تختلف بدورها عن الصحافة التونسية.
على الرغم من أن معظم الروايات تتفق إلى حد ما على المسار العام لليومين المضطرميْن على الجانبين الايطالي والتونسي على حد السواء، وعلى الضربات بالخناجر أو العصي، والطلقات النارية والهجمات والمطاردات والأعمال الانتقامية، إلا أن كلاّ منها تندد بمسؤوليات متباينة.
ففي العاصمة الفرنسية، ركزت الصحف على حقيقة مفادها أن هذا الشغب يقوم على كراهية تجاه الإيطاليين حيث قام "عرب تونس بمذبحة في حق الإيطاليين" (لو بتي باريزيان، 8 نوفمبر 1911). ووفقاً لصحيفة "لو بتي جورنال" (8 نوفمبر 1911)، "لا ينبغي لنا أن نرى في هذه الأحداث المؤسفة مظهراً من مظاهر عداء التونسيين ضد [...] الحماية الفرنسية"، إذ حاول الإيطاليون مد يد العون للقوات الاستعمارية: "فجاءت الطلقات الأولى من طرف مجموعة من الإيطاليين" الذين "أطلقوا الأعيرة النارية دفاعاً عن السلطات، ومن ثمَّ اندلعت أعمال الشغب".
من جهتها، وجدت حركة الشباب التونسي التي شكلتها نخبة مثقفة تونسية مقرّبة من الحركات القومية العثمانية، نفسها في مرمى النار إثر اتهامها - وعلى رأسها علي باش حانبة - بتغذية كراهية التونسيين إزاء إيطاليا وأهدافها التوسعية في ليبيا.
وخلافاً للصحف الباريسية التي حاولت طمأنة قرائها في فرنسا المتروبولية وركّزت تحليلها على كراهية مفترضة ضد الإيطاليين، رأت الصحف الاستعمارية الفرنسية الصادرة في تونس في أحداث الجلاز تمظهرا لمعاداة الفرنسيين بل وحتى المسيحيين. وفي هذا السياق، اتُّهم الشباب التونسي بالمواربة: "الولاء هو القناع الذي يرتديه الشباب التونسي طواعية لشن [...] حرب مستمرة في المستعمرة الفرنسية".
وهاجمت الصحف أيضا مجموعة التونسيين برمتهم واعتبرتهم جاحدين. في خطابها الذي وجهته لهذه المجموعة السكانية، حذرت جريدة "تونس الفرنسية" بلهجة متغطرسة: "آمنّا بولائكم وصداقتكم لبلد جلب لكم الأمن والعلم والرفاهية ولكن لم يقتض الأمر سوى شرارة لتنفجر كراهيتكم. [...] ولكن لحسن حظنا تشوبكم رعونة الشعوب المرهقة واليائسة وتردّدها".
حاولت ذات الصحيفة أن تثبت أن دوافع "التونسيين" الحقيقية هي كراهية الفرنسيين وليس الإيطاليين. وفي جماح انطلاقة تنافسية، نقلت الصحيفة اليومية "إهانات تطال مواطنينا في الشوارع بشكل يومي، من ذلك التهديد الذي تعرضت له سيدة [فرنسية] مع ابنتها من قبل زنجي أماء لها بطمس عينيها".
وتروي صحيفة فرنسية أخرى مقرها في تونس وتدعى "لو ليبيرال" قصة نفس الفتاة الصغيرة ولكن بشكل مختلف:
"حين يرتمي الحيوان المتوحّش على فريسته، لديه عذر الغريزة التي تقوده لذلك. [...] ولكن ماذا عن هذا الوحش ذي الوجه البشري، هذا الزنجي الذي يركض وراء فتاة تمسك بيد أمها ويقتلع عينيها. [...] [إنها] دابّة متوحّشة أقل استحقاقا [...] للرحمة من نمر يفترس لإشباع بطنه [...]." (لو ليبيرال، 15 نوفمبر 1911)
ولم تكتف الصحيفة الاشتراكية بتجريد المجرم المزعوم من إنسانيته بكل قسوة، بل بلغ بها الأمر أن اخترعت وقائع على أتم التناقض مع روايات صحف أخرى، وأطلقت العنان لتخيّلاتها العنصرية الشنيعة:
"لو كنا في بلد رعاة البقر، لدُهن هذا الرجل بالزيت وحُرق. ولهُدّم السجن الذي يقبع فيه وحُمل ليُشنق في أوّل غصن على الطريق".
واستفاضت في مقتها بابتهاج:
"ماتت الفتاة المسكينة، وهذا أفضل لها! فكيف لهذه البريئة أن تواصل الحياة لسنين ونصب عينيها مشهد الوجه الكالح والفظيع لهذا الفظ الأسود بصدد الانقضاض عليها".
ويجدر الذكر أنه لا يوجد أي مصدر آخر يذكر مقتل فتاة في أعقاب الحركة الاحتجاجية.
بالنسبة لمعظم الصحف الاستعمارية، كان ضمّ التونسيين إلى المجالس البلدية خطأً أوقع المدينة في الفوضى. بل وتعدّت صحيفة "لو كولون" الفرنسية ذلك واصفة المتظاهرين بـ"النذلاء" و "الأوباش العرب"، وألقت مسؤولية الاضطرابات على عاتق "البرجوازية التونسية" - أي حركة الشباب التونسي - التي استخدمت قضية المقبرة كذريعة لجمع الآلاف من الرجال في نقطة واحدة في المدينة "دون إخطار الشرطة". ووفقا للصحف الاستعمارية، فقد بلغ الأمر بهذه الحركة أن دفعت مالا "لحمّالي الميناء لقاء التوجه إلى الجلّاز" .
"يزعمون الاحتجاج ضد تسجيل المقبرة، وبعد أن يتجمّع الحشد مسلحا بالمسدسات والخناجر والهراوات، يذبّحون الروامة!"، تهلع الصحيفة.
في نفس الموضوع
"لم يعد همّنا المقبرة، نحن الآن نلوم الإيطاليين"
دافعت حركة الشباب التونسي عن نفسها في أعمدة صحيفتها الناطقة بالفرنسية "لو تونسيان" نافية التهم القائلة بتحريضها على هذه الانتفاضة وأدانت الصحف الاستعمارية ببث الشائعات. وفي العدد الذي نشر في أعقاب أحداث 7 و 8 نوفمبر، وصف علي باش حانبة مؤيدي هذا الخطاب بأنهم "كارهون للعرب" يسهل عليهم "إلقاء كل شيء على تعصب المسلمين وكرههم للأجانب" ونَعتَ الشائعات بـ "مزيج من النمائم، اخترعتها وتداولتها صحافة خبيثة" ويواصل قائلا:
"هنالك من الناس من لا يرون أو يرفضون رؤية المظالم والمؤامرات. ولكن الحقيقة لن تلبث حتى تظهر [...]، هذه هي الحقيقة التي نسعى إلى إبرازها عبر سرد الوقائع." (لو تونيزيان، 13 نوفمبر 1911).
يرى مؤسس الشباب التونسي أن خلطا وقع حين ربط المتظاهرون وجود المسّاحين بشروع البلدية في تسجيل المقبرة، فكان القتال الذي نجم عن ذلك نتيجةً لسوء الفهم هذا:
"مُنع عن المتظاهرين الولوج إلى المقبرة. ووصل شيخ المدينة بعد ذلك ببرهة. أعلن أنه على إثر قرار البلدية التراجع عن تسجيل الأرض، لن يتم رسم الحدود. فجأة أقبل المسّاح، فتنامى الشكّ في صفوف الحشود التي طالبت، دون جدوى، بدخول المقبرة وأرادت الاستقواء على التعليمات، فتدخّل الضباط: واندلعت المشاحنة. أسفر ذلك عن عواقب وخيمة. وتعرض المفوضون والمفتشون والأعوان للضرب الذي خلّف لديهم إصابات خطيرة. وبدأ الحشد الذي تعاظم حجمه في الفوران، بينما مدير الأمن العام يجري هلعاً داعياً تعزيزات القوات المسلحة. قدمت فصيلة من الزواف على جناح السرعة وبلغ التوتر أوجه. أُلقيت الحجارة صوب الجنود، الذين ردّوا ردّا قاتلا. فسقط قتلى وجرحى، وبدأ التراجع. ولكن ها هو ذا الإيطالي، من على شرفة منزله، يطلق عياراً من مسدسه على رابح بن عمر دقلة، صبي في الثانية عشرة من العمر فأرداه قتيلا".
يقول حسن القلاتي، عضو آخر من الشباب التونسي يكتب في نفس الصحيفة، إن قتل الشاب رابح دقلة هو سبب "تدهور" المظاهرة، ويكتب: "لم يعد همنا المقبرة، نحن الآن نلوم الإيطاليين" (لو تونيزيان، 13 نوفمبر 1911).
ويدحض المحامي الفكرة التي تزعم أن الانتفاضة هي بمثابة حراك ضد السلطة الفرنسية ويصر على أن الأشخاص المتضررين كانوا من الشرطة. ولم يتعرض هؤلاء الرجال "للضرب أو الجرح أو القتل لكونهم فرنسيين أو مسيحيين [...] ولكن لمجرد أنهم منعوا المتظاهرين بالقوة من دخول المقبرة". ويذكِّر بأن جميع قوات الأمن كانت مستهدفة، بما في ذلك أفرادها من الزواف والتونسيّين الملقين في المستشفى الصادقي من فرط إصاباتهم. ويضيف "في أيّ اشتباكات، أَكانت في مونمارتر أو في تونس، يكون أعوان الأمن أوّل من تلحق بهم أخطار مميتة".
واتهمت الصحيفة أيضا في مختلف أعمدتها، السلطات الفرنسية التي تقاعست عن القيام بدورها في إبلاغ السكان بإلغاء مشروع التسجيل، والتي أوفدت خبراء للمضي قدما في ترسيم المقبرة رغم سحب المشروع. وشجبت على وجه الخصوص الطريقة التي عومل بها السكان من التونسيين في أعقاب أحداث الجلاز، وعدم سعي السلطات الاستعمارية إلى تهدئة النفوس بين المجموعات المحلية.
موجة القمع
جاءت ردة فعل السلطات متطرفة. فعلاوة على مئات الاعتقالات، حظَر مرسوم صادر في الرائد الرسمي يوم 8 نوفمبر 1911 "التجمهر والتجمع والتوقف" ونص على أنه "يُمنع تشكيل أي مجموعة تضم أكثر من ثلاثة أشخاص [...]، وأن أي شخص يتواجد على الطريق العام في المدينة العربية اعتبارا من الساعة التاسعة مساءً سيوضع قيد الاعتقال"، بينما تتراوح العقوبات "من 15 يوما إلى 3 أشهر سجن".
وقعت العديد من المدن التونسية الأخرى تحت المراقبة وقُمعت فيها الاحتجاجات مثلما تشير إليه برقية من بنزرت تستجدي من السلطات التدخل الفوري لتجنب "التضحية بالمستعمرين".
ويظهر العدد الهائل من طلبات الإفراج عن المعتقلين التي أودعتها أسرهم مدى القمع الذي تعرضت له حركة الاحتجاج. وتذكر المطالب حالات مختلفة تتعلق بسجناء ظلوا في الحجز بعد انتهاء مدة عقوبتهم أو تم إرسالهم بعد مدة سجنهم إلى مناطق بعيدة عن مكان إقامتهم بحجة أن أسماءهم تحيل على انتماء جغرافي معيّن، ومن ذلك رجل لقبه الطرابلسي أُرسل إلى طرابلس.
تعاظمت قائمة الإجراءات التقييدية بمرور الوقت، إذ تشير مذكرة من إدارة مكتب البريد والتلغراف مؤرخة في 8 نوفمبر إلى تنفيذ قرار "يمنع تداول الصحف التونسية الصادرة في تونس العاصمة وبيعها" وتعلن عن "السحب المؤقت لجميع تراخيص فتح المقاهي الصادرة حتى الآن في تونس العاصمة". وأذن قرار آخر مؤرخ في 13 نوفمبر للجيش "بإجراء عمليات تفتيش نهارية وليلية في منازل السكان المشتبه فيهم بغض النظر عن جنسيتهم" فضلا عن الأمر "بتسليم الأسلحة والذخائر" وحظر "المنشورات والاجتماعات ذات الطابع الذي يحرض على الفوضى ويغذّيها".
وفي 14 ديسمبر، وجه الحكَواتيّة العاملون في مقاهي المدينة العتيقة، بعد أن مُنعوا من الأداء فيها، رسالة إلى الأمين العام: "لا شيء يربط بين الحكواتيّين العرب في المقاهي، والمعروفين منذ عدة قرون في العالم الإسلامي، بالمحرضين على العنف"، وأضافوا أنهم "يحتجون بشدة على الإجراء الظالم".
وتواصلت القيود في بداية عام 1912 حين صدر الأمر المؤرخ في 19 جانفي مانعاً بصفة رسمية استيراد "جميع الرسومات والصور والبطاقات البريدية والصور الفوتوغرافية" أو "الانتاجات السينمائية" المتعلقة بالأعمال القتالية بين "الإيطاليين والمسلمين" و "الاضطرابات الأخيرة التي شهدتها تونس"، إن كان ذلك عن طريق البريد أو بأي وسيلة أخرى.
تحت المقصلة في الفجر
انطلقت محاكمة الموقوفين في جوان 1912 واستمرت شهرا واحدا. ومن أصل 71 متهما، حُكم على 7 بالإعدام وعلى 28 آخرين بالأشغال الشاقة أو السجن مدى الحياة وأُطلق سراح 36. تألفت المحكمة من ثلاثة قضاة وستة مستشارين نصفهم من التونسيين والنصف الآخر من الفرنسيين، و 40 محاميا. والتزم المتهمون معظم الوقت بنكران الوقائع المزعومة ضدهم.
وفي أوت، خُففت أحكام الإعدام الصادرة بحق 5 سجناء من السبعة الأصليين إلى الأشغال الشاقة المؤبدة، على الأرجح في أعقاب مناقشات جرت بين الناصر باي والرئيس الفرنسي أرمان فاليير المعروف آنذاك بمعارضته لعقوبة الإعدام، في حين تم الإبقاء على عقوبة الإعدام في حق السجينين المتبقييْن: الشاذلي القطّاري البالغ من العمر 21 عاما والمنوبي الجرجار البالغ من العمر 30 عاما. واتُّهم هؤلاء بقتل الجدارمي الفرنسي فرونشي ومحاولة قتل أعوان آخرين، وأُعدما تحت شفرة المقصلة يوم 26 أكتوبر 1912.
نُصبت المقصلة في باب سعدون منذ الليلة السابقة وظلت تحت حراسة الزواف. تروي صحيفة صدى الجزائر (27 أكتوبر 1912) في هذا السياق كيف قدم بعض الناس لرؤية الآلة ليلاً. وتذكر الصحيفة الاستعمارية كيف "لم تُستعمل المقصلة في تونس منذ فيفري 1905" وتأسف لكون هذا "الأمر حرم الهواة من أحاسيس الإثارة التي يوفرها هذا النوع من العروض". في اليوم الموالي - أي يوم الإعدام -، ذُكر أن 1500 شخص توافدوا للتفرّج على قطع رأسيْ المعتقليْن، من بينهم نحو خمس عشرة تونسي وتونسية فحسب.
وبعد أن قضّيا الصيف على أمل العفو عنهما، أُوقظ السجينان في تمام الساعة السادسة من صبيحة ذلك اليوم، وأخبرهما بعض الحراس بأنهما سينقلان إلى الجزائر العاصمة.
لم يتلقَّ الرجلان خبر إعدامهما في غضون الدقائق القادمة إلا عند مثولهما أمام المدعي العام. "هذا هو الوقت لتكونا شجاعيْن"، قال لهما وفق بعض المصادر. في البداية، بدا لهما الأمر غير قابل للتصديق، ولكن وجود محاميهما وإمام جُلب لينطقهما الشهادة، جعل حقيقة ما يجري بيّنة في أعينهما، رغم جهود المحامين في الدفاع عنهما "بإخلاص وموهبة جديرين بقضية أنبل"، تعاتب صحيفة "لا ديباش تونيزيان".
وبعد غسلهما على عجلة، غادرت بهما عربة المساجين السجن المدني بتونس العاصمة [سجن 9 أفريل القديم] متجهة نحو باب سعدون. وفي الساعة 6:45، قُطع رأس كل من الشادلي القطاري والمنوبي الجرجار عن جسديهما الشاحبين والمُنهكيْن وسقط الرأسان في سلة وُضعت للغرض قبالة المقصلة. عنونت "لا ديباش تونيزيان" الواقعة بلا إشفاق: "سدّدا دينهما للمجتمع".
نقلت شاحنة الشرطة الجثمانين ا إلى مقبرة بالقرب من باب سعدون وسلمتهما إلى الأسر التي طالبت بدفنهما.
وتستحضر الذاكرة الجماعية أن أم المنوبي الجرجار فقدت عقلها بسبب رؤية جثة ابنها المقطوعة الرأس، فجالت طوال الأشهر التالية في شوارع المدينة مردّدة قصيدة في ذاكرته تروي وجعاً عميقا. ولُحّنت القصيدة في السبعينات وغنتها الفنانة ليلى الدهماني.
"شهداء الوطن"
اليوم، يقوم نصب يخلّد ذكرى الواقعة في باب عليوة قرب مقبرة الجلاز. وكانت قمر بن دانة المرأة الوحيدة من بين أعضاء لجنة العلماء والمسؤولين السياسيين المكلّفة بتصميم المعلم. في خريف 1988، حضرت اجتماعا حول تدشين النصب، وتستذكر كيف تمت إقامة الرابط بين 7 نوفمبر 1911 و 7 نوفمبر 1987.
"قامت ضجة حول تاريخ السابع من نوفمبر إذ كان تشابه التاريخين مناسبا لبن علي وصعوده المستجد للسلطة".
ومن خلال ركوبه على هذه المرحلة التي استهلّت بناء تاريخ الحركة الوطنية، سعى نظام الرئيس الجديد بن علي ليرسم لنفسه سردية مشروعة.
يشيد النص المحفور على النصب التذكاري بـ "الشهداء" الذين لقوا حتفهم من أجل "الوطن"، ويرى في تضحياتهم نضالا عظيما ضد الاستعمار لأنه كان من شأنه أن يوحد -في نفس الزخم- الكفاح ضد السلطات الفرنسية وضد الاحتلال الاستعماري الإيطال . وفي حين أن ضحايا الجلاز قد لا يكون احتجاجهم آنذاك دفاعا عن الأمة أو ضد الاستعمار، فإن الانصهار الذي حدث بين حماية المقبرة من جهة والانتفاضة ضد السكان الإيطاليين من جهة أخرى سمح للسردية الوطنية بتجاوز العوائق في سرد حدث على غاية من التعقيد.