الفتيات تلميذات مثاليات
الاستنتاج هنا لا لبس فيه : تنجح الإناث أفضل في المدرسة من الذكور. ولا تظهر الفوارق في نتائج الباكالوريا فحسب، بل تبدو جليّة طوال المراحل التعليمية بدءا من الإبتدائية ووصولا إلى الثانوية : نسبة الانقطاع والرسوب لدى الذكور أعلى ونسبة الارتقاء أدنى من الإناث في كل مرحلة دراسية.
في نفس الموضوع
وبتجميع البيانات على طول المراحل التعليمية، وصل المعهد الوطني للإحصاء INS سنة 2012-2013 للاستنتاج الآتي : احتمال أن تبلغ فتاة مسجلة في السنة الأولى إبتدائي المرحلة الثانوية تقدر بـ42 %، في حين أن 23% فقط من الذكور المسجلين في السنة الأولى يبلغونها.
ومع ذلك فإن تفوق الإناث لا يخص كل المواد، حيث قارنت دراسة "بيسا" وهي البرنامج الدولي لتقييم الطلبة لسنة 2015 أداء التلميذات والتلاميذ البالغات والبالغين من العمر 15 سنة في مختلف البلدان، وخلصت إلى أن الفتيات التونسيات أكثر عرضة بقليل للأداء الضعيف في الرياضيات من الفتيان. في حين تنقلب هذه النزعة في اختبارات القراءة حيث تسيطر الفتيات دون منازع.
في المجمل ورغم التفاوتات الخفيفة في النتائج حسب المواد، تواصل الإناث دراستهن لمدة أطول من الذكور. كما أن هذه النزعة تستمر في التعليم العالي، فوفق معطيات وزارة التعليم العالي لسنتي 2018-2019، فإن الطالبات النساء يمثلن 63% من مجموع الطلبة و 66% من مجموع حاملي·ـات الشهادات.
مفارقة
ولكن إذا ما تم أخذ الشرائح السكانية على اختلافها بعين الاعتبار، فإنه من الممكن حينها تنسيب هذه الفوارق الشاسعة، حيث سلطت عديد الدراسات الضوء على العراقيل التي تعترض سبيل نجاحهن الدراسي.
تلاحظ درة محفوظ أن الإناث غالبا ما ينقطعن عن الدراسة لأسباب مختلفة عن تلك الخاصة بالذكور : "عادة ما تنقطع الفتيات عن الدراسة طوعا وبدافع من قرار الولي، في حين أنه بالنسبة للفتيان تكون الأسباب ذات صبغة بيداغوجية دراسية". وكانت عالمة الاجتماع قد عاينت في دراسة قامت بها سنة 2013 حول ولوج النساء للخدمات العمومية في المناطق الريفية أن بعض الآباء والأمهات القاطنين والقاطنات بعيدا عن المدارس يبادرون ويبادرن بسحب بناتهم·ـن منها إذا ما بلغن حوالي سن الـ10 سنوات خوفا من تعرضهن للمضايقة على الطريق في غياب مرافق·ـة. وفي حالات أخرى، تُجبر الفتاة ببساطة على القبوع في المنزل لإعانة والدها ووالدتها.
وعموما، يبدو الأولياء أكثر استعدادا للاستثمار في التحصيل العلمي للإبن من البنت، وفق ما تلحظه الباحثة وما رأته من هشاشة لدى العديد من طالباتها الإناث. علاوة على ذلك، تبيّن معطيات وزارة التعليم العالي لسنتي 2018-2019 أن الذكور أكثر تواجدا بكثير من الإناث في التعليم الخاص. "حين لا ينجح فتىً، نقبل بتسجيله في مدرسة خاصة بأكثر طواعية مقارنة بفتاة"، وفق ما عاينته درة محفوظ بناءً على تجربتها كأستاذة.
في نفس الموضوع
وتفيد عدة دراسات اجتماعية أيضا أن معاملة المربين والمربيات تختلف باختلاف النوع الاجتماعي للتلميذات والتلاميذ. ففي سنة 2001، قامت الباحثة الفرنسية في علوم التربية نيكول موسكوني بتصوير صفّين في الابتدائي واحتسبت الوقت المخصص لكل تلميذة وتلميذ. والنتيجة : تـ·يخصص المربون والمربيات موضوع البحث 60 % من الوقت للذكور و 40 % للإناث.
كما أنهم·ـن يرجعون ويرجعن نجاح الإناث للمجهود والمثابرة ونجاح الذكور للقدرات الذهنية. فإذا ما لم ينجح تلميذ، تـ·ينزع المربون والمربيات لاعتبار ذلك نتيجة حادث أو تقصير في المجهود، وفي المقابل إذا ما واجهت تلميذة صعوبات من نفس القبيل فإن ذلك يُربط مباشرة بمدى ذكائها.
هذه السلوكات المتباينة لدى المعلمين والمعلمات، والتي تُلحظ بصفة خاصة في الرياضيات، تلعب دورا هاما في نجاح التلميذات والتلاميذ وفق تأكيد درة محفوظ : "الانتظارات بالنسبة للذكور والإناث يمكن أن تصنع 'تأثير بيجماليون' ". يختفي وراء هذا المصطلح نتيجة معروفة للغاية في أوساط علم الاجتماع : حينما نسقط توقعات مختلفة بالنجاح على التلميذات والتلاميذ، قد تنتهي هذه التوقعات بالتحقق فعلا حتى لو كنّ وكانوا بنفس المستوى في البداية. بعبارة أخرى، إذا كان·ـت المربون والمربيات مقتنعين ومقتنعات أن الفتيات لهن "عقل رياضي" ذو أداء أدنى من الفتيان، يصبح من المحتمل أن تجد هؤلاء الفتيات أنفسهن متأخرات مقارنة بالصبيان في هذه المجال.
وإلى جانب التعاملات مع المربين والمربيات، أشارت عديد الدراسات الحديثة إلى البيئة المُعادية للإناث في القسم أو في ربوع ساحة المدرسة. تضيف عالمة الاجتماع الفرنسية المختصة في السياسات التعليمية واللامساواة المدرسية ماري دورو-بلات أنه "على مستوى المدرسة الإعدادية، يحاول الصبيان فرض قواعدهم على الفتيات. هناك الكثير من الهرسلة والمضايقات التي قد تبدو طفيفة في الظاهر، ولكن تبقى متواصلة إلى حد التراكم. أرى أن هذا ضار جدا بالفتيات ذلك أنهن يتعلمن أن الصبيان هم من يضعون القانون وأنه ليس بوسعهن التفرد بمساحة لهن وأنه ينبغي عليهن الالتزام بمكانهن. من جهتهم، يعتبر المربون ومستشارو التعليم أن هذا الأمر عادي في هذا السن ولا يتدخلون إلا قليلا."
ولكن، لمَ تواصل الإناث إذن دراستهن لمدة أطول من الذكور رغم كل هذه العراقيل ؟
يتواتر خطاب يزعم أن الذكور يفقدون تركيزهم لتواجد الإناث، ما قد يفسر نسبة نجاحهم المتدنية. وهذا طريق مضلل حسب تقدير درة محفوظ : "من خلال مقارنة صفوف التعليم المختلط والتعليم أحادي الجنس، لم نلحظ أي اختلافات، عدا ربما عن ارتفاع طفيف لأداء الذكور ناجم عن المنافسة التي تحفزها الصفوف المختلطة."
إفترض البعض إذن أن تفوق الإناث يعود لمعاملة المربين·ـات التفضيلية نحوهن. فبادرت عالمة اجتماع برفقة زميلها بوضع هذه الفرضية قيد التجربة سنة 2009، وطلبا من 48 أستاذ وأستاذة رياضيات بتقييم اختبارات نهاية المرحلة الثانوية قائليْن لنصفهم·ـن أنها بقلم تلميذات إناث وللنصف الآخر أنها بقلم تلاميذ ذكور.
لم ينجم عن ذلك فارقٌ ذو أهمية تُذكر في الأعداد الممنوحة للإناث وللذكور. ولكن لاحظ·ـت الباحثة والباحث أن "الأساتذة يميلون لتقييم التلاميذ ذوي الأداء الضعيف وذوي الأداء المتفوق بشكل مختلف حسب ما إذا كانت فتاة أو فتى". ورقة امتحان متميّزة للغاية ولكن منسوبة لفتاة سيتم تقييمها بحزم أكبر. وفي المقابل سيميل الأستاذ المصلح إلى التسامح أكثر مع فتاة ذات أداء ضعيف. بالتالي، يعكس تقييم الاختبارات الأحكام المسبقة التي تـ·يحملها المربون·ـات وانتظارهم·ـن اللّاواعي أن يكون أداء الإناث في الرياضيات أضعف من أداء الذكور.
أما في ما يتعلق بفوارق النجاح في مواد بعينها، لم تؤكد أية دراسة البتة وجود اختلافات بيولوجية منذ الولادة تجعل من الإناث أكثر براعةً في القراءة والذكور أكثر تفوقا في الرياضيات، بل بالعكس، وفق ماري دورو-بلات، فقد دحضت عديد الدراسات الاجتماعية هذه الفرضية : "لاحظنا مثلا أن مجرد طريقة صياغة تمرين تؤثّر إلى حد كبير على نجاح الذكور والإناث فيه، ولا يمكن أن يجري الأمر بهذا الشكل في حال وجود عائق بيولوجي. ثم أننا، في إطار دراسة 'بيسا'، لطالما وجدنا بلداناً تتفوق الإناث فيها في الرياضيات [في 2015 فنلندا وألبانيا وأندونيسيا وترينيداد وتوباغو، ملاحظة المحررة]، الأمر الذي يدحض التفسير القائل بوجود سبب بيولوجي."
بين التعليم واستراتيجية التحرر
يحتفظ علم الاجتماع في نهاية المطاف بتفسيرين لتفوق الإناث في المدرسة.
حسب تحليل درة محفوظ فإن "الفتيات ينجحن أفضل لأنهن يدخلن المرحلة الابتدائية متحضرات نفسانيا -بفعل التربية العائلية- لاستيعاب الضوابط المدرسية. هذه الأخيرة التي تفرض الانضباط والطاعة واحترام التوقيت والعناية، والضوابط العائلية تلقّن الفتيات الشيء ذاته".
في الجهة المقابلة، تربية الذكور متضادة أكثر مع السلوك المنتظر منهم داخل المدرسة : "التعلم يفترض الهدوء والالتزام بالجلوس على المقعد وعدم التحدث مع الزملاء وطاعة امرأة خصوصا في المدارس الإعدادية حيث تكثر المربيات النساء. وبالنسبة لصبيّ، خاصة في بعض البيئات الاجتماعية، لا ينصاع الرجل لأوامر امرأة أو نصائحها، بل يسعى إلى معارضتها"، حسب ما تضيف ماري دورو-بلات.
كما تستجيب قابلية الإناث لتحصيل التعليم لمعيار اجتماعي يفضّل المرأة النشطة والمتعلّمة في مجتمع لم يعد يثمّن ربّة البيت وفق تعبير درة محفوظ.
من جهتها، تصرّ ماري دورو-بلات أن الفتيات لسن مجرد منصاعات للنُّظم المجتمعية، بل هن أيضا ممسكات بزمام مستقبلهن : "قد نبدو بصدد القول أن الفتيات خاضعات وممتثلات. على العكس من ذلك، هن عقلانيات. يعرفن أننا سنطالبهن دائما بالمزيد، ولذا، إذا أردن الحصول على شيء فعليهن الاجتهاد، وهن لا يتوانين عن ذلك. إنها استراتيجية تكيّف مع ما ينتظرهن."
تبعا لذلك، فإن الاجتهاد في المدرسة هو استراتيجية النساء لمجابهة المصاعب التي ستواجههن في سوق الشغل، ولكن أيضا للهروب من التحكّم العائلي على حد تعبير درة محفوظ : "في الجامعة، يبتعدن عن العائلة، وهي فرصة لاكتشاف العالم والتحرر. هن يحاولن النجاح من أجل تأكيد ذواتهن وليتم الاعتراف بهن وتكوين هوياتهن."
النساء أكثر عرضة لغياب الأمن الوظيفي
رغم تميزهن في الدراسة، تعاني النساء من وطأة اللامساواة في سوق الشغل. يشتغلن أقل، يجنين أقل ويعانين من البطالة أكثر من الرجال. تُلحظ هذه الفجوة الكبيرة خاصة بين حاملات وحاملي الشهادات بفارق 20 نقطة بين نسبة البطالة لدى النساء ولدى الرجال.
بالنسبة لدرة محفوظ، يكمن تفسير نسبة البطالة المرتفعة بين صفوف النساء في التفاوت الحاصل بين نوعية عروض العمل ومدى كفاءتهن : "تقدم سوق الشغل التونسية وظائف ذات مستوى متدنٍّ. نجد نسبة النساء مرتفعة في النسيج مثلا وفي التنظيف المنزلي. ولن تلتفت النساء حاملات الشهادات لهذه القطاعات!"
في المقابل، تشير عالمة الاجتماع إلى أن النساء يقبلن أعمالا أدنى من كفاءاتهن بطواعية أكثر من الرجال : "لهذا السبب كثيرا ما نسمع أن النساء مسؤولات عن البطالة لأنهن يقبلن بأجور زهيدة وظروف عمل أصعب ولأنهن أقل مطلبية. هذا هو نفس الخطاب الموجه ضد المهاجرين بزعم أنهم يسرقون وظائف الغربيين، في حين أنهم يقبلون بالوظائف التي لا يرضى هؤلاء بها."
وفي سبيل تفسير الفجوة بين أجور الرجال والنساء، يجب أيضا اعتبار المجالات التي تفضل النساء التوجه إليها منذ الثانوي. ففحين أنهن يشكلن الأغلبية في الآداب والعلوم التجريبية على سبيل المثال، يبقين أقلية في العلوم التقنية والإعلامية.
ويتواصل هذا المنحى في التعليم العالي، حيث يلتحق طالب واحد من كل أربعة بأحد مجالات الهندسة، في حين تختار طالبة واحدة من كل عشرة هذا المجال.
ولكن، غالبا ما تكون القطاعات التي تتجه لها النساء أقل قيمة اجتماعية وأقل أجرا. فكيف يمكن تفسير هذا الترابط بين الحضور النسائي والقيمة الاجتماعية المتدنية ؟ لدرة محفوظ إجابة : "هذا أمر ذو اتجاهين. هناك قطاعات برمتها لم يعد يلتفت لها الرجال، على غرار التعليم، حيث الأجور لا تجذبهم. تتدنى قيمتها إذن فتتأنّث. ولكن في نفس الوقت، إذا تأنّثت، تدنت قيمتها. وقد يعود ذلك لكون النساء أقل انتسابا للنقابات ويقمن بإضرابات أقل."
"يُنظر للنساء دائما كأمهات"
تقبع الأسرة في قلب مشكل اللامساواة في سوق الشغل وفق تقدير ماري دورو-بلات : "يُنظر للنساء دائما كأمهات. ويخامرنا دائما سؤال : ماذا سيحدث عندما تنجب المرأة أطفالا ؟"
تفسر درة محفوظ أن "تراكم وظيفتين أسرية ومهنية يدفع بالنساء للمطالبة بعطلة الأمومة، ويؤدي بهن للتأخر. حين يلج شاب وتلج شابة يحملان نفس الشهادة لإدارة في نفس التاريخ، سنجد بعد عشر سنوات أن الرجل قد بلغ مستوىً أعلى من المرأة، ذلك أن المسؤولية الأسرية قد كبحت مسيرتها".
مكنت الدراسات حول الميزانية الزمنية لسنة 2005-2006 والتي شاركت فيها عالمة الاجتماع التونسية من مزيد تحديد هذه الظاهرة : في المتوسط، تخصص النساء وقتا أكثر بـ8 مرات من الرجال للأعمال المنزلية، ويقضين فيها 5 ساعات و15 دقيقة في اليوم مقابل ما لا يزيد عن 30 دقيقة للرجال. وهو توزيع للعمل يؤثّر بالضرورة على المسيرة المهنية للنساء.