في نفس الموضوع
"في صائفة عام 1914، اندلعت الحرب في أوروبا وسرعان ما تفشّت تداعياتها في جميع أرجاء العالم، لا سيّما في أعقاب إبرام اتّفاقيّة تفاهم بين ألمانيا والإمبراطوريّة العثمانيّة في أوائل شهر أوت من نفس السّنة. تبعا لهذه الاتّفاقيّة، شنّت كلّ من فرنسا والمملكة المتّحدة وروسيا الحرب على الإمبراطوريّة العثمانيّة في نوفمبر 1914. [...] وكان سكان مفوضية جبل لبنان وأغلبهم من المسيحيين، عرضة لحنق العثمانيّين عليهم. ويُعتبر أولئك مقربين من فرنسا - بل حتى حلفاءها– (كانوا يحظون بفضل الغربيين بمركز مبجل وبالعديد من الامتيازات داخل الإمبراطورية). وتُشير شهادات رجال الدين من اليسوعيين المقيمين ببيروت آنذاك [...] إلى مصادرة ممنهجة للأملاك [...]. وما فتئت هذه الاضطهادات تتصاعد[...] إلى أن أفضت إلى مجاعة 1915. [...] وفي حين أنّ بعض سكّان المنطقة آثروا البقاء في لبنان، "في سياق يتّسم بانعدام الثّقة المتبادلة" بينهم وبين الباب العالي، [...] حاول آخرون النّفاذ بجلدهم من هذا الجحيم بشتّى الطّرق، فارّين بعشرات الآلاف إلى مصر وفرنسا والجزائر وحتّى أمريكا الجنوبيّة. وبما أنّ سكّان جبل لبنان كانوا معفيّين من التّجنيد الإجباري في صفوف الجيش التّركي [...]، قصد الكثير منهم القنصليّة الفرنسيّة في بيروت التماسا لتجنيدهم في الجيش الفرنسي. غير أنّ طلبهم سيجابه بالرّفض لكونهم مازالوا يُعتبرون رعايا عثمانيّين".
كلير غرانشان، "وُلدوا في الإمبراطوريّة العثمانيّة واستشهدوا في سبيل فرنسا: ملامح شخصية لجنود "سوريّين-لبنانيّين" مشاركين في الحرب العالميّة الأولى في صفوف الجيش الفرنسي، لوريان لوجور، متاح هنا (بالفرنسيّة).
اضطرّ جورج أوغست آشود** إلى مغادرة مسقط رأسه على خلفيّة الضّغوطات التي كانت تمارسها السّلطات العثمانيّة على الطّائفة المسيحيّة في جبل لبنان وعلى الطّائفة العربيّة داخل الإمبراطورية بشكل عامّ*. وجورج هو تاجر ماروني شابّ من مواليد بيروت في 7 فيفري 1886 (بحسب التّقارير الأمنيّة) أو 1889 (وفقا للأرشيف العسكري)، توجّه إلى فرنسا مع اندلاع الحرب ملتمسا الانضمام إلى صفوف الجيش الفرنسي في سبتمبر 1914. وتبعا لفشله في الحصول على التّجنيس الفرنسي، أُلحق بالفيلق الأجنبي وأُرسل إلى تونس ضمن فوج الكتائب (فوج التّيرايلور) التونسية الثامن قبل أن يُرسَل إلى جبهة القتال في فرنسا.
"نيل ثقة المسلمين من حوله قدر المستطاع"
ما لبث اللّبس الذي يكتنف وضع هذا الجندي الأجنبي الذي لم يكن عثمانيًا بالكامل ولا فرنسيًا بالكامل أن أثار الشّكوك حوله. إذ أنّ تشديد جورج أوغست آشود على انتمائه إلى الإمبراطوريّة العثمانيّة في دوائر التّونسيّين سرعان ما جلب أنظار السّلطات الاستعماريّة التي رأت في تصرّفه ذلك تلاعبا. ويُشير تقرير الأمن العامّ الصّادر في 13 جانفي 1915 ببنزرت، أين يُوجد الفوج، إلى أنّ الشّرطة تحتاط منه لقربه من "التونسيين":
"إنّه ضليع باللّغة العربيّة ويتطوّع ككاتب عمومي لرفاقه. كما أنّه يناقش بعض المسائل المستعصية نسبيّا حول الدّيانة الإسلاميّة. وهو يحظى بتقدير التونسيين الذين يقدّم لهم نفسه كأحد الرّعايا الأتراك. أظهر جواز سفره التّركي لروّاد المقهى الذي يترّدد عليه. خلاصة القول إنّه يسعى جاهدا إلى كسب ثقة المسلمين من حوله على قدر المستطاع".
"إنّه ضليع باللّغة العربيّة ويتطوّع ككاتب عمومي لرفاقه. كما أنّه يناقش بعض المسائل المستعصية نسبيّا حول الدّيانة الإسلاميّة. وهو يحظى بتقدير التونسيين الذين يقدّم لهم نفسه كأحد الرّعايا الأتراك. أظهر جواز سفره التّركي لروّاد المقهى الذي يترّدد عليه. خلاصة القول إنّه يسعى جاهدا إلى كسب ثقة المسلمين من حوله على قدر المستطاع".
غير أنّ الميزات التي كان يتّسم بها التّيرايلور السّوري-اللّبناني كانت في الواقع سلاحا ذا حدّين لكونها تُسهم كذلك في الاشتباه به، إذ لم ينفع تجنيده في صفوف الجيش الفرنسي وعمله كمخبر في تبديد الشّعور القويّ بعدم الاطمئنان الذي كان يخالج الإدارة الاستعماريّة الفرنسيّة تجاهه. وتجدر الإشارة إلى أنّ الإمبراطوريّة العثمانيّة كانت آنذاك العدوّ اللّدود لفرنسا في الحرب الجارية وتمثّل كذلك القوّة الاستعماريّة السّابقة في تونس.
وهكذا، عندما حاول جورج أوغست آشود بدوره الانسلاخ عن الجيش منتقدا المؤسّسة العسكريّة الفرنسيّة لصالح الجيش العثماني، بقيت أجهزة المخابرات في حالة تأهّب قصوى:
"ذات يوم، أعلن عن نيّته الانسلاخ عن الجيش مصرّحا ببحثه عن وسيلة تمكّنه من ذلك [...] وطلب من أحد التّونسيّين الحاضرين، المدعوّ الحاج عبد الرّحمان بن عثمان وهو عامل يومي في الميناء، مساعدته على ذلك".
ويبدو أنّ التّيرايلور قد اتّخذ قراره هذا في أعقاب تعيينه للالتحاق بجبهة القتال بفرنسا في قادم الأيّام وكان قد اعترض على التّوجّه إلى هناك مثيرا أنّه "تركي ومسلم ورع". ويُشير التّقرير إلى أنّ الجندي بذل كلّ الوسائل التي في وسعه للانسلاخ عن الجيش حاثّا العامل في ميناء بنزرت على إيجاد وسيلة لبلوغ تونس العاصمة ومن ثمّة التّوجّه نحو الأستانة. ويبدو أنّ العامل المذكور احتاط منه ورفض مساعدته، ما اضطرّه إلى البحث عن وسائل أخرى للمغادرة فسعى بالتالي إلى الحصول على تبرعات لمساعدته "على الانشقاق عن هذا الجيش الفرنسي السيئ الذّكر".
لا تبيّن التّقارير ما إذا كانت تلك استراتيجيّة توخّاها للإلمام بمسالك التّهرّب من الخدمة العسكريّة وكشفها لرؤسائه أو ما إذا كان ينوي حقًّا الفرار من الحرب. وبغضّ النّظر عمّا إذا كان يعمل لصالح الجيش الفرنسي أم لا، فإن الشّرطة لم تكن تؤيّد طبيعة تصريحاته:
"لقد أصبح أكثر خطورة ممّا كان عليه بعمله كمخبر لصالح القائد دينشر ورئيس الأركان [...]."
"إنّه يواصل تحريض التّونسيّين من المدنيّين والعسكريّين ضدّ السّلطة الفرنسيّة وانتقاد فرنسا وجيشها".
"ثمّة مخاوف من أن ينجح تصرّفه هذا في إيقاد شرارة التّمرّد في صفوف فوج الكتائب الثّامن."
"يوضّح أنّ فرنسا مخطئة في مجابهة قوّة أثقل منها وزنا مؤكّدا أنّها خسرت [الحرب] وأنّ الألمان سوف يمحقونها لا محالة وأنّه من سوء حظّ التّونسيّون أن يكونوا في صفوف جيشنا".
"إنّه يُشيد بقوّة الجيوش التّركيّة وبسالتها ولا يفوّت فرصة واحدة لإظهار وثائقه التّركيّة معبّرا عن رغبته في المغادرة، [...] والانشقاق عن جيش مهزوم سيجرّ في هزيمته الشّنعاء التّونسيّين الأشقياء إلى الهلاك".
ومع ذلك، لم تتوان التّقارير عن الإشادة بولاء خيرة "التّونسيّين"المعارضين لآراء التّيرايلور: "أعرب العديد من التّونسيّين عن شديد امتعاضهم من تصريحاته العدائيّة التي تستهدف فرنسا"؛ "إنّ معرفته الواسعة تحظى بتقدير جميعهم غير أنّ نظرته الحادّة وألفاظه الاستفزازيّة تجعلهم يتوخّون حذرهم إزاءه"، كما يتحرّج بعضهم من تصريحاته بسبب التحاق بعض أفراد أسرهم بجبهة القتال.
مُخبر تحت الرّقابة
ورغم نشاطه كمخبر لفائدة المؤسّسة العسكريّة، لم يكن التّيرايلور في منأى عن الرّقابة التي طالته بدوره ولم يشفع له انضمامه إلى صفوف الجيش الفرنسي أمام اعتباره عدوّا دّاخليا بسبب أصوله السّوريّة وجنسيّته العثمانيّة.
اعتنت التّقارير الاستخباريّة بتوليف جملة المعلومات الواردة حوله في أدقّ تفاصيلها، وتذكر من بين ذلك أنّ امرأة تُدعى "السّيّدة نيكولاي" وهي "صاحبة خمّارة" على طريق ماطر، كانت قد أخبرت الشّرطة أنّ تيرايلورًا يحمل "الجنسيّة التّركيّة" تقدّم إلى خمّارتها طالبا استئجار غرفة. وبعد رفضها لطلبه، سألها عمّا إذا تقدّمت لديها "امرأة متّشحة بالسّواد" وترتدي "قبّعة سوداء مزدانة بريشة بيضاء". عندما أجابت بالنّفي، سألها التّيرايلور عمّا إذا كانت تصلها صحف إيطاليّة. أكّدت له أنّها كورسيكيّة فردّ بأنّه ضابط أمن وفي حاجة إلى صحف إيطاليّة.
وكان هذا الحوار كافيا لإدانته واعتقاله وإن كان يبدو متّسقًا مع مهمّة التّجسّس التي كُلّف بها التّيرايلور. ثم في أعقاب ذلك، بادرت السّلطات العسكريّة بفتح تحقيق في الغرض لكن سرعان ما أُطلق سراحه في نهاية المطاف مع مواصلة "وضعه تحت الرّقابة السّرّيّة".
وهكذا كان تحت أنظار الشّرطة في نفس الوقت الذي كان يراقب فيه بدوره ضابطًا عسكريّا: "صبيحة هذا اليوم، كان يترصّد أحد الضّبّاط من الكتائب الخيّالة في حيّ بيجوفيل [في بنزرت] [...]. سار على طول الجدار ودلف إلى غاية الباب الذي توارى وراءه الضّابط ثمّ بعد أن اطّلع على ما كان يريد معرفته، توارى في ركن من نهج جيرارديه قبل أن يختفي عن الأنظار"، وبيّن المخبر الذي كان يراقبه: "سأحاول الإدلاء باسم الضّابط والشّخص الذي قابله".
كان جورج أوغست آشود مترصَّدا في عديد المقاهي التي كان يرتادها في نهج لا بورت دو لاك (نهج باب البحيرة) في بنزرت، ومنها مقهى العربي بن غفّار ومصطفى الزّغواني الواقع في ساحة فرنسا ومقهى عبد الله سردينا. وكانت أجهزة المخابرات مستاءة من جميع تصرّفاته: "إنّه يواصل التّعليق على المستجدّات الحربيّة والإمعان في ثرثرته مستهدفا فرنسا" كما أنّه "يخيّر صحبة المنحرفين أو ذوي السّوابق العدليّة من التّونسيّين".
"دعاية لصالح الجيش التّركي"
وهكذا، على الرّغم من حالة الحرب التي من المفترض أن تقوّي الكيان العسكري، كانت قوّات الأمن الاستعماريّة مؤهّلة لرقابة أفراد الجيش وكان شغلها الشّاغل هو السّيطرة على المستعمَرين: "أخشى ما نخشاه أن يفلح في تأليب بعض المتعصّبين ضدّنا في حين أنّ التّونسيّين يبدون سلميّين". وكانت قوّات الأمن تذهب إلى أبعد من مجرّد مراقبة الجنود، بل تسلّط عليهم عقوبات ومنها عقوبة إبعاد جورج أوغست آشود إلى تبرسق.
يوم 17 جانفي 1915، أُلحق الأرتيليور بهذه المدينة من الشّمال الغربي حيث كُلّف بمراقبة مؤسّسة سجنيّة وتم تبرير هذا الإبعاد بـ"الدّعاية التي كان يقودها لصالح الجيش التّركي وبمحاولاته تحريض التّونسيّين في بنزرت".
في تبرسق، بالغت الشّرطة في الحكم عليه بقسوة ولمحت إلى أنّه لا يستحقّ الجنسيّة الفرنسيّة حيث أعرب مفوّض المدينة عن أسفه في المذكّرة المؤرّخة في 16 مارس 1915: "لقد برهن هذا اللّبناني على تفان كبير لفرنسا وأبدى رغبة جامحة في الحصول على الجنسيّة الفرنسيّة بصفته من الكاثوليك المشرقيّين. إنّه ذكيّ الفطرة ومتعلّم [...] وكان مصنّفا في فصيلة التّلامذة الرّقباء [...] ".
وتتّهم المذكّرة التّيرايلور بالخداع، ملقية اللّوم عليه بلعب لعبة مزدوجة: "إنّ الانطباع الإيجابي التي كوّنّاه عنه قد انقلب إلى النّقيض تمامًا. وكان قائده قد اُحيط علما بالسّلوك الغريب لهذا التّيرايلور، ويُزعم أنّه كان يدّعي تارة أنّه مسلم مسالم في الأوساط التّونسيّة وطورا أنّه كاثوليكي في حضرة قادته، هو في حقيقة الأمر يهوديّ الدّيانة". وفي غياب ما يؤكّد أنّ جورج أوغست آشود يهوديّ الدّيانة، في الوقت الذي تُشير فيه جميع الأدلّة إلى أنّه من الكاثوليك الموارنة، فإن الظن غير المبرر والمعاداة الضمنية للسامية عزّزا فكرة أنّه شخص متحيل.
وبالنسبة للشّرطة التي اعتادت فرز الأفراد بين صالح وطالح، فلا جدال في أنّ آشود مصنّف في شقّ الطّلَّح وهكذا، تمّ توظيف سلوكه وأصله الحقيقي أو المتخَيّل وكذلك ماضيه ضدّه:
"إنّ سعيه الدّؤوب إلى التّسلّل وشخصيّته المثيرة للفضول وإجادته اللّغة الألمانيّة وتردّده على بافاريا بهدف التّجارة قبل اندلاع الحرب وطلبه الالتحاق بجبهة القتال وخاصّة ضمَّه إلى جهاز المخابرات وحيازته لوثائق هويّة تخوّل له اختراق خطوط العدوّ تجعل من آشو رجلًا خطرا، وهو يبدو قبل كلّ شيء مختلّا". ”
لكنّه كان أقلّ لفتا للأنظار لدى إلحاقه، "غلب على سلوكه الفتور بمجرّد حلوله بتبرسق". لكنّه "يبدو قلقا"، "يبدو مشوّشا بسبب الأحداث الجارية في الشّرق لأنّه يخشى على حياة عائلته التي ما زالت مقيمة في سوريا".
تُشير مذكّرة 23 جوان 1915 إلى أنّ جورج أوغست آشود أُعيد في نهاية الأمر إلى بنزرت في السّادس من ذات الشّهر، على الأرجح تمهيدا لإرساله إلى جبهة القتال بفرنسا. وقُتل بعد مضيّ بضعة أشهر، يوم 28 سبتمبر تحديدا، عن عمر يناهز 26 عامًا خلال معركة شامبانيا الثّانية مثلما يدلّ على ذلك سجلّه المحفوظ في الأرشيف العسكري الفرنسي والذي يحمل عبارة "استشهد في سبيل فرنسا":
وهكذا فإنّ الدّولة الفرنسيّة التي لم تكن تستسيغ شخصيّته لم تبد ممانعة في الاستفادة منه لتعزيز صفوف جيشها. وقصّة جورج أوغست آشود تحاكي قصص العديد من المسيحيين السوريين-اللبنانيين الآخرين المشاركين في الحرب العالمية الأولى تحت الراية الفرنسية. وتخفي الإشادة الظّاهريّة بتضحية هؤلاء الرّجال الذين "استشهدوا في سبيل فرنسا"، وضعهم المعقّد نتيجة تصنيفهم كأشخاص مزدوجي الهويّة كانوا يحاولون البقاء على قيد الحياة في خضمّ صراع إمبراطوريّ الأبعاد ولّدت فيه أصولهم مشاعر تراوحت بين الرّغبة في إدماجهم حينا ونبذهم أحيانا.