على إثر هذا الإبلاغ، أجرت الشرطة عملية تفتيش بقيادة المفوض الخاص كلابييه، وحاولت أن تداهم مجموعة المدخنين، دون جدوى. يبدو أن المشبوهين لاذوا بالفرار عبر الساحات المجاورة بعدما حذرهم رقيبٌ لهم بالعملية الوشيكة.
على خلفية هذا السّياق، دعا شيخ المدينة إلى إغلاق "غرزة الشيرا" حفاظا على "النظام العام"، بالإضافة إلى اتخاذ "إجراء إداري" إزاء العروسي بن لطيفة.
استهلاك غير قانوني
كان هذا الحرص على تقفي أثر العروسي شُهر "لولو" ورفاقه نتيجةً للقمع الشديد المسلط على تعاطي الشيرا في بداية القرن، على خلاف التكروري أو الكِيف [أي أوراق القنب الهندي المطحونة]، وهما مادتان تحتكر الدولة تجارتهما وتنظمها دائرة الاحتكار. وبحسب ما ورد في مرسوم صدر يوم 7 جوان 1900، تبلغ العقوبات أحيانا السجن لمدة 6 أشهر وغرامة مالية مقدارها 1000 فرنك، ولا تقتصر على مروجي الشيرا ومستهلكيها أو مستهلكاتها فحسب، بل تشمل أيضاً حاملي·ـات الغلايين الخاصة بهذا الغرض.
"صمغ القنب الهندي [كانابيس إنديكا] الخام، ويُطلق عليه في البلدان المتوسطية المسلمة اسم الشيرا، مادة إغريقية الأصل ما عدا بعض الاستثناءات النادرة. فقد كانت اليونان قادرةً على تزويد السوق غير المشروعة بما يتراوح بين 3 و400,000 كيلوغرام من الشيرا. وكانت حركة التصدير موجهةً نحو القسطنطينية وطرابلس وأفريقيا الشمالية على وجه الخصوص. ترد معظم واردات تونس من الشيرا عن طريق البحر؛ [أو] من خلال الحدود البرية الجنوبية فضلا عن الحدود الجزائرية، لا سيما أثناء الفترات التي تخضع فيها الموانئ إلى رقابة مشددة. لم تكن دوائر الاحتكار تجهل هوية أهم مروجي الشيرا، ولكنها كانت تكتفي في معظم الأحيان بالقبض على بعض أتباعهم المغمورين الحاملين كميات ضئيلة من المخدرات. وفي يوم 7 جوان 1900، صدر مرسوم يُمنع بمقتضاه منعاً باتا تعاطي الشيرا وحيازتها وترويجها في إيالة تونس؛ ليخضع حاملو غلايين الشيرا لنفس العقوبات المسلطة على حامليها أو مروجيها. وعلى الرغم من صرامة العقاب (السجن لمدة 6 أشهر وغرامة مالية تُقدر بـ 1000 فرنك)، كانت الشيرا تُستهلك بكميات وفيرة قبل الحرب. ومنذ عام 1914، تراجع عدد الملاحقات القضائية تراجعا هاما بعد أن بات المخدر نادرا للغاية."
غالبا ما تُستهلك الشيرا في مجموعات تتقاسم "النرجيلة"، وهي غليون مائي يُستعمل لتدخين المخدر.
"يجتمع التكارّية [أي المدخنون] في مقاهيهم أو في دكاكين صغيرة يستأجرونها ليجعلوا منها غُرزاً [...]. والنرجيلة أداة مزودة بجرة مياه يبقبق فيها الماء بمرور الدخان فيه، وقد تكون هذه الجرة جوزة هند [...] أو وعاء من البلور أو الخزف، ونجد في جانبها أنبوبا من القصب للاستنشاق [...]. والشيرا مادة سريعة الاحتراق، لذلك يسارع المدخنون بتمرير النرجيلة من يد إلى أخرى ربحا للوقت [...]. سرعان ما تتدهور حالة مستهلكي الشيرا ويؤول بعضهم إلى الإجرام أو الجنون، فتمتلئ بهم المستشفيات والسجون سابقاً. ولهم في الإقلاع عنها فوائد جمة."
انجر عن تجريم الشيرا تطور تجارة سرية تسعى إلى تحقيق أعلى نسبة من الأرباح من خلال تزوير تركيبة المنتج وخلطه بمواد أخرى من قبيل التراب أو الرماد أو المطاط.
وأدى منع الشيرا إلى أثر ثان تجسد في ارتفاع نسبة تعاطي التكروري، وهي مادة تبيعها دائرة الاحتكارات في علب ذات 5 غرامات. وبمنع توريد الشيرا واحتكار إنتاج التكروري المحلي، تمكنت الدولة الاستعمارية من الاستحواذ على الأرباح الناجمة عن استهلاك القنب الهندي.
أما الأثر الثالث فقد ألقى بظلاله على المدخنين·ـات، فبات هؤلاء عرضة للإدانة والتشويه واعتُبروا من أخطر المجرمين·ـات والمنحرفين·ـات، مما تسبب في سجنهم·ـن أو إيداعهم·ـن في مستشفيات الأمراض العقلية بذريعة الخبل أو الاعتلال النفسي [السيكوباتية]. أما مستهلكو التكروري المباع قانونيا، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
اعتباطية الجنحة
وهكذا، التحق العروسي بن لطيفة بصفوف "المذنبين" بسبب تعاطيه مادة تُعتبر غير مشروعة. نصت التقارير على "سوء سلوكه" وإدانته سابقا لدى محكمة الدريبة [المحكمة الابتدائية سابقا] بتهمة السرقة أو السكر، فضلا عن سوابقه في تعاطي الشيرا.
على إثر فشل عملية التفتيش في "الغُرزة"، لم تغفل الشرطة عن العروسي بن لطيفة ليُطرح ملف "المذنب الخطير" مجددا بعد مرور شهرين، رغم أنه لم يكن هنالك أي جديد يُذكر بشأن القضية السابقة. وهذه المرة، أمر قسم الدولة بالقبض عليه حفاظا على "مصلحة الأمن العام". وعلاوة على ذلك، أشارت الشرطة إلى أن بطالته وافتقاره إلى مأوى تُعد ظروفا مشددة.
يوم 30 جويلية 1913، أُلقي القبض على العروسي بن لطيفة بوصفه "مجرما مُدانا"، واعتُقل في السجن المدني بتونس الحاضرة.
حُدد تاريخ إطلاق سراحه ليوم 30 أوت، أي بعد شهر. بيد أن قسم الدولة طالب بوضع العروسي "على ذمته" قبل تحريره. ولا ينص ملفه عما دار بينه وبين السلطات، ولكن انتهى الأمر بتمديد عقوبته فلم يطلَق سراحه إلا في مطلع شهر أكتوبر مقابل "كفالة". ثم تعرض العروسي إلى ألوان من التصغير والتحقير، وهُدد بالزّج به في السجن ثانيةً "في أول قضية يتورط فيها" و"بالاعتقال إذا ما صدرت ضده شكوى أخرى".
ارتأى قسم الدولة أن مدة عقوبة العروسي بن لطيفة –وقُدرت بشهر ثم دامت شهرين في نهاية المطاف- تفي بالغرض، وأن إداناته السابقة ليست بالغة الخطورة. فعبّر القسم عن تحفظه بشأن تسجيل العروسي. كان هذا الرأي معاكسا لرأي مدير الأمن العام الذي أمر باتخاذ إجراء إداري ضد المعتقل. فرغم إخلاء سبيل العروسي، أصبح خطر السجن مرة أخرى محيقا به إلى أجل غير مسمى.
قُبض على العروسي بن لطيفة دون أي أدلة بسبب سجله الجنائي. وما من سبب يُذكر سوى أن استهلاكه الخاص يزعج البعض، وأن تهميشه الاجتماعي يجعله عرضة إلى قمع الدولة، فأبقت عليه وراء القضبان لمدة شهرين. لا لشيء سوى لأنه دخن الشيرا، الأمر الذي اعتبرته الدولة نشاطا إجراميا، فجعلته، بنفوذ قولها، في عداد المتهمين. غدا الرجل مجرما لأن السلطة قررت أن تعتبره مجرما.
افتعلت السلطات الاستعمارية قضية عامة تتعلق بالانحراف والإجرام في إطار سعيها إلى ضمان أرباح بالاستحواذ على إنتاج التكروري المحلي وحظر ترويج الشيرا. ولم تكتفِ الدولة بالركوب على مسألة الأمن، بل أدانت استهلاك الشيرا وما تمثله من خطر على الصحة ؛ في حين أنها تروج مادة مستخلصة من النبتة ذاتها.
في خضم هذه الاعتباطية، لا يُنكَر أن البقاء حقا للأقوى. فبينما تحافظ السلطة على مصالحها الاقتصادية، جعلت من مستهلكي ومستهلكات المنتوج المنافس عناصر غير مرغوب فيها، واختلقت لهم ولهن جرائمَ، بل ومنحت لنفسها شرعية فرض العقوبات عليهم·ـن.