رقابة أمنية وصحية
تشير مذكرة صادرة عن مصلحة حماية الأخلاق إلى أن منوبية المثلوثي مصابة بداء القرح وهو عبارة عن تقرح على مستوى الأغشية المخاطية يمكن أن ينتج عن الإصابة بمرض الزهري.
هذا الوباء الذي أخذ في التفشي على نطاق واسع منذ أربعينات القرن 19 حدا بالسلطات الاستعمارية في عام 1889 إلى استحداث مصلحة حفظ الصحة والنظافة التي "تتمثل إحدى المهام الموكولة إليها في التعاون مع شرطة الآداب، المُحدثة في سنة 1886 والتي تم تعزيزها عام 1897، لإخضاع العاملات بالجنس لفحوصات طبية بهدف مكافحة الأمراض المنقولة جنسيا".
وفي سياق هذه الرقابة الصحية والعمومية في ذات الوقت، يبدو أن إيقاف بية المثلوثي وشقيقتها لم يكن مبررا بكونهما "تتعاطيان البغاء" في حد ذاته بل لكونهما تزاولان ذلك "في الطريق العام"، أي بصفة غير قانونية.
يجدر التذكير هنا أن تقنين "تعاطي البغاء" في تونس الحاضرة يرجع إلى أواخر القرن التاسع عشر من خلال اعتراف شرطة الآداب بوجود "بائعات الهوى". إذ تم تأطير مزاولته بصفة مرخصة داخل "الأحياء المخصصة للدعارة" بمدينة تونس العتيقة التي كانت تضم آنذاك حيين "مسلميْن" حيث تعمل التونسيات (في باب سويقة وباب جديد) وما يُسمى بالحي "الأوروبي" حيث تنشط نساء من أصول أوروبية ويهودية وجزائرية وتونسية أحياناً (نهج سيدي عبد الله قش، شرق المدينة العتيقة).
علاوة على ذلك، تحظر القرارات البلدية "ممارسة الدعارة" خارج هذه الفضاءات المغلقة بهدف التوقي من انتشار "الفجور" والحفاظ على "الآداب العامة". فكان لبية المثلوثي إذن الحق في العيش معيشة ضنكاً ولكن ليس بطريقة مفضوحة للعيان. وانبغى عليها أن تتوارى عن الأنظار.
جنحة " التشرد"
"كان من شأن تنامي الأجور الزهيدة والبطالة في المدن الاستعمارية تعزيز التجارة غير المرخصة أو الموازية [...]. ثم إن تنقل ما يُعرف بالسكان "العائمين" اعتُبر مشابها للتشرد الذي أصبح حينها ظاهرة متواترة في نظر السلطات الإدارية ليتم توصيفه تبعا لذلك بالجنحة".
شأنها شأن العديد من النساء والرجال المنتمين والمنتميات إلى الطبقات الاجتماعية المهمشة، لم تكن بية المثلوثي شخصا مرغوبا فيه في أعين الشرطة، ولا تعدو أن تكون مجرد "متشردة" يشكل وجودها في الحاضرة مصدر إزعاج للسلطات. كما أنها لم تكن في منأىً من تضييق الشرطة التي كانت تسهر على مراقبة الفضاء العام الحضري بصفة دائمة باعتباره فضاءً يُفترض أن يكون متمدنا وخاليا من العناصر المزعجة. في هذا السياق، كان يتم إيقاف النسوة اللائي يُعتبرن من ضعاف الحال ودخيلات على سكان وساكنات المدن بتعلة "الدعارة" أو "السكر" أو "الفجور" أو حتى "الاغتراب" واتهامهن بـ"التشرد"، كما تشهد على ذلك سجلاتهن المحفوظة في ملف "ناس مشبوهة" بالأرشيف الوطني.
"يعود تجريم التشرد في تونس إلى نسخ المؤسسة الفرنسية لنظام سابق متعلق بزجر الإخلال بالأمن العام القائم على الصورة النمطية للشخصية الاجتماعية للمتشرد"،
- سناء بن عاشور، "الزجر الجزائي للفقر: التشرد والتسول"، نشاز، 2021، يمكن الاطلاع عليه هنا .
"لطالما شغل التشرد بال الشرطة الباريسية من القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين: لا لاقترانه بالجرائم المقترَفة بل خاصة لكونه دليلا على انعدام الاندماج، وشكلا من أشكال الهامشية الاجتماعية في ظل النظام القائم [...]. هذا وتعتبر السلطات الأمنية والقضائية أن كون المرء "متشردا" يعني بالضرورة إخفاءه لطبيعته الإجرامية الحقيقية. كما أن غياب التجذر الإقليمي والاستقرار المهني كان يُعتبر عيبا وكان الأعوان الباريسيون يعمدون بالتالي إلى تعقب الذنب الكامن وراء التشرد والذي يمثل، حسب رأيهم، مصدر قلق ودافعا قويا للممارسات ذات الطابع الإجرامي [...]"،
-أوليفييه جوليار، "إلغاء تجريم التشرد؟ التأثير النسبي لمرسوم أكتوبر 1935"، كريمينوكوربوس، 2014، يمكن الاطلاع عليه هنا .
اتسم نسخ القانون الفرنسي في ذلك السياق الاستعماري الذي كانت تشهده تونس آنذاك بالمحافظة على روحه التي كانت مرتكزة بالأساس على ما تـ·يفتقر إليه المشتبه بهم وبهن: غياب منزل قار ومورد مالي ومهنة محددة.
وبالنسبة للسلطات، فإن حالة بية المثلوثي تنطبق عليها المعايير الثلاثة المذكورة آنفا: حيث أنها لا "تمارس الدعارة" في الإطار القانوني الذي تم سنّه، أي أنها لا تمتهن عملا ما، وكونه ليس لديها عمل يعني أنها ليس بحوزتها مال، كما أنها بالإضافة إلى كونها تعيش وضعا ماديا هشا، فليس هناك أي مبرر لتواجدها في تونس إذ أنها ليست أصيلة العاصمة.
" قيد الإقامة الجبرية"
بمجرد إيقافها، أصبحت بية المثلوثي مجرد رقم لدى مختلف مصالح الشرطة، رقم وجبت معالجته. وكان الهدف يتمثل في"إبعادها عن تونس وإعادتها إلى بلدتها الأصلية". تبادلت مختلف السلطات عدة مراسلات بشأنها دون أن يتم سماعها البتة. لم تُستجوب ولو مرة واحدة بل كان يتم تقاذفها من قسم إداري أو سجني إلى آخر في انتظار "طردها" إلى بلدتها.
كانت الحكومة الاستعمارية آنذاك تُملي أوامرها على شيخ المدينة الذي ينصاع لتنفيذها إما ناقلا المعلومات أو مطبقا إجراءات ملموسة. غير أن المعالجة الإدارية لملف السجينة استغرقت وقتًا طويلا كانت تقبع خلاله في السجن.
إثر إيقافها يوم 27 أكتوبر 1915، أُحيلت بية المثلوثي إلى قسم الوزارة الكبرى بتاريخ 17 نوفمبر. بعد التحري حول أصول السجينة، أعلم القسم المذكور قايد المهدية بأنها ستُرسَل إليه "مرفوقة بحراسة". ولم تبلغ بية المثلوثي منطقة المهدية إلا في 16 ديسمبر.
هكذا، بادرت السلطات بطرد بية المثلوثي من العاصمة دون الاكتراث بما عساها فعله أو ما إذا ما كانت لا تزال على علاقة بأفراد أسرتها أم لا. وبعد إجبارها على "العودة"، مُنعت من مغادرة منطقة "قبيلتها" كما تنص على ذلك المراسلات الموجهة من قسم الوزارة الكبرى إلى قايد المهدية. وكان قد طُلب من هذا الأخير التعجيل بـ"إجبارها على عدم مبارحة شيختها" [جزء من القيادة، منطقة] و "توصية من يعنيه الأمر بالحرص على مراقبتها". وانتقلت بالتالي من الخضوع إلى السلطة الإدارية إلى الوصاية الأبوية.
في مارس 1916، التحقت بها أختها المعافاة "مرفوقة بحراسة" هي الأخرى. وجاءت التعليمات لا يشوبها غبار: "إجبارهما" على العيش في الشيخة التي تنحدران منها واتخاذ جميع الإجراءات اللازمة بحقهما "لمنعهما من مغادرة المنطقة".
وجدت الشقيقتان اللتان قضّتا عدة أشهر إما في السجن أو في المستشفى نفسيهما تحت رقابة أفراد أسرتهما الذين أضحوا أولياء أمورهما بفعل القانون. وصارت العائلة بالنسبة إليهما بمثابة سجن جديد ومسؤولة في نظر الشرطة عن سلوكهما وعن أي محاولة فرار قد تخامرهما. وهكذا، انضمت بية المثلوثي وشقيقتها إلى القائمة الطويلة للأشخاص المُبعدين عن العاصمة مع تحجير العودة إليها إلى أجل غير مسمى. بمجرد تخلص الدولة من متشرديها ومتشرداتها، تـ·يدخل هؤلاء في طي النسيان.