وحيدات أمام الجائحة، عاملات قطاع النسيج تحت رحمة سوق الصادرات

في منطقة المنستير، أين تتمّ خياطة ثلث الملابس تونسية الصنع، تكبّد·ت العمّال والعاملات ثمنا باهظا نتيجة التّوقف الفجئي للصادرات نحو أوروبا. فكيف ألقت الجائحة الضّوء على الإخلالات التي تشوب سوق التعاقد الخارجي؟
بقلم | 25 مارس 2021 | reading-duration 10 دقائق

متوفر باللغة الفرنسية
في شهر مارس 2020، أي في بداية الموجة الأولى من جائحة كوفيد-19، أشادت الصّحافة بكلّ فخر باعتكاف ما يقارب مائة عاملة عن طواعيّة في مصنع النّسيج الذي يشغّلهنّ لإنتاج الكمامات الطّبيّة. غير أنّه في حقيقة الأمر، كان قطاع النّسيج الذي يستأثر بأكثر من 20% من الصّادرات التونسية يشهد انهيارا في ذلك الوقت.

تشير دراسة المؤثرات التي أنجزتها الجامعة التونسية للنّسيج والملابس (FTTH) إلى أنّ ثلاثة أرباع وحدات الإنتاج سجّلت تراجعا على مستوى نشاطها بأكثر من 50%. يعزى ذلك أساسًا إلى غياب الطّلب من قبل أبرز مستورد للمنتجات التّونسيّة الصّنع: السّوق الأوروبيّة. إذ كان لإغلاق المتاجر الفرنسيّة والإيطاليّة والبلجيكيّة والألمانيّة والبريطانيّة تداعيات مباشرة على اليد العاملة التّونسيّة مع تراجع طلبيّات الماركات الكبرى الموجّهة إلى المصانع النّاشطة في إطار عقود إسداء خدمات.

" يتخلّصون منّا متى شاءوا"

تبعا لإقرار الحجر الصّحّي الشّامل، اضطرّت المصانع غير المرخّصة لإنتاج المعدّات الطّبيّة إلى إغلاق أبوابها. في مارس 2020، أغلقت شركة "إنديكو" (Indeco)، وهي شركة مصدّرة كلّيّا يسيّرها بلجيكيّون، أبوابها أثناء الحجر الصّحّي. وأمام مدخل الشّركة الموصد، اكتشف·ـت عمّال وعاملات المصنع الخمسون أنّه تمّ طردهم·ـنّ دون سابق إشعار. هذا وباءت محاولات انكفاضة الاتّصال بمسيّري·ـات الشّركة بالفشل.

في المقابل، اقتصرت شركات أخرى على تقليص عدد عمّالها وعاملاتها بشكل ملحوظ إما عبر فصلهم·ـنّ أو إحالتهم·ـنّ على البطالة الفنيّة. في منطقة المنستير- حيث يتمركز ثلث مصانع النّسيج النّاشطة في البلاد – دفع·ـت العمّال والعاملات الأكبر سنًّا ثمن الأزمة باهضا.

"تركت المصنع في بداية الموجة الأولى، أجبروني على ذلك بشتّى الوسائل. عمدوا إلى عرقلتي بجميع الحيل حتّى أنّني اتُّهمت بسرقة سلع، فاضطررت إلى المغادرة"، كما جاء في رواية فؤاد، أربعيني عمل كرئيس ورشة سابق صلب "دامكو" (DemCo) الذي يُعدّ أحد أكبر المجمعات المنتصبة في المنستير. تشغّل الشركة أكثر من 5000 عامل·ـة وتتعامل مع كبرى الماركات الأوروبية على غرار "تومي هيلفيغر" (Tommy Hilfiger) و"بيبي جينز" (Pepe Jeans) و"أرماني" (Armani) و"ديكاتلون" (Decathlon) والكثير غيرها.

إثر إصابته بمرض السّكري وتعرّضه لاستنشاق الموادّ الكيميائيّة المستخدمة في الغسيل والصباغة، وجد فؤاد نفسه دون مورد رزق خلال فترة الحجر الصحّي والحال أنّه كان يُقيم في منزل مستأجر مع عائلته التي يعيلها. يتساءل فؤاد قائلا "أتمتّع بخبرة ثلاثة عشر عامًا، لقد ترعرعت في هذا المصنع وشغلت جميع المناصب، من التّفصيل إلى سلسلة التّصنيع ومن التّشطيب النّهائي إلى غسل الملابس. ما عساي أن أفعل الآن؟".

خلال كلّ سنوات عمله هذه، لم يتمكّن فؤاد من ضمان الاستقرار في عمله. كانت الشّركة التي تشغّله تتعمّد نقله من مصنع إلى آخر كلّ أربع سنوات على أقصى تقدير، وذلك قبل انقضاء عقده المحدّد المدّة بموجب عقد جديد بغرض تجنّب ترسميه. بهذا تخرق الشركة مقتضيات القانون الذي ينص على ضرورة الترسيم ابتداء من السّنة الخامسة من العمل. وهكذا، تقلّب في ثماني مؤسّسات مختلفة تنتمي إلى نفس المجمع وتحت إمرة نفس المسيّر، دون أن يُمنح عقدا غير محدّد المدة CDI.

يحوصل العامل السابق الموقف قائلا: "هذه هي الطّريقة التي يتخلّصون بها منّا متى أرادوا". باتّصال إنكفاضة بها، رفضت شركة "دامكو" الرد على الأسئلة المتعلّقة بهذا الموضوع.

ووفقًا للمنتدى التّونسي للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة (FTDES)، فإنّ 48% من الشّركات المنتصبة في منطقة المنستير دخلت طور النّشاط منذ ما يقلّ عن 5 سنوات. كما لا يتجاوز متوسّط ​​عمر المصانع 9 سنوات نظرا إلى أنّ التّمتّع بالتّحفيزات الجبائيّة التي يضمنها قانون الاستثمار يتوقّف فور انقضاء عشر سنوات من تاريخ دخول الشّركة طور النّشاط. فتلجأ الشّركات بالتّالي إلى نقل نشاطها أو مواصلته تحت علامة أخرى. وفي الأثناء، يـ·تتكبّد ثمن هذه الممارسة العمّال والعاملات على غرار فؤاد.

بعد سنوات من العمل صلب "دامكو"، انضمّ فؤاد إلى تعاضديّة "الأيادي المتضامنة" حيث يُعنى بالتّغليف والتّعبئة.

النّساء على الخطوط الأماميّة

يُعتبر فؤاد من الرّجال القلائل العاملين في هذا القطاع أين تحتل النساء ما يزيد عن 85٪ من اليد العاملة. ورغم ذلك، فإنّ الرّجال هم الذين يشغلون المناصب العليا ويتسلّقون السلّم الوظيفي داخل الشّركة، بينما عادة ما تشغل النّساء المناصب السّفلى، بصرف النّظر عن سنوات الخبرة التي يتمتّعن بها.

تركت بسمة*، البالغة من العمر 50 عامًا، عملها كخيّاطة بعد أن قضت 25 عاما كعاملة في قطاع النّسيج، على إثر انتشار الجائحة بسبب تردّي ظروف عملها. "أثناء الحجر الصّحّي، أغلقت كبرى المصانع أبوابها غير أنّ المصانع الأصغر والأقلّ بروزا للعيان عرضت على العاملات الاستمرار في العمل بشكل غير قانوني نظير 20 دينارًا في اليوم الواحد. رسميًّا، تمّت إحالتنا على البطالة الفنّيّة، لكنّهم واصلوا جلبنا على متن شاحنات صغيرة مكدّسات فوق بعضنا البعض ".

"لم يستطع أغلبنا الرّفض: كان علينا الاختيار بين تقاضي 20 ديناراً أو التّضور جوعا. غير أنّ اللّواتي قبلن العرض لم يحصلن سوى على نصف المبلغ الموعود".

رفضت بسمة خشية إصابتها بالعدوى، ولكن المصنع لم يعد تشغيلها حين افتتح أبوابه مجددا. في نهاية المطاف، نقل لها زوجها العدوى. كان هذا الأخير قد واصل عمله في تغليف وتعبئة الملابس الموجّهة للتّصدير في الخفاء بأجر مخفّض، رغم القيود التي فرضتها الحكومة.

تؤكّد بسمة: "كنت أعمل نظير حوالي 500 دينار شهريًا ولم يقوموا بدفع اشتراكات الضّمان الاجتماعي المستوجبة البتّة. في التّسعينات، كنت أتقاضى نصف هذا الأجر، لكن كلّ شيء كان أرخص. لقد تنامى التّضخم بوتيرة أسرع من أجورنا فلم تعد كافية. إنّهم يعرفون حقّ المعرفة أنّه ليست لنا خيارات بديلة للبطالة. لا نتمتّع بأيّة قوّة تفاوضيّة: طُلب منّا عدم الانخراط في النّقابة وعدم الإدلاء بتصريحات إلى الصّحفيّين".

مثل معظم العمّال والعاملات، تنقّلت بسمة بين عدّة مشغّلين دون أن تُرسّم. "لا توجد ماركة أوروبيّة لم أخطها بعد!"، كما تقول منفعلة وغير قادرة على استيعاب فكرة أنّ خبرتها الواسعة في مجال خياطة الملابس الرّاقية لم تحل دون فقدان عملها.

تجريد كبرى الماركات من المسؤوليّة

إنّ تركّز عدد كبير من المصانع الصّغرى، والتي يـ·تديرها في أغلب الأحيان نفس المسيّرين·ـات، يعكس توخّي تنظيم عمل معيّن قائم على استغلال العمّال والعاملات الذين واللّواتي يتمّ تقاذفهم·ـنّ من مؤسّسة إلى أخرى.

منذ انتقال الإنتاج المكثّف إلى البلدان الآسيويّة، مع إبطال العمل تدريجيّا باتّفاقيّة الألياف المتّعددة* بين سنتي 1995 و 2005، توجّه قطاع النّسيج التّونسي إلى التّخصّص في الطّلبيات الصّغيرة. كما أن الاستغلال يتم على نطاق ضيّق: ففي منطقة المنستير، تشغّل معظم المصانع أقلّ من 50 عاملاً·ـة. وتنشط هذه المصانع في إطار عقود مناولة متلقّية طلبيّات كبرى الماركات الأوروبيّة عبر منصّة مركزيّة. وبالتّالي، يمكن أن يُبرم نفس المصنع عقود مناولة مع العشرات من الماركات المختلفة.

يحول نظام المناولة المعتمد -المصنع التّونسي الصّغير ليس سوى مجرّد عميل يستجيب لطلبات عروض الماركات الكبرى- دون بروز الشّركات متعدّدة الجنسيّات كالمسؤول الحقيقي عن هضم حقوق الأجراء والأجيرات.

"كبرى الشّركات صارمة للغاية على مستوى برمجة الإنتاج حيث يُنجز كلّ شيء آليّا، بينما نحن في الشّركات الصّغرى، نعمل بصفة يدويّة حول طاولة طولها عشرة أمتار ماكثين·ـات في نفس محطّة العمل طوال اليوم. لا يحقّ لنا حتّى رؤية المنتج في صيغته النّهائيّة".

"ليس لدينا حتّى الوقت للذّهاب إلى الحمّام خشية تعطيل سلسلة الإنتاج. إنّنا مجرّد آلات"، كما توضّح ذلك بسمة التي لطالما وجدت نفسها تخيط داخل مستودع "لا يحمل أيّة علامة تجاريّة وخال من النّوافذ".

المرّات الوحيدة التي تمكّنت فيها من رؤية الملابس جاهزة لإرسالها إلى المتاجر الأوروبيّة كانت عندما عُهد إليها وضع الملصّقات عليها:

"هناك أصناف من الجينز تُباع بسعر يفوق راتبي".
أُنجز هذا الرسم البياني استنادا لمعدّل. مثلا، ترتفع مرابيح الماركة حسب سعر البيع بالتفصيل.

العمّال والعاملات تحت رحمة التّعاقد الخارجي

هكذا، سلّطت الجائحة الضّوء على الإخلالات التي تشوب سوق التّعاقد الخارجي في مجال الأزياء - يتدنّى حجم المبيعات شمالا، تتراجع مواطن الشّغل جنوبا - علاوة على الانتهاكات المتعدّدة لحقوق عمّال وعاملات قطاع النّسيج. غير أنّ الطّرد التّعسفي يشكّل في حقيقة الأمر معضلة هيكليّة. إذ أنّه غالبًا ما يتمّ الاستغناء عن العمّال والعاملات بمجرّد بلوغهم·ـنّ سن الأربعينات نظرا إلى تدنّي "أدائهم·ـن" مقارنة بالأصغر سنّا، غالبًا بسبب الأمراض المهنيّة.

ذلك ما حدث لمريم، البالغة من العمر 40 عاما، والتي طُردت منذ سنتين دون سابق إشعار. تروي السيدة قائلة "كنت أعمل في مصنع قريب من هنا حين اكتشفت أنّني مصابة بمرض السّكّري. اضطررت لأخذ أيّام إجازة لزيارة طبيب. لكن رغم اقتطاع ساعات العمل غير المنجزة من راتبي، لم يتمّ تجديد عقدي: مؤجّري ينبذ النّساء اللّواتي يتغيّبن عن العمل".

نظريًّا، وفقًا للفصل 21 من مجلّة الشّغل التّونسيّة الذي ينصّ على أنّه على كلّ مؤجّر·ة يـ·تعتزم طرد أو إيقاف البعض أو كل عملته·ـا القارّين·ـات عن العمل لأسباب اقتصاديّة أو فنّيّة أن يـ·تعلم بذلك مسبّقا، كان يجب إبلاغ مريم بنيّة طردها. غير أنّها لم ترغب في رفع شكوى في الغرض رغم انتهاك حقوقها.

في المقابل، أمام نفس التّجاوزات، بادر·ت عمّال وعاملات آخرون وأخريات إلى تتبّع مشغّليهم·ـنّ قضائيّا. حسب منير حسين، رئيس فرع المنتدى التّونسي للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة FTDES بالمنستير، والذي تعهّد بمتابعة ملفّات 326 امرأة غير قادرة على توكيل محام أو محامية، "عندما ترفع العاملات شكوى، يكسبن القضيّة دائما". غير أنّ ذلك لا يعني بالضّرورة أنّه سيتمّ إنصافهنّ بالفعل.

فكما يوضّح هذا المختصّ في القطاع "لا يمتلك المصنع عمومًا أيّة أصول منقولة أو ثابتة. بل غالبا ما يكون على العكس من ذلك مثقلا بالدّيون حيث أنّه يعمد إلى التّوقّف عن دفع الفواتير والإيجار تمهيدا للإغلاق".

"هكذا نحصل على حكم بعد أن تمتدّ القضيّة عدّة سنوات، غير أنّه يستعصي تنفيذه: فحتّى إن كان المصنع مدينًا للعاملات بمبلغ كبير، فإنّ ما يخلّفه - بضع آلات خياطة وقطع قماش - يُعتبر ذا قيمة زهيدة".

على سبيل المثال، قد يصدر حكم بتعويض قدره 12.000 دينارا لصالح العاملة لكنّها لن تحصل سوى على بضع مئات من الدّنانير في نهاية المطاف. مبلغ يكفي بالكاد لتسديد أتعاب المحامي أو المحامية. كما تجدر الإشارة إلى أنّ التّشريع الجاري به العمل يخوّل التّمتّع بهذه المنح لمدّة عام واحد لا غير.

ويلاحظ منير حسين: "زيادة على ذلك، وجب التّذكير بأنّ الصّندوق الوطني للضّمان الاجتماعي (CNSS) هو الذي يتكفّل بهذه المنح والمستحقّات، بينما أنّه في كثير من الأحيان، تتخلّف هذه المصانع حتّى على تسديد الاشتراكات المحمولة عليها للصّندوق وتساهم بهذه الطّريقة في تفاقم ديوننا".

بعد فصلها من العمل، تمكّنت مريم من الانضمام إلى "الأيادي المتضامنة" وخياطة خرق تنظيف لفائدة التعاضدية من منزلها.

" يقبع الرّؤساء في الطّابق الأعلى، بعيدًا عنّا!"

انضمّت مريم إلى تعاضديّة "الأيادي المتضامنة" (Les mains Solidaires) بمعيّة 11 امرأة ورجلين تمّ فصلهم·ـنّ عن العمل بين عشيّة وضحاها. تأسّست التعاضدية في موفّى ديسمبر 2020، بدعم من المنتدى التّونسي للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة وجمعيّة "محامون بلا حدود" (ASF) و"أنا يقظ" (IWatch). يهدف هذا المشروع إلى ضمان إعادة الإدماج المهني لعمّال وعاملات قطاع النّسيج الذين واللّواتي تمّ تسريحهم·ـنّ بسبب التّقدّم في السّنّ أو المرض أو البطء في إنجاز الأعمال الموكولة إليهم·ـنّ.

منذ ذلك الحين، صار بإمكان مريم العمل من المنزل. نصبت آلة الخياطة التي منحتها لها الجمعيّات في مدخل منزلها في بلدة "قصيبة المديوني" الشغيلة الواقعة على بعد عشرة كيلومترات من مدينة المنستير. بأنامل غطّتها الضمادات، تنتج السيدة خِرَق تنظيف يتمّ ترويجها إلى المغازات الكبرى بالبلاد رفقة أعضاء وعضوات التعاضديّة الآخرين·ـات.

كما هو الشّأن للعديد من عائلات المنطقة، يـ·تعمل جميع أقارب وقريبات مريم في مصانع النّسيج المجاورة. خلال فترة الحجر الصّحّي، هدد شبح انقطاع موارد الرّزق أسر العاملين·ـات بأكملها، ما دفع بالبعض منهم·ـنّ إلى قبول الاستمرار في العمل بشكل غير قانونيّ أو في الخفاء.

لم تكن رحمة* شقيقة مريم التي أمضت عشرين عامًا من عمرها كعاملة في مصنع، والتي عادت لتوّها بعد يوم عمل مرهق، قادرة حتّى على المشي بعد قضاء تسع ساعات متتالية جالسة على كرسيّ من السّاعة السّابعة والنّصف صباحًا إلى غاية الرّابعة والنّصف مساءً، لا تتخلّلها سوى فترة استراحة بنصف ساعة فحسب لتناول وجبة الغداء.

يـ·تأخذ العمّال والعاملات استراحة الغداء في الخارج في غضون نصف ساعة لا تزيد.

كان يتعيّن على رحمة الانتظار لعدّة ساعات قبل القدرة على تحريك أصابعها مجددا وخلع مئزرها الأخضر. "ذات يوم من الأيّام، ازرورقت يداي. لم أعد قادرة على العمل. حصلت على إذن لزيارة طبيب الشّغل لكنّه لم يأذن لي بإجازة مرضيّة"، كما تذكر رحمة كاشفة عن يديها اللتين خاطتا ملابس "زارا (Zara)" و"تروساردي (Trussardi)" و"ليفيس (Levi’s)" و"ستراديفاريوس (Stradivarius)" و "قيس (Guess)" و"برومود (Promod)" و"آديداس (Adidas)" والكثير غيرها.

خلال الموجة الأولى من الجائحة، لم يتوقّف مصنع رحمة عن النّشاط بتعلّة إنتاج الأقنعة الطّبيّة. غير أنّ الخيّاطة تؤكد أنّها استمرّت في الواقع في صنع الملابس لتلبية بعض الطّلبيّات الأوروبيّة.

كانت رئيستها في العمل الفرنسيّة قد وضعت آنذاك مطهّر اليدين على ذمّة العمّال والعاملات، غير أنّهم·ـنّ الآن لا يحرصون ولا يحرصن حتى على ارتداء الكمامات. تقول مندهشة "يقبع رؤساؤنا في العمل في الطّابق العلوي، بعيدا عنا!"

في الرّبيع الماضي، اكتُشفت حالة إصابة بفيروس كوفيد-19 في المصنع الذي يشغّلها. "ثبتت إصابة إحدى العاملات بالفيروس وكانت تجلس على مقربة منّي. تمكّن منّي الخوف حيث لم يقم أحد بتطهير القاعة إثر ذلك. ثمّ تزايد عدد الحالات، لكنّنا توقّفنا عن إجراء التّحاليل إذ لا يمكننا المكوث في المنزل لمدّة خمسة عشر يوما بأكملها. كان ذلك سيؤدّي حتما إلى خفض راتبي إلى النّصف"، كما تروي ذلك رحمة. أخشى ما تخشاه هذه الأخيرة هو فقدان عملها بسبب وعكاتها الصّحيّة: "أنا امرأة ما زالت لي رغبة جامحة في العمل ولن أتخلّى عن ذلك".

يجب على رحمة، الخياطة في مصنع بالمنستير، الانتظار ساعات عدة قبل تحريك يدها اليمنى مجددا بعد يوم عمل مرهق.

" إنّه هوس المردود"

في بلدة قصر هلال الواقعة على بعد 20 كيلومترًا جنوب المنستير، فضّلت فردوس ذات الـ22 عامًا البطالة على مواصلة العمل في قطاع النّسيج بعد أن عانت من ظروفه القاسية سابقا وما فتئت تندّد بها منذ مغادرتها. جُبرت هذه النّاشطة الشّابّة على الانقطاع عن الدّراسة في سنّ السّادسة عشرة للعمل في المصنع والمساهمة في الإنفاق على عائلتها. وهكذا، التحقت بموجب عقد تكوين بشركة "سارتاكس (Sartex)" التي تُعدّ إحدى أبرز الشّركات المنتصبة في قصر هلال. توضّح فردوس أنها كانت من ضمن "حوالي 150 أجيرًا. كنت أشتغل مثل الآخرين تماما، لكنّي لم أكن أتلقّى إلّا نزرا قليلا من المال بصفتي في طور التّكوين المهني. جنيت 120 دينارًا إجمالاً خلال الأشهر الثّلاثة الأولى".

في المصنع، كانت فردوس محاطة بشبيهاتها من القاصرات وهنّ في الأغلب أصيلات ولايات أخرى. بحسب المنتدى التّونسي للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة، فإنّ ما يقارب نصف العاملات النّاشطات في مدينة المنستير ينحدرن من المناطق الدّاخليّة. تروي في هذا الصدد: "من حسن حظّي أنّي مقيمة هنا، لكنّني رأيت عشرات الفتيات في سنّي أصيلات القيروان والقصرين وسيدي بوزيد أو جندوبة نزحن إلى قصر هلال". عادة ما يُقمن في مبيت المصنع، ويقعن تحت رحمة رئيس·ـة العمل الذي أو التي يـ·تقتطع جزءًا من رواتبهنّ، حوالي 50 دينارًا، مقابل توفير غرفة يتقاسمنها مع خمس أو ستّ فتيات أخريات. وباتّصال إنكفاضة بها، لم تستجب شركة "سارتاكس" لطلب إجراء حوار معها.

إثر ذلك، عملت فردوس في عدّة مصانع أخرى بشكل غير قانوني في معظم الأحيان. تؤكّد الشابة تعرّض العاملات للعديد من التّجاوزات: "اشتغلت صلب مؤسّسة كانوا يعمدون فيها إلى تصويرنا في غرفة تغيير الملابس للتّأكد من أنّنا لا نستعمل هواتفنا الجوّالة أثناء فترات الرّاحة. كما كنّا نُمنع من التّحدّث أو الذّهاب إلى الحمّام دون إذن خلال فترات العمل".

"كنت سأفقد ماء الوجه. الظّروف التي تمرّ بها البلاد والأزمة الاقتصاديّة الخانقة التي عمّقتها الجائحة تجعلنا محلّ تعويض بأخريات حسب مردودنا. إنّه هوس المردود".

يوضّح منير حسين عن فرع المنتدى التّونسي للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة بالمنستير، أنّه يجب على العمّال والعاملات ضمان إنتاج كمّيّة محدّدة من القطع يوميًّا. فعلى سبيل المثال، إذا قدّرت ماركة ما أنّ إنتاج قميص يتطلّب 8 دقائق - وهو بطبيعة الحال تقدير تحتسبه الماركة أخذا بعين الاعتبار لظروف عمل مثاليّة مختلفة كلّيّا عن تلك السّائدة في بلد الإنتاج - فهي لن تدفع سوى ما يوافق العمل لمدّة 8 دقائق. ولن يتمّ سداد أي مبلغ إضافي آخر نظير الوقت الإضافي اللّازم لبلوغ مستوى الإنتاج المطلوب. ويخلص منير حسين إلى أنّ "الشّركات متعدّدة الجنسيّات استغلّت الجائحة والأزمة الاقتصاديّة المنجرّة عنها لدفع نظام الاستغلال هذا إلى أقصى منتهاه".