"عاشت النقابة والجمعية الأممية الشّغيلة"
في غضون شهر مارس 1921، أي بعد مضيّ شهر واحد من بدء الإضراب، أُوقف مختار العيّاري عن العمل لزعم صفعه لمسافر. عقد اجتماع نقابيّ في أعقاب ذلك للدّفاع عنه وبادر زملاؤه بالتّبرّع بجزء من رواتبهم له تعبيرا عن تضامنهم معه.
غير أنّه رغم فصله عن العمل، بقي متمسّكا بنشاطه صلب نقابته حيث كُلّف بالتّرويج لأخبار النّضال. ليصبح بذلك "مندوب الدّعاية النّقابيّة"، حيث شرع في تنظيم العديد من الاجتماعات النّقابيّة في بورصة الشّغل كان يحثّ خلالها عملة التّرامواي على التّطرّق إلى مسائل مختلفة متعلّقة بساعات العمل الإضافيّة والعمل بنظام ثماني ساعات في اليوم الواحد والتّطلّع إلى الزّيادة في الأجور... مطالب تُعتبر في مجملها غير مشروعة من وجهة نظر الشّرطة الخاصّة بالسّكك الحديديّة والموانئ¹.
إلى جانب التزامه النّقابي، كان مختار العيّاري من أبرز أنصار الحزب الشّيوعي وهو مجموعة تونس المنضوية تحت لواء القسم الفرنسي للأمميّة الشّيوعيّة (SFIC، المؤسّس سنة 1920). ومنذ ولادة القسم المنتصب في تونس العاصمة، وجد الحزب نفسه تحت طائلة مراقبة مشدّدة.
سمحت مراقبة الشّرطة المتزايدة لتحرّكات مختلف الأعضاء والعضوات، بتحديد أماكن اجتماعاتهم·ـنّ بدقّة: حانة الواحة بنهج تيير [نهج ابن خلدون حاليّا] ومقهى باريس ومقهى فرنسا وبضعة مقاهي أخرى في حيّ الحلفاوين... وهي أماكن ما فتئ الشّيوعيّون·ـات يغيّرونها ويغيّرنها على أمل الإفلات من المراقبة.
ورغم ذلك، لا زالت المعلومات الاستخباريّة تصل إلى السّلطات أوّلا بأوّل. معلومات تتّسم بكثافة ودرجة عالية من الدّقّة بحيث لا يمكن أن تصدر إلّا عن طرف داخلي. تشمل هذه الإستخبارات المدّة المحدّدة التي استغرقتها الاجتماعات، إلى جانب تاريخ انعقاد الاجتماعات القادمة وقوائم الحاضرين والحاضرات، علاوة على ملخّص مفصّل لجدول أعمال الجلسات بما في ذلك الانخراطات والمؤتمرات القادمة وتوزيع الصّحف والمسائل الزّراعية أو تلك المتعلّقة بالرّواتب ومناهضة المؤسّسة العسكريّة...
يبدو أنّ تركيبة الاجتماعات أثارت اندهاش السّلطات التي لم تكن معتادة على مثل هذا التقارب بين مختلف الجنسيّات والفئات الطّبقيّة المكوّنة للنّسيج الاجتماعي آنذاك. هذا وكان المخبرون حريصين على الفصل بين مختلف المجموعات في التقارير: "10 فرنسيّين و 6 تونسييّن و 3 إيطاليّين و يهوديّان" ، والتّمييز بينهم·ـن: "عنصر أوروبيّ"، "عنصر تونسي"، "السّيّد لوزون"، "أعرابيّ"، "يهوديّ"... حتّى أنّهم ذهبوا إلى تفسير الحركة على أنّها نابعة عن قادة أوروبيّين يحاولون عبثا التّأثير على السّكان المحليين: "إنّهم يسعون بشتّى الطّرق إلى تجذير نظريّاتهم في حشود التونسيين دون أن يُفلحوا حقّا في ذلك. مهما كان الأمر، إنّه حزب يتعيّن وضعه تحت الأنظار".
ومع ذلك، تُظهر التّقارير أنّ الأعضاء التّونسيّين (سواء المسلمين أو اليهود منهم) كانوا يحظون بالكلمة بقدر ما يتدخّل أصيلو فرنسا أو إيطاليا. كما كان التّونسيّون يرأسون الجلسات بصفة منتظمة (بحضور مترجم)، دون أن يفوتهم التذكير بالبعد الأممي للحزب: "في النّظام الشّيوعي، الجميع إخوان دون تمييز عرقيّ أو دينيّ"، على حدّ تعبير أحد الأعضاء وفقًا لتقرير مؤرّخ في 14 جانفي 1921. وخلال الاجتماعات، حرص الأعضاء على التّأكيد على أنّ "الشّيوعيّة لا تتعارض بأيّ وجه كان مع تعاليم القرآن" (تقرير مؤرّخ في 21 جانفي 1922).
في سبيل الدفاع عن الصّبغة الأممية للحزب، ذهب مختار العيّاري إلى نقد ترخيص السّلطات بتنظيم "مباريات ملاكمة"، محتجّا على كون هذه "الأنشطة الاستعراضيّة" من شأنها "تأجيج العداوة بين الأعراق المتعدّدة في تونس". واستنكر ملاحقة السّلطات للشّيوعيّين·ـات رغم أنّهم·ـن "لا يتطّلعون سوى إلى توطيد أواصر الأخوّة بين الشّعوب" (تقرير مؤرّخ في 2 فيفري 1922). مع ذلك، لم يغفل الأعضاء التّونسيّون عن العلاقات الاجتماعيّة الهرميّة السّائدة في ظلّ السّياق الاستعماري، مكرّسين، خلال الاجتماعات، فكرة أنّ "السّكّان الأصليّين" هم في حقيقة الأمر في أسفل السّلّم الاجتماعي:
"نحن في غاية التّعاسة ومستعبدون ونُعامل معاملة سيّئة حيثما حللنا ويُنظر إلينا بازدراء ونتقاضى رواتب زهيدة [...]. في الإدارات، تُقبل طلبات العمل التي يقدمها الأجانب على الفور، بينما تُرفض طلبات إخواننا في الدّين بلا شفقة. ثلاثة أرباع التونسيين عاطلون عن العمل".
"أعلى وظيفة يمكن أن يطمح إليها المسلم هي وظيفة وضيعة ككاتب أو كعون مكلّف بإبلاغ الحكومة بجميع أفعال وإيماءات نظرائه من التونسيين [...]" (تقرير مؤرّخ في 21 جانفي 1922).
سرعان ما تفاقم عدد المنخرطين·ـات وأضحت الاجتماعات تضمّ مائة شخص أو ما يزيد سنة 1922، بعد أن كان عدد الحاضرين·ـات لا يتجاوز قرابة 15 شخصا في 1921. وقصد توسيع قاعدة المنخرطين التّونسيّين، حسبما ذُكر في أحد التّقارير، سعت اللّجنة إلى دمج مندوبين عن كلّ حرفة "بحيث يتسنّى للجميع أن يكونوا على أهبة لدى انطلاق أوّل شرارة للثّورة".
"جولات دعائيّة على متن درّاجة"
بغاية تعبئة أكبر عدد من المنخرطين·ـات، لجأ الحزب إلى توزيع المناشير والصّحف الإضافة إلى الدّعاية الشّفويّة. وحمل مختار العيّاري على عاتقه مهمّة هذه "الدّعاية المكثّفة بين المسلمين" لدعوتهم لحضور الاجتماعات والانضمام إلى الحزب (تقرير مؤرّخ في 26 جانفي 1922). "بلغ به الأمر أن قام بجولات دعائيّة على متن درّاجة في ضواحي مدينة تونس".
لم يكن المناضل المتحمّس يفوّت أدنى فرصة للتّرويج لأفكار الحزب. ويُزعم أنّه استغلّ نشوب حادثة في أسواق مدينة تونس بين تاجر تونسي ومسؤولين فرنسيّين لنشر الأفكار الشّيوعيّة، الشّيء الذي أجّج استياء السّلطات: "أفضت هذه الحملات الدّعائيّة إلى انخراط عدد من التّجار، في حين عبّر آخرون عن اندهاشهم من رؤية مختار العيّاري يواصل عمله المشين بلا حسيب ولا رقيب في هذه الأوساط التي لطالما كانت في منأى من أيّة دعاية شيوعيّة" (تقرير مؤرّخ في 23 فيفري 1922).
بعد أسبوع، ضُبط في حانة في مفترق شارع فرنسا ونهج المالطيّين [نهج المنجي سليم حاليّا]، برفقة شابّ أوروبيّ أشقر يُدعى جيروم يعمل في مطبعة الحزب الشّيوعي. "بتكتّم"، وزّع العياري "ما يبدو مناشير" متكوّنة من صفحتين أو ثلاث صفحات محرّرة بالفرنسيّة وبالعربيّة على عناصر من عسكر الزواف*. ونفح أحد الزواف مختار العيّاري مبلغًا ماليّا (مذكّرة المفوّض الخاصّ للشّرطة بتاريخ 2 مارس 1922).
في واقع الأمر، كانت هذه المناشير الموزّعة على الجنود، مناهضة للمؤسّسة العسكريّة وتعكس الآراء المُعبّر عنها خلال اجتماعات الحزب. وهي تنقد، على سبيل المثال، سياسة الدّمج القسري في الجيش الفرنسي الذي يحرم العائلات الرّيفيّة التّونسيّة من أبنائها (تقرير مؤرّخ في 6 مارس 1922).
"حبيب الشّعب"
منذ أولى بداياته صلب الحزب الشّيوعي، تعهّد مختار العيّاري بالإشراف على المنشورات. وبادر في أكتوبر 1921 بإطلاق صحيفة ناطقة باللّغة العربيّة تحت عنوان "حبيب الأمّة". غير أنّ الصّحيفة لم تلبث أن صُودرت بعد شهر واحد بقرار يقضي بحظر "التّداول والنّشر" في أرجاء الإيالة. ولم تتوانَ السّلطات عن حجز 579 نسخة منها على الطّريق العامّ وفي الأكشاك ومحلّات التّبغ.
فقرّر مختار العيّاري على الفور إعادة نشر الصّحيفة تحت اسم جديد "حبيب الشّعب". وحسب ما ورد عن المفوّض الخاصّ للشّرطة كلابييه، في 12 نوفمبر 1921، "ذكر النّاشط أنّه أعدّ ستة أسماء مختلفة كعناوين للصّحيفة، وبمجرّد حظرها تحت عنوان ما، سيتمّ إصدارها فورا تحت مسمّى آخر. المراقبة مستمرّة".
في موفّى السّنة، اقتنى الحزب الشّيوعي مطبعة تقع في 50 نهج سوقي بلخير [في باب الخضراء] ونشر صحيفة جديدة باللّغة العربيّة تدعى "النّصير" تولّى إدارتها أيضا مختار العيّاري، غير أنّها مُنعت بدورها من النّشر في أواخر شهر ديسمبر.
وبغرض تجنّب إيقافات النّشر الممنهجة هذه، آل الأمر بإصدار الحزب لـ"كتيّب أحمر" تحت عنوان "مجلّة". تتناول الـ43 صفحة المكوّنة للكتيّب ذي الغلاف الأحمر الرّامز للثّورة " ’القضيّة التّونسيّة' وبحث السّبل لإيجاد حلول عن طريق الشّيوعيّة كما [تصف] 'المحن والبلاوي المنجرّة عن السّياسة الرّأسمالية التي انتهجتها فرنسا في هذه البلاد، والجور وانتهاكات الحقوق المرتكبة طيلة أربعين عامًا، و [تعدّد] الحلول الفعّالة لجميع هذه العلل'[...]"*
كرّس الحزب مطبعته بلُغتيْها لطباعة الصّحف والمناشير الشّيوعيّة، علاوة على نصوص مختلفة يحرّرها أعضاء الحزب. وفي هذا الإطار، صدرت ملزومة² عبد الرّحمان الكافي في شهر فيفري 1922 "في ثلاثة آلاف نسخة تحمل شارة السّوفييت" وفقا لأحد التقارير.
أُوقف الشّاعر المنخرط في الحزب في ذات الشّهر رفقة عضوين آخرين: روبار لوزون (الكاتب العام الفيدرالي للفرع التّونسي) وإنريكو كوستا. بعد صدور الكتيّب والقصيدة، تمّ تتبّعهم جميعا بتهمة التّهجّم على سلطات الجمهوريّة الفرنسيّة في تونس.
الحزب الشّيوعي، "حزب يستدعي المراقبة"
بما أنّ روبار لوزون كان معتقلا في السّجن، قرّرت المجموعة عقد اجتماع في منزل زوجته "السّيّدة لوزون"³ . وبعد أيّام قليلة من إيقاف زوجها، اصطحبها مختار العيّاري وعضوان آخران لزيارته في السّجن.
انتظروها حذو السّجن لمدّة "ثلاثة أرباع ساعة". وعند خروجها، خاطبت أعضاء الحزب على النّحو التّالي:
"يطلب منكم زوجي أن تخبروا الرّفاق ألّا يخشوا شيئا [...] يجب ألّا تعتقد الحكومة أنّكم خائفون [...] أعيدوا صياغة خطابات الاحتجاج بحيث لا تُذيّل بتوقيع تونسي واحد: فذلك من شأنه أن يتسبّب لهم في مشاكل (للتونسيين). يجب ألّا تُمضى إلّا من قبل المنخرطين الفرنسيّين [...] اعتبارًا من اليوم، سأحلّ محلّ زوجي الذي كلفّني بتعويضه".
دار نقاش على إثر ذلك حول كيفيّة مساندة المعتقلين الثّلاثة. واقترح مختار العيّاري حضور جلسة السّماع بشكل مكثّف والاحتجاج للبرهنة على "تماسك حزبنا". غير أنّ بارو⁴ اعترض قائلا إنّ رسالة واردة من لوزون تطلب عدم الاحتجاج إذ أنّ إيتاء مثل هذا التّحرّك "من شأنه أن يُضرّ بقضيّة المعتقلين". كما أوصي فيها بـ"التّحلّي بالهدوء والصّبر". فاقترح مختار العيّاري حينها تحرير خطاب احتجاج على الاعتقال يتضمّن أنّ لوزون "أراد ببساطة نصرة المستضعفين على الأقوياء" وتسليمه لمحامي لوزون ليوجّهه بدوره إلى القضاة يوم الجلسة.
غير أنّ دعم لوزون كان مشوبا بالمرارة.
في تعليقه على الاعتقالات الثّلاثة، أشار مختار إلى أنّ لوزون وكوستا ليسا مهدّدين بالسّجن لفترة طويلة، على عكس عبد الكافي الذي سيُعاقب ليكون عبرة لمن يعتبر: "بهدف ترهيب العرب ومنعهم من مناصرة الشّيوعيّة" (تقرير مؤرّخ في 20 مارس 1922).
وبالفعل، نُفي روبار لوزون وإنريكو كوستا بعد سجنهما لبضعة أشهر، في حين سيُسجن عبد الرّحمان الكافي مرّات عدة.
جاءت اعتقالات أعضاء الحزب على خلفيّة مراقبة مشدّدة للاجتماعات. إذ كانت المعلومات التي يسوقها المخبرون دقيقة لدرجة أنّه لا يفلت تقريبا أيّ موعد من الشّرطة، حتّى عندما لا تُعقد الاجتماعات في المكان المحدّد مسبقا. على سبيل المثال، يشير تقرير مؤرّخ في 5 ديسمبر 1921 إلى أنّ روبار لوزون مُنع من دخول مقهى باريس لعقد اجتماع، فقرّرت المجموعة التوجه إلى إحدى قاعات مقهى فرنسا بدلاً من ذلك. "كانت القاعة الرّئيسيّة مشغولة، فاجتمع أعضاء الحزب في قاعة صغيرة غير أنّ الأستاذ هايس اقترح رفع الاجتماع على الفور كونه لم يكن في مأمن من مرأى ومسمع الحرفاء". لكن رغم كلّ الاحتياطات المتّخذة، دُوّنت أقوال المجموعة وأفعالها في التّقرير.
في هذا الجوّ السّائد، حامت الشكوك حول الجميع، بما في ذلك المتخلّفين والمتخلّفات عن الاجتماعات. يُشير تقرير بتاريخ 17 فيفري 1922، إلى أنّ عوناً إداريّا ضبط مختار العيّاري يتحدّث مساءَ إلى "امرأة تدعى السّيّدة لافيرن" قبالة منزلها. كانت هذه المرأة مشبوهة لدى السّلطات لصلتها الوطيدة بمناضلي الحزب. وذهب الأمر إلى حدّ تفسير تغيّبها عن الاجتماعات على أنّه عنصر إدانة: "إنّ السّيّدة لافيرن التي تتعمّد التّخلّف عن الاجتماعات [...] بهدف، ممّا لا يدعو إلى الشّكّ، عدم جذب انتباه الشّرطة، قد تكون بحوزتها وثائق سلّمها لها بعض أنصار الحزب على إثر عمليّات التّفتيش الأولى".
كما يُثير التّقرير انتقال الشّرطة إلى ممارسة عمليّات التّفتيش مبرزا بالتّالي إرساءها الممنهج للجهاز القمعي. حيث سعت الدّولة آنذاك إلى تضييق الخناق على هذه النّواة الشّيوعيّة من خلال تكثيف المراقبة ومصادرة المطبوعات وعمليّات التّفتيش والاعتقالات المستهدفة.
سلّطت عمليّات التّفتيش الضّوء على الدّور الذي لعبته النّساء – وهنّ في أغلب الأحيان من زوجات المناضلين- في نشأة الحزب الشّيوعي الفتيّ، حيث كنّ، بحسب التّقارير، يتعهّدن بإخفاء الوثائق الخطرة في طيّاتهنّ، أو يتحايلن للتّخلّص منها في حالة خضوعهن للتّفتيش.
على إثر مختلف عمليّات التّفتيش والاعتقالات التي طالت لوزون والكافي وكوستا، تيقن·ـت المناضلون والمناضلات أنّهم·ـن تحت طائلة مراقبة متزايدة: "الشّرطة تحظى بإمكانيّات لا يملكها الحزب" (تقرير مؤرّخ في 13 فيفري 1922). غير أنّ التّعليمات كانت توصي بتجنّب الخوف. هذا ما دعا له بارُو محتجا: "لا داعي للخوف من تصرّفات حكومة الأنذال هذه (كذا) التي تراقب حركاتنا وسكناتنا باستمرار"، وفقًا لتقرير مؤرّخ في 18 فيفري 1922 والذي يُعرب فيه محرّره عن احترازه ممّا قيل.
"النّعاج الجرباء"
حين أدركوا وأدركن أنهم·ـن مراقبون ومراقبات من الداخل، بلغ الأمر بعضوات وأعضاء الحزب إلى إصدار التهديدات أثناء الإجتماعات، مؤكّدين·ـات أنّ أولئك الذين يحضرون أو يحضرن لمجرّد التّجسّس "بصدد المخاطرة بحياتهم". كما تمّت التّوصية بـ"توخّي الحذر من الوشاة" و "النّعاج الجرباء" كما يحلو لمختار العيّاري نعتهم. وتمّ اللّجوء بالتّالي إلى شطب المشتبهين·ـات بالتّجسّس من لائحة الحزب والتّحرّي حول من تـ·ينخرط حديثا قبل قبوله·ـا.
حسب مختار العيّاري، "مهمّة الحزب ليست بالهيّنة"، ولكن "لبلوغ الهدف المنشود، قد يكون من الضّروري حمل السّلاح"، كما يؤكّد ذلك تقرير يُفيد أنّ العيّاري "استفاض في التّفوّه بألفاظ نابية ضدّ الحكومة ومختلف رموز السّلطة الفرنسيّة". وقد بلغ استياؤه أشدّه حين اقترح خلال اجتماع انعقد في المقرّ الواقع في 3 نهج بن ظريف [بباب سويقة] "الانتقام من الإجراءات التي اتّخذتها الحكومة ضدّ الشّيوعيّين"، قائلا إنّه "على كلّ واحد إيجاد الوسائل لإلحاق أكبر ضرر ممكن". واقترح على سبيل المثال، "تدمير المصابيح الغازيّة والمصابيح الكهربائيّة المستخدمة للتّنوير العمومي وكلّ الممتلكات الجماعيّة" (تقرير من مركز الشّرطة المركزي مؤرّخ في 5 مارس 1922).
اقترن ذلك مع رغبة المناضل الجامحة في تولّي أنشطة الحزب الشّيوعي ودوره بكامل الشّفافيّة. واقترح أحد الأعضاء، في أحد الاجتماعات، تغيير لجنة قيادة الحزب للأسباب التّالية:
- ... الحكومة على علم بكلّ أسرار الحزب.
- الحكومة تعلم جيّدا أنّنا ثوّار وأنّنا نهيّئ لنشوب ثورة. فلم نخاف من كوننا معروفين لدى السّلطات؟، كما ردّ مختار العيّاري (تقرير مؤرّخ في 25 فيفري 1922).
من خلال متابعة مختلف النّقاشات، يكاد المرء أن ينسى حضور المخبرين كلّ هذه الاجتماعات. كما أنّ تذمّر أعضاء الحزب من المراقبة كان يتمّ نقله من قبل المخبرين أنفسهم. فالتّقارير المحفوظة في ملفّ مختار العيّاري، بكل ما تتضمنه من معلومات، هي نابعة من الاستماع اليقظ لما يجري في خضم الاجتماعات. هذه اللقاءات التي كان أعضاء وعضوات الحزب يحاولون ويحاولن خلالها التّعرّف على المندسّين بينهم·ـن. خاصّة وأنّ هؤلاء كانوا يكتفون بالمشاركة مع تفادي الرّدّ على الانتقادات اللّاذعة التي كانت تطولهم. وبطبيعة الحال، اعتمدت التقارير بدرجة أولى على وجهة نظر المخبر، الأمر الذي يحول دون معرفة ما إذا تمّ فعلا التّفوّه بالألفاظ على الشّكل الذي نُقلت به في التّقارير وما إذا كان هناك إغفال أو مبالغة في بعض الأحيان.
بغرض مكافحة وجود "الوشاة"، تلقّى·ـت المنخرطون·ـات الجدد تحذيرات "من تصرّفات بعض الأفراد المدسوسين عمدا من قبل الحكومة والشّرطة لنقل ما يحدث داخل الحزب أو خلال الاجتماعات". كما نُشرت بين صفوف الحزب توصيات بـ"الحذر من هؤلاء الأفراد الذين وجب تعقّبهم وشطبهم من الحزب". وتمّ التّشديد على أنّ "الحكومة تبذل شتّى السّبل لانسلاخ التونسيين عن حزبنا لكنّها لن تفلح في ذلك".
خلال أحد الاجتماعات، قام مختار العيّاري بالتّبليغ عن مُخبر "ضُبط من قبل الرّفاق بصدد نسخ أسماء أعضاء لجنة العمل". ويبدو أنّه كان ينقل تقاريره إلى جاره وهو ملحق لدى الإقامة العامّة الفرنسيّة. "وأقسم جميع الأعضاء على الانتقام منه لتلقينه درسا لن ينساه".
غير أنّه رغم التّحذيرات الصّريحة والشّكوك التي كانت تحوم داخل الحزب، تواصل نقل المعلومات إلى السّلطات أوّلا بأوّل. إذ يفصّل أحد التّقارير أشغال لجنة العمل التي كانت مقسّمة آنذاك إلى خمس مجموعات تتكوّن كلّ منها من شخصين. واستطرد التّقرير المذكور أنّ الأسماء لم تُذكر حرفيا، لكن بدا المخبر على دراية واضحة بهويّة الأعضاء العشرة معدّدا إيّاهم في نهاية تقريره، ومن ضمنهم مختار العيّاري.
زيارة النّائب فايان-كوتورييه لتونس العاصمة
في أواخر فيفري 1922، انتاب أعضاء الحزب حماس متّقد على إثر الإعلان عن قرب حلول النّائب الشّيوعي بول فايان-كوتورييه بتونس بمناسبة جولة في شمال إفريقيا. كان من المتوقّع أن يصل النّائب إلى العاصمة في غضون شهر قادمًا من العاصمة الجزائريّة بُعيد مشاركته في محاضرة يُنظّمها الفرع الشّيوعي المحلّي هناك. انطلق فرع تونس في التّحضير للمحاضرة الأولى من نوعها لنائب شيوعي في تونس وحُجزت بالمناسبة قاعة "أمنية-باتي (Omnia Pathé)" الواقعة في نهج أميلكار. من جهته، شُوهد مختار العيّاري يوم 15 مارس، حوالي السّاعة الحادية عشرة مساءً، يجوب مقاهي ساحة الحلفاوين بحثًا عن أعضاء الحزب لإعلامهم بمثول رفاقه المعتقلين أمام المحكمة الجناحيّة. وأعلن في الوقت ذاته عن عقد محاضرة النّائب الفرنسي المقرّرة ليوم 26 مارس.
لم يحمل ملف مختار العياري أي أثر للمحاضرة المذكورة، ولكن يمكن الإطلاع على ملف فايان-كوتورييه المحفوظ هو الآخر في الأرشيف الوطني لتبيّن موضوعها. حيث يبدو أنّ النائب الشيوعي قد تطرّق خلالها إلى مسألة حرّيّة الصّحافة في تونس وإلى التّضييقات الممارسة على الصّحف.
بعد أيّام قليلة من عقد المحاضرة (يوم 30 مارس)، التأم اجتماع حضره فايان-كوتورييه وأعلن فيه أنّه عليه اختصار زيارته إلى تونس "دون إنجاز كامل البرنامج الذي خطّطه". كما وهب الفرع التّونسي عشرة آلاف فرنك تنفيذا لتعليمات الحزب الشّيوعي المركزي بالتّبرّع بالمبالغ غير المستنفدة. وطالب الأعضاء بمواصلة الدّعاية الحزبيّة، فردّ عليه هؤلاء أنّه يتعيّن عليه وعلى غيره من النّواب الشّيوعيّين تكثيف الزّيارات والجولات لدعم أنشطة الفرع التّونسي المعرّض لمراقبة وقمع بالغيْن.
مساء مغادرته إلى فرنسا، كان النائب مرفوقا بالسّيّدة لوزون ومختار العيّاري وأعضاء آخرين. وقال لهم·ـن إنّ "رحلته ستخلّف في نفسه ذكرى حزينة للغاية بسبب الاضطهاد الذي عاينه في تونس".
مناضل يُعتبر محرّضاً
واصل مختار العيّاري نشاطه صلب الحزب جاذبا إليه الأنظار قُبيْل الزّيارة المثيرة للجدل للرّئيس الفرنسي ألكسندر ميليران إلى تونس في أواخر شهر أفريل 1922. ويبدو أنّه طلب من أطفال أن يهتفوا لدى مرور الرّئيس "أدعوا عليه ميليران" وأنّه دعا من حوله إلى مقاطعة الحدث. جاء ذلك في أعقاب تعبير النّاصر باي عن نيّة تنحّيه عن العرش في 3 أفريل. هذا الإعلان الذي تزامن مع مطالب دستوريّة، دفع القوميّين إلى تنظيم مظاهرات مساندة للباي وباثّة البلبلة بين السّلطات الاستعماريّة التي شدّدت لهجتها.
اعتبر مختار العيّاري استعراض القوّة هذا تهجّما جليّا:
"لن يُثني أعضاء الفرع شيء لبلوغ الهدف المنشود. نشرت فرنسا قوّاتها في كامل أرجاء المدينة لترويعنا غير أنّ ذلك لن يُحبط عزيمتنا [...] السّجن بالنّسبة لنا شهادة بحسن السّيرة والأخلاق. ألم يبذل الشّعب المصري الكثير من التّضحيات لنيل الاستقلال؟" (مذكّرة مؤرّخة في 13 أفريل 1922).
اعتُقل مختار العيّاري إثر ذلك لترويجه مناشير مناهضة للمؤسّسة العسكرية دون ترخيص مسبق. وحكمت عليه محكمة الدّريبة في جوان 1922 بالسّجن لمدّة 3 أيّام بدون إسعاف بالتّأجيل.
تناولت الصحافة هذه القضية على الفور، حيث نقلت صحيفة "تونس الفرنسيّة (La Tunisie française)" في عددها الصّادر في 21 جوان 1922 أنّه "كان يسعى منذ إطلاق سراحه إلى إعادة إحياء نقابة عملة التّرامواي". وبعد بضعة أيّام، خصّته الصّحيفة بمقال جديد جاء بمثابة ردّ على ما ورد في صحيفة "المستقبل الاجتماعي (L’Avenir Social)" التي كان يُشرف عليها لوزون.
عبّرت الصّحيفة الشّيوعيّة عن اشتباهها في تعمّد اعتقال العيّاري في ذلك الوقت بالذّات بغية منعه من حضور مؤتمر كنفدراليّة النّقل المزمع عقده في سانت إتيان. وجاء ردّ الصّحيفة الاستعماريّة، الجاهلة تماما بحقيقة مختار العيّاري، كالتّالي: "يجدر بهؤلاء اختيار مندوب آخر عوضا عن حارس ليلي سابق مفصول وأمّي تماما [...]" مع التّحقير من الالتزام النّقابي للمناضل وداعية إلى تفكيك اللّحمة بين الفرنسيّين و"التونسيين": "سيبدأ عملة التّرامواي الذين لطالما تواصل خداعهم في الحذر من الرّفيق مختار، وقد يسعون في وقت قريب، بل وعاجل للغاية، إلى التّخلّص من ديكتاتوريّة مختار [...]. فلتجد صحيفة 'المستقبل الاجتماعي' موضوعا آخر لإثارة الشّفقة ولتدع مختار والدّريبة يصفّيان حساباتهما في ما بينهما" (27 جوان).
بعد مضيّ شهر من ذلك، أطنبت صحيفة تونس الفرنسيّة في ازدراء أصول مختار العيّاري الاجتماعيّة وتزييف تاريخه. كما لم تتوانَ عن مهاجمة عامل التّرامواي السّابق: "يحقّ لنا أن نتساءل إلى متى سيتمّ التّغاضي عن تصرّفات هذا الشّيوعي البارز الذي لا يسعى سوى إلى إثارة البلبلة في مرفق عمومي"(4 جويلية). وتمادت في تصويره كانتهازيّ، رغم ما ذكرته التّقارير من تضامن سائد في الوسط النّقابي والشّيوعي: "لقد وجد هذا الشّيوعي المتحمّس في وسطه وسيلة ليصبح بورجوازيّا. إذ تحوّل من مجرّد عامل أمّيّ مفصول إلى كاتب نقابيّ يتقاضى أجرا نظير ذلك [...] ثمّ إنّ عملة الشّركة لا يتقاضون رواتب متدنّية إلى هذه الدّرجة بدليل أنّهم بادروا بالتّبرّع بجزء من رواتبهم للإنفاق على مختار الذي لا يفعل شيئًا!" (6 جويلية).
في موفّى السّنة، وفي الوقت الذي تأثّر فيه الفرع الشّيوعي التّونسي سلبا بغياب روبار لوزون، عبّرت الصّحيفة نفسها في مقال نُشر في ديسمبر عن نشوتها لاستقالة مختار العيّاري التي أضعفت نقابة التّرامواي. تناغم هذا التّشويه الذي استهدف الشّخصيّات النّقابيّة أو الشّيوعيّة "من التونسيين"⁵ مع المصير الذي خصّتهم به السّلطات.
رغم أن سجلّات مختار العيّاري المحفوظة في ملفّ "المشتبه بهم" بالأرشيف الوطني لا تسمح جليّا بمعرفة ما آل إليه مصيره بعد ذلك، إلا مساهمته الفعّالة في بعث النّواة الأولى لجامعة عموم العملة التّونسيّة (CGTT) إلى جانب محمّد علي الحامّي قد تسمح باستقاء معلومات من مصادر أخرى.
أصبح مختار العياري لاحقًا أحد مؤسّسي وقادة أوّل منظّمة نقابيّة بتونس ألا وهي جامعة عموم العملة التّونسيّة (CGTT) وعضوًا مكلّفا بالدّعاية صلبها، إلى جانب أعضاء آخرين من بينهم الطّاهر الحدّاد. في 5 فيفري 1925، أُوقف المناضل واعتُقل برفقة محمّد علي الحامّي وجان بول فينيدوري. ولم تتمّ محاكمتهم إلّا يوم 17 نوفمبر 1925. حُكم على مختار العيّاري آنذاك بالنّفي خارج الوطن لمدّة 10 سنوات بتهمة التّآمر على أمن الدّولة⁶ . فطُرد إلى إيطاليا ومنها إلى اسطنبول قبل أن يستوطن في مصر. على إثر انقضاء مدّة عقوبته، منعته السّلطات الفرنسيّة مجددا من العودة إلى أراضي الوطن سنة 1935. ورغم الرّسائل التي تنمّ عن يأس عميق وطلبات المساندة التي وجّهها إلى الحزب الدّستوري، لم يُسمح له بالرجوع إلى تونس إلّا بعد الاستقلال، في أوائل سنة 1958، حيث توفّي في العاصمة بعد مرور خمس سنوات من عودته.