الفصل 4 :

اللّغَة: مُمَارَسَة ومُقَاوَمَة

تؤكد القاعدة الأساسية في اللسانيات، أن كل متحدثي ومتحدثات اللغة لهم·ـن حق تغييرها سواسية، دون اعتبار للجنس أو العمر أو الانتماء الجغرافي. إلا أن مختلف الدراسات تشير إلى أن الرجال في الحقيقة، يقع توصيفهم لا فقط كمتحدثين أقوياء، بل خاصة كمستعملين موثوقين وشرعيين للغة. وفي المقابل، ينظر للنساء كمتحدثات تافهات وطائشات وأميات.  
15 دقيقة
reset
المحاور

تؤكّد القاعدة الأساسية في اللسانيات أن كل متحدثي·ـات اللغة يمتلكون ويمتلكن حق تغييرها سواسية، من دون اعتبار للجنس أو العمر أو الانتماء الجغرافي. إلا أن مختلف الدراسات تشير إلى أن الرجال، في الحقيقة، يقع توصيفهم لا فقط كمتحدثين أقوياء بل خاصة كمستعملين موثوقين وشرعيّين للغة. في المقابل، يُنظر للنساء كمتحدثات تافهات وطائشات وأمّيات. ولطالما عززت هذه القوالب مكانة الرجال بوصفهم صانعي القواعد ومنظمي اللغة والمخططين لها. وزاد الرجال في تأكيد أدوارهم من خلال كتابة القواميس ووضع القواعد المعيارية، وتأسيس الأكاديميات اللغوية وغيرها من المؤسسات المعيارية الأخرى، وكذلك من خلال مشاركاتهم في التخطيط اللغوي. ورغم خضوع النساء عموما للقواعد والقرارات والاختيارات التي اتخذها الرجال، إلا أنهن، زيادة عن ذلك، كُلفن بتطبيق هذه القواعد والحرص عليها عند قيامهن بدورهن كأمهات أو عند تدريس الأطفال.

بدأت النساء بتحدي سلطة الرجل المطلقة في تقييس وتنميط اللغة مع سبعينات القرن الماضي، كنتيجة للنضال النسوي الذي عرض الصور المتحيزة ضد النساء في اللغة. وبالفعل، بدأت النساء من كافة مناحي الحياة تشير وتندد بالصور النمطية المبطنة في اللغة والمدمرة للمرأة. وقد بينت بودين (1975) كيف تحول ضمير الغائب في الانجليزية "he" إلى ضمير يشير للإناث والذكور معا مع تنامي سلطة الرجال. واختارت بعض المناضلات النسويات تحدي الهيمنة الذكورية من خلال كسر القواعد النحوية منها مثلا، استعمال الضمير المؤنث بالانجليزية (she) للاستدلال على النساء والرجال معا. كما ذهب·ـت بعضهم·ـن إلى وضع كلمة (Herrlein) بالألمانية وتعني حرفيا (الرجل الصغير) لتتماشى مع الكلمة المتداولة (Fraulein) والتي تعني حرفيا (المرأة الصغيرة).

لعل قيام النساء بمحاولات لوضع المعايير اللغوية وطرح لغة غير متحيزة هو أكثر ما يهدد سلطة الرجال في الانفراد بالتقعيد والتنميط. ومن الواضح أن مبادرة النساء بوضع معايير خاصة بهنّ والعمل على تطبيقها في مجموعة لسانية محددة، لا تتحدى فقط الهيمنة الذكورية، بل تهددها كذلك. وكثيرا ما تعمد المناهضون لمبادرات النساء للتقعيد والتنميط والتجديد و"الإصلاح" اللغوي، بالتشكيك في قدراتهن اللسانية أو التجديدية، واصفين المبادِرات بأوصاف تفيد عدم امتلاكهن للمعرفة أو للخبرة لاقتراح معايير لغوية جديدة.

مرّت نضالات النسويات بمراحل عديدة لإصلاح اللغة وتنقيتها من أشكال التحيز وجعلها أكثر مساواة وإنصافا ونفاذا. حيث بدأت بتوثيق الممارسات المنحازة، البيّنة منها والمخفيّة. وكان التوثيق -ولا يزال-، العمل القاعدي للمجموعات النسوية المهتمة باللغة وبالتمثّلات اللسانية للجنسين. إذ قادت المناضلات النسويات في الولايات المتحدة حملات توثيق التحيز اللغوي واقتراح البديل بكل جدارة، وأصبحن رائدات في هذا المجال. تبعتهن بعد ذلك النسويات في بلدان أخرى مثل النرويج وفرنسا وألمانيا وإسبانيا، ونشرن دراسات مماثلة توثّق الممارسات اللسانية المتحيزة وتندّد بها. وعلى إثر هذه الموجة الأوروبية، وقع إنجاز دراسات مماثلة حول اللغات الصينية والآيسلندية والليثوانية والإيطالية واليابانية والبولندية والتايلاندية*.

خلصت معظم هذه الدراسات إلى وجود عدّة نقاط تشابه بينها، بالرغم من اختلاف الثقافات، لعل أهمها هو المعاملة غير المتكافئة بين النساء والرجال، وانتشار اعتبار الرجل كممثّل للإنسانية، مما يردف المرأة لوضع التّابعة أو غير المرئيّة أو الموسومة : تصبح النساء غير مرئيات في اللّغة عندما تُستعمل ضمائر المذكر للاستدلال على الرجال والنساء معا، وبذلك يقع تغييبهن. وعندما تصبح النساء مرئيات، تُستعمل اللغة وسما للدلالة عليهن ويكون التركيب اللغوي للاستدلال عليهن عادة مشتقا من الذكر عبر عدة تغييرات نحوية.

كما تناولت أبحاث أخرى الأثر السيء للقوالب اللغوية النمطية للجنسين على المرأة بما أنها تؤكد على وضعها الدوني. وقد تضّررت النساء من القوالب النمطية خاصّة في الإعلام والمواد التعليمية والكتب المدرسية.

استنكرت المجتمعات هذه المقاربات النسوية للّغة المتحيزّة، وأنكرت وجود لغة متحيزة أساسا. كما عمد خبراء اللسانيات إلى تفنيد هذا الطرح، متهمين النسويات بالتقصير في فهم اللّغة بسبب فهمهن الخاطئ للغة والجندر وخاصة للجندر النحوي.

تروم مختلف المناضلات النسويات المهتمات باللغة تغييرها لتحقيق تمثيل أعدل للنساء والرجال في اللغة. وقد اعتبرت النسويات تغيير اللّغة وإصلاحها جزءا أساسيا من تحرر المرأة. وعلى الرغم من الاتفاق الواسع حول إصلاح اللغة، إلا أن مقاربات التغيير تتعدّد وتتباين. تعتبر لاكوف (1990:298) أن التغيير المحبذ للّغة هو " التغيير الذي يطرأ عفويا من تحت أو من الدّاخل"، كما تنادي بأن لبّ السياسة اللغوية يتمثّل في ترك اللغة من دون تدخل وترك المتحدثين·ـات يقررون ويقرّرن ما يجب أو لا يجب تغييره. كما تعتبر أن التلاعب باللغة شديد الخطورة، لأن له أسباباً ودوافعَ ونتائج مختلفة عن مجرد نية التغيير.

وفي انتظار سياسات لغوية شاملة وغير منحازة جنسانيا توفر المكانةَ والفرصَ المتساوية والعادلة لكل المتحدثين·ـات، تـ·يلعب النشطاء والنّاشطات والدعاة والدّاعيات دورًا مهمًا ومُتنامياً في إنشاء تصورات وممارسات اجتماعية ولغوية جديدة. إلّا أن الكلمة الفصل في الختام تبقى للمتحدّثات والمتحدثين لتبنّي أو رفض، كلّيّا أو جزئيّا، هذا الطّرح البديل. هذا الأخير، وإن جُوبه بالصدّ، يبقى مهمّا في سيرورة التّفكير في لغة شاملة، وقابلا للتطوير والتّعديل والتّكيّف، أو الهدم وإعادة البناء، حسب تلقّي المستعملين والمستعملات للّغة وقابليّتهم·ـن لإدماجه في ممارساتهم·ـن.

10