بداية من شهر سبتمبر من كلّ عام، يتكرّر نفس المشهد: في غضون بضع دقائق، يحوّل تهاطل الأمطار الغزيرة الطّرق إلى تيّار جارف وتجتاح السّيول المنازل والمتاجر ويتمّ نقل المتساكنين·ـات المتضرّرين·ـات... في تونس، تتسبّب الفيضانات الموسميّة التي تمتدّ من سبتمبر إلى ديسمبر و التي أصبحت أكثر تواترا في أضرار متزايدة خاصّة في الوسط الحضري.
وضع يعاني منه مختار* صاحب محلّ لبيع الملابس الجاهزة في منطقة سوق بومنديل وسط العاصمة، كلّ سنة : " تجتاح المياه متجري مرّتين إلى ثلاث مرّات في السّنة. عند حدوث فيضان، يحصل أن أفقد جزءًا كبيرًا من بضاعتي وأن يكبّدني ذلك خسائر تصل إلى 10.000 دينار في كلّ مرّة". الحواجز العشوائيّة المثبّتة بالجصّ لا تساعد على التّصدّي لقوّة المياه. ويـ·تتعرّض التّجار و التّاجرات المجاورون·ـات لنفس المصير شأنهم·ـنّ شأن المسجد المحاذي الذي جرفت المياه جزءا من سجّاده وأثاثه خلال الفيضان الأخير.
تتناول الصّحافة الموضوع كحدث معتاد غير جدير بالكثير من الاهتمام في حين تثير هذه الفيضانات اندهاش السّلطات واستياء الرّأي العامّ. ومع ذلك، أكّد رئيس الحكومة الجديد، هشام المشيشي مؤخّرًا أنّه " لم يعد من حقّنا أن نتفاجأ بوقوع الفيضانات". لكن رغم تلك تّصريحات، لم يتمّ الإعلان عن أيّة تدابير ملموسة للتّوقّي من خطر الفيضانات. إذ أنّه على الرّغم من معاينة نفس الوضع كلّ عام، نادرًا ما يتمّ الكشف عن أسباب هذه المشاهد القصوى بالرّغم من تعدّدها. فبينما تتذرّع السّلطات بالاختلالات النّاجمة عن التّغيّر المناخيّ، لم يقع تقريبًا ضبط أيّ سياسة وقائيّة كما أنّ البنى التّحتيّة الحاليّة عاجزة عن تحمّل هذه الظّاهرة.
لمَاذا لم يقع اتّخاذ أيّ قرار فعّال رغم ما تخلّفه هذه الأمطار الطّوفانيّة والمتكرّرة من أضرار غالبًا ما تكون فادحة ومدمّرة، في حين أنّه من الممكن التّنبّؤ بها؟
بائع زهور وسط تونس العاصمة يشهد الفيضانات التي تغمر المدينة يوم 18 أكتوبر 2018. عدسة: فتحي بلعيد / وكالة الأنباء الفرنسية
ظاهرة في تزايد ملحوظ
غالبًا ما تكون المشاهد مثيرة للدّهشة. ففي بضع لحظات، تجرف السّيول بضائع بأكملها وتغمر المياه السّيارات وتغلق أنهج برمّتها لعدّة ساعات إلى حين تصريف المياه.
تُعتبر الفيضانات ظاهرة ضاربة في القدم في تاريخ تونس، إذ تكشف بعض الوثائق التّاريخيّة عن نوبات أمطار عنيفة تعود إلى القرن التّاسع وعن فيضانات مشهودة لازالت راسخة في الذّاكرة الجماعيّة على غرار تلك التي جدّت سنة 1969 مخلّفة 542 قتيلا. ورغم غياب بيانات دقيقة تعكس مدى الجسامة الحقيقيّة للأضرار، يلاحَظ في الأوساط العلميّة أنّه منذ بداية الألفيّة الثّالثة، أصبحت هذه الأحداث -التي كانت حتّى ذلك الحين عرضيّة- أكثر تواترًا وحدّة مخلّفة خسائر بشريّة ومادّية جسيمة، خاصّة في المدن.
تشدّد جودة نصري، مديرة مصلحة الأشغال صلب إدارة المياه العمرانيّة على أنّ " الاحتباس الحراري له تأثير واضح على الحدّة الحاليّة للفيضانات". إضافة إلى ذلك، فقد تمّ تحديد التّغيّرات المناخيّة كمتسبّب رئيسيّ في الفيضانات العارمة التي اجتاحت مدينة نابل سنة 2018 و التي شهدت نزول 200 ملم من الأمطار في غضون سويعات، أي ما يعادل ستّة أشهر من التّساقطات. كما أكّد محمّد الزّمرلي، منسّق مشاريع لدى وزارة الشّؤون المحليّة والبيئة، على ضرورة الإلمام بالتّحديّات التي تفرضها التّغيّرات المناخيّة بغرض مجابهة معضلة الفيضانات.
من جهتهم·ـنّ يـ·تشكّك بعض العلماء و العالمات المختصّون·ـات في الموضوع في صحّة فرضيّة ارتباط الفيضانات بالاختلالات المناخيّة : " هذا التّبرير، الذي ما فتئت تتداوله وسائل الإعلام، هو على الأرجح ما يـ·تتذرّع به العديد من صانعي·ـات القرار الذين أو اللّواتي يوجّهون و يوجّهن أصبع الاتّهام إلى الحتميّة المناخيّة للتّملّص من كلّ مسؤوليّة"، كما يؤكّد ذلك نعمان الفهري، الأستاذ الباحث بقسم الجغرافيا بجامعة منّوبة والمختصّ في ظاهرة الفيضانات في تونس.
غير أنّ دراسة تطوّر كميّات الأمطار على مدى العقدين الماضيين في تونس لم تؤكّد إلى حدّ الآن أنّها في تزايد مستمرّ و مطّرد . وتبرز البيانات الرّسمية الصّادرة عن المعهد الوطني للرّصد الجوّي والمتعلّقة بكميّات الأمطار، أنّ التّراكم السّنوي للتّساقطات المسجّلة في تونس العاصمة بين 2005 و 2015 لم يتجاوز إلا في مناسبة واحدة معدّل 446,5 ملم/سنة. وهو المعدّل المسجّل في محطّة تونس- منّوبية، أقدم مصلحة للرّصد الجوّي في البلاد. ممّا يشير إلى أنّ كمّيّة الأمطار الحاليّة ليست بالضّرورة أكثر أهمّيّة ممّا كانت عليه في الماضي.
لكن هل أصبحت الأمطار فعلا أكثر غزارة ممّا كانت عليه؟ هل أصبح تهاطلها أكثر قوّة وسرعة؟ لا تسمح البيانات التي اطّلعت عليها انكفاضة و المتعلّقة بكمّية الأمطار اليوميّة المسجّلة خلال الفترة الممتدّة بين 2018 و 2020 بإجراء تقييم شامل لتطوّر غزارة الأمطار. بالتّالي، يصعب حاليّا الجزم بحدوث تغيّرات على مستوى نمط التّساقطات و إن كانت الأحداث الأخيرة مثل تلك التي جدّت في نابل سنة 2018 مثيرة للتّساؤل : " الأمر متغيّر للغاية من منطقة إلى أخرى و يتمّ السّهر حاليًا على دراسة العديد من الفرضيّات لكن دون التّوصّل إلى إبراز منحى تصاعدي"، كما يوضّح نعمان الفهري.
غير أنّ الثّابت، حسب باحث الجغرافيا، هو أنّ توسّع المدن و تكثّفها أدّيا بدون شكّ إلى تزايد الفيضانات في الوسط الحضري.
عواقب التوسّع العمراني غير المنظّم
خلال القرن العشرين، شهدت كبرى مدن البلاد نموّا ديموغرافيّا غير مسبوق تلته موجات متعاقبة من التّوسّع العمراني و بروز أحياء عشوائيّة غير قانونيّة. بالنّسبة لتونس الكبرى، شملت الموجة الثّانية من التّوسّع العمراني في أواخر السّتينات أساسا ما يُعرف بالأراضي "المهدّدة" وفقًا لمثال التّهيئة العمرانيّة الذي يحدّد ما إذا كانت المنطقة قابلة للتّوسّع العمراني أم لا. وتمّ استغلال هذه الأراضي البيضاء المتاخمة للمدينة و الواقعة خاصّة حول السّبخات** لتشييد مساكن عليها في حين أنّها كانت مخصّصة في البداية للفلاحة. ما يمثّل خرقا تامّا للقوانين الجاري بها العمل، وهو ما أدّى إلى تآكلها تدريجيّا.
يُعتبر مثال حوض سبخة السّيجومي غربي العاصمة خير دليل على ذلك. إذ كان هذا الخزّان المائي الضّخم، المشهور بأسراب طيور النّحام الوردي، منطقة ريفيّة بالكامل في منتصف القرن العشرين قبل أن يصبح اليوم محاطا بأحياء شعبيّة (سيدي حسين و الزّهور و الورديّة) من جميع الجهات. وحسب آخر تعداد عامّ للسّكان لسنة 2014، تأوي المنطقة حاليّا نصف سكّان ولاية تونس أي ما يناهز المليون نسمة.
" في أغلب المدن التّونسية، تفوّقت الحاجة الملحّة لتشييد المساكن على إنشاء مرافق صرف صحّي قادرة على مواكبة هذا التّوسّع العمراني." **
أدّت هذه الطّفرة الديموغرافية التي تمخّض عنها توسّع عمراني غير مسبوق على ضفاف سبخة السّيجومي إلى تعميق هشاشة المساكن تجاه خطر الفيضانات. ذلك أنّ المنازل و البنى التّحتية لا تتموقع في المناطق المهدّدة بالفيضانات نظرًا لقربها من الحوض فحسب، بل كذلك في المنطقة السّفلى من الوادي ممّا يعرقل سيلان المياه ويزيد من خطر تعرّض المساكن لها خلال الفترات المطيرة. كما يلاحظ الجغرافي ن.الفهري أنّ " تداعيات الفيضانات تتنامى بصفة أُسّية حيث أنّ الأمطار المتهاطلة بنفس الحدّة من شأنها أن تتسبّب اليوم في أضرار أكثر فداحة من تلك المسجّلة منذ 50 عامًا خلت وذلك بسبب تزايد الكثافة في المناطق الحضريّة".
و يوضّح ن. الفهري " منطقيّا، تتمّ التّهيئة التّرابيّة قبل استقرار السّكّان. ومع ذلك، سمحنا بتوسّع المدينة على حساب الضّفاف والمستنقعات ولم تتدخّل البلديّات لتهيئة الأراضي إلا لاحقا (إحداث قنوات الصّرف الصّحّي و توفير المياه الصّالحة للشّرب والكهرباء...)".
في جانب آخر، جدير بالذّكر أنّ الحيّ الرّاقي"ضفاف البحيرة" في العاصمة تمّ كذلك إنشاؤه في منطقة كانت مغمورة بالمياه سابقا، مع اختلاف شاسع يكمن في تصميمه وفقًا لمثال تهيئة دقيق. وبذلك، لم يتمّ تصنيف هذا الحيّ، الذي يضمّ العديد من السّفارات والنّزل، كمنطقة معرّضة للخطر في مثال التّهيئة العمرانيّة. في هذا الصّدد، تقول أناييس الباجي، صاحبة دراسة حول الفيضانات في تونس الكبرى : " معايير تصنيف المناطق المعرّضة للفيضانات ليست محدّدة بوضوح". وهو ما يعكس، حسب رأيها، الضّبابيّة المحيطة بالإطار التّشريعي المنظّم لهذه المناطق. هذا و قد تمّ إنشاء محطّات ضخّ تعمل دون انقطاع لتصريف المياه بغرض مجابهة مخاطر الفيضانات التي تهدّد حيّ ضفاف البحيرة و الأحياء المتاخمة للسّبخات.
تُجمع الآراء العلميّة على أنّ التّدخّل البشري له انعكاس واضح على التغيّرات الهيدرولوجيّة الجارية و على تزايد الفيضانات. ويتجسّد هذا التّأثير من خلال تضاعف مُعامِلات الجريان السّطحي** التي تُحدَّد بدورها من خلال زيادة المساحات غير النّفّاذة.
في منطقة المحمدية، جنوب تونس العاصمة، متساكنون و متساكنات بصدد تنظيف شارعهم·ـن الذي اجتاحته الفيضانات يوم 18 أكتوبر 2018. عدسة: فتحي بلعيد / وكالة الأنباء الفرنسية.
بالتّالي، كلّما اتّسعت المساحة المبنيّة، تراجعت قدرة التّربة على امتصاص التّساقطات، ما ينتج عنه ارتفاع ملحوظ لسرعة السّيلان. في السّتينات، بلغ معدّل مُعامِلات الجريان السّطحي لسبخة السّيجومي (غرب تونس العاصمة) 20٪، ما يعني أنّه من أصل 100 م3 من الأمطار تتدفّق 20 م3 على السّطح في حين تمتصّ التّربة الباقي. حاليّا، يناهز هذا الرّقم مستوى 50٪.
تشير الملاحظات التي أدلى بها الجغرافي ن.الفهري في ما يتعلّق بالفيضانات التي اجتاحت تونس الكبرى في 2003 و 2007 إلى سرعة ارتفاع منسوب المياه و عنف التّدفّقات. ففي غضون سويعات، حاصرت المياه العاصمة مع تجاوز مستواها المتر الواحد في بعض الأحياء (منّوبة و حيّ الصّنوبر و مقرين...)، ممّا عرقل امتصاص الأحواض للمياه. و في الواقع، يعزى ذلك إلى حلول شبكات الصّرف الصّحّي ذات التّصميم الخطّي و المنحدرات القصيرة و الحادّة (القنوات و الحواجز...) محلّ الأودية التي يساعد شكلها المتعرّج والأقلّ انحدارًا على تصريف المياه تدريجيّا.
التصرّف في المياه: الكلّ يتملّص من مسؤوليّاته
أبرز هذا المعطى العمراني الجديد للعيان إشكالا آخر يتمثّل في أنّ شبكات الصّرف الصّحّي التي يعود تاريخها إلى السّتينات والسّبعينات و التي وقع تصميمها على عجل لمواجهة كوارث قد تحدث مرّة كلّ عقد أو كلّ عقدين، تعتبر سعتها اليوم دون المطلوب و هي غير قادرة على استيعاب كمّية كبيرة من الأمطار.
إضافة إلى تآكل شبكة القنوات هناك إشكال آخر يكمن في أنّه بدلاً من انسيابها عبر شبكتين منفصلتين، كما تقتضي ذلك المعايير المعمول بها، فإنّ مياه الأمطار و مياه الصّرف الصّحّي غالبا ما تتدفّق عبر نفس القنوات. و يُلاحظ ذلك خاصّة، على سبيل المثال
لا الحصر، داخل الأحياء الشّعبية ذات الكثافة السّكّانيّة العالية، على غرار حيّ التّضامن (الشّمال الغربي للعاصمة) الذي لم تتمّ تهيئته إلا بعد استقرار المتساكنين·ـات.
عند هطول أمطار غزيرة، يؤدّي تراكم النّفايات في الشّوارع و تلك التي تجرفها المياه المستعملة إلى انسداد القنوات المفتقدة للصّيانة اللّازمة، ما يعيق بدوره انسياب المياه التي تفيض بالتّالي على قارعة الطّريق.
يوضّح أليكسيس سييرا، الباحث الجغرافي بجامعة سارجي-بونتواز الفرنسيّة و المختصّ في المخاطر " تضرّرت شبكة التّطهير بدورها جرّاء هذه الأحداث، ما يجعل منها في الوقت نفسه سببًا للفيضانات و ضحيّة لها". كما يلاحظ وليد شواري الأستاذ الباحث بجامعة صفاقس وصاحب العديد من الدّراسات حول مخاطر الفيضانات، أنّ بعض الأحواض، على غرار حوض سبخة أريانة، تشكو تقصيرا في الصّيانة، خاصّة على مستوى محطّات الضّخّ. وهو ما يعرقل تجميع المياه في حالة تهاطل أمطار غزيرة**.
علاوة على ذلك، اعتاد·ت بعض المسؤولين·ـات الرّسميّين·ـات إلقاء مسؤوليّة عدم فعاليّة شبكات الصّرف الصّحّي على عاتق السّكان، مبادرين·ـات باتّهام "المواطن التونسي" بإيتاء سلوك غير حضاري كإلقاء النّفايات في قنوات صرف المياه. في سنة 2019، صرّحت نهال بن عمّار، النّائبة الأولى لرئيس بلديّة أريانة : " نلاحظ للأسف أنّه سرعان ما تنسدّ القنوات التي تمّ تنظيفها بسبب إلقاء المواطنين·ـات لجميع أنواع النّفايات فيها"، ملقية المسؤوليّة بوجه خاصّ على متساكني·ـات المناطق المهمّشة، وذلك رغم أنّ البلديّات هي المكلّفة بمهمّة إدارة تصريف المياه داخل المناطق الرّاجعة لها بالنّظر، ما يمثّل مهمّة أساسيّة في إدارة خطر الفيضانات.
سيّارة أجرة غمرتها السّيول خلال الفيضانات التي اجتاحت تونس العاصمة في 13 أكتوبر 2007. و ارتفعت الحصيلة إلى تسعة قتلى. عدسة: فتحي بلعيد / وكالة الأنباء الفرنسية.
تخبّط مؤسّساتي ونقص على مستوى التّخطيط
تعتبر إدارة خطر الفيضانات مهمّة معقّدة تستدعي تدخّل العديد من الفاعلين·ـات المؤسّساتيّين·ـات اللّذين و اللّواتي يتوزّعون أو يتوزّعن على ثلاثة هياكل رئيسيّة متمثّلة في وزارة الفلاحة و الموارد المائيّة و الصّيد البحري، وزارة التّجهيز و الإسكان والبنية التّحتيّة و كذلك الجماعات المحليّة.
يقتضي عمل هذه الهياكل الرّئيسية الثّلاثة تدخّل العديد من الجهات الفاعلة و المصالح الإداريّة التي " لم تحدّد مهامّها ومسؤوليّاتها بوضوح والتي يصعب التّنسيق بينها لارتفاع عددها"، وفقا للجغرافي وليد شواري الذي أضاف قائلاً: " غالبًا ما يكتسي التّنسيق بين مختلف الجهات الفاعلة صفة غير رسميّة مقتصرا أحيانًا على تعليمات شفاهيّة دون تدوين القرارات أو الإجراءات المتّخذة كتابيّا".
" رغم انفراد كلّ مؤسّسة من هؤلاء الثّلاث باستراتيجيّة وتخطيط خاصّ، فإنّها في الآخر متكاملة"، كما تؤكّد ذلك جودة نصري، التي تشغل منصب نائبة مدير صلب إدارة المياه العمرانيّة. ومع ذلك، لاحظ الباحث وليد شواري نوعا من التّداخل بين مختلف الجهات الفاعلة لدى إنجاز المشاريع و القيام بدراسات متشابهة غالبًا ما تكون متكرّرة.
كما أنّ البيانات المتعلّقة بحجم الفيضانات و مدى فداحة الأضرار النّاجمة عنها متقطّعة ومتشتّتة، الشّيء الذي يعقّد عمليّة التّخطيط و التّعمّق في فهم نوبات تهاطل الأمطار الجارفة. غير أنّ جودة نصري وعدت بإنشاء قاعدة بيانات شاملة في إطار تحديث الاستراتيجيّة الوطنيّة لمجابهة الفيضانات. ومن المقرّر الشّروع في الأعمال في غضون سنة 2021 علما و أنّه لم يتمّ ضبط أيّة استراتيجيّة وطنية للتّوقّي من الفيضانات منذ التّسعينات.
بعيدا عن إنكار الجهود المبذولة و جملة المشاريع التي تمّ بعثها على مدى عدّة عقود، تـ·يتّفق المختصّون·ـات على أنّ إدارة الفيضانات تأتي في معظم الأحيان كـ" استجابة" لحدث طارئ، في أعقاب أزمة ما. و يٌوجّه اصبع الاتّهام إلى السّلطات التي تعتبر الفيضانات نوبة مناخيّة عرضيّة. يقول وليد شواري متأسّفا " لا تهتمّ سوى بوقوع الحدث دون الاكتراث بهشاشة منظومة مجابهة المخاطر".
يقول الجغرافي نعمان الفهري: " ألاحظ بمرارة أنّ الدّولة عاجزة على مجابهة الفيضانات كلّ سنة و التي من المفترض ألّا تشكّل مفاجأة نظرا لتكرّرها". غير أنّ الحدّ من الكوارث يستوجب قبل كلّ شيء تعزيز الإمكانيّات، لا بغرض تجنّبها بل للتّقليل من أضرارها قدر الإمكان.
تتعدّد الأمثلة التي تكشف عن هذا التّقصير على مستوى التّوقّي و التّنظيم : ففي13 نوفمبر 2007، غمرت السّيول العاصمة التي شهدت بذلك واحدة من أسوأ الفيضانات على مرّ التّاريخ و التي أسفرت عن هلاك 16 شخصًا. وكان العديد من هؤلاء الضّحايا يسيرون و يسرن على مستوى الطّريق الوطنيّة رقم 8 (ط.و8) وافدين·ـات من مدينة بنزرت التي يحدّها واد كموني. هذا الوادي عادة ما يكون مجرى مائيّا صغيرا للغاية في الفترات الجافّة. في ذلك اليوم، جرف تيّار الوادي العشرات من السّيارات. وكان من الممكن تفادي المأساة في حالة تحويل حركة المرور إلى الطّريق السّريعة المرتفعة التي كانت الحركة فيها منسابة دون تعطّل يذكر. لم يكن الأمر يتطلّب سوى تركيز شرطيّ لتحويل حركة المرور من الطّريق الوطنيّة.
عائلة على متن درّاجة ناريّة محاولة شقّ سبيلها خلال الفيضانات التي اجتاحت تونس العاصمة في 18 أكتوبر 2018. عدسة: فتحي بلعيد / وكالة الأنباء الفرنسية.
"وفّروا لنا الإمكانيّات وسنصنع المعجزات"
بالإضافة إلى غياب التّنبّؤ، يشكّل الافتقار إلى الموارد البشريّة والماليّة تحدّيًا هامّا. عقب الفيضانات المدمّرة لسنة 2019، وضّح رئيس بلديّة روّاد (الضّاحية الشّمالية للعاصمة) : " يكمن الإشكال في أنّ بلديّتنا لم تستفد قطّ من خطّة التّوقّي من الفيضانات. وفّروا لنا الإمكانيّات وسنصنع المعجزات"*.
في تونس، تضطلع البلديّات بمهمّة إدارة تطهير مياه الأمطار وتصريفها و هي مهمّة يمكن لها تفويضها إلى الدّيوان الوطني للتّطهير (ONAS). غير أنّ البلديّات تعاني نقصا فادحا في الإمكانيّات وغالبًا ما تضطرّ إلى التّدخل بصفة عرضيّة دون استراتيجيّة واضحة أو تخطيط محكم. وبالتّالي، حتّى مع تمتّعها بموارد ماليّة (في شكل قروض تنمويّة)، تشكو البلديّات من استحالة " استهلاك القروض المرصودة بسبب نقص على مستوى الموارد البشريّة والتّقنية" **.
أفاد مصطفى بن لطيّف، الأستاذ بكلّية الحقوق والعلوم السّياسيّة بتونس أنّه " يُلاحظ تراجع ملموس لتدخّل الدّولة و التّمويل العمومي المباشر المرصود لتهيئة الفضاءات بشكل عامّ و التّهيئة العمرانيّة بشكل خاصّ"**. كما أقرّت مديرة المياه العمرانيّة " إنّنا نواجه بعض المشاكل التّقنيّة كنقص الشّركات المشهود لها بالكفاءة، ممّا يعرقل إطلاق بعض مشاريع التّهيئة". غير أنّ هذه الأخيرة لم تشر إلى نقص في الموارد على مستوى إدارة المياه العمرانيّة : " في معظم الأحيان، تمنحنا الدّولة الميزانيّة التي نطلبها. لكن عندما تتجاوز بعض المشاريع طاقة تمويل الحكومة، أي 30 مليون دينار فما فوق، علينا اللّجوء إلى تمويلات خارجيّة".
غالبًا ما تعتمد الحكومة التّونسيّة على الجهات المانحة الدّوليّة لتمويل مشاريع التّهيئة الكبرى التي لا تملك ميزانيّة خاصّة بها. يوجد حاليّا العديد من مشاريع التّوقّي من الفيضانات طور الإنجاز في جميع أرجاء البلاد و لا سيّما في تونس الكبرى. وهي غالبًا ما تشمل المناطق المصنّفة "مهدّدة" نظرا لتعرّضها إلى فيضانات عارمة سابقا. ذلك هو الشّأن بالنّسبة للمشروع الضّخم لحماية منطقتي غرب و جنوبي غرب العاصمة من الفيضانات الذي انطلق إنجازه سنة 2008 و تمّ تمويله بقرض مقدّر بـ6.808 مليون يان (أي ما يعادل 150 مليون دينار) ممنوح من قبل الوكالة اليابانيّة للتّعاون الدّولي (جايكا-JICA).
صرّح ن.الفهري أنّه " بالرّغم من تعزّز الوعي في السّنوات الأخيرة ووجود رغبة عامّة ملموسة لإيجاد حلول لمشكل الفيضانات، نواجه اليوم نقصا في الموارد الماليّة والمادّية".
بالتّالي، يشير تنامي المشاريع طور الإنجاز إلى وعي ملحوظ من جانب السّلطات بالتّداعيات المدمّرة للفيضانات على مرّ سنوات. لا يزال الطّريق محفوفا بالصّعوبات و النّواقص خاصّة و أنّ الوضع مرشّح للتّدهور. و ليست الدّولة، التي تواجه حاليّا أزمة اقتصاديّة واجتماعيّة كبرى، بمنأى عن طوفان جديد.