يعتبر صاحب شركة نسيج أنّه "بالنّظر إلى حجم الإنتاج الأسبوعي، أعتقد أنّ هنالك بضعة ملايين من الأقنعة الرّاكدة هنا".
ويتابع قائلا: " لقد حدث نفس الشّيء في جميع أنحاء العالم"، " حتّى أولئك الذين استعدّوا لتصدير كميّات ضخمة، اضطرّوا بين عشيّة وضحاها لإلغاء الطّلبيات". وكانت الشّركات التي تضرّرت بشدّة من تداعيات الأزمة تعوّل على تصنيع الأقنعة وغيرها من معدّات الحماية الشّخصية " لتشغيل المصانع وسداد الأجور" في انتظار استئناف إنتاجها الأولي.
الملايين من الكمامات
Crédit photo : Fethi Belaid/AFP
فيفري 2020. حتى قبل اكتشاف أوّل حالة نشطة في البلاد، أعلن شكري حمّودة، المسؤول في وزارة الصّحة آنذاك، أنّ " استعمال الكمامات من قبل أشخاص أصحّاء لا يفيد بشيء". وبعد مضيّ شهر، تمّ إقرار الحجر الصّحي الشّامل دون أن يرد أمر توفير كمامات موجّهة للعموم. حينذاك، كان هناك إقبال كبير عليها غير أنّ السّلطات لم تستبقه واستغرق تكوين المخزونات وقتًا.
في نفس الموضوع
بعد بضعة أيّام، بادرت وزارة الصّناعة، وهي الإدارة المتدخّلة بدرجة أولى في صناعة الكمامات، باستشارة الشّركات المعنيّة لوضع التّمشي الذي يتعيّن اتّباعه وتقدير عدد الكمامات التي يجب توفيرها للمواطنين·ـات. ولم تنتظر الجامعة التونسية للنسيج والملابس ترخيص السّلطات لتجنيد شركائها والشّروع في إنتاج الكمامات ومعدّات الحماية الشّخصية.
وكما يوضّح نجيب كرافي، المدير العام للجامعة التّونسية للنّسيج والملابس: " كان لدينا شركات متخصّصة في المعدّات الطّبية ولكن لم يكن هناك سوى 10 إلى 20 شركة على الأكثر لا تنتج إلا ذلك في بداية السّنة". ودعا السّيد كرافي، على صفحة الفيسبوك الخاصّة بالجامعة، الشّركات الرّاغبة والقادرة على الإنتاج إلى التّعبير عن استعدادها. و فعلا، استجابت العديد منها على الفور.
على الرّغم من إرادتها الصّادقة، كان على هذه الشركات مجابهة عراقيل جديدة مرتبطة بالحجر الصحّي الذي تمّ إقراره مؤخّرا. " إذا زوّدتموني بالموادّ الأوليّة، فأنا على استعداد للانخراط في المجهود الوطني"، يـ·تردّ صاحبـ·ـة شركة على المدير العام، " يتعذّر عليّ حاليا إحضار العمّال والعاملات في غياب وسائل النّقل العمومي" يـ·تجيب آخر/أخرى.
وفي الوقت نفسه، بادرت وزارة الصّناعة بإصدار بيان مفصّل للتّدابير التي يتعيّن على المصانع اتّخاذها لضمان استمراريّة الإنتاج، وذلك مع توفير أنجع حماية ممكنة لعمّالها ولعاملاتها ضدّ فيروس كورونا. كما تمّت دعوة الشّركات إلى الانخراط في المجهود الوطني وتزويد السّوق المحلّية.
على الصّعيد الوطني، يعتبر قطاع النّسيج التونسي قطاعا مصدّرًا بدرجة أولى، ما جعل الشّركات المتعاملة مع الخارج تصرّ على تمكينها من تصدير الكمامات خلال الأزمة. وتابع المدير العام موضّحا: " بوسعنا تزويد السّوق المحليّة والالتزام بتعهّداتنا تجاه عملائنا الأوروبيّين ". غير أنّ الإعلان الحكومي فرض انقطاعا مفاجئا للمعاملات الدّولية، إضافة إلى إغلاق الحدود. " بما أنّنا كنّا نتلقّى الموادّ الأوّلية، فإنّه لم يكن بإمكاننا التّخلّف عن تسليم الطلبيّة". وتمّ حثّ الشّركات المصدّرة على التّبرع " بحوالي 10٪ لكلّ معاملة".
ودون تلقّي المزيد من التّوصيات، شرع قطاع النسيج في تنظيم نفسه بنفسه من خلال الاسترشاد بالمعايير الدّولية المعتمدة لتصنيع الكمامات. ويقول نجيب كرافي " في البداية، شرعنا في الإنتاج بصفة مجانية لفائدة أعواننا والبلديات والحرس الوطني والشّرطة والمستشفيات ..."
" لم تكن هناك رقابة. كلّ من صنّع لفائدة عمّاله، إما قلّد إرشادات مصوّرة أو أجرى بحوثا دون أن يتحقّق بالضّرورة من مطابقة المنتوج للمعايير حيث لا شيء يجبره على ذلك. ثمّ إنّ الرقابة لم تكن تشمل سوى الرّاغبين في تسويق منتوجهم في المسلك القانوني".
وأخيرا، تعهّدت السّلطات بالموضوع في شهر أفريل، معلنة عن نيّة إغراق السّوق بـ30 مليون كمامة قابلة للغسل بسعر بيع مدعّم يبلغ دينارًا و 850 مليما للوحدة. وبالتّوازي، حامت شبهات فساد حول إسناد صفقة أوّلية لتصنيع مليوني كمامة لشركة أورتو قروب Ortho-Group وهي على ملك جلال الزياتي النّائب بمجلس نوّاب الشعب عن حزب البديل التونسي.
علّق صاحب شركة نسيج قائلا: " في آخر المطاف، لم يقع عقد صفقات على الإطلاق وحتى المليوني كمامة لم يتمّ تصنيعها".
بغرض التّحكم في المسالك وضمان التّوزيع في جميع أنحاء البلاد، أوكلت للصّيدلية المركزيّة مهمّة توزيع هذه المعدّات الموجّهة للعموم. في ذلك الوقت، كانت الكمامات القابلة للغسل نادرة الوجود وحتى شبه مفقودة في السّوق. " لقد كانت متوفّرة لدى الشّركات" ، يضيف نجيب كرافي مدافعا، " لكن لم يكن أحد يرغب في التّعامل مع الصّيدلية المركزيّة حيث أن ذلك كان يعني المرور عبر أذينة تموين وانتظار تأكيد الطّلبيّة ... كما أنّه من المعروف أنهم لا يسددّون قبل مضيّ 6 أشهر على الأقلّ ...".
ثم اتّصلت الشّركات المعتمدة من الدّولة بالنّقابات الصّيدليّة وقرّر يوم 6 ماي التّخلّي عن توزيع الكمامات القماشية بواسطة الصّيدلية المركزيّة. ويؤكّد المدير العام للجامعة أنّ المؤسسّة العمومية لم تقتن ولو كمامة قماشية واحدة.
على خلفية استبعاد الوسيط، تسارعت الأمور أخيرًا، لكن بعد فوات الأوان. في الوقت الذي تمّت فيه تلبية احتياجات المواطنين·ـات، انتشر بيع الكمامات أخيرًا حيث أصبحت متوفّرة خاصّة في المساحات التّجاريّة الكبرى. وأدّى عدم عقد الحكومة لصفقات إلى عجزها عن التّحكّم في كميّة الكمامات المنتجة، تاركة للشّركات حرّية تصنيعها بالشّكل الذي يحلو لها، مع تفاوت الأسعار بين مختلف نقاط البيع.
وفي 11 أوت، أعلنت الحكومة عن جملة من الإجراءات تقضي بإجبارية ارتداء الكمامة في بعض الأماكن التي تشكّل خطورة أو شديدة الازدحام على غرار المطارات أو المراكز التّجاريّة.
التّحاليل المخبريّة، الأولويّة المزعومة
Crédit photo: page facebook de l’institut Pasteur
شكّلت اختبارات تفاعل البوليميراز المتسلسل للنّسخ العكسي RT-PCR والاختبارات المصليّة موضوعا رئيسيا آخر للأزمة الصّحية وفحوى العديد من الإعلانات الحكومية. غير أنّه في الأوساط الطّبيّة، يبدو " الوضع ... كارثيا" كما أقرّ بذلك باحث بيولوجي في اتّصال هاتفي، متحدّثا عنالإمكانيات الموضوعة على ذمّتهم·ـنّ لإجراء اختبارات RT-PCR. ففي معهد باستور بتونس، لا يوجد سوى عشرة أشخاص يعملون ويعملن جاهدين·ـات ودون هوادة لإجراء هذا النّوع من الاختبارات منذ بروز الجائحة. ومع إعادة فتح الحدود في 27 جوان المنقضي– والتّي دعّمت مخاوف ظهور موجة جديدة - لم تتمكّن الفرق من نيل قسط من الرّاحة.
" لا يجب تصديق ما يقال"، يتابع الباحث منزعجًا، " الناس يعملون 24 ساعة في اليوم الواحد!". وتطلّب الأمر بضعة أسابيع بعد نهاية الحجر الصّحي لإرساء تنظيم عمل أوضح، ممّا سمح للفرق بالعمل بالتّناوب. غير أنّ هذا الهدوء لم يستمرّ طويلا، ففي أواخر شهر جوان، أعادت تونس فتح حدودها في محاولة للتّخفيف من تداعيات الأزمة على القطاع السّياحي. " مع استئناف النّشاط السّياحي، كان من المتوقّع تسجيل عدد مهول من الإصابات الجديدة مقارنة بالنّسبة الحاليّة".
في العاصمة، كان معهد باستور أوّل مركز كشف مؤهّل لإجراء فحوص على المسافرين·ـات المغادرين·ـات نحو وجهات تفرض الاستظهار بتحليل مخبري سلبي لدخولها. وتمّ إحداث مدخل "خاصّ بالكورونا" في محاولة لتنظيم صفوف الانتظار. تحت وطأة حرارة الصّيف الحارقة، يـ·تحتشد المسافرون·ـات في الظلّ في انتظار دورهم·ـن متجاهلين·ـات تماما إجراءات التّباعد الاجتماعي.
في الدّاخل، الفرق منغمسة في العمل. يعلّق أحد الباحثين·ـات البيولوجيين·ـات قائلاً: " طاقم العمل عاجز عن مسايرة هذا النّسق"، " بعض الأشخاص لم يتوقّفوا ولم يتوقفن عن العمل منذ 25 مارس". منذ بداية شهر جويلية، لاحظ الهاشمي الوزير، مدير المعهد، ممّا لا يدعو مجالا للشكّ أنّ " فريق العمل بدأ يأخذ منه الإنهاك، شأنه شأن المتطوّعين·ـات". وقد طلبت المؤسّسة الخاضعة لإشراف وزارة الصّحة تعزيز فرقها بالنظر إلى عبء العمل الذي يتعيّن عليها مواجهته. ويوضّح المدير " لقد قمنا بانتداب طلاب وطالبات في مرحلة الدكتوراه وما بعدها، وما زالت هناك طلبات يجري النظر فيها من قبل الوزارة".
وكما هو الشّأن بالنسبة للأقنعة القابلة للغسل، تأخّرت الحكومة في اتّخاذ إجراءات بشأن التحاليل المخبريّة. بعد عدّة أسابيع من إعادة فتح الحدود، قرّرت الحكومة إشراك القطاع الخاصّ في إدارة أخذ العينات، ما من شأنه توسيع النّفاذ إلى الاختبارات في جميع أنحاء البلاد. " في إطار الخطّة الوطنية، تمّ ربط الجهات بمختلف مراكز التّحليل"، ويقول المدير متابعا " يقوم معهد باستور، على سبيل المثال، بإجراء التّحاليل لجهتي تونس الكبرى وجندوبة".
غير أنّ هذا الإجراء، على ضرورته، جاء متأخّرا للغاية. وزاد فتح الحدود الطّين بلّة مضيفا عبئًا جديدًا على الفرق المنهكة المكلّفة بتحليل العيّنات، حيث أنّه علاوة على إجراء فحوصات كورونا للحالات المشتبه بإصابتها أو للأشخاص الوافدين·ـات من مناطق مصنّفة "خطرة"، كان يتعيّن فحص العديد من الأشخاص قبل تمكّنهم·ـن من السّفر إلى بلد آخر. في البداية، كان تقديم هذه الخدمة الأخيرة مقتصرا على معهد باستور. وحسب الهاشمي الوزير، مدير المعهد : " منذ ذلك الحين، تمّ توجيه منشور وزارة الصحة إلى مراكز أخرى عبر الجهات " " لكنّها تباطأت في تطبيقه". ويفسّر هذا التّأخير بالإجراءات المتمخّضة عن هذا المنشور والمتمثّلة في وجوب أخذ العيّنات في أماكن مخصّصة، " في مقرّ إقامة الاشخاص المعنيّين·ـات أو في مراكز محدّدة".
كما تمّ توفير الاختبارات المصليّة والمعروفة أيضا تحت تسمية الاختبارات السّريعة لكلّ شخص يريد معرفة ما إذا كان قد أصيب بالفيروس أو لا. ويعلّق المدير قائلا " لا نطلبه لا للمسافرين·ـات ولا للمرضى". ويدافع الباحث البيولوجي عن أنّ " الاختبارات المصليّة لا تصلح إلّا للبحوث الوبائيّة"، إذ " كان من الممكن إجراؤها في البداية غير أنّه مع فتح الحدود، فإنّها ستؤدّي إلى تحريف البيانات".
طوال فترة الوباء، أعلنت الحكومة عن توجيه أوامر اقتناء عدّة دفعات من الاختبارات والكواشف. ويستحضر المدير أنّه: " في وقت ما، تمّ تفويض الصيدليّة المركزية كهيكل مكلّف باقتناء أطقم التقصّي" ، " ولكن هناك مسالك أخرى"، على غرار المندوبين·ـات الصّيدليّين·ـات أو شركات تصنيع الكواشف نفسها. وكما أخبرنا الباحث: " تمّ في شهر ماي تسلّم بعض الاختبارات السريعة غير أنّها لم تكن موثوقة" مشيرًا إلى أمر اقتناء 400 ألف اختبار سريع من قبل الصيدلية المركزية. في ذلك الوقت، كانت السّلطات قد أعربت عن نيّة القيام بتحاليل على نطاق أوسع. ولم تكن "حساسيّة" الدُفعة المستلمة فعّالة بقدر كاف، ممّا كان يشكّك في موثوقية النّتيجة. ورغم الاتّصال بها في العديد من المرّات، رفضت الصيدلية المركزية الإجابة على أسئلة انكفاضة.
يشدّد مدير معهد باستور على أنّ البيولوجيين·ـات لم يفتقدوا ولم يفتقدن أبدًا إلى الاختبارات. " في بعض الأحيان، كانت تعترضنا صعوبات للتّزوّد ولكن لم نسجّل نقصا يذكر، وكلّما كنا نحتاج إلى إجراء اختبارات على أشخاص مشتبه بإصابتهم·ـن أو على أقاربهم·ـن، كنا دائما نتوصّل إلى ذلك". كما يرى أنّه منذ ذلك الوقت، تتوفّر لدى المؤسّسة كميات كافية كفيلة بالسّماح للفرق بالعمل دون عوائق مادّية.
في نفس الموضوع
وترتبط المعضلة الأساسية للسياسة المتّبعة لإجراء الاختبارات بأسباب أخرى، حيث أنّ هذه الاختبارات " أصبحت عاملا يعتمد على توفّر الموارد البشرية" كما يعترف بذلك مدير المعهد. في أوائل شهر جويلية، كان المعهد يجري ما بين 300 و 400 اختبار تفاعل البوليميراز المتسلسل PCR يوميًا كما كان يقوم بتحليل العيّنات المأخوذة في إطار الخطّة الوطنية، أي ما يمثّل طاقة أدائه القصوى.
ويرى مدير معهد باستور أنّه على الرّغم من تفاقم عدد الحالات، فإنّ ذلك لا يعني عودة تفشّي الجائحة. " إنّها طفرة أكثر من كونها موجة ثانية" يقول الهاشمي الوزير مطمئنا ومعتبرا أن نسبة الإصابات المحلية لا تزال ضعيفة. وحسب قوله، فإن الهياكل والمؤسّسات ملمّة حاليا بالتعامل مع الحالات الجديدة. واختتم قائلا إنّه " علينا فقط تجنّب تفاقم الأوضاع بصفة تجعلنا غير قادرين·ـات على مجابهتها"، مع التَّأكيد على أهمّية إيماءات الحاجز وارتداء القناع الواقي.