تعطي هذه المؤشرات فكرة عن الحجم المفترض للفساد والغش الذي يخترق قطاعا حساسا بالنسبة للاقتصاد الوطني وهو قطاع الذهب. ويتم ذلك بتواطؤ مشترك بين حرفيي المصوغ والباعة وموظفين سامين في الدولة مثلما سنبيّنه على مدى هذا التحقيق.
المدير العام للأداءات و قصة "التريّث"
في 31 ماي 2017، خصصت اللجنة المركزية المكلفة بالنظر في عرائض المطالبين بالأداء ومتابعة وتأطير أعمال المراقبة، جلسة عمل، بمقر الإدارة العامة للأداءات، التابعة لوزارة المالية، وذلك للنظر في المحاضر الجزائية التي تم تحريرها من قبل أعوان مكاتب الضمان خلال زياراتهم الميدانية لمحلات تجارة وصنع المصوغ.
تم خلال هذه الجلسة، التي انعقدت تحت إشراف المدير العام للأداءات، سامي الزُبيدي، إقرار عديد التدابير منها، "التريث" في خصوص إحالة محاضر معاينة المخالفات المتعلقة بالغش في الذهب وتدليس الطوابع القانونية إلى المحكمة المختصة لإثارة الدعوى العمومية، حسب ما ورد في محضر الجلسة.
وتتعلق هذه المحاضر، حسبما جاء في الملفّ من وثائق تسنّى لنا الاطلاع عليها، بمخالفات تتمثل في:
- مسك وبيع مصوغات حاملة لعلامات طوابع مقلدة لطوابع قانونية.
- مسك وبيع مصوغات كانت علامة الطابع القانوني مقحمة فيها أو ملحومة أو منسوخة.
جملة تلك المحاضر كانت قد حُرّرت ضدّ عدد من كبار المصنّعين والتجار في القطاع، خاصة في تونس وسوسة وصفاقس. وتستوجب المخالفات المضمّنة فيها عقوبات بدنية وخطايا مالية في حقّ المخالفين.
ولئن ينصّ الفصل 29 من القانون عدد 17 على أن "يتولّى وزير المالية أو من فوّض له وزير المالية إحالة المحاضر إلى وكيل الجمهورية" فانّ الأوامر التي أعطاها مدير عام إدارة الأداءات والقاضية بـ"التريّث" في احالة المحاضر تتنافى، وفق ما أفادنا به خبير قانوني، مع أحكام هذا الفصل و رُوحه.
مصدر ذو علاقة بالملف أفاد بإنه لم يسبق أن تمّ إتّخاذ أيّ إجراء "بالتريّث" من قبلُ، مضيفا قوله انّ:
"المدير العام للأداءات صرّح لدى سؤاله، خلال الجلسة موضوع المحضر، بأنّ القرارات التي صدرت بالترّيث كان قد تلقّى في شأنها تعليمات من جهة رسمية، في انتظار صدور القانون الجديد المنظم للقطاع والذي سيعوض قانون 2005".
ومن المنتظر أن يلغي القانون الجديد طابع المطابقة الذي تضعه الدولة على القطع الذهبية ويحرّر القطاع وبالتالي تنتفي المخالفات ومُوجب إحالة المحاضر إلى وكيل الجمهورية وهو ما يفسّر حرص الزُبيدي على "التريّث" في احالة المحاضر وفقا للتفسير الذي ورد على لسانه أمام حاكم التحقيق.
وحسب مصدرنا السابق ذكره، فإنّ التعليمات جاءت الزُبيدي من قبل زهير القاضي، الذي تم تكليفه من قبل وزيرة المالية السابقة لمياء الزريبي بملف قطاع المصوغ وإعداد قانون جديد للقطاع. "لقد كان ينفّذ تعليمات رؤسائه : الوزيرة لمياء الزريبي ثم فيما بعد الوزير بالنيابة، محمد الفاضل عبد الكافي". وفق قوله.
التريّث .. فرضٌ على البعض، سُنّة على البعض الآخر !
في محضر الجلسة ذاته، نجد أمرا بتطبيق القانون بخصوص المحاضر المحرّرة من طرف مكتب الضمان بسوسة ضد المدعو محمد الشريف الحمامي، وهو حرفي مَصوغ، في حين أنه تم حفظها سابقا في شأنه. وقد نصّ محضر الجلسة كذلك "بالتريث" في خصوص المحاضر المتعلقة بالمخالفات المنصوص عليها بالفصل 34 من القانون المذكور (أي تلك التي تحتوي على عقوبة بدنية). وهنا موطن الشبهة، حسبما جاء في الملف، على اعتبار وجود اذنٍ بإجراء الصلح في خصوص المحاضر التي يجوز قانونا إبرام الصلح فيها و"التريث" في إحالة المحاضر التي تستوجب الإحالة حسب الفصل 34 إلى وكيل الجمهورية.
استندت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد الى هذا المحضر ووثائق أخرى لتحيل الملف على القطب القضائي الإقتصادي والمالي في أواخر 2017، ليتمّ فتح تحقيق في الغرض، أسفر يوم 8 جانفي 2018 عن إصدار بطاقات إيداع بالسجن ضد المدير العام للأداءات، سامي الزُبيدي، والمدير الجهوي السابق للأداءات بسوسة، لطفي بن علي، والمكلف السابق بمهمة بديوان وزير المالية، زهير القاضي الذي يشغل حاليا منصب المدير العام للمعهد التونسي للقدرة التنافسية والدراسات الكمية. بطاقات الايداع جاءت على خلفية "جرائم تتعلق بفساد مالي وإداري، حسب مقتضيات الفصلين 96 و99 من المجلة الجزائية"، حسب تصريح للناطق الرسمي باسم القطب القضائي الإقتصادي والمالي، سفيان السليطي، لوكالة تونس إفريقيا للأنباء.
"انتفاضة" موظّفي المالية
أثار إيقاف الزُبيدي، حفيظة المديرين العامين والإطارات العاملة بوزارة المالية الذين هددوا بإيقاف العمل في كافة القباضات المالية وإدارات الجباية إذا لم يتم إطلاق سراح الزُبيدي. تحت الضغط، وبعد عشرة أيام، تم الإفراج عن الموقوفين وإبقاؤهم في حالة سراح، في حين يستمر التحقيق في القضية التي تمّ تحويلها فيما بعد إلى دائرة الإتهام بمحكمة الإستئناف التي أقرّت الطابع الجنائي وأحالت القضية إلى الدائرة الجنائية لدى المحكمة الإبتدائية.
على إثر الإفراج عن الزُبيدي، نظّم كوادر وموظفو الإدارة العامة للأداءات وقفة مساندة لمديرهم بتاريخ 19 جانفي 2018، حضرها عدد كبير منهم. بدا المشهد سرياليا عندما أخذ الكلمة عبد القادر اللبّاوي، رئيس الاتحاد الوطني للمرفق العام وحياد الإدارة ومرشّح الانتخابات الرئاسية السابقة، ليهدّد الدولة والحكومة بالتمرّد على القانون والتوقف عن استخلاص الجباية إذا لم يتمّ توفير الضمانات لأعوان الجباية لممارسة عملهم:
"إذا كانت مؤسسات الدولة لا تعلم أنّها بهذا السلوك تضرب الدولة في الصميم فنحن سنعلمها بذلك. أيّتها الدولة، أيتها المؤسسات السياسية، أيّتها الحكومة، أيّتها السلطة التنفيذية، أيّتها السلطة التشريعية ومع كامل احترامنا للقضاء وايماننا بنزاهته لابدّ من توفير ضمانات لهؤلاء (يقصد موظّفي المالية). دون ضمانات لا يمكن أن نواصل مستقبلا تعبئة ميزانية الدولة، لذلك ندعوكم جميعا للالتفاف حول زميلكم وحول أنفسكم من أجل تكريس الضمانات".
من جهتنا، حاولنا الاتصال بالزُبيدي، عديد المرات لأخذ رأيه في الموضوع عبر كلّ الطرق المتاحة ولكنه رفض لقاءنا.
قضية محاضر الغش والتدليس في الطوابع
تأتي قضية الزُبيدي على خلفية قضية أكبر تمثّلت في تحرير أكثر من 100 محضر مخالفة تتعلق بـ"مسك وبيع ذهب غير مطابق للمعايير وغير حامل للطوابع القانونية" تتعلّق بأهمّ الحرفيين و تجار الصاغة في تونس وسوسة وصفاقس والمهدية.
هذه القضية انطلقت في صائفة 2017، عندما تمكّنت فرقة الديوانة بالمهدية من حجز كمية هائلة من الذهب مجهول المصدر وإيداعها دارَ الطابع بسوسة. بإذن من النيابة العمومية بمحكمة المهدية الإبتدائية، قامت فرقة الديوانة بالمهدية بالإستعانة بالخبير، المنصف شراقة، أمين الصاغة بالمهدية، للتأكّد من سلامة الذهب المحجوز وتحديد قيمته. وقد أكّد هذا الأخير أن الذهب "حامل لطوابع مدلّسة ومفتعلة" وأنه في معظمه "متدني العيار".
وبعد إيقاف أصحاب الذهب المحجوز، تم التوصل إلى وجود مزودين بذلك الذهب من مدينة صفاقس، وقد قامت على أساس ذلك المصالح الديوانية في صفاقس بحجز قرابة الأربعة كيلوغرامات من الذهب على ملك (م.ب.ح) وقامت بتسليمها لدار الطابع في صفاقس لإجراء الاختبارات اللازمة عليها، مع العلم أن مالك الذهب لا يزال إلى اليوم في حالة فرار.
في القضية ذاتها، تمّ إلقاء القبض على ثلاثة تجّار من المهدية وآخر من صفاقس أكّدوا تزوّدهم ببضاعة مدلّسة على ملك أحد الموزّعين الكبار من مدينة صفاقس المدعو (ف.ع) الموقوف حاليا في سجن المهدية بتهمة ترويج ذهب مغشوش ومتدنّي العيار.
شكّك الموقوفون في تقرير الاختبار الذي قام به المنصف شراقة وطالبوا بإعادته. طلبٌ استجاب له قاضي التحقيق بمحكمة المهدية، حيث قام بتعيين ثلاثة خبراء في المصوغ لإعادة اختبار الذهب المحجوز. كما كلّف في نفس الوقت، مصالح دار الطابع في سوسة بإنجاز اختبار آخر موازي.
كانت المفاجأة أنّ الخبراء الثلاثة أكدوا في تقريرهم المشترك أنّ الذهب "سليم". في الأثناء، أنهت دار الطايع بصفاقس تقريرها وقامت برفعه الى محكمة المهدية وجاء فيه أنّ الذهب المحجوز بصفاقس"مدلّس في أغلبه ومتدني العيار". وأمام تضارب التقارير المنجزة من طرف الخبير الأول المنصف شراقة من جهة والخبراء الثلاثة المُعيّنين من المحكمة من جهة ثانية، قام قاضي التحقيق بالاستعانة بمصالح دار الطابع بسوسة التي أكدت في اختبارها أنّ الذهب المحجوز لديها "مدلّس الطابع ومتدني العيار في أغلبه". وهذا يلقي شبهة على نزاهة الخبراء الثلاثة، الذين يشتبه في تواطئهم مع كبار التجار والحرفيين المتورطين في القضية ومع ذلك لم يتم إيقافهم أو التحقيق معهم وفق ما ذهبت اليهم مصادر مقرّبة من الملف.
وباطّلاعنا على فحوى بعض المحاضر التي قام بتحريرها مكتب الضّمان بسوسة التابع للمركز الجهوي لمراقبة الأداءات بسوسة والمتعلقة بالذهب المحجوز، يتبين لنا حجم الغش الحاصل في الذهب وفق ما تبيّنه المحاضر التالية:
- في محضر الحجز عدد 143/02 بتاريخ 11 جويلية 2017 نجد أنه على مجموع 85 قطعة مصوغ محجوزة هناك 72 قطعة غير مطابقة للمعايير القانونية، إمّا لكونها ذات عيار متدنّي (مثلا: تحمل عيار 18 قيراط ، في حين أنها من عيار 9) أو لأنها غير حاملة للطوبع القانونية (طابع العرف وطابع العيار وطابع المطابقة الذي تضعه الدولة) أو هي حاملة "لأثر طابع المطابقة المقلد".
- في محضر الحجز عدد 144 بتاريخ 11 جويلية 2017، نجد أنه على مجموع 95 قطعة ذهبية محجوزة، هناك 85 قطعة غير مطابقة للمعايير القانونية.
تثبت المحاضر أيضا أن بعض القطع لا تحمل "طابع العرف" الذي يدلّ على اسم الحرفي الذي صنعها وهو أمر مهم جدا لمعرفة مصدر القطعة. وحسب المحاضر، فإنّ الطابع كان إما "غير واضح" أو "غير موجود" بحيث يصعب معرفة صانع القطعة. وفي حالات أخرى يكون صاحب الطابع قد توفي أو توقّف عن النشاط، في حين أنّ طابعه لا يزال مستعملا.
وحسب القانون المنظم لقطاع الذهب، فإنّ طابع العرف لا يباع ولا يشترى ولا يُؤجّر ولا يُورّث، غير أنّ المحاضر المحرّرة كشفت عكس ذلك :
- في محضر الحجز عدد 143 بتاريخ 10 جويلية 2017، نجد أنّ طابع الحرفي "جوزاف الزريبي" وهو حرفي مصوغ بصفاقس، موضوع على قطع من المصوغ حديثة الصّنع في حين أنّ الحرفي متوفّى.
- في المحضر عدد 143/2 بتاريخ 11 جويلية 2017 هناك قطع ذهبية تحمل طابع العرف بإسم "هشام القسنطيني" وهو حرفي مصوغ بصفاقس، في حين أن هذا الأخير توقف عن النشاط بتاريخ 31 ديسمبر 2006.
تفضح القضية الأخيرة وجود مجموعات قد ترتقي الى مستوى العصابات تشتغل في قطاع الذهب عبر تدليس الطوابع القانونية وإعادة تصنيع الذهب "المكسّر" (أي الذهب المستعمل) ثم إعادة توزيعه وبيعه للتجار سواء في محلات الصاغة أو في الأسواق الأسبوعية أو تهريبه خارج البلاد في اتجاه ليبيا وتركيا ودبي. ولكن قبل الحديث عن هذه العصابات، وجب تفسير طريقة تنظيم قطاع الذهب في تونس، لفهم كيفية حصول التجاوزات.
المسارات القانونية للذهب في تونس
يخضع قطاع الذهب في تونس الى إطار منظم لمراقبة الحصول على الذهب وتصنيعه. و يشغّل هذا القطاع حوالي 6000 حرفي و7000 محل صاغة. و للحصول على الذهب يجب اتّباع أحد المسارين: طرق أبواب البنك المركزي للحصول على الكمّية المسموح بها قانونا أو إعادة رسكلة الذهب "المكسّر" (المستعمل).
يمرّ المسار الأول عبر البنك المركزي حيث يتحصل كل حرفي حامل لطابع العرف على كمية محددة ب250 غ من الذهب في الشهر يقوم بعدها بتصنيعها وطبعها بطابعه طابع العرف، ثم طابع العيار وفيه رقم يحدد عيار كل قطعة. بعد ذلك يأخذ القطع المصنعة إلى دار الطابع وهي موجودة في ثلاث نقاط في الجمهورية، تونس وسوسة وصفاقس، ليتم وضع طابع ثالث وهو طابع المطابقة الذي تضعه الإدارة العامة للأداءات بعد استخلاص الضريبة ويصبح المصوغ جاهزا بعد ذلك للبيع.
في السابق، كان يجب أخذ الذهب قبل تصنيعه إلى ماكينة "الصبّ" التي تشرف عليها الدولة، والتي كانت مختومة من قبل مكاتب الضمان، تفتح من قبلهم وبحضورهم أثناء عملية صبّ المعادن بعد التثبت من مصدر الذهب والقوالب المعدة للتصنيع ثم يتم ختمها مجددا بعد انتهاء عملية الصبّ. ولكن بعد الثورة، تم تحرير هذه الماكينة فلم يعد استعمالها يستوجب مراقبة الدولة.
وفي ما يتعلّق بالمسار الثاني الذي يمكن سلكهُ للحصول على الذهب فهو يتمثّل في إعادة رسكلة الذهب "المكسّر" (المستعمل) أي الذي يبيعه المواطنون. الى حدود أكتوبر 2011، كان لا يمكن قانونا إعادة رسكلة الذهب المستعمل وإدماجه في الدورة الإقتصادية. ولكن تحت ضغوط المهنيين في قطاع المصوغ من حرفيين وتجار، صدر المرسوم عدد 107 المتعلق بإدماج المصنوعات من المعادن النفيسة غير الحاملة لأثر الطوابع القانونية في الدورة الإقتصادية، ليُشرّع استعمال الذهب "المكسّر"، خاصة وأن الكوتا التي يمنحها البنك المركزي قلّت نتيجة انخفاض احتياطي البنك من العملة الصعبة لتصل إلى 100غ للحرفي وأحيانا إلى 40غ.
تتم إعادة رسكلة "الذهب المستعمل" انطلاقا من مسار محدد. فالصائغي يقوم باقتناء القطع الذهبية من المواطنين سواء كانوا تونسيين أو أجانب زوّارا لتونس (ليبيون وجزائريون) ويُسجّل عمليات الشراء في دفتر خاص مؤشر عليه من دار الطابع (كرّاس)، ويسلّم المصوغ إلى الحرفي مع الكرّاس الذي يأخذه إلى دار الطابع، حيث يتم هناك وضع الذهب في صندوق مختوم بعد تعييره ووزنه. ثم يأخذ الحرفي بعد ذلك الصندوق المختوم إلى المخبر المركزي للتحاليل والتجارب الذي يقوم بعملية "الفرقان" أي تصفية "ذهب التكسير" من كل الشوائب (نحاس وفضة) ثم تحويله إلى سبائك ذهب خالص من عيار 24. بعد استرجاع الحرفي للذهب مرفقا بالكراس التابع للتاجر ودفع الأداءات والمصاريف اللازمة، يقوم يتصنيع الذهب وتحويله إلى مصوغ، ثم يأخذه من جديد إلى دار الطابع لتعيييره ووضع طابع المطابقة، ومن ثم يمكنه إعطاؤه للتاجر لبيعه.
تقنيات الغشّ في الذّهب ومسالكه
ما يحصل من عمليات الغش يتم إمّا على مستوى التخفيض في العيار بحيث يكون متدنيا عما هو مطبوع على القطعة الذهبية أو على مستوى تقليد طابع المطابقة. في الحالة الاولى، يتم التغيير في نسب الذهب والفضة والنحاس في القطعة الذهبية.
فحسب المنصف شراقة، أمين الصاغة في المهدية، يتكون كيلوغرام من الذهب من عيار 18 من 750 غ من الذهب الخام ويضاف إليه 250 غ من النحاس والفضة. عملية الغش في العيار تكون عبر التخفيض في نسبة الذهب في الكلغ من 750غ إلى 700غ أو 670غ ويتم تدارك النقص عبر الزيادة في نسبة المعادن الأخرى أو إضافة مواد أخرى كالسليكون والحديد. ورغم ذلك يوضع عليه عيار 18 في حين أنه في الحقيقة عيار 16 أو 14. ويتصرف الحرفي بعد ذلك في الكمية المسروقة، إما باستعمالها لصناعة قطعة أخرى أو ببيعها إلى حرفيين آخرين.
ويذكر شراقة مثالا لامرأة اشترت خلخالا يزن 300غ من الذهب لتكتشف فيما بعد أن القطعة مكوّنة في مجملها من النحاس والحديد. وهو ليس المثال الوحيد، ففي تقرير لأمين المصوغ بصفاقس، محمد الطريقي، تحصلنا على نسخة منه، كتب هذا الأخير أنه بتاريخ 24 أفريل 2015، تسلّم سوارا من الذهب من عيار 18 وبعد معاينته تبيّن له أنّ عياره الحقيقي هو 16.
الغش في الذهب يتم أيضا عبر تدليس طابع المطابقة وهو عبارة عن "علم تونس". فقد تواترت بعد الثورة عمليات تدليس الطابع وبيع الذهب المغشوش داخل وخارج تونس.
تقول الدكتورة سنية بن مراد، باحثة وخبيرة في مجال الذهب في هذا الصدد :
"ليس من الصعب تقليد هذا الطابع، فقد تم تقليده في تركيا ويمكن لأي كان شراؤه بمبلغ لا يتجاوز 10 دولارات".
بعض مهنيّي القطاع باحوا لـ"انكيفادا" بسرّ مفادها أنّ هذا الطابع يتم تقليده أيضا في "الجنان" في صفاقس أو في منازل خاصة على ملك بعض الحرفيين.
فيما يخص الذهب المكسر، فإنّ عملية الغش تتم من خلال امتناع التاجر عن تدوين كامل كمية الذهب "المستعمل" المتحصل عليه في الكراس الذي يثبت عمليات الشراء، وبالتالي، فإن عمليات المراقبة الرسمية لا تسلّط إلا على الكميات المدونة في الكرّاس. في المقابل، فإن الكميات غير المدوّنة يقايضُها التاجر مع الحرفي الذي يسلّمه مصوغا مصنوعا جاهزا و مختوما، طبعا دون المرور بدار الطابع. هذا الذهب الجاهز يتم تصنيعه في مصانع غير مرخص لها في صفاقس وتونس العاصمة.
هذا المصوغ المغشوش يتم فيما بعد توزيعه على محلات الصاغة في صفاقس والمهدية وتونس والقيروان وحتى في الاسواق الأسبوعية أين يعمد "الدلالة" الى بيع الذهب على قارعة الطريق.
في الصائفة الفارطة، أحيل إلى أنظار القضاء، ملف يخص عصابة في المهدية تتعاطى تجارة الذهب وتتولى تزويد السوق بمصوغ غير مطابق للمواصفات والعيار بعد أن قامت بتقليد طابع المطابقة. كانت هذه العصابة تعرض للبيع المصوغ المغشوش صبيحة كل جمعة قبالة "السقيفة الكحلة" في المهدية، مستعينة بباعة متجولين، وكذلك بالسوق الأسبوعية بمدينة السواسي (ولاية المهدية) كل يوم أحد.
وكان للمزوّد أشخاص يقومون بحمايته ويراقبون تحرّكات أعوان الأمن ليعلموه بأية عملية مداهمة للسوق قد تؤدي إلى حجز الذهب المغشوش. كما أنه، حسب عدد من المهنيين، كانت تربطه علاقات خاصّة ببعض الامنيين الذين ينبّهونه عند اقتراب الأمن فيقوم هو بدوره بتنبيه المتعاملين معه.
أسماء معروفة في جهة المهدية وسوسة وصفاقس لمزودين كبار مثل (ف.ع) وهو أصيل صفاقس و (م.و) و (ط.ع) وهو أصيل سوسة، تعودت على الاتصال بالتجار والصاغة وتزويدهم، عبر شبكة من المزودين الصغار، بالبضاعة المغشوشة بأسعار منخفضة، حيث يصل الفرق بين سعر الغرام من الذهب القانوني وسعر الغرام من الذهب المغشوش إلى 20 دينارا. ويقوم هؤلاء المزودون الكبار بالحصول على الذهب المغشوش عن طريق حرفيين يتعاملون معهم أو عبر كراء طوابع العرف من أصحابها الأصليين حتى يتسنى لهم طبع الذهب المصنوع بورشاتهم.
بالاضافة الى تزويد السوق المحلية، فانّ جزءا من الذهب المغشوش المتأتّي أساسا من الذهب "المكسّر" غير المصرّح به، يشقّ طريقه نحو التهريب خارج البلاد.
يوضح الناطق الرسمي باسم الديوانة، هيثم الزناد أنّ :
"الذهب المستعمل يقع تحويله إلى سباك ومن ثم إخراجه من الحدود التونسية نحو ليبيا ومنها إلى تركيا ودبي".
وحول مسالك التهريب، صرّح بأن "الذهب المهرب يأتي من بنزرت، تونس، الحمامات، نابل ويتجه نحو صفاقس ومنها إلى ولايات الجنوب وتحديدا مدنين ثم يخرج إلى ليبيا عبر معبري رأس جدير والذهيبة".
ويتم التهريب بطريقتين، حسب نفس المصدر، إما عن طريق مواطنين ليبيين، متواطئين مع الموزعين التونسيين، يستعملون سيارات النقل الجماعي للتمويه، أو عن طريق سيارات المهربين التونسيين الذين يشتغلون أصلا في تهريب البضائع بجميع أنواعها، وهم أساسا من أصيلي ولايات الجنوب التونسي حسب الزناد.
ويتم إخفاء المصوغ داخل السيارة : تحت المحرك أو قرب الأضواء أو تحت الكراسي أو قرب خزان البنزين، في مخابئ يتم تهيئتها وفق ما تؤكده العملية التي قامت بها فرقة الحرس الديواني بصفاقس يوم 17 ماي 2018 حين قامت بإحباط عملية تهريب لكمية ضخمة من سبائك الذهب، 66 كلغ من الذهب، قُدّرت قيمتها ب7 ملايين و100 ألف دينار، إلى جانب مبالغ هامة من العملة الأجنبية. وتمت العملية عبر إيقاف سيارة ليبية على الطريق السريعة صفاقس – قابس، وتحديدا بمنطقة الصخيرة، وكانت البضاعة مخبأة في مخبأ مهيئ أسفل السيارة.
تونس بلد عبور
يتم استغلال تونس، أيضا، بلدَ عبور لكميّات هامة من الذهب في اتجاه تركيا وبلدان آسيوية، وفق تقرير اللجنة التونسية للتحاليل المالية الصادر في أفريل 2017. هذه الكميات من الذّهب المهرّب يتم تصنيعها، ثم إعادتها إلى تونس ومن ثمّ توزيعها على دول الجوار مثل ليبيا والجزائر. وقدّرت قيمة الذهب الذي تم توريده خلسة من تركيا إلى تونس ما بين سنتيْ2012 و2014 بـ19 طنا و400 غ، حسب التقرير ذاته. في ذات الوقت، فإن كميات هامة من الذهب قادمة من بلدان الجوار يتم ترويجها في تونس على أساس أنها ذهب تونسي وفق تصريحات عدد من المهنيين.
من الملاحظ أن هناك نسقا تصاعديا في كميات الذهب المحجوز من قبل الديوانة، حيث ارتفعت من 60 كلغ سنة 2017 إلى 100 كلغ هذه السنة، ويفسّر الناطق الرسمي باسم الديوانة ذلك بـ:
"غياب المسلك القانوني لتداول الذهب المكسّر وإدخاله في الدورة الإقتصادية، ما خلق مسلكا موازيا يسمح بتذويب الذهب وتهريبه إلى الخارج".
هنا لا بد من التذكير بأنّ المرسوم عدد 107 لسنة 2011 المتعلق بإدماج المصنوعات من المعادن النفيسة غير الحاملة لأثر الطوابع القانونية في الدورة الإقتصادية، كان صالحا لسنة واحدة، وظل يتجدد كل عام عن طريق المصادقة عليه عبر مجلس النواب إلى حدود 2017، حيث لم تتم المصادقة عليه سنة 2018، في انتظار صدور قانون جديد ينظم قطاع الذهب لتعويض قانون 2005. ولكن مشاكل كبرى عطلت صدور هذا القانون، قد تكون قضية سامي الزُبيدي احداها. فالقانون جاهز منذ أكثر من سنة، حسب مصادرنا، ولكنه يراوح مكانه في رئاسة الحكومة، ولم يتم عرضه إلى الآن على مجلس نواب الشعب.
قانون جديد .. إلى أين سيسير بقطاع الذهب ؟
بعض المعلومات الأوّلية المؤكّدة التي تسنّى لنا الحصول عليها من مصادر متقاطعة أكّدت أنّ مسودّة القانون الجديد تتضمن أحكاما يتحرير قطاع الذهب كليا وإلغاء طابع المطابقة، وبالتالي سيتم بذلك إلغاء النظام الرقابي للدولة بحيث يصبح الذهب كسائر البضائع المتداولة في السوق. وسيسمح القانون الجديد كذلك باستيراد الذهب من الخارج وتصنيعه في تونس ثم إعادة تصديره.
ويوجد حاليا انقسام حول تمرير القانون وتحرير القطاع أو الإبقاء على المنظومة الحالية. قسم كبير من المهنيين من حرفيين وصاغة يساندون التحرير بل ويضغطون على الدولة في هذا الإتجاه من خلال تنظيم الوقفات الإحتجاجية والإضرابات، آخرها إضراب مفتوح تم تنظيمه في ديسمبر 2017 وتم خلاله غلق محلات الصاغة في العديد من مدن الجمهورية.
ويذهب حاتم بن يوسف، رئيس الغرفة الوطنية لتجار المصوغ الى أنّ:
"التحرير سيسمح بالحد من الغش في قطاع الذهب، من خلال وضع حد لعمليات تدليس طابع المطابقة، كما أنه سيمكن من استيراد الذهب من الخارج وتصنيعه في تونس، ما سيخلق مواطن شغل للحرفيين التونسيين".
لكن الدولة تبدو مترددة في التحرير أمام تفاقم المخالفات والغش والتهريب الذي يشهده القطاع وتخشى، في حال قامت برفع الرقابة، أن تتفاقم عمليات التهريب.
هذا الموقف صرّحت به، رسميا، كاهية مدير وحدة البرمجة والتنسيق والصلح الإداري بالإدارة العامة للأداءات، نجاة الجندوبي لوكالة تونس إفريقيا للأنباء، حيث أكدت "إكتساح الفساد والغش في العيارات والتقليد في الطوابع"، مبرزة معارضتها لتوجه مشروع القانون الجديد للتحرير الكلي للقطاع بـ"صفة ارتجالية" دون تقييم ودراسة معمقة لواقع القطاع ودون توفير الأرضية اللازمة والآليات البديلة لتقوية المراقبة حماية للقطاع ولمصالح الدولة. وفق قولها.
تصريح يبدو أنّه لم يعجب وزيرة المالية السابقة، لمياء الزريبي، التي قامت بسحب ملف قطاع الذهب من نجاة الجندوبي وإعطائه لزهير القاضي، المكلف بمأمورية وقتها في ديوان وزير المالية.
في الختام تجدر الاشارة الى أنّ الإنطلاق في إعداد مشروع القانون الجديد بدأ مع الوزيرة السابقة لمياء الزريبي وكان هناك سعي حثيث، من قبلها ومن جاء بعدها، إلى إقرار القانون عبر تمريره على مجلس النواب للمصادقة. ولكن، قضية الزُبيدي، التي لا تزال جارية، أوقفت هذا السعي، حسب مصادرنا. فلعل الأوامر أتت "بالتريث" في تمرير القانون!