الجزء الأول:
في تونس
سبتمبر 2016
بالرغم من وجود شارة تحذير تلوح في الأفق، فقد وصلت إيمان العبيدي، وهي شابة متظاهرة وإحدى الناجيات من سجون النظام، إلى فندق ريكسوس في مارس2011 عند بداية الثورة الليبية، لتدقّ المسمار الأخير في نعش نظام العقيد القذافي مندّدة باغتصابها على مرأى و مسمع العالم والصحافة الأجنبية التي كانت موجودة آنذاك. ولكنّها سرعان ما اختفت وسط الحشود التي وَصَمَتْها بالعاهرة وانتهى بها الأمر للهجرة إلى كندا.
بفضل فعلها الجنوني وحالة اليأس المستبدّة بها آنذاك، نجحت ايمان في لفت أنظار العالم نحو هذه القضيّة. و ما فتأت إشاعةُ جرائم اغتصاب الحرب التي أمر بها سيف الإسلام الابن الثاني لمعمر القذافي و قامت بارتكابها قوات الديكتاتور، أن انتشرت بسرعة هائلة. كما راج أيضا خبر الشاحنات المحملة بالفياغرا التي رست بميناء طرابلس. وهو ما جعل المجتمع الدولي يدق ناقوس الخطر ويدعو إلى إجراء تحقيقات بهذا الشأن. وفي أواخر أفريل 2011، وعد المدعي العام لدى المحكمة الجنائية الدولية، لويس مورينو أوكامبو، برفع دعوى قضائية. و النتيجة ؟ لا شيء أو عدد ضئيل من التتبعات الجنائية.
و تصدرت ليبيا العناوين الرئيسية في وسائل الإعلام، في الوقت الذي تعززت فيه الضربات الجوية لمنظمة حلف شمال الأطلسي وطرد الطاغية وإعلان التحول الديمقراطي الحتمي. ثمّ سرعان ضاع هذا البلد وسط حالة من اللّامبالاة مثله كمثل القارة السوداء المنسيّة والمتروكة، حيث انشغل المجتمع الدولي بالأخبار المفزعة القادمة من سوريا بكلّ ما فيها من حرب وأدفاق هجرة قسرية وأشاح بوجهه لفترة عن ليبيا.
أما اليوم، فقد أصبح البلد مخزنا للذخائر في ظل غياب الدولة، و في حضور حكومتين لا وزن لهما ناهيك عن الميليشيات التي تعد بالمئات تخطف و تنهب و تعذب ... و بالرغم من هذه الفظائع، لم يتمكن أحد حتى الآن من إثبات عمليات الاغتصاب التي تستعمل كسلاح حرب في ليبيا.
أكتوبر 2016
بقيت صورة ياسين لفترة طويلة تظهر كظل في الشاشة، فأنا لا أرى منه سوى خيال غير واضح على شبكة الأنترنت، فهو لا يتفوه بكلمة أو نادرا ما يتكلم. وفي أحد الأيام، وافق ياسين على القدوم إلى تونس، ولكنّ عبور الحدود ليس كافيا للتحرر من الخوف، فما إن وصل إلى المطار، حتى رام ياسين الهروب من الأسئلة التي كانت تطرح عليه وكان يريد أن يفسر لي بأن وجوده بتونس ما هو إلا تمثيل لضحايا الاغتصاب الآخرين الذين يريدون الحصول على مكان لتلقي العلاج بعيدا عن الأنظار. "الضحايا يلوذون بالصّمت خوفا من الوشاية وفقدان كل شيء: الأسرة والأصدقاء والعمل ... تطلبون منهم الوثوق في الطبيب؟ لا، هذا امر في غاية الخطورة …". هكذا تحدّث ياسين متلعثما، متلفّظا بخطاب تشوبه العصبيّة وعدم الارتياح.
وصلنا إلى شقة مجهولة تتكون من غرفتين في منطقة العوينة على مقربة من المطار. كان يتوجّب على ياسين تناول بعض المهدئات ما جعل حركاته بطيئة. يفتح ياسين حقيبته ببطء ثم يأخذ منها مصحف القرآن و جواز سفر ليبي وسجادة الصلاة. تبدو هذه الحقيبة الصغيرة المحملة صعبة الإفراغ. يتمدد ياسين على أريكة من الجلد المقلد الممزق مبادرا بالكلام: "يمكنك تقديم الملايين للضحايا للإدلاء بشهادتهم في المحكمة ... لكنهم سيقولون لك حرفيا: "هذا أمر مستحيل".. فنحن نفضل الاختباء". ينتقل ياسين من ضمير الغائب "هم" إلى ضمير المخاطب "أنا" و يتفحصني و الرعب يكسو وجهه.
كيف يمكن نسيان هذه النظرة؟ لقد كان يتوجّب حدوث ذلك. ياسين هو بالفعل أحد الضحايا.
لا يوجد أمر ذو أهمية عن حياة ياسين السابقة يمكن له أن يحدّثنا عنه، فقد عاش ياسين حياة بسيطة في أحد أحياء جنوب مصراتة. إذ بعد مضي شهر من الحصار القاسي وتحديدا بتاريخ 29 مارس 2011، بدأت أركان الجيش الموالية للقذافي بالهجوم على غرب المدينة، وقام الجنود بكسر أبواب المنازل واحدة تلو الأخرى و انتشرت شائعة الاغتصاب. و بحلول الظلام، حاول ياسين الهرب رفقة أحد الجيران مصحوبا بزوجته، عبر طريق جانبية. غير أنّ نحو ثلاثين مسلحا قاموا بمنعهم على الفور: "كان البعض منهم يرتديالزيّ الرسمي و البعض الآخر من المرتزقة القادمين من تاورغاء، أنا متأكد من ذلك،" يردف ياسين قائلا بإصرار.
كانت مصراتة مناهضة لتاورغاء حيث أشعلت المناورات الأولى المضادة للثورة الخصومات القبلية الليبية، إذ تقع مصراتة بالشريط الساحلي وهي مدينة غنية ومستقلة بذاتها. في حين تمثل تاورغاء الموجودة على بعد 50 كيلومترا إلى الجنوب، المدينة الأم لقبيلة تحمل نفس الاسم، ومن ثمة، قام القذافي خلال الحرب باستعمال المدينة كقاعدة خلفية واشترى لصالحه ولاء رجال القبيلة و جعلهم أتباعا له، لكن مصراتة لم تغفر لتاورغاء ذلك أبدا.
استأنف ياسين قصّته مضيفا:"كان الرجال مقيّدين ومقنّعين. تبوّلوا علينا كالكلاب". ياسين أقتيدَ بعد ذلك الى منزل تمّ تحويله الى سجن في مدينة تاورغاء.
"داخل غرفة مخصّصة للتعذيب كنا نسمع صرخات الآخرين ... كانوا يستهدفون الأماكن الحساسة ... ".
أصبح صوته منكسرا وهو يواصل قائلا: "لقد فهمت ما كانوا يفعلون …". ثمّ نزلت دمعة على خده ليردف قائلا: "أقسى ما في الأمر هو أن تبقى على قيد الحياة دون أن تكون قادرا على نسيان ما حدث. هم كانوا يعرفون ذلك". تجمّد ياسين في مكانه. ناديته بلطف، لكنه كان يبكي دون أن تصدر عنه أي حركة أو صوت، لقد غاب تماما عن الوجود. وبعد فترة، نهض ياسين من مكانه واستلقى على سريره ونام مباشرة.
وبعد مرور يومين، اتصل بي ياسين قائلا: "تخيل أن يقولوا لك، سنقتل أخاك، أو سنغتصب أخاك. ما الأخطر بينهما؟ ثمّ يجيبونك لاحقا: اغتصبنا أخاك". مشيت جنبا إلى جنب مع ياسين وهو يجوب شوارع تونس. كان يروي تنقله المتواصل من حي لآخر في مصراتة، ثم من مدينة إلى أخرى. كان يروي كوابيسه و أرقه و معاناته من عدم القدرة على إنجاب طفل آخر. و أكثر من ذلك، خوفه المستمر الذي يعذبه.
"حتى هنا، لدي انطباع بأنهم ينظرون إلى هذا الرجل المنكوب الذي أصبحت أحويه بداخلي".
كان ياسين غير قادر على اتباع مسار مستقيم، فهو يحتاج الى طبيب، واقترحت أن أرافقه، لكنه توقف قليلا وهو يخمّن: سيكون مطالبا بالكشف عن عورته أمام رجل؟ في اليوم التالي، اختفى ياسين.
في السابق، كان ياسين قد أعطاني رقم فاطمة وهي زوجة جاره، فمنذ تلك الليلة من ليالي مارس 2011، لم يتحدث أحد عن تلك الحادثة مرة أخرى. كانت فاطمة دائما ما تتهرب، لكنها فيما بعد، ضربت لي موعدا في سيدي بوسعيد، على شاطئ البحر. فاطمة امرأة شابة ذات قوام رشيق ونظرة منطفئة. أشعلت سيجارة رقيقة و تنهدت قائلة: "هذه هي الحرب، كنت لا أعرف عنها شيئا".
لزمت فاطمة الصمت لبرهة قصيرة، ثم شرعت في الحديث: "تعرضت جارتي للاغتصاب في اليوم السابق. وفي اليوم التالي، هربنا في وقت متأخر جدا من الليل...". كانت يداها ترتجفان خلال حديثها، وكانت تلوح علامات الارتباك على محيّاها. اعتقلت فاطمة هي و زوجها من قبل عشرة رجال تعتقد أنهم من تاورغاء. وقد قاموا بفصلها عن زوجها وهما معصوبا الأعين. ومنذ ذلك الحين لم تر فاطمة زوجها إلى حد الآن. لقد "اغتصبوني وألقوا بي على حافة الطريق و لم أعلم بوفاة زوجي إلا في ماي 2011". بعد تلك الحادثة فرّت فاطمة من ليبيا، ولجأت إلى بلدة صغيرة على الحدود التونسية.
بعد مرور ست سنوات من تاريخ الحادثة، بالكاد أصبحت فاطمة تمشي. فهي تعيش في عزلة عن الناس وتدخّن طوال اليوم. لا وجود لأيّة مساعدات و لا وجود لمراكز للضحايا الليبيين في تونس. فقط عدد قليل ممّن يملكون المال كانوا يتوجّهون في كنف السريّة الى العيادات الخاصة طلبا للعلاج.
نوفمبر 2016
كان الجو مظلما تلك الليلة في تونس. وكان الطقس ثقيلا ينبئ باقتراب وصول عاصفة. كان عبد الرحمان ذو الشعر واللحية القصيرة و النائب العام السابق بشرق ليبيا، يحدثني لساعات عن سبب عزوفه عن الحديث عن قصة الاغتصاب هذه. فأثناء الثورة، ارتكبت العديد من جرائم الاغتصاب و بعد ذلك أراد المنتصرون الانتقام.
"إنها حلقة مفرغة، عوْدٌ على بدء. عنف لا نهاية له".
انضم عبد الرحمان في تونس إلى مجموعة من المغتربين الذين يحاولون جمع الأدلة المتصلة بهذه الجرائم التي لم يدونها التاريخ بعد، ومن بينها جرائم الاغتصاب. يُفتح باب المكتب و يدخل محمود ذو الكتفين العريضين والوزن الخفيف، تعلو محياه ابتسامة لطيفة. محمود هو ليبي الجنسية من قبيلة تاورغاء وهو ناشط على أرض المعركة. "رجل من الجهة الشرقية وآخر من تاورغاء صديقان كما ترى, ألا تعتقد أنه لا يزال هناك أمل في ليبيا".
يبتسم محمود ثم يجلس ويأخذ حاسوبه ويشغّل فيديو يظهر فيه رجل أسود البشرة مقيّد تبدو عليه علامات الذعر. ثم نسمع صوتا يصرخ: "أيها التاورغي الكلب القذر!"، هذه المرة، محمود يعطينا تاريخ الحادثة: "أكتوبر 2011، لقد اغتصبوه بفوهة سلاح. تمكنت من العثور عليه، ولكن عندما أردت تسجيل حادثة اغتصابه في الملف، خاطبني قائلا: بإمكانك كتابة كل شيء ما عدا تلك الحادثة". في فالفيديو الثاني، نرى شابين تاورغيين، يداهما فوق رأسيهما. لقد "اغتصبوا شقيقين، توفي الأخ الأكبر وانتحر الثاني". تحمّس عبد الرحمان وسحب سيجارته بغضب: "المشكلة يا محمود أنهم سيقولون لك دائما تستاهل، تبا لك! لقد اغتُصبت، و هذا ما تستحق. تستاهل! ... سيستغرق الأمر خمسين سنة حتى نتخلص من هذه المشكلة ... ".
كان الاغتصاب وصمة عار تكبل الضحايا، فالبوح بهذا السر هو انتقاص من شرف العائلة والمجتمع على مدى أجيال. و ماذا بعد؟ ماذا ستجني عندما ستتحدث عن هذا الأمر، و إلى أين المفر و الحال أن النظام القضائي الليبي مفتت؟
منذ ثلاث سنوات تقريبا، تمكن محمود و عبد الرحمان من جمع أدلة الانتهاكات المرتكبة في ليبيا منذ نهاية الثورة ومن بينها عمليات الاختطاف والابتزاز والاختفاء والتعذيب والعنف الجنسي بطبيعة الحال ... ثلاث سنوات من الوحدة دون أي دعم خارجي. ويسير الصديقان في الشوارع الفارغة في تونس و يبدأ المطر بالنزول ثم يفترق الصديقان في صمت.
يستقل محمود سيارة أجرة وهو يغني أغنية ليبية، كما هو الحال دائما عندما يكون قلقا.
"تحصد القنابل الناس دون أن يعوا بها، لكنّ الاغتصاب سلاح لا يمكن رؤيته، فعلى الضحايا التكلم عن تلك الحوادث حتى يتم الكشف عن السلاح الذي استعمل لتلك الغاية و إماطة اللثام عن كل من نظّم و خطّط لهذا الأمر. أولئك الذين يطرحون مثل هاته الأسئلة ليسوا سوى قلة قليلة".
وفي أوائل 2014، قتلت ميليشيات مجهولة الهوية حوالي مائة قاض وناشط إلا أن عبد الرحمان و محمود نجوا و فروا من البلاد في شهر ماي. وبعد مرور ثلاث سنوات، لم يبق من المجموعة الناشطة الهشة سوى حفنة من رجال الظل من بينهم قضاة و محامون و مدعون عامون أو النشطاء المهجّرون الموجودون داخل البلاد. ينتقل عبد الرحمان من مكان لآخر خوفا من ان يتم رصده وخطفه ثم معاقبته لأنه تكلم. "أتعتقد أنه من السهل على رجل عربي أن يتكلم عن الاغتصاب". يتردد عبد الرحمان في الكلام ثم يخفض صوته، ويشعل سيجارة و يواصل: "نحن مقتنعون بأن التعذيب والاغتصاب لا يزالان يستخدمان كأسلحة حرب في ليبيا. ولكن ليس لدينا ما يكفي من الأدلة لإثبات جرائم 2011! نحن لا نعرف بعد مدى انتشار هذه الجرائم".
يواصل عبد الرحمان الحديث متكئا على الشرفة المطلّة على أرض مهجورة :"لا يمكنك أن تتخيل الجحيم الذي نعيش فيه في ليبيا فالميليشيات في كل مكان. وهي تسيطر على كل شيء"... ثم تبحث عيناه بعيدا عن أفق الطريق. ثمّ يردف: "هل ترى تلك الطريق؟ داخل ليبيا تمثل هذه الطريق خط ترسيم الحدود بين منطقتين تسيطر عليهما الميليشيات، إذ توجد نقاط تفتيش كل خمسمائة متر وتوجد السجون في كل مكان، في كل مكان! هناك، يتحوّل كل شيء إلى سجن، سواء كان شقة أو قبوا ...أو حتى بيت استحمام بسيط!" يتشارك محمود الشقة المكوّنة من ثلاث غرف مع مهجّرين آخرين. نشاطه أصبح واجبا لا مفرّ منه ولا مجال للتراجع. الثلاجة فارغة والسرير على حاله، و على الأرض حقيبة مفتوحة مع بعض القمصان و مشط و فرشاة … وآثار معيشة متناثرة تشي بحياة مؤقتة.
"في تونس، يشعر الضحايا بحرية أكبر في الحديث ولكن عندما تحاول تسجيل عمليات الاغتصاب في ملفهم، فإنهم يختفون على الفور".
ومن أجل ضمان صمت الضحايا والتستر على جرائمهم، يصور الجناة عملية الاغتصاب. يُظهر محمود كومة من الوثائق منها السجلات الطبية والشهادات التي تثبت عمليات الاختطاف والتعذيب في كل وقت و في أي مكان ... "قابلت حوالي 300 إلى350 ضحية و لكن لا أحد أفادني بشهادة كاملة، إنه لأمر يقود إلى الجنون! يمكن كتابة كل شيء ما عدا ذلك الأمر!"
ديسمبر 2016
كان سمير يتجول في تونس بلا مأوى، ثم يذهب لاحتساء القهوة، يتحدث قليلا ثم يختفى على الفور، و بما أنه كان جنديا بسيطا في جيش القذافي فقد عمل بسجن مصراتة: وهو ما "جعلني أشعر بالجنون ...لقد رأيت أشياء...".
"يدخل السجانون الأب و يغتصبون ابنته وزوجته قائلين: هل تريد الثورة؟ هاهي الثورة، خذها".
من هم المغتصبون؟ يهز سمير رأسه و يقول "لن أذكر لك الكتيبة، ولكن دائما ما يطيع الجندي التسلسل الهرمي، هل فهمت ذلك؟". أصبحت "المنازل المقتحمة"، كناية عن جرائم الاغتصاب المرتكبة خلال الثورة بناء على الأوامر.
يواصل سمير قائلا: "بعد انتهاء الحرب، تعرضنا لأمور أفضع بكثير من قبل الثوار". فقد تم اختطافه مرتين واحتجز لمدة ثمانية أشهر و عذب من قبل سجانيه داخل السجن. "و كانوا يقولون: أنتم، أتباع القذافي الذين قمتم بعمليات الاغتصاب؟ حسنا حان دورنا." يشعل سمير سيجارته.
"فات الأوان بالنسبة الى ليبيا ... هل تفهم؟ إن كنت تغتصب و تكسر كل شيء فلا يمكنك إعادة بناء بلد أو دولة".
الاغتصاب هو أحد مفاتيح هدم بلد ما. "وهو شيء" فظيع يعيق المصالحة.
جانفي 2017
في جانفي 2017، يملك عمر وسالم مئات الاثباتات ولكن لا يوجد سجل واحد مقبول قانونيا فالقضية طريقها مسدود. في تونس، يلتقي محمود و عبد الرحمان بالشخص الوحيد الذي كانت له صلة بالتحقيق وهي سيلين بارديت الذي قرر وزير العدل صلاح المرغني استدعائها سنة 2013 بوصفها خبيرة، عندما قرر كتابة قانون يحمي ضحايا الاغتصاب.
اشتهرت سيلين بارديت بصراحتها ومثابرتها. فقد أنشأت وحدة لجرائم الحرب في برتشكو بالبوسنة وأرسلت العشرات من المجرمين إلى السجن، منهم من كان متهما بالاغتصاب خلال الحرب، و كان الوزير يعرف ذلك، لكنه كان يقلل من شأن العنف الفوضوي مردّدا: لن يتم تنفيذ القانون أبدا. ومنذ ذلك الحين، قامت سيلين بتأسيس منظمتها غير الحكومية المسمّاة "نحن لسنا أسلحة حرب"، غايتها من ذلك محاربة العنف الجنسي خلال الحروب.
وافق النشطاء المقيمون بتونس، في نهاية المطاف، على تقديم ملفاتهم إلى سيلين. دخلت سيلين المقهى وجلست ثم شرعت في تدوين الملاحظات.
" لطالما وُجد الاغتصاب في الحرب". تشرح سيلين بارديت.
"مكافأة الفائزين، غنيمة المحارب ... تعود هذه الأفعال الى وقائع اختطاف السابين. ولكن كانت هناك نقطة تحوّل في التسعينات من القرن الماضي لم يلاحظها أحد. لقد فهمنا في الحال، نحن المحققون الجنائيون الدوليون، أن الاغتصاب أثناء الحرب أصبح سلاحا من أسلحة الحرب فهو سهل الانتشار و لا يخلف جثثا ويفضي إلى تدمير أمة لعدة أجيال. انها الجريمة المثالية".
بعد بضعة أيام، اجتمع كلّ من سيلين و عبد الرحمان ومحمود في مكتب تمّت استعارته من صديقة لهم، ثم تطرّقت سيلين مباشرة إلى الهدف قائلة: "يجب على كل منكما تحديد المكان ولحظة وقوع الأحداث في الملف، ثم جمع القرائن وتحديد السياق القانوني للجريمة. إذا لم تقوما بذلك، سيتم تدميركما أمام المحكمة". وتشير سيلين إلى قضية جان كلود بيمبا، نائب رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية، المجرم الوحيد المدان بارتكاب جرائم اغتصاب من قبل المحكمة الجنائية الدولية "بتهمة إصدار الأمر، دون المشاركة فيه". يقول عبد الرحمان متعجّبا "تقريبا الأمر يشبه ما لدينا من حالات". فتردّ سيلين حاثّة ايّاهم "علينا أن نحصل على شهادات كاملة إن أمكن لنا ذلك. إنه أمر طارئ". تغادر سيلين بارديت تونس، ولكنّ الأمل لا يزال يلوح في الأفق.
فيفري 2017
جاء شهر فيفري محملا بالأمطار الغزيرة، فقد فاضت مجاري الصرف الصحي في تونس العاصمة وغسلت الشوارع بتيارات من الأوحال. كان محمود قلقا فالضحية التي كان يرصدها لأسابيع غادرت ليبيا وهو أحد سكان مدينة زليتن، وهي بلدة قديمة تابعة للقذافي.
يرن الجرس و يحتضن محمود شخصا لم يعرف عنه إلى حد الآن سوى صوته، كان ذلك الشخص هو أحمد. كان نحيفا ووجهه هزيل و قد خرج للتو من سجن تومينا الرهيب حيث اختطف سنة 2012. عاد أحمد وهو يريد التحدث عن الرعب الذي هرب منه. "هناك، يعزلونك لإخضاعك ... 'اخضاع الرجال' هذا هو الوصف الذي يصفون به فعلهم من أجل أن يسحقوك حتى لا تقدر على رفع رأسك أبدا". يستمع محمود إلى تصريحات أحمد بانتباه تام.
"كل يوم، يأخذون مكنسة ويثبتّونها على الحائط. وإذا أردت الأكل فما عليك إلا أن تخلع سروالك وتتراجع على عصا ... ولا يمكن تنحيتها إلا بعد أن يرى السجان نزول الدم ... لا مفر من ذلك. تخيّل مدى الشعور المدمّر الذي نحياه ..."
يسأل محمود بنبرة حزينة: "متى كان ذلك؟" فتاتيه الاجابة :"من 2012 إلى 2016 ... وكان رئيس السجن يدعى عيسى عيسى، من عائلة شكلاوون. كان يعطر نفسه بزيت الورد. وكنت عندما أشمّ هذه الرائحة، أعرف أنني سأتعرّض للاغتصاب مجدّدا". يقول أحمد: "عندما توفي، تولى شقيقه طارق المهمة. وكان أكثر عنفا".
سجل محمود الأسماء والتواريخ، ثم سأل أحمد: "أكانت ثمة نساء هناك؟." يتحرك أحمد و يغيّر وضعية جلوسه بصعوبة فقد كان يعاني من ألم. "لا، لا توجد نساء، كنا 450 رجلا، أنا متأكد من هذا الرقم لأنني في السجن، كنت أعمل بالمطبخ كل يوم و أعُدّ السكاكين و الملاعق والشوكات التي أغسلها".
يواصل أحمد رحلته الطويلة من التعذيب، كلّ قصّة كانت سادية وأكثر فظاعة من سابقتها. فجأة يتوقف عن الحديث لبرهة من الزمن. "كان هناك رجل أسود، وهو مهاجر. وفي المساء، ألقوا به في إحدى زنزاناتنا".
"قالوا له عليك باغتصاب هذا الرجل وإلا ستموت. وإذا رفض ذلك سيقتلوه".
يخيّم صمت هائل على قاعة الجلوس، ويسحب محمود نفسا ثم يفحص الأوراق التي قدّمها أحمد، من بينها تحاليل الدم و صورة لأشعة سينية صدرية ... ويسأل محمود أحمد قائلا" "ولكن، ألم يتم مطلقا اخضاعك للفحص الشرجي الخاص بالاغتصاب؟"،. يطأطئ أحمد رأسه، فلا يزال الأمر مبكرا بالنسبة اليه للإفصاح عن "عاره" مهما كانت معاناته. لكن ما كشفه أحمد من انتهاكات يعتبر أمرا مذهلا للغاية: فقد أنجبت ليبيا المعاصرة وحشا. انّه نظام أصبح فيه اغتصاب الرجال سلاح حرب، اما المهاجرون فما هم إلا الأدوات المادية للانتقام.
مارس 2017
أمام عيادته، كان حسني الأحمر في الانتظار وهو طبيب طوارئ تونسي الجنسية، إذ قام بفحص العديد من الرجال الليبيين، لذلك قصده محمود لإجراء الفحوصات اللازمة على أحمد، وهاهو يجلس اخيرا أمام الطبيب منحنيا ليفحصه.
"أخشى أن أكون قد أصبتُ بأمراض فظيعة".
ينظر إليه الطبيب و يسأله" "هل مارسوا عليك العنف؟". "نعم." ثم يسأله الطبيب بلطف مجددا: "هل أستطيع أن أفحصك؟" يخلع أحمد ملابسه، يلتفت ثم يسلّم نفسه للفحص، دون أن ينبس بكلمة. بعد حوالي أربعين دقيقة، كتب الدكتور الأحمر: "رجل، 45 سنة تعرض لعمليات اغتصاب متعددة، بواسطة أدوات. سلاسة في التبوّل والافرازات بالإضافة إلى الأمراض المنقولة جنسيا و شقوق على مستوى الشرج". يمسك الوصفة الطبية ويعطيها إلى أحمد: "كن أقوى ممن قام بتعذيبك، لا تدع أي شيء يكسرك يا أحمد. و الأهم من كل شيء، لا تخجل، هذا هو مفتاح الشفاء ...".
أفريل 2017
في الأسابيع التي تلت زيارة الطبيب، ضاعف محمود المواعيد واللقاءات و عادت سيلين منبهرة. وأخيرا وجدنا شاهدا رئيسيا قادرا على تأكيد أسماء الجناة والمشاركين. تقول سيلين متفائلة: "... انتهاكات ممنهجة في مكان معين و في أوقات مختلفة. هذه المرّة وضعيّتنا قويّة".
يصمت محمود برهة ثم يقول: " لدي شاهد آخر وصف لنا نفس تقنيات التعذيب التي عدّدها أحمد، لكنّه يأتي من سجن آخر". تجمّدت سيلين في مكانها. ويضيف محمود قائلا: "تعذيب القارورة مع الغطاء التي يضطر السجناء إلى الجلوس عليها، قبل أن يزيلها الجلاد بضربة قاسية و تلك العجلة أيضا التي يجب على السجناء العراة الانزلاق عليها و هم منحنون لتلقي دورات التعذيب باستخدام قاذفة صواريخ من مختلف الأحجام. ثم بطبيعة الحال، دون أن ننسى العصا الثابتة في الجدار التي تمثل السبيل الوحيد للحصول على الغذاء.
تقول سيلين في تنهد وهي تستقل سيارة أجرة للعودة من حيث أتت:
"لم أر ذلك قط ".
حقائق دقيقة وحالات متطابقة وتقرير طبي رسمي ورجل عازم على بلوغ نهاية الطريق يوافق أخيرا على تسجيل شهادته في الملف. بالنسبة إلى سيلين بارديت، فلديها الآن دليل على وجود نظام ممنهج. فوُصول أحمد هزّ التحقيق في تونس، ولم يعد هنالك من خيار سوى لا يوجد الذهاب إلى ليبيا.
الجزء الثاني:
في ليبيا
أفريل 2017
تمثل ليبيا تجسيدا حديثا لمفهوم قانون الصمت (أومرتا). فقد انقضت ستّ سنوات من الصمت المطبق كادت أن تدفن خلالها جريمة حرب لم يسبق لها مثيل من حيث الحجم والعنف. "إذا تم ايقافي من قبل إحدى الميليشيات، فإنّ أوّل ما سأجبر عليه هو اخضاعي للاغتصاب حتى ألزم الصمت إلى الأبد وأترك القضية".
في أوائل شهر أفريل، كان عمر يستعد للعودة إلى ليبيا لجمع أدلة جديدة. ولكنّ الحال في الداخل ينذر بخطر المليشيات التي ترصد و المسلحين المختبئين بكل الزوايا والضّحايا الصامتة. "إنه لصمت لعين ... كيف وصلنا إلى ذلك؟" و في الجانب الآخر من تونس، يتساءل رجل لا ينتمي إلى المجموعة نفس السؤال. كان اسمه المستعار في الحرب ريو، أما اسمه الحقيقي فهو ربيع دهان، وهو أحد المحاربين القدامى في الثورة، و قرر هذا الأخير، منذ جانفي 2011، الانضام رفقة إخوته الأربعة إلى الكتيبة الشهيرة في طرابلس.
نفى ريو نفسه في تونس بسبب اشمئزازه من العنف وأصبح من مطلقي صيحات الفزع. ومنذ ذلك الحين، أصبح يصنع أفلام الرسوم المتحركة التي تدور أحداثها حول الأعمال التخريبية وينشرها على الشبكات الاجتماعية ... سيتمثل الفيلم المقبل في استعمال الاغتصاب سلاحا في الحرب. "في أحسن الأحوال، يفضّل جميعنا القول انّ الاغتصاب لا يعدو أن يكون مجرّد أسطورة. في أسوأ الأحوال نفضّل الاعتراف بأنّه من الأعراض الجانبية للعنف خلال الحرب ... الحديث عن الاغتصاب في بلادنا يمثل وصمة عار. ومع ذلك، يجب علينا الخروج من الصّمت."
كان مصدر العنف الليبي بالنسبة إلى ريو متأصلا في نظام الاغتصاب الذي مارسه الدكتاتور السابق معمر القذافي. "لقد خلق القذافي ثقافة الاغتصاب من أجل ترويع الناس وتفعيل الأوميرتا. كان على وعي تام بما يفعل. إصدار الأمر بالاغتصاب يؤدي حتما إلى الانتقام ويخلق دورة لا تنتهي من الثأر خاصّة أنّ هذه الجرائم تمّ ارتكابها في كل مكان وفي جميع أنحاء ليبيا، حتى من قبل الثوار. كان لدينا قذافي واحد...أما الآن فلدينا الآلاف!".
يواصل ريو قوله: ""يكون اغتصاب النساء أثناء الصراع أمرا فظيعا ولكنه متوقع. ولكن عند استهداف الرجال، بشكل ممنهج ... فليس لهذا علاقة بالإثارة الجنسية. لا يعتبر الرجل المغتصب رجلا بل خاضعا. كان لهذا النظام هدف محدد: انتهاك جميع الموازين السياسية وكل ممارسات السلطة ".
"إن هذه الجريمة بصدد تدمير البلاد، فكيف نعيد بناء ليبيا إذا واصلنا تجاهل عمليات الاغتصاب وكيف يمكن كسر جدار هذا الصمت؟"
في 24 أفريل 2017 تقرر فاتو بنسودة، النائب العام للمحكمة الجنائية الدولية والمعروفة بالتزامها ضد العنف الجنسي خلال الصراعات، طرحَ الموضوع علنا كاستجابة لنداء الاستغاثة هذا. وفي سنة 2013، وجهت المحكمة الجنائية الدولية الاتهام إلى وليد توالي، المدير السابق للأمن الداخلي في نظام القذافي: أثناء ثورة 2011، كان أول شرطي ليبي يأمر بشن غارات في المدن الليبية الكبرى على غرار بنغازي ومصراتة وسرت وطرابلس وتاجوراء وتاورغاء.
بعد ثلاث سنوات، رفعت فاتو بنسودة الستار عن التهم الموجهة للرئيس السابق للشرطة السرية التابعة للقذافي، ومحاكمته على الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية وجرائم الحرب. من جهته، لوليد اتهامات بالوقوف وراء أعمال التعذيب والاغتصاب.
بدأ الوقت يضغط، ولم يتبقّ الآن سوى العثور على أدلّة حول انتشار الاغتصاب كسلاح حرب في جميع أنحاء ليبيا واستخدامه من قبل جميع الميليشيات أيا كان انتماؤها القبلي أو السياسي أو الديني. لم يتبقّ من خيار آخر للتقدّم في التحقيق سوى الذهاب إلى ليبيا.
ماي 2017
تعتبر طرابلس مدينة خطرة، فتارة حربٌ، و تارة أخرى هدوء خادع. وافق محمود على أن أرافقه إلى مطار معيتيقة بطرابلس المحاصر بعشرات الميليشيات تملي كل واحدة منها قانونها الخاص. هذا المطار كان قد أغلق أبوابه عدة مرات منذ بداية السنة ثم استعاد نشاطه في أواخر شهر مارس. كان محمود بانتظاري في الخارج رفقة مهدي، طبيب عظام سابق وهو ناشط حاليا في مجال حقوق الإنسان.
تسير السيارة بأقصى سرعة على طريق الشاطئ، أي الواجهة البحرية التي تربط شرق المدينة بغربها. توجد أشجار النخيل المصطفة وملاعب صغيرة ومطاعم مفتوحة. تهتم طرابلس بمظهر المدينة الطبيعي. ولكن، في الممرات الجانبية، اصطفت عربات همفي ومقاذف مضادة للطائرات. وقد كانت على استعداد للتراجع في شكل دائري لخلق دروع. كان محمود صامتا، في حين كان مهدي، بعينين لا تبارحان المرآة العاكسة، يتجه جنوبا عبر الطرق الجانبية لتجنب نقاط التفتيش.
كانت الخطوة الأولى في مكتب أقرضه إياه أحد الأصدقاء حيث وجدنا منى* في الانتظار وهي ناشطة من منطقة زوارة. إنها المرة الأولى التي ترى فيها وجه محمود الحقيقي. يتجه محمود مباشرة نحو جوهر الموضوع طارحا سؤاله "هل فكرت في حماية وثائقك الخاصة؟". "نعم، لقد أرسلتها كلها إلى مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في شمال أفريقيا ... لكنني لم أحصل بعد على جواب"، تجيب منى بنبرة يأس.
شجعها محمود وسألها عن عدد الحالات التي وثقتها: عشرات، وربما مائة حالة. تروي منى لمحمود حالة جندي سابق موال للقذافي اختطف وألقي به في السجن واغتصب مرارا وتكرارا. يسألها محمود: "أكان ذلك بعصا ثابتة في الجدار؟" تجيب منى على ذلك وهي تؤكد جازمة.
ختمت منى قائلة: "لقد توسلتني العائلة لأتوقف عن كل هذا بسبب تلقّيها لتهديدات بالقتل".
أكدت منى لمحمود الاغتصاب الممنهج للرجال في السجون السرية التي تسيطر عليها الميليشيات ثم أضافت قائلة: "حتى وان كان عددهن قليل، فإن النساء لا تزلن ضحايا لعمليات اغتصاب عشوائية. في الآونة الأخيرة، درست حالة فتاة في الخامسة عشر من العمر اختطفت من قبل ميليشيات وهي في طريقها إلى المدرسة. وبما أن الأب لم يدفع الفدية، اختطفوا شقيقيها الصغيرين لكن لم تردنا أية أخبار حتى الآن."
دوّن محمود لقب العائلة والتواريخ. "لديّ أيضا عدة حالات من الأمهات اللّاتي اختطفن واغتصبن في وضح النهار، ثم أطلق سراحهن. أسوأ شيء هو أننا غالبا ما نعرف المغتصب وأن الضحية مجبرة على ملاقاته كل يوم". في آخر مرة حاولت منى مغادرة البلاد لإظهار هذه الأدلة، فقام ثلاثة رجال بمنعها في أحد الأزقة ووضعوا سكينا على رقبتها: "أيتها العاهرة، أتوسخين بلدك بهذه الخدع!" مزّق أحدهم جواز سفرها. محمود تدخّل مطمئنا ايّاها:
"سيستغرق هذا وقتا طويلا، ولكننا سنساعدك. آخذ الوثائق معي خارج البلاد ونواصل العمل".
كانت الخطوة الثانية جنوبَ المدينة على بعد بضعة كيلومترات من السجن الأمني الرهيب في أبو سليم، حيث يقتل القذافي خصومه. دفع محمود أحد الأسيجة واتجه نحو أحد المباني. فتح الباب فرحّبت به ثلاث نساء ورجلين. تحاول هذه المجموعة الصغيرة الاحتفاظ حصرا بعمليات الاختطاف والاحتجاز والاختفاء. يفتح أحدهم، واسمه محجوب، خزانة الملابس حيث يوجد 650 مجلدا مرتّبة حسب الترتيب الأبجدي. يجلس محمود ويشرع بتصفح وثيقة موجزة أعطاها اياه محجوب. الوقت يداهمه.
"هل هذه هي قائمة المفقودين؟". "نعم -يقول محجوب- نصنّفهم حسب الأنماط. أولئك الذين اختطفوا والذين اختفوا في السجن، الخ". ابتسم محمود. "هذا عمل عظيم، ولكن انظر في ملف المعتقل السابق في سجن تومينا فهو بالتأكيد قد تعرض للاغتصاب هناك. ولكن، لا يوجد شيء حول ذلك في الملف؟". يدافع محجوب عن عمله: "بالنسبة إلى السجناء السابقين، كان تسجيلهم يمثّل الأولوية المطلقة... فالأمر يستغرق وقتا". يتدخل مهدي: "لا يمكنك تذكر كل شيء عندما تتعامل مع 650 ملفا. إذا شعرت بأنّ الرجل تعرض للاغتصاب، أنصحك بإضافة رمز أسفل الصفحة ... على سبيل المثال "صناعي" و نقصد بها هنا الاغتصاب، وبهذه الطريقة، تفهم أن عليك التنقيب في هذا الجانب عند رؤية الشخص...". يهز محجوب رأسه موافقا. "أنت على حقّ ... فقد سبق لي أن رأيت علي، الرجل الذي سلطوا عليه شتى أنواع التعذيب في تومينا. لقد هزّني هذا الأمر وقلب حياتي رأسا على عقب. ما فعلوه به لا يمكن أن تتمناه حتى لألدّ أعدائك".
في نهاية هذا اليوم الأول، جمع محمود العديد من العناصر التي تستوجب إعادة التنظيم منها التواريخ والأماكن وأسماء محددة.
تشمل أغلب القضايا الجديدة التاورغيين وهم قبيلة ليبية ينتمي اليها محمود. كان القذافي يستخدم التاورغيين أتباعا له. وخلال حصار المدن المتمردة الكبيرة، وخاصة في مصراتة، دعم التاورغييون القوات الموالية للحكم وهم بالتالي متهمون أيضا بعمليات الاغتصاب ولكن الحقائق لم تثبت ذلك قطّ. بعد الثورة، ألقى انتقام المصراتيين بظلاله على المدينة فتم تدمير تاورغة بالكامل و تشريد 35000 تاورغيا في مخيمات بجميع أنحاء البلاد. وبعد مرور ست سنوات، لم يتمكّنوا من استعادة مدينتهم وأصبحوا بمثابة كبش فداء لحلقة العنف التي لا تنتهي. يوجد في مخيم الفلاح، جنوب طرابلس، حوالي 2500 لاجئ تاورغي.
يجلس محمود على مكتب صغير كائن بين كوخين في مدخل المخيم ويأخذ دفتره بيده. كان أول شخص يطلب مقابلته هو علي، الرجل الذي أطلق سراحه من سجن تومينا قبل أسبوعين. كان بمثابة قناع من الألم. يدخل علي الغرفة يمشي بصعوبة مستندا الى عكّاز. هو يبلغ من العمر 39 سنة فقط لكنه يبدو في الـ65. كان يسرد لمحمود أسماء الذين ماتوا أمامه، جلسات التعذيب بالكلاب والصعقات الكهربائية على الأعضاء التناسلية ... فيسأله محمود فجأة: "أيمكنك أن تروي لنا كل ما حدث". يتنهد علي ثم يقول: "كانوا طوال الوقت يقولون لنا:"أنت ميت، أيها التاورغي الكلب!". يدوّن محمود ما سمعه. "كان الباب يقفل على البعض منا، عراة مع مجموعات من المهاجرين". يتوقف محمود. "طوال الليل ؟". يهزّ علي رأسه مؤكدا. ثم أضاف.
"لا يتم إطلاق سراحهم حتى يغتصب بعضهم البعض."
يضيف علي في نفس الوقت:"لحسن الحظ لم أخضع لذلك. كان لي الحق في العصا والعجلة". رفع محمود رأسه ليسأل من جديد غير أنّ الاجابة جاءته سريعا "عشرات المرات والآن أشكو من مشاكل جسدية و تسربات".
يواصل محمود تدويناته. أحمد هو شاهد آخر في تونس تحدّث عن التعذيب من خلال الاغتصاب بواسطة العصا: بتثبيتها على الحائط، كان يجب على جميع السجناء أن يخوزقوها حتى نزول الدم في حال أرادوا الحصول على قطعة خبز. وتظهر عجلة السيارة المعلقة في السقف، في جميع الشهادات، على أنها طريقة سادية أيضا: يجب أن ينزلق عليها السجناء عراة منحنين لتسهيل عمل الجلادين الذين يعذبونهم بقذائف من مختلف الأحجام.
"أفهم هذا ... هل تتلقى علاجا؟". "لا". يهز علي رأسه نافيا فهذا الأمر مستحيل. تؤكد شهادة علي من جميع نواحيها النظام الذي وصفه أحمد في تونس: تطابق الأساليب، استخدام المهاجرين للقيام بعملية الاغتصاب ... ويوجد أيضا استهداف ممنهج للرجال التاورغيين.
في اليوم التالي، يركز محمود أبحاثه على اتصالاته بتاورغاء في محاولة منه للقاء الضحايا الجدد. وبفضل صديقه يجد مهدي أثر المرأة التي عرفها لفترة طويلة. إحدى متساكنات مخيم آخر للنازحين التاورغيين جنوب المدينة. لم ترد فتحية الحديث إلى حد الآن. تبدأ المحادثة بصوت خافت: "في البداية ألقوا القبض على ابنتي. كانت آنذاك تبلغ من العمر 11 سنة، ثم اعتدوا على زوجي الذي يشكو من شلل رباعي. حاول أحد الرجال اغتصاب ابنتي وكان ذلك أحد جيراننا، أب لفتاة من نفس العمر اذ رأيتها تكبر أمامي". تتنهد فتحية. "حاصروني في غرفة في المنزل واغتصبوني مرتين قائلين: "أيتها التاورغية، ستدفعين ثمن مصراتة!" قلت لأحدهما: "نحن جيران ونتعايش طيلة 20 سنة!".
سأل محمود عن اسم المغتصب ودوّنه بالإضافة الى اسم الحي ثمّ استمرت فتحية في الحديث قائلة: "جروني في الشارع أمام الجميع قائلين 'لقد اغتصبتم بناتنا. سنفعل الشيء نفسه...' لم يكن جميعهم مصراتيين. ثم انطلقوا أمام أعين ابني الأكبر. كان أسوأ ما فعلوه هو اغتصابي أمام ابني ... لم يعد يكلمني منذ ذلك الحين". لم تعد فتحية قادرة على حبس دموعها فيعطيها محمود منديلا ويطلب منها التوقّف لنيل قسط من الراحة. "لا! - تجيب فتحية- أريد الحديث!"
" في اليوم الثاني، دخل رجل قوي البنية، لم أعرف من أين جاء أو ما إذا كان مصراتيا أم ليبيا أم سوريا ... جاء من أجل الاغتصاب." ينظر إليها محمود لفترة طويلة محاولا التخفيف عنها وسألها إن كان هنالك سجناء آخرون معها، ربما من النساء؟ تهز فتحية رأسها و تقول:
"سمعت صراخا ... لكنها أصوات رجال".
تنهدت فتحية ثم قالت: "لم أكن على علم أنه في هذه الأثناء تم اختطاف ابني الثالث الذي لم يبلغ من العمر سوى 14 سنة من عمره". بدأ محمود في التردد ويده ترتجف. فقد تم احتجاز الطفل المراهق لمدة ثلاث سنوات في سجن بالقرب من تومينا و تم تعذيبه من قبل سجانيه. وفي أحد الأيام حصلت المعجزة. "لقد اتصل بي ابني و قال لي: أمي، سأغادر السجن بعد خمسة أيام ... كويت ملابسه، أعددت له فراشه وطبقه المفضل ... كنت سعيدة جدا!".
امتطت فتحية سيارتها وعبرت بشجاعة المنطقة الموجودة تحت سيطرة المصراتيين لاستعادة طفلها. "عند وصولي، ألقوا حقيبة الموت بين قدمي ... وقالوا لي: هاهو ابنك أيتها الكلبة!" أجهشت فتحية بالبكاء وواصلت: "فتحت الحقيبة، وجدت صغيري، نحيفا، مجوف الوجنتين، امتلأ جسده بالندبات ...". ثم أرتنا صورة. فما كان من محمود إلا أن أسقط قلمه وانهار باكيا.
جوان 2017
رجع محمود إلى تونس و التقي سيلين بارديت مجددا ووضّح لها ثمار تحقيقه الليبي: الـ650 حالة التي تعرض اليها واللقاءات الجديدة مع مناضلين آخرين الذين يؤكدون انتشار الاغتصاب في جميع السجون في غرب ليبيا. وأخيرا، استهداف التاورغيين.
قال محمود: "لقد وصل الأمر إلى حد إلى مرحلة الإجرام … لكل مواطن عادي الحق في اختطاف تاورغي و اغتصابه وتعذيبه وهذا أمر طبيعي بل يعتقد البعض أنه واجب وطني". فتساءلت سيلين: "ماهو تقديركم اليوم لعدد الضحايا التاورغيين؟" الجواب: "بين 3000 و5000". كما يضيف محمود بحركة سخط: "كيف لنا أن ننبه المجتمع الدولي؟ لمَ لا تفعل المحكمة الجنائية الدولية شيئا؟".
عادة ما يبدو الوقت الذي تستغرقه العدالة طويلا بالنسبة الى المحققين الميدانيين، ولكن في الواقع، قامت المحكمة الجنائية الدولية بإعادة تسليط الضوء على القضية الليبية، أولا سرا ومن ثم علنا: في خريف سنة 2016، دعت النائبة العامة فاتو بنسودة أمام مجلس الأمن الدولي إلى مزيد من التمويلات لتعزيز وتوسيع استطلاعات الرأي حول الشأن الليبيي. ولكن يعرف رئيس المحكمة الجنائية الدولية أيضا أن القضية الليبية تمثل قنبلة سياسية لا سيما و أن فتح تحقيق بشأن ليبيا يمثل إعادة بناء التسلسل الزمني الدقيق للحقائق لتحديد سلسلة الجرائم ... وبالتالي المسؤوليات.
تتعلق مهمة المحكمة الجنائية الدولية الشاقة بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. ولكن رسميا، لم تدخل ليبيا في حالة حرب منذ ... 2011! باستثناء المعارك المحددة كما هو الحال في بنغازي سنة 2014 أو في الآونة الأخيرة في سرت. وحتّى تتمكن المحكمة الجنائية الدولية من التعامل مع القضايا الليبية، يجب عليها الشروع في عمل ضخم لترتيب القضايا المعروضة عليها من قبل المحققين الليبيين. جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية؟ بأي مجلد يمكن البدء؟ الانتهاكات التي تعرض اليها المصراتيون سنة 2011؟ أم تلك التي ارتكبتها الميليشيات المصراتية بعد 2011؟ الانتهاكات التي عانى منها التاورغيون؟ من قبل البنغازيين؟
" جميع الأطراف المعنية في هذه الحرب الأهلية الليبية ارتكبت جرائم"
تعد مسؤولية المحكمة الجنائية الدولية مسؤولية كبرى: فمن حيث المبدأ، ينبغي على المحكمة أن تنتظر حتى تنشئ قضايا جنائية ضد جميع الفصائل لتجنب الانحياز وللتخلص منها. ولكن سيستغرق الأمر سنوات لفرق المحققين في لاهاي لتحليل كمية الوثائق الناتجة عن ست سنوات من الفوضى في ليبيا ... في الحقيقة، تحتاج المحكمة الجنائية الدولية أيضا إلى المساعدة حتى تثبت للعالم خبراتها.
تعرف سيلين بارديت ذلك حق المعرفة خاصة و أن بداياتها كانت بلاهاي ثم فكرت لفترة طويلة. لقد وضعتها تحقيقات محمود بشأن الانتهاكات التي تعرض لها التاورغيون على طريق محتملة. فإذا تمت كتابة الملف وتوثيقه بشكل صحيح، فسيكون وسيلة لتسريع عمل العدالة. وضعت سيلين كومة من الوثائق وقالت: "اسمع يا محمود، وجدت جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية خلال الصراع بين سنتي 1992 و 1995 في البوسنة ولكن في سريبرينيتشا، منطقة تشمل 8000 شخص، وصفت هذه الجريمة بالإبادة الجماعية لأنها استهدفت إبادة شعب سريبرينيتشا بالكامل. في هذه الحالة، يجب أن نجد عناصر القصد، لأننا ربما - أقول ربما - نقترب من الإبادة الجماعية لشعب تاورغاء ".
أوت 2017
أما في تونس فيستمر النشطاء في تكوين ملفات القضايا. من جهتها ستصدر المحكمة الجنائية الدولية أمرا يقضي بإصدار مذكرة اعتقال دولية في 15 أوت ضد الرائد محمود الورفلي المتهم بارتكاب جرائم حرب وهو الضابط المسئول عن فرقة الصاعقة وهو كذلك حليف الجنرال خليفة حفتر، الرجل الذي سيطر على شرق ليبيا لسنوات. وللمرة الأولى، اعترفت المحكمة الجنائية الدولية بأشرطة الفيديو المنشورة على شبكة الإنترنت كأدلة تبين ملخص الأعمال التي ارتكبها الورفلي و من ثمة بدأ التشكيك ضمنيا في مسؤولية الجنرال حفتر، إذ بات المحققون الآن يعرفون تماما أن مقاطع الفيديو التي تم جمعها سليمة من الناحية القانونية. و قد سمحت هذه الضربة التي وجّهتها المحكمة الجنائية الدولية نحو الشرق للناشطين، ببرمجة قدوم ضحايا جدد على غرار العديد من الشهود المحتملين القادمين من السجون السرية في شرق ليبيا.
يمكن أن تمثل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية إبادة جماعية على جزء من الشعب. فقد أصبح اغتصاب الرجال سلاحا دائما للحرب في ليبيا. و تستعد سيلين بارديت ومنظمتها غير الحكومية بمساعدة المحققين الليبيين للإفصاح عن تقرير يفضح الرعب الذي تعيشه ليبيا منذ ست سنوات، ولكن التحقيق لم ينته بعد. "لا يزال حجم هذه الجريمة غير واضح. لقد بدأنا في جمع بعض الأدلة ولكن سيستغرق الأمر بعض الوقت". وفي الآن نفسه، يعمل الناشطون والمناضلون على جمع الأدلة في تونس.