في حادثة هي الأولى من نوعها في تونس، أقدم انتحاري، مع حوالي الساعة الخامسة وخمس دقائق بعد ظهر يوم الثلاثاء 24 نوفمبر 2015 على تفجير نفسه في مدخل حافلة مخصصة لنقل فرق الحرس الرئاسي الى مقر عملهم بقصر الرئاسة بقرطاج.
أسفر الهجوم، وفق الحصيلة الرسمية، عن مقتل ما لا يقلّ عن 12 عون أمن واصابة عشرين آخرين بجروح متفاوتة الخطورة تمّ نقلهم الى عدد من مستشفيات العاصمة تونس، فيما تمّ العثور على جثّة أخرى متفحّمة تعود الى الانتحاري منفّذ العملية.
الهجوم الانتحاري تسبّب كذلك في تعرّض ما لا يقل عن أربعة مواطنين من المارّة باصابات وُصفت بغير الخطيرة، في حين تعرّض بلّور مؤسسة بنكية مجاورة لمكان الحادثة بالاضافة الى سيارتين الى بعض الخسائر المادية بعد أن طالتها شظايا التفجير.
حكاية التحذيرات التي سبقت الهجوم
خلال الليلة الفاصلة بين يومي الاربعاء والخميس 26 نوفمبر شاهدت مواطنة تقطن في منطقة المنيهلة غرب العاصمة صورة الانتحاري بعد أن تمّ تداولها على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي فاتّصلت بمصالح الحرس الوطني لتفيدهم بأنّ صاحب الصورة ليس سوى ابنها حسام عبدلّي الذي أعلمها قبل نحو يومين من العملية بنيّته تنفيذ هجوم ارهابي.
الصورة لم تكن واضحة بالشكل الكافي، حيث ظهر فيها أحد الشبان الملثمين مرتديا قميصا أبيض ويرفع شعار التوحيد وقد أحاط نفسه بحزام ناسف من الحجم الكبير، علما أنّ تلك الصورة تمّ نشرها من قبل بعض الصفحات الجهادية المحسوبة على تنظيم الدولة الاسلامية (داعش) تحت اسم “أبو عبد الله التونسي” في اطار تبنّي صفحات التنظيم (البعض شكّك في مصداقيتها) لعملية الهجوم على حافلة الأمن الرئاسي.
مصالح الحرس الوطني قامت بالاستماع الى شهادة الأمّ، ثمّ تمّ نقلها للتعرّف على جثّة الانتحاري المشوّهة ليتمّ بعد ذلك اجراء التحاليل الجينية التي كشفت -بحسب وزارة الداخلية- تطابق هوية ابن تلك المرأة المبلّغة مع هوية الانتحاري.
ملابسات ما قبل الهجوم الارهابي
لئن كان الهجوم مفاجئا بالنسبة الى فريق الحرس الرئاسي الذي كان يتأهّب لمغادرة شارع محمد الخامس باتجاه قصر الرئاسة فانّه لم يكن كذلك بالنسبة الى الجهات الأمنية التي علمت، وفق مصادر متطابقة، قبل نحو 15 دقيقة بامكانية حصول تفجير انتحاري قد يستهدف مقرا أمنيا أو منشأة أخرى حيوية بالعاصمة، بعد أن قام عون أمن ينتمي الى ادارة شرطة المرور بالتبليغ عن ابن أخيه.
وكان عون شرطة المرور قد اتّصل بقاعة العمليات (جهاز المخابرات) مع قبل تنفيذ هجوم محمد الخامس فترة وجيزة ليُبلّغ عن اعتزام ابن أخيه (عون أمن معزول بسبب مظاهر التشدد الديني التي بدت عليه) تنفيذَ عملية ارهابية قد تستهدف أمنيين أو منشئات حيوية أخرى على غرار المطار. وقد تمّ وفق المصادر ذاتها تعميم هذا الاشعار على كل المصالح الأمنية لتحليله والقيام بما يمكن القيام به.
وبمجرّد حصول التفجير الانتحاري، تمّ باستعمال حزام ناسف يحوي حوالي 10 كيلوغرامات من المتفجرات، توجّهت أنظار الفرق الأمنية نحو العنصر الأمني الذي تمّ التبليغ عنه ليثبت بعد اجراء التحريات اللازمة أنّه يلازم منزله وأنّ لا علاقة له بالهجوم الذي استهدف الحافلة الأمنية. وبالتوازي مع ذلك تمّ التثبّت في قائمة الأعوان المنتسبين لسلك الحرس الرئاسي ممّن تمّت احالتهم على عدم المباشرة لتثبت التحريات عدم وجود أيّ مؤشرات للاختراق.
فرضية الاختراق ظلّت مطروحة بجدية لدى الأمن
بالرغم من تبنّي حسابات على تويتر محسوبة على تنظيم الدولة الاسلامية، منذ اليوم الثاني، الهجومَ الذي استهدف الأمن الرئاسي الاّ أنّ الجهات الأمنية ظلّت تُولي اهتماما كبيرا لفرضية الاختراق الأمني على اعتبار أنّ منفّذ العملية تمكّن، وفق المعاينة التي أجرتها الشرطة الفنية والعلمية، من الصعود الى مقدمة الحافلة ومن ثمّ تفجير نفسه، ما قد يعني أنّه يملك معلومات كافية حول ما يوجد داخل الحافلة بمعنى أنّ أحد الأمنيين قد يكون مكّنه من تلك المعلومات، أو أنّه ينتمي (أو كان) ينتمي بدوره الى مؤسسة الأمن لذلك فانّه على دراية بالترتيبات الأمنية في الحافلة وهو ما دحضته المعطيات الجديدة.
فرضية الاختراق ظلّت تلقي بظلالها على سير التحقيقات الأمنية ما ساهم بشكل كبير في ارباك المحققين.
وكانت كاميرا المراقبة التابعة لاحدى المنشئات العمومية قد التقطت صور فتاة كانت تتنقّل جيئة وذهابا في مكان الجريمة قبل فترة من حدوث الهجوم وهي بصدد الحديث عبر هاتفها الجوّال.
ورجّح محققون أمنيون أن تكون هذه المرأة على صلة وثيقة بالهجوم حيث من الوارد أن تكون قد لعبت دور التنسيق اللوجيستي قبل اعطاء شارة البداية اثر رصدها لصعود أغلب عناصر الحرس الرئاسي للحافلة استعدادا للمغادرة باتجاه وجهة عملهم.
يذكر أنّ الجهات الأمنية كانت قد عثرت على وثائق شخصية لشخص يحمل الجنسية التونسية على مقربة من الحافلة قد تكون راجعة للانتحاري حسام عبدلي.
تهديدات سابقة للحافلة ذاتها
حادثة تفجير الحافلة الأمنية بشارع محمد الخامس، على بعد نحو 300 متر من مبنى وزارة الداخلية، تندرج ضمن سلسلة من التهديدات الارهابية التي ما انفكّت الجهات الأمنية تبثّ اشعارات داخلية بشأنها من أجل حثّ الأمنيين على توخّي الحذر.
مصادر أمنية متطابقة مقرّبة من ملف التحقيق، أكّدت لموقع “انكيفادا” انّ الجهات الأمنية تلقّت خلال الآونة الأخيرة عددا من الاشعارات (آخر اشعار وصل قبل أيام من هجوم محمد الخامس) حول امكانية استهداف الحافلات الأمنية. وبناء على تلك الاشعارات فقد أصبحت الحافلات تغيّر مكان توقّفها باستمرار، الاّ أنّ تحويل أحد أماكن ربوضها (قرب ملعب النادي الافريقي شرق شارع محمد الخامس) الى موقف لسيارات الأجرة (تاكسي جماعي) دفع بحافلات الرئاسة للتوقّف قبالة مقرّ التجمع المنحلّ بشارع محمد الخامس لأربعة أيام متتالية قبل أن يتمّ استهدافها مساء الثلاثاء وفق ما أكّدته المصادر ذاتها.
واعتاد التونسيون مشاهدة عدد من حافلات الأمن الرئاسي، بيضاء اللون ولا تحمل اشارات تحيل الى وجهتها، تتوقّف في أماكن متعددة وسط العاصمة لتقلّ أعدادا من أعوان الحرس الرئاسي الى مقر عملهم في زيّ مدني دون أن يكونوا حاملين لسلاح.
ويتكوّن سلك الأمن الرئاسي من نحو 2500 عونا يتمّ انتدابهم من بين طليعة العناصر المتخرّجة من مدارس تكوين قوات الأمن الداخلي من شرطة وحرس ومن الأكاديميّة العسكريّة. وتتلقّى هذه العناصر تدريبات مستمرّة للرفع من مستواها العملياتي. ولم يسبق أن تمّ رصد عمليات اختراق في صفوفها.
يذكر أنّ رئاسة الجمهورية كانت قد أعلنت، بالتشاور مع رئاسة الحكومة ورئاسة البرلمان، عقب العملية الارهابية حزمةً من الاجراءات، في مقدمتها اعلان حالة الطوارئ لمدة ثلاثين يوما وحظر التجوال في ولايات تونس الكبرى (العاصمة) الى أجل غير مسمّى. كما تقرر من الغد، عقب الانتهاء من انعقاد مجلس الأمن الوطني، تفعيل قانون مكافحة الارهاب.