ولم تكن مجرّد مراكمة عددية للخسائر البشرية والمعنوية في صفوف من تصفهم المجموعات الارهابية ب”الكفّار” فحسب، بل انّ الحكاية أعمق من ذلك بكثير حيث يمكن –وفق القراءات المتقاطعة لعدد من الخبراء الأمنيين والعسكريين- اعتبارُ هذه العملية بمثابة نقطة التحوّل الجذري في استرتيجيات الارهاب في تونس، تُؤشّر للمرور نحو مرحلة متقدّمة أكثر جرأة وخطورة ونجاعة من سابقاتها.
في نفس الموضوع
هذه المرحلة يُطلق عليها اسم “العمليات الانغماسية”، وقد نظّر لها أبو بكر ناجي، أحد منظّري فكر تنظيم القاعدة، في كتابه الشهير “ادارة التوحّش” الذي يعتبر بمثابة الوثيقة المرجعية لتنظيم القاعدة وجملة التنظيمات الدّينية الراديكالية القريبة منه، بالاضافة الى أنّ كتيبة عقبة بن نافع كانت قد أعلنت ذلك صراحة في البيان الذّي نشره ذراعها الدعائي “افريقية للاعلام” عقب عملية سيدي عيش بقفصة (ليلة 28 مارس 2015)، والتي قامت خلالها فرقة من القوات الخاصة للحرس الوطني بتصفية مجموعة تابعة للكتيبة من بين أفرادها لقمان أبو صخر القائد العسكري للكتيبة.
سجّلت استراتيجيات الارهاب في تونس عديد التغيّرات طيلة السنوات الأربع المنقضية ما يجعلها –وفق ما تثبته الوقائع- غير متطابقة، في جزء كبير منها، مع التسلسل الزمني الذّي ضبطه منظّر القاعدة في كتابه السابق ذكره ولو أنّها تتقاطع مع جانب كبير من أفكاره وخططه وتكتيكاته.
ويمكن تلخيص الخطوط العريضة لللاستراتيجيا التي اتّبعتها المجموعات الارهابية في تونس الى حدّ الآن في خمس مراحل: مرحلة الدّعوة والدعاية والعمل والاجتماعي، مرحلة جسّ النبض، مرحلة الاغتيالات السياسية والضربات المركّزة مجهولة الهوية، مرحلة الكمائن الأمنية الوهمية والأحزمة الناسفة وأخيرا مرحلة العمليات الانغماسية التي بدأت تلوحُ في الأفق مؤشرات قوية على بداية الشروع في تطبيقها.
الدّعوة والدّعاية والعمل الاجتماعي
14 جانفي – 18 ماي 2011
انطلقت مرحلة الدّعوة والدعاية فعليا منذ تاريخ مغادرة الرئيس الأسبق التونسي زين العابدين بن علي الحكم مساء 14 جانفي 2011 لتنتهي (نسبيا) بتاريخ 18 ماي 2011 تاريخ حصول أوّل اشتباك مسلّح بين القوات النظامية والعناصر المسلّحة في ما بات يعرف بحادثة الروحيّة.
بمجرّد انهيار منظومة حكم بن علي تمّ اعلان عفو تشريعي عام استفاد منه مئات المتشدّدين التونسيين في الداخل (السجون) والخارج (المنفى) ما أتاح لهم وضع اليدين على ما يناهز ال 700 جامع ومسجد في شتّى جهات البلاد واتّخاذها منابر للدّعوة والدعاية ل”الجهاد”. وقد استفاد المتشدّدون من حالة الارتباك السياسي التي عاشت على وقعها البلاد على مدى الفترة التي سبقت انتخاب المجلس التأسيسي موفّى 2011.
وبالرّغم من تشابك أذرع السلفيين وتعدّد مناهجهم وقياداتهم المرجعية الّا أنّهم ظلّوا طيلة عدّة أشهر يتحرّكون بشكل غير منظّم جرّاء غياب تنظيم يوحّدهم، الى أن قام سيف الله بن حسين المكنّى بأبي عياض بتأسيس تنظيم أنصار الشريعة في أواخر أفريل 2011، تاركا للأب الروحي للسلفيين الجهاديين في تونس المسمّى الخطيب الادريسي مهمّة الاشراف على “جماعة السلفية الجهادية” التي رفضت الانصهار في التنظيم.
وقام التنظيم بتأسيس عدة أذرع إعلامية من بينها، مؤسسة القيروان للاعلام ومؤسسة البيارق، وتطوير وسائل إعلام أخرى على شاكلة مدوّنات وصفحات فايسبوك ومجلّات ومواقع اخبارية الكترونية. وشنّ التنظيم حملة دعائية واسعة النطاق للإفراج عن السجناء الإسلاميين، مثل عمر عبد الرحمن، وأبو قتادة بالاضافة الى التونسيين الذين حاربوا مع تنظيم القاعدة في العراق وعدد من المقاتلين التونسيين المحتجزين في السجون العراقية.
واتّسمت تلك المرحلة بكثرة العمل الدعوي والدعائي من خلال الاتصال المباشر بالمواطنين في المساجد والسعي الى نشر الفكر السلفي الجهادي عبر الأذرع الاعلامية والدعائية الراجعة له بالنظر فضلا عن تكثيف الأنشطة الاجتماعية التي تقوم أساسا على ما يسمّى ب”قفّة أنصار الشريعة”.
على مدى النصف الأوّل من العام الأوّل للثورة ظلّ السلفيون الجهاديون بقيادة كل من أبي عياض والخطيب الادريسي يتبرّؤون من العنف ويجاهرون برفضهم مبدأ الجهاد في تونس بدعوى أنّ “تونس أرض دعوة وليست أرض جهاد”.
تصريحات لم تطمئن التونسيين كثيرا خاصّة بعد أن تداولت وسائل الاعلام المحلية أخبارا عن وجود معسكرات لتدريب المقاتلين في الشعانبي غرب البلاد وفي مناطق أخرى من الجنوب بالاضافة الى تنامي المخاوف من فرضية عودة المقاتلين التونسيين الذّين التحقوا بجبهة الثوّار في الجارة الشرقية ليبيا.
مرحلة جسّ النبض
18 ماي 2011 – جانفي 2013
مرحلة الدعوة والدعاية ظلّت متواصلة على مدى سنتين من عمر الثورة غير أنّ تنظيم أنصار الشريعة ارتأى أن يبعث، بالتوازي مع الذراع الدعوي والدعائي، ذراعا مسلّحا قوامُهُ مجموعات صغيرة لا يتجاوز عدد الواحدة منها الخمسة أنفار من أجل جسّ نبض أجهزة الدولة من جهة للوقوف على مدى جاهزيتها وقدرتها على الصمود، وعموم المواطنين من جهة أخرى للتأكّد من مدى استيعابهم لفكرة الجهاد والاحتكام الى الشريعة الاسلامية.
ومثّلت حادثة الروحية (18 ماي 2011) بداية الانطلاق الفعلي في المرحلة الثانية من استراتيجيا الارهاب في تونس حيث اتّسمت هذه المرحلة بجسّ النبض خاصّة بعد مقتل عسكريين اثنين (الطاهر العياري ووليد الحاجّي) في أوّل اشتباك مسلّح مع أجهزة الدولة.
وتميّزت سنة 2012 بتعدّد المواجهات بين قوّات الأمن والجيش من جهة وبين العناصر والمجموعات المسلّحة من جهة أخرى في مناطق الوسط والشمال الغربي للبلاد.
وقد اتّسمت هذه الفترة أيضا باستغلال المجموعات الارهابية ل”تساهل” السلطات مع الظاهرة السلفية، من أجل ادخال أكثر ما يمكن من الأسلحة والمتفجّرات من الجوار الليبي الى تونس واخفائها في مستودعات تمّ كشفها لاحقا.
جملة هذه الاحداث دفعت بالرأي العام الوطني لمطالبة الدولة بتوفير الاستقرار الأمني. وقد اغتنم تنظيم أنصار الشريعة حالة الخوف لدى التونسيين وعدم ثقتهم في قدرة أجهزة الدولة على حمايتهم، للظهور في ثوب البديل المنقذ.
منتصف ماي 2012 سجّل التنظيم ظهوره العلني الأوّل على خلفية عقد مؤتمره العام الأوّل بمدينة القيروان. وجمع المؤتمر نحو 5 ألاف من أنصار التنظيم بحسب أرقام الداخلية في حين تؤكد أرقام التنظيم مشاركة ما لا يقل عن 40 ألفا.
أبو عياض كان قد دعا، خلال كلمته الافتتاحية المشفوعة باستعراض عسكري آنذاك، أنصاره وعموم “الموحّدين” التونسييين الى “أسلمة” الإعلام التونسي والتعليم والسياحة والقطاعات التجارية وإنشاء النقابات الإسلامية لمواجهة الاتحاد العام التونسي للشغل العلماني حسب وصفه.
كلمة أبي عياض كانت –بحسب الخبراء- بمثابة كلمة السرّ لأنصاره الذّين تحرّكوا بعد أقلّ من شهر للهجوم على معرض فني في قصر العبدلية بتعلة تضمّنه لصور مسيئة للدين الاسلامي بالاضافة الى الهجوم لاحقا على السفارة الأمريكية في تونس.
هاتان الواقعتان، بالاضافة الى واقعة برسيبوليس (جوان 2011)، رفعتا الستار عمّا تمّ وصفه آنذاك ب”تخاذل” وزارة الداخلية ومن ورائها حكومة الترويكا التي تقودها حركة النهضة ذات الخلفية الاسلامية، عن وضع حدّ لتمدّد نفوذ المتشددين الذّين واصلوا وضع أياديهم على المساجد واحتلّوا الشوارع في أكثر من مناسبة وتسرّبوا الى المنابر الاعلامية وأصبحوا يهدّدون الدولة علانية ليصل الأمر بأحدهم (على خلفية مقتل المنقّبة أمّ يمنى في عملية دوّار هيشر) الى رفع الأكفان في برنامج تلفزي مباشر واعلان الجهاد ضدّ أجهزة الدولة.
انتهت مرحلة جسّ النبض وكان لابدّ من المرور الى مرحلة أخرى تتّسم بأكثر جرأة وتمهّد الطريق لزعزعة الحكم استعدادا للسيطرة على اجهزة الدولة.
الاغتيالات السياسية والضربات المركّزة مجهولة الهوية
6 فيفري 2013 – 9 أوت 2013
سنة 2013 مثّلت منعرجا كبيرا في مستوى العمليات الارهابية في تونس من حيث العدد ونوعية الهجمات. فقد دخل معطى الاغتيالات السياسية لأوّل مرّة على خطّ الأحداث في تونس، فضلا عن تغيير الارهابيين لتكتيكات الهجوم والتوجّه نحو نصب الكمائن الأمنية والعسكرية التي تستهدف عناصر الأمن والجيش.
وأمّا في ما يتعلّق بالاغتيالات السياسية فقد ظلّت على مدى أكثر من 15 شهرا مجهولة الهوية حيث لم يقع تبنيّها من أيّ طرف (تبنّتها مجموعة أبي بكر الحكيم بتاريخ 18 ديسمبر 2014 في مقطع فيديو تمّ بثّه على الانترنات). وقد أصرّ تنظيم أنصار الشريعة على انكار وجود أيّ صلة بينه وبين اغتيال المعارض اليساري شكري بلعيد (6 فيفري 2013) ومحمد البراهمي (25 جويلية 2013) داحضا عن نفسه تهمة الارهاب، زاعما على لسان ناطقه الرسمي سيف الدّين الرايس بأنّ الاغتيال يقف وراءه “أزلام النظام السابق والفاسدون من رجال الأعمال وأجهزة البوليس الخ”.
هذا الاغتيال السياسي الأوّل شُفعَ باغتيال ثاني بعد أقلّ من خمسة أشهر، ليتمّ بعد ذلك بنحو ثلاثة أيّام (29 جويلية) تنفيذ أوّل كمين محكم استهدف دورية عسكرية في جبل الشعانبي أسفر عن مقتل 8 عسكريين دفعة واحدة والتنكيل بجثثهم وذبح بعضهم، لتَتَتالى بعد ذلك سلسلة الكمائن التي استهدفت دوريات أمنية وعسكرية ما خلق حالة من الخوف وعدم الطّمأنينة في صفوف الأمنيين والعسكريين بالاضافة الى تزعزع ثقة جانب منهم في قياداتهم.
حالة الخوف والشكّ تلك، انعكست على الشارع التونسي الذّي لم يعد شقّ واسع منه يثق في حكومة الترويكا التي وجدت نفسها، تحت ضغط الشارع ضعيفة ومنهكة، فتخلّت عن الحكم لصالح ما سُمّيَ، آنذاك، بالترويكا 2 عقب اغتيال بلعيد، ثمّ غادرت الحكم نهائيا وسلّمت مقاليد الحكومة لفريق تكنوقراط عقب اعتصام الرحيل الذّي جاء ردّة فعل على اغتيال البراهمي واستهداف الدورية العسكرية في جبل الشعانبي. ولكن ماذا استفاد الارهاب –وتحديدا تنظيم أنصار الشريعة- من تلك الاغتيالات؟
للاجابة عن هذ السؤال لابدّ من استحضار مفهوم “النكاية والانهاك” الذّي نظّر له أبو بكر ناجي في كتابه “ادارة التوحّش”. ويعني هذا المفهوم الامعان في ضرب الدولة وأجهزتها ومؤسساتها الحيوية قصد انهاكها تمهيدا لاسقاطها بعد أن تصبح عاجزة تماما عن ادارة الشأن العام وضمان المرافق الأساسية للناس من غذاء وصحّة وأمن ونقل الخ.
وتُشفعُ هذه المرحلة بخطوة أخرى تتمثّل في سدّ الفراغ الذي سيخلّفه انسحاب الدولة أو سقوطها. ويكون ذلك على شاكلة تقديم بديل من أجل “تنظيم الفوضى” أو ل”ادارة التوحّش” وفق المصطلح الدقيق الذّي استعمله منظّر تنظيم القاعدة أبو بكر ناجي في الكتاب ذاته.
تنظيم أنصار الشريعة لم يكن بعيدا عن هذه المقاصد –خاصّة أنّه يدين بالولاء لتنظيم القاعدة- فقد نفّذ مفهومَ “النكاية والانهاك” بحذافيره من خلال السعي الى خلق مناخ من الفوضى عبر تكثيف الاغتيالات السياسية والضربات الارهابية الموجعة التي استهدفت الأمن والجيش، والعمل على انهاك الدولة واضعافها، وهو ما حصل بالفعل حيث كانت الدولة على مشارف السقوط غداة اغتيال بلعيد.
وتكرّر الأمر ذاته غداة اغتيال البراهمي، ولم يتمّ الخروج من الأزمة الّا بتوافق شتّى ألوان الساحة السياسية على طاولة الرباعي الراعي للحوار (اتحاد الشغل، عمادة المحامين، منظمة الأعراف ورابطة حقوق الانسان) الذي اقترح تكليف حكومة تكنوقراط بتسيير دواليب الدولة تمهيدا لاجراء انتخابات تشريعية ورئاسية تعددية.
في تلك الأثناء، وقبل الخروج من الأزمة، كان تنظيم أنصار الشريعة يستعدّ بكلّ ثقله لتقديم بدائله لسدّ الفراغ والقيام مقام الدولة المنهكة. وقد تجلّى ذلك من خلال:
- استخدام المساجد والمنابر الاتصالية التي يتحكّم فيها من أجل تحريض النّاس ضدّ أجهزة الدولة بتعلّة أنّها متورّطة رفقة “أزلام النظام السابق” في حادثتيْ الاغتيال.
- تسيير دوريات سلفية لضبط الأمن العام في مناطق مختلفة من البلاد وخاصة ضواحي العاصمة وبنزرت والساحل وصفاقس الخ في ما عُرف آنذاك بالشرطة السلفية.
- تكثيف العمل الاجتماعي التطوّعي وتوزيع المساعدات على المحتاجين.
- دعم الجهازين السريين الأمني والعسكري للتنظيم بكتيبة مسلّحة على مستوى عالي من التدريب، تتمكرز بجبل الشعانبي وجملة المرتفعات المتصلة به. هذه الكتيبة أعلنت عن نفسها لاحقا تحت اسم “كتيبة عقبة بن نافع”.
جملة هذه النقاط كان يمكن لها أن تساهم في ابراز السلفيين (تنظيم أنصار الشريعة وجماعة الخطيب الادريسي) في مظهر المنقذ خاصّة مع تعاطف شرائح واسعة من المواطنين معهم، لولا التفاف الأحزاب السياسية والمجتمع المدني والنقابات حول الدولة وتوفيرهم لأرضية ملائمة لادارة حوار وطني أتاح خلق بديل عاجل تمكّن رغم هشاشته من منع سقوط الدولة وبالتالي شق الطريق أمام تمكّن السلفيين الجهاديين من المرور الى مرحلة “ادارة التوحّش” أو فلنقل “تنظيم الفوضى” بمعنى اقامة دولة بديلة لأجهزة الدولة الرسمية.
وكان أبو بكر الحكيم، يُكنّى بأبي مقاتل وأحد أبرز قيادات تنظيم أنصار الشريعة المحظور والمنفّذ رقم واحد لجريمة اغتيال البراهمي، قد لمّح خلال حوار صحفي أدلى به، موفّى مارس 2015، لمجلّة “دابق” الناطقة بالانجليزية والمحسوبة على تنظيم الدولة الاسلامية، أشار من خلاله الى أنّ الاغتيالات السياسية وما تبعها من جرائم ارهابية كان الهدف منها ارباك الدولة وضرب أجهزتها وخلق حالة من الفوضى تمهيدا لاعلان “النفير العام”.
وقدّم أبو بكر الحكيم روايته لفشل مخطط اسقاط الدولة ملمّحا الى أنّ أتباع الخطيب الادريسي رفضوا الاستجابة الى نداء “النفير العام” ما أضعف صفوف الجهاديين، آنذاك، وأربك مخطّطهم.
كلّ هذه الوقائع المتلاحقة دفعت بالبلاد الى أتُون معركة ضدّ الارهاب -يلفّ بعض جوانبها الكثير من الالتباس والغموض- بعد أن أعلنت حكومة علي العريّض في أوت من العام ذاته تصنيف التنظيم منظّمة ارهابية، ما أتاح القضاء على عدد من قيادات الصفّ الثاني للتنظيم في حين فرّت القيادات العليا للتنظيم الى ليبيا وتوزّع المقاتلون بين معسكر الشعانبي وبين معسكر درنة بليبيا بالاضافة الى التحاق عدد منهم (العدد الجملي ناهز 3 ألاف وفق تقديرات الداخلية) بجبهة”الجهاد” في سوريا والعراق.
الكمائن الأمنية الوهمية والأحزمة الناسفة
17 أكتوبر 2013 – 18 فيفري 2015
سنة 2013 كانت الأكثر دموية بالنسبة الى التونسيين بالاضافة الى أنّها كانت فترة تغيّرات مفصلية بالنسبة الى الجماعات المسلّحة. فبعد أن تمّ حظر نشاط تنظيم أنصار الشريعة وتصنيفه منظّمة ارهابية وشنّ حملة واسعة لتجفيف منابعه انتقل هذا الأخير من منطق الضربات المركّزة الى منطق الضربات الانتقامية عبر استنفار كل التقنيات والامكانات المتاحة:
- استدراج الدوريات من خلال بلاغات كاذبة حتّى يتسنّى تصفية عناصرها. تمّ ذلك بتاريخ 17 أكتوبر 2013 بقبلّاط، وفي سيدي علي بن عون بتاريخ 23 أكتوبر 2013.
- الاغارة على الدوريات الأمنية غير القارة والتي لا يتجاوز عدد عناصرها الاربعة على أقصى تقدير قصد تصفيتها وافتكاك أسلحتها. حصل ذلك ، مثلا، بتاريخ 23 أكتوبر 2013 بمنزل بورقيبة، وفي القصرين بتاريخ 17-18 فيفري 2015.
- تكثيف الهجمات على الدوريات العسكرية القارة والمتنقلة في جبل الشعانبي بطريقة استعراضية بالاضافة الى التنكيل بالجثث وحرقها وأخذ صور لها. تمّ ذلك بتاريخ 16 جويلية 2014 بهنشير التلة وسط جبل الشعانبي.
- استعمال الأحزمة الناسفة وتجنيد انتحاريين لاستهداف المناطق السياحية التي يؤمّها مدنيون. تمّ تنفيذ عمليتين بتاريخ 30 أكتوبر 2013: الأولى استهدفت نزل “رياض بالما” بسوسة ولم تسفر عن أيّ خسائر والثانية كانت تستهدف روضة آل بورقيبة بالمنستير وقد تمّ افشالها من قبل الأمن.
- نصب كمائن أمنية وهمية وتفتيش السيارات والحافلات ووسائل النقل العسكرية بحثا عن أمنيين وعسكريين من أجل تصفيتهم. حصل ذلك في منطقة أولاد مناع بجندوبة بتاريخ 16 فيفري 2014، وفي ساقية سيدي يوسف بتاريخ 26 جويلية 2014، وفي الكاف بتاريخ 6 نوفمبر 2014 ، وفي الطويرف بتاريخ 30 نوفمبر 2014 .
- صنع العبوات المتفجّرة وتفخيخ السيارات. وقد تمّ التفطّن الى ذلك بعد حجز كمية كبيرة من مادّة الأمونيتر بالاضافة الى سيارتين مفخّختين على خلفية الاشتباكات التي جدّت بتاريخ 23 أكتوبر 2013 بسيدي علي بن عون بالاضافة الى العبوة المتفجّرة التى استهدفت سيارة أمنية كانت رابضة أمام مركز أمن حلق الوادي بتاريخ 27 جويلية 2013.
انّ المتأمّل في جملة هذه العمليات يتبيّن له جليّا أنّها تحمل صبغة انتقامية غير أنّها لا تخلو من التدبير والتخطيط المحكم، ما يعني أنّ هنالك عقلا تنظيميا موحّدا يقف وراءها جميعا وبالتالي فانّ لها هدفا موحّدا. ولكن ماهو الهدف المرجوّ من المرور بذلك الشكل المكثّف نحو استعمال الأحزمة الناسفة والكمائن والمتفجّرات وكل التقنيات والوسائل القتالية في وقت وجيز لا يتعدّى العام؟
قد نجد صدى لهذا السؤال في كتاب “المذكّرة الاستراتيجية” لكاتبه عبد الله بن محمد، وهو عبارة عن رسالة كان ينوي أن يبعث بها لزعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن بعد تفجّر الثورات العربية. وبعد مقتل بن لادن تمّ نشرها في شكل خطاب مفتوح حيث يقول الكاتب:
“انّه من السهل علينا في ظل الأوضاع المرتقبة في المرحلة القادمة أن نستغل المساحات الجغرافية التي ستُفتقَد فيها السيطرة المركزية لإقامة إمارة إسلامية كنواة لمشروع الخلافة الإسلامية كمنطقة سيناء أو الأنبار أو واحات ليبيا أو دارفور والصحراء الغربية ونكون قد أقمنا حكم االله في منطقة جغرافية على من فيها من السكان(…)”.
على الأرجح، اذا ما أسقطنا هذه القراءة على الواقع التونسي، فانّ الهدف الأساسي من السعي الى انهاك الدولة واضعاف حكمها المركزي هو الرغبة في خلق كيانات موازية تكون على شاكلة امارات اسلامية تمهيدا لاسقاط الدولة واقامة ما يسمّى بدولة الخلافة تماما مثلما حصل في مناطق مختلفة من ليبيا وفي مقدمتها درنة، وفي الموصل بالعراق وفي الرقّة وريف حلب بسوريا وفي جبل الشعانبي على يد ما يسمّى بكتيبة عقبة بن نافع.
مرحلة العمليات الانغماسية
عملية باردو – 18 مارس 2015
مثّلت حادثة متحف باردو صدمة حقيقية للسلطات التونسية وللرأي العام على اعتبار أنّها سابقةٌ قد تؤشّر لدخول تونس نفقا لا مخرج منه. واذا كان لهذه المخاوف ما يبرّرها فانّ مجرّد التمعّن في هذه الحادثة يحيلنا مباشرة الى حادثة أخرى حصلت قبل أكثر من سنة (بتاريخ 30 أكتوبر 2013) بكل من سوسة والمنستير، عندما حاول انتحاريان تفجير فضائيْن سياحيين يؤمّهما مدنيون تونسيون وأجانب، ونقصد هنا فندق “رياض بالما” وروضة آل بورقيبة التي لا تقلّ رمزية وأهمية عن متحف باردو.
بالاستناد الى ما سبق من معطيات فانّ هجوم باردو كان يمكن أن يحدث قبل سنة من الآن ويحقّق الأهداف ذاتها المتمثّلة أساسا في ضرب السياحة وارباك الدولة وكسب رهان الحرب النفسية. غير أنّ تحليل ساحة الجريمة بامكانه اتاحة بعض المفاتيح لفهم طبيعة الهجوم ونواياه:
- الهجوم لم يكن يهدف الى القتل المجاني للسياح فلو كان ذلك هو الهدف لتسنّى للارهابيّين تنفيذ هجومهم في أيّ مكان آخر دون تكبّد مخاطر الاقتراب من متحف باردو الذي يقع بمحاذاة ثكنتين عسكرية وأمنية (بوشوشة) بالاضافة الى مقر المخابرات العسكرية.
- طبيعة التسلّح (رمّانات يدوية وأسلحة كلاشنيكوف وحزام ناسف) تؤشّر الى أنّ الهجوم كان يهدف الى اختطاف رهينة أو اثنتين على أقصى تقدير أو تنفيذ اغتيال سياسي علما أنّ مقرّ مجلس النواب المحاذي للمتحف كان خلال يوم الهجوم يحتضن جلسة استماع لوزير العدل ووزير الدفاع وعدد آخر من المسؤولين رفيعي المستوى.
اذا سلّمنا بواقعية هذا التحليل فانّه من الضروري القول انّ الارهاب في تونس بدأ منذ عملية باردو يأخذ منعرجا آخر يتمثّل في العمليات الانغماسية حيث يقوم هذا التوجّه أساسا على التضحية بالنفس وطلب “الشهادة”. ويفسّر الانغماس في أدبيات تنظيم القاعدة كالآتي:
“انغماس جماعـة قليلة من المجاهدين في العدو الكثير، بقصد النكاية فيه، وتحصيل مصلحة راجحة، مع اليقين بالموت في سبيل الله، مبتدأ نفسه بحزام ناسف يتوسطه، أو سـيارة أو سفينة أو طائرة مفخخة، أو غيرها من وسائل النكاية الحديثة”.
وتنقسم العمليات الانغماسية الى نوعين:
- العمليات الانغماسية المكتفية بذاتها: وتقوم أساسا على تنفيذ عنصر أو اثنين لعملية اندساس بين أمنيين أوعسكريين أو سياح أو مسؤولين أو مواطنين عاديين ومن ثمّ تفجير نفسه أو سيّارته بهدف ايقاع أكثر ما يمكن من الخسائر البشرية.
- العمليات الانغماسية التمهيدية: وتقوم أساسا على تنفيذ النوع الأوّل السابق ذكره من أجل فتح الطريق أمام مجموعة اقتحام منظّمة تقوم باقتحام المكان بعد حصول التفجير الانتحاري من أجل أسر الرهائن أو تصفيتهم أو جمع المال اذا تعلّق الأمر بعملية تستهدف مؤسسات بنكية.
ويفترض بحسب المؤشرات الراهنة أن تكون العمليات الانغماسية بنوعيها الاثنين احدى السمات البارزة في الاستراتيجات الارهابية المستقبلية في تونس خاصّة بعد أن أعلن الذراع الاعلامي للمجموعات الارهابية في تونس (افريقية للاعلام) تحرير المبادرة الفردية ومنح الضوء الأخضر ل”الجهاديين” لتنفيذ هجمات ضدّ السياح أو المسؤولين في نقاط حيوية في تونس دون الرجوع الى قيادة التنظيم، فضلا عن كونه (أي البيان) كان قد وصف عملية الهجوم على متحف باردو صراحة بالانغامسية بالقول:
“تبايعوا على الموت في سبيل الله،فواصلوا في الإشتباك ساعات وإنتشروا كلّ منهم في مكان،كل منهم كان جيشا لوحده،بسالة وإستبسال وقتال حتّى الموت أسوة بالصحابة والتابعين، وأسوة بإخوانهم في روّاد وجندوبة وواد الليل،إنتهت الذّخيرة وإرتقى من إرتقى، فإنغمس البقيّة وفُجّرت الأحزمة النّاسفة، صدقوا الله ما عاهدوه عليه: قتال في سبيل الله حتّى الشّهادة،ونالوا ما تركوا لأجله الديّار وسعوا من أجله وتاقوا إليه: شهادة في سبيل الله.
انّ هذه الخطوة، على خطورتها، تعكس تخبّط التنظيم، بأذرُعه المحليّة وقيادته الاقليمية، وعدم قدرته على ادارة عمليات منظمة في التراب التونسي ما جعله يعوّل على الانتحاريين للقيام ب”عمليات انغماسية” لمواصلة انهاك الدولة وارباك أجهزتها الى أن تحين ساعة الانقضاض الجماعي.
وفي انتظار ذلك ليس من المستبعد أن تكون مرحلة الانغماس مُعزّزة ببعض العمليات الانفرادية التي قد تأتي ضمن استراتيجية ما يسمّى ب”تحرير المبادرة” أو “الذئاب المنفردة” التي لم تغفل بيانات كتيبة عقبة بن نافع الأخيرة عن التبشير بها بل والدعوة اليها بشكل صريح في اطار حربها النفسية التي تخوضها ضدّ أجهزة الدولة والمجتمع التونسي “الكافر” وفق توصيفها له.