عوامل كثيرة ساعدت على تشكيل هذه الشخصية المتنوعة، بعضها تأصّل في الذات منذ الصغر وبعضها الآخر أنتجتهُ الحياة بتقلباتها وتموّجاتها. كانت للرجل ذاكرة نادرة وطاقة خلاّقة يحسده عليها أصدقاء الطفولة ورفاق الدرب ممّن خَبرُوه عن قرب.
للمكان أيضا حضور صاخب في شخصية شكري، إذ كان يسير في أزقة الحياة متوسّلا بحكمة الشاعر التشيلي بابلو نيرودا “يموت ببطء من لا يسافر”… فسافرَ في الحياة مرتحلا من الحي الشعبي الفقير بضاحية “جبل الجلود” إلى بلاد البابليين ومهد الحضارات العراق، ثم إلى عاصمة “روسو” و “بودلير” بلاد الأنوار باريس.
بلعيد الصبيّ المشاكس والعنيد
وُلِد الشهيد شكري بالعيد يوم 26 نوفمبر 1964 بأحد أحزمة الفقر المحيطة بتونس العاصمة، بمنطقة جبل الجلود، الحي السكني والصناعي الذي يقع على مشارف المدخل الشرقي للعاصمة. وقد كان والده صالح بلعيد، الذي ينحدر من قرية “سيدي عبيد” من منطقة بوسالم، يشتغل عاملا بأحد مصانع الخياطة بمنطقة جبل الجلود.
اصطحَبَنا والده الحاج صالح إلى منزله بجبل جلود، مشيرا بيديه، أثناء الطريق، إلى المدرسة الابتدائية بنهج سكيكدة التي زاول فيها شكري تعليمه الابتدائي وإلى أزقة الحي المتشابكة التي لعب فيها مع أترابه “البيس” و”الزربوط”، وتخاصم فيها مع الكثير من أصدقاء الطفولة وتصالح فيها مع البعض الآخر، الأمر الذي جعله في نظر أصدقائه -آنذاك- مصدر خوف وحب في آن واحد.
“ابني كان مشاكسا وعنيدا ولا يقبل الهزيمة، ولم يكن متطلّبا كغيره من الأطفال…قنوعا ولا يعير اهتماما كبيرا للهدايا”.
هكذا لخّص الحاج صالح ملامح شخصيّة ذلك الطّفل الجامح الذي تجرّع مرارة اليتم على صغر سنّه بعد أن توفيت والدته “مبروكة” وهو في الرابعة من عمره. ولعل رحيل أمّه في سن مبكرة طبَع علاقته بالمرأة بصفة عامة وجعله شخصا مرهفا ودافئا في تعامله مع الجنس الآخر. ومن النوادر التي ورثتها العائلة عن شكري أنه كان ينفق كل أمواله في “شراء” القُبَل من شقيقته الصغرى “منى”. فقد كان يدفع لها بسخاء مقابل أن تشاكسه وتقبّله ليجد نفسه من الغد مطالبا باقتراض ثمن تذكرة الحافلة من العائلة.
ويواصل العم صالح مسترجعا صورة طفله الصغير قائلا:
“شخصيته القوية والعنيفة في بعض الأحيان أربكت معلّمه في المدرسة الابتدائية، ولكنه كان ينال حظوة كبيرة عند كل مدرّسيه نظرا إلى ذكائه ونباهته وتفوقه على كل أترابه”.
تلميذ برتبة “طالب”
بعد إتمام المرحلة الابتدائية بتفوّق التحق شكري بالمعهد الثانوي ببن عروس حيث قضّى السنوات الأولى من المرحلة الثانوية، وتأثّر بجاره أستاذ الفلسفة أحمد بوعلاق الذي توفي منذ سنوات. يقول الشقيق الأكبر لشكري، عبد المجيد بلعيد، في هذا السياق متذكّرا:
“لقد تفطنت بعد عودتي من فرنسا سنة 1975 إلى أنّ اهتمامات شكري كانت تفُوق سنّه بكثير، كان يقرأ كل كتب الفلسفة والشعر التي كان يعيره إياها الأستاذ بوعلاق، ومن هنا بدأ يتعلم أولى أبجديات الفكر الماركسي ويتأثر به”.
بوعلّاق كان بدوره يجيب كلّما سُئل عن عن سرّ اهتمامه بالفتى الذي لم يقفل بعد الأربع عشرة ربيعا بالقول انّ “هذا الفتى سيكون شخصية لامعة”.
بعد المرور بمعهد بن عروس التحق شكري بالمعهد الثانوي بالوردية، وهناك شرع في الممارسة الفعلية للعمل السياسي وانخرط في الحركة التلمذية التي كانت تشهد اتقادا غير مسبوق في بداية ثمانينات القرن الماضي ليتمّ ايقافه مطلع سنة 1984 على خلفية انتفاضةالخبز والاحتفاظ به في السجن لمدّة شهر.
ولعل الملفت للانتباه أن شكري لم يكتف بالإحاطة بما كان يدور داخل أسوار معهده وإنما كان يتردد على المركب الجامعي بالمنار الذي كان يحتضن في فروعه جيلا لا بأس به من نشطاء الحركة الطلابية.
ولم يكن التلميذ شكري زائرا “خجولا” يكتفي بالإنصات إلى ما يدور من حلقات و اجتماعات عامّة بل كان فضوليا وجريئا يُدلي بدَلْوه ويشارك في الخطب والنقاشات السياسية، الأمر الذي قرّبه إلى العديد من النشطاء اليساريين الذين يفوقونه سنا، ومن أبرزهم المحامي محمد الهادفي الذي كان السبب في انخراطه آنذاك في التيار الوطني الديمقراطي والتأثر بأطروحاته الماركسية اللّينينيّة. تلك التجربة جعلته يحسم أمر مساره العلمي بشكل مبكّر ليختار مواصلة دراسته الجامعية في كلية العلوم بتونس في اختصاص الفيزياء والكيمياء.
الجامعة والطريق إلى المنفى
في كلية العلوم بتونس بدأت تتشكل ملامح الشخصية السياسية المعارضة لنظام الحكم “البورقيبي”. وفي قلب المشهد السياسي والعقائدي “البانورامي” الذي عرفته الحركة الطلابية آنذاك، بحثَ شكري عن موقع يتطابق مع قناعاته، فانحاز إلى التيار الوطني الديمقراطي.
وفي الحقيقة فانّ هذا الانحياز تعود خلفياته إلى المرحلة التلمذية التي كان شكري يتردد فيها على الجامعة حيث تشبّع في وقت مبكّر من حياته بخصوصية هذا الفكر.
ساهم بلعيد في تأسيس الفصيل الطلابي لهذا التيار الذي أُطلِق عليه اسم “الوطنيون الديمقراطيون بالجامعة”، وقد كان أولَ من تكلم باسمه مُعلنا ميلاده يوم 5 ديسمبر 1984 لينطلق بعد ذلك في رحلة التعريف به في العديد من التظاهرات الطلابية من خلال التردّد على عديد الجامعات. وفي الفترة الفاصلة بين سنتي 1985 و1986 اعتُقِل الطالب شكري بلعيد ليخضع إلى التجنيد الإجباري بقرار من السلطة السياسية البورقيبية آنذاك.
في شاحنة التجنيد العسكرية حُمِل شكري بلعيد صحبة المئات من الطلاب بمختلف مشاربهم الفكرية والسياسية من مدارج العلم إلى صحراء الجنوب التونسي برجيم معتوق حيث تذوّق عذابات المنفى وطرائفه وتقاسم مع الآخرين محنة الصحراء ووحشتها.
ومن النوادر التي رواها رفاقه أنّ إدارة الثكنة كانت تمنع بصرامة فتح المواضيع السياسية والخوض في النقاشات بين المُجنّدين فكان أن نظّم هؤلاء مباراة كرة قدم بين فريق “اليسار” وفريق “الإسلاميين”، ولم يكن شكري لاعبا جيدا ففرض نفسه مدرّبا لفريق اليساريين، وانتهت المبارزة بفوز اليساريين…وحُمِل المدرب على الأعناق.
هذه الواقعة وغيرها من وقائع التاريخ غير البعيد تشي كلّها بأن الرجل لم يكن يعادي الإسلاميين في المنفى، بل كان صديقا لهم، ولعل أحبّهُم إلى قلبه كان العجمي الوريمي، فيلسوف حركة النهضة، الذي مازال يذكره بخير ويشيد بخصاله.
في منفاه برجيم معتوق كتب بلعيد أيضا قصيدته الشهيرة “قم يا حسين العلَم” التي رثى فيها المفكر الماركسي اللبناني حسين مروة إثر اغتياله في سنة 1987.
من بغداد إلى باريس
فترة التجنيد القسري في رجيم معتوق دامت نحو عام (1985 – 1986) مرض على اثرها شكري بلعيد فتمّ نقله الى المستشفى العسكري بالعاصمة للعلاج ليتمّ بعد ذلك اخلاء سبيله ووضع حدّ لعقوبة التجنيد. عاد بلعيد، على اثر ذلك، الى العاصمة حيث انخرط من جديد، بحماس أكثر من السّابق، في النشاط الطلابي. وساهم في إنجاز المؤتمر 18 الخارق للعادة للاتحاد العام لطلبة تونس الذي انعقد في سنة 1988 وانتُخب شكري عضوا في مكتبه التنفيذي الى جانب نوفل الزيادي وسمير العبيدي وجوهر بن مبارك وعاصف اليحياوي (…) ليتمّ بذلك انتزاع المنظّمة النقابية الطلابية من براثن النظام بعد أن كان قد وضع يده عليها بتاريخ 1972 على اثر انقلابه على المؤتمر 17 وابطاله لأشغاله وتنصيبه لمكتب تنفيذي منبثق من رحم الحزب الدستوري الحاكم.
بعد ذلك المؤتمر تسرّب القلق من جديد إلى شكري بلعيد بفعل الحصار الأمني الذي كان يعيشه، حيث كان مراقبا ومفصولا من الدراسة. وفي بداية التسعينيات بدأ نظام الاستبداد الجديد يمارس عملية تصفية شاملة على معارضيه السياسيين، فقرر شكري السفر إلى العراق بإيعاز من أحد أصدقائه النقابيين. ولم يكن في البداية ينوي الاستقرار هناك، ولكن الزخم الثقافي الذي عرفته بلاد الرافدين في تلك الفترة شدّه إلى الانغماس في الفضاء “المشرقي” الجديد والساحر.
في العراق التحق شكري بكلية القانون ببابل التي نال فيها شهادة الأستاذية في الحقوق…وجالس في أروقتها كبار الكتاب من بينهم رئيس تحرير جريدة “الجمهورية” صلاح المختار الذي كتب معه شكري العديد من المقالات.
شكري كان يحظى باحترام كبار قادة النظام البعثي العراقي آنذاك أمثال الصحاف وطه ياسين رمضان. وقد كان لبلاد الرافدين فضل في شحذ معارف الرجل وإثرائها، اذ كانت معبرا ولَجَ من خلاله إلى مؤلفات كبار المفكرين الماركسيين العرب أمثال حسين مروة ومهدي عامل، بالاضافة الى الإطلاع على أطروحات “الإسلاميين” بمختلف مذاهبهم. والأفضل من ذلك أنّ تجربة العراق وضعته في قلب الحراك الشعري العربي الذي ازدهر في بغداد، عاصمة عبد الوهاب البياتي ونزار قباني ومظفر النواب.
كان شكري قارئا جيدا وكاتبا جيدا. له المئات من المقالات والقصائد. وقد أسرّ لنا شقيقه عبد المجيد بأنه ترك أشعارا تتسع لديوانين شعريّين سينشران قريبا.
في سنة 1998 عاد شكري إلى تونس، وعادت المراقبة البوليسية والهرسلة السياسية لتفعل فعلها فيه. فقرّر الارتحال مجددا، وكانت الوجهة، هذه المرة، عاصمة الأنوار باريس التي تحصّل فيها على شهادة المرحلة الثالثة في الدراسات القانونية، وغنم فرصة الإقامة فيها لينهل من مكتباتها ومن ثقافتها وتاريخها.
وفي الأثناء التقى شكري حبيبته بسمة الخلفاوي -أم طفلتيه نيروز وندى- التي رافقته في رحلة الدراسة إلى باريس، ليتزوجا هناك يوم 18 ماي 2002 ويعودا سويّة إلى تونس بعد إقامة لم تدم أكثر من ثلاث سنوات في باريس.
محامي الفقراء والسياسيين
مثّلت المحاماة واجهة جديدة للنضال السياسي والحقوقي، ودفعت بشكري العائد من باريس إلى معترك الحياة السياسية مرة أخرى لينشغل بالترافع في أمهات قضايا الرأي التي عرفتها تونس في بداية الألفية الثانية.
تجوّل الأستاذ بلعيد بين أروقة المحاكم نازعا قبعته السياسية. دافع عن السلفيين في ما يُعرف بأحداث سليمان 2007، مثلما دافع عن معتقلي الحوض المنجمي في انتفاضة 2008.
وقد شارك في حراك المحامين الذي عرفه شارع باب بنات بالعاصمة مع اندلاع أحداث انتفاضة 17 ديسمبر 2010، ما كلفه الاعتقال يوم 28 ديسمبر 2010 قُبيْل أقلّ من أسبوعين من انهيار أركان حكم بن علي.
“شكري لم يكسب أموالا من المحاماة…كان المحامي الإنسان الذي يترافع عن الفقراء والسياسيين.. لم يكن من المولعين بادخار الأموال وكان ينفق كل ما يكسبه من مهنته على العائلة وفي أنشطة الحزب..”.
الرجل الجامع
وأنت تبحث عن مكامن شخصية شكري بالعيد، يلحّ عليك كل من تصادفهم من رفاقه وأصدقائه بأن للرجل إيمانا لا يتزعزع بقضية “الوحدة”.
وقد تجلى ذلك بوضوح طوال المسيرة النضالية لشكري بلعيد، حيث ساهم في بداية الثورة في تأسيس حركة “الوطنيون الديمقراطيون” التي ضمّت “وطد الجامعة” وحلقات قادمة من تجارب أخرى في التيار الوطني الديمقراطي. ثم لعب دورا مركزيا في تأسيس حزب “الوطنيون الديمقراطيون الموحّد” بالاضافة الى مساهمته المركزية رفقة رفيقيه حمّة الهمّامي وعثمان الحاج عمر في تهيئة الأرضية السياسية الملائمة لتأسيس الجبهة الشعبية التي انخرطت فيها العديد من الأحزاب اليسارية بتوجهاتها الماركسية و القومية والعروبية.
“كان يمقت الطائعين ويحترم الرفيق الذي يتحدث قليلا ويعمل كثيرا.. وكان يحثّنا على التشبع بالفكر والإنجاز في نفس الوقت، وكان يوصينا بالابتعاد عن التشويه الأخلاقي للخصوم السياسيين…ومن بين ذلك أنه أوصى شباب الحزب بعدم الانخراط في ترويج مقاطع الفيديو التي كانت تظهر علي العريض القيادي في حركة النهضة في وضع “أخلاقي” مهين…”.
هكذا يصف رمزي الحاجي، أحد الرفاق المقربين لشكري بلعيد وعضو المكتب السياسي لحزب “الوطنيون الديمقراطيون الموحد” أهم الخصال الحزبية للرفيقه الشّهيد.
قبل الإغتيال : كتمان ووصايا في الطريق
لم يكن هاجس الموت بعيدا عن ذهنه بل كان يعيش بداخله ويسكن فيه ولكنّه لم يخف أبدا ولم يتراجع ولم يشأ أن يبوح بذلك حتّى لا يخيف المحيطين به ويشغل بالهم ويثنهم عن مواصلة السّير في درب النضال. يقول شقيقه عبد المجيد الذي كان يلازمه في تلك الفترة بأن “الوحيد الذي كان يدرك اغتيال شكري بالعيد هو شكري بالعيد”. وقد كان شكري يتحاشى الحديث عن التهديدات التي تصله أمام عائلته ورفاقه، وكان يبوح بذلك في شكل زلات لسان، ولكنه سرعان ما يتراجع ويهوّن من خطورتها عندما يتفطن إلى تفطّن الآخرين لذلك.
“كان كتوما وهادئا. يعمل بوتيرة تفوق العادة بكثير وكأنّ الرجل يحزم حقائبه استعدادا إلى الرحيل الأبدي…ولم يكن ينصت إلى وصايا والده التي تدعوه إلى خفض درجات الحدة في خطابه”.
قبل اغتياله بثلاثة أيام أوصى رفاقه في كواليس اجتماع مدينة الكاف الذي اقتحمته مجموعات متشدّدة بأن لا يُظهروا الجبن إلى خصومهم وأن يواجهوا العنف بأجساد واقفة وأن يواصلوا عقد الاجتماعات مهما كان حجم التهديدات.
في نفس تلك الفترة فتح شكري قضية تأسيس “الحزب اليساري الكبير” مع زعيم حزب العمال حمه الهمّامي وألحّ عليه بالشروع في هذه الخطوة… لتكون تلك آخر الوصايا التي تركها في الطريق قبل أن تستهدفه رصاصات الارهاب الغادرة أمام منزله بضاحية المنزه السادس قُبيْلَ مغادرته نحو عمله صباحا لتظلّ حقيقة اغتياله مغيّبَة بالرّغم من تبنّي احدى المجموعات الارهابية بقيادة المسمّى أبا بكر الحكيم بتاريخ 17 ديسمبر 2014، عبر مقطع فيديو نشر على الانترنات، الاغتيالين السياسيين الذّين طالا بلعيد ورفيقه محمد البراهمي لاحقا.
دون وعي منهم حقق الجناة احدى أكثر أمنيات شكري الحاحا ، كان الرجل يكره أن يموت على فراش المرض، ولطالما تمنّى الموت وقوفا كالأبطال، مثل غارسيا لوركا وباتريس لومومبا وصدام حسين.
شكري بلعيد عاش أكثر من جلّاديه وقاتليه. أصبح فكرة “سرمدية” يحملها كل الحالمين بالحرية، ويحفظها المبشّرون بالإنسان الجديد.رحل شكري بلعيد جسدا.. قتلوه برصاص الغدر كي يسكتوه .. فتحوّل الى فكرة والأفكار لا تموت، حتّى وان فنت الأجساد التي تحملها فانّ أجسادا أخرى وعقولا أخرى سترثها.