ايف ايلياهو.. حارس كنز اليهود في تونس

ايف ايلياهو قمحي، تونسي يهودي أصيل مدينة سوسة، تجرّأ على كسر حاجز الصّمت والحديث علانية عن مظاهر العنصرية التي يمارسها بعض مسلمي تونس والدولة التونسية ضدّ جزء من الشّعب وُلدَ على دين اليهود في مجتمع أغلبيّته مسلمة.
بقلم | 30 جانفي 2015 | reading-duration 15 دقيقة

متوفر باللغة الفرنسية
ثلاث محطّات كبرى قلبت حياته رأسا على عقب: سفرُهُ الى فرنسا للدراسة حيث تعرّض الى الظّلم والحيف على يد الأستاذ المشرف على الماجستير.. دخوله مهنة المحاماة وكلّ ما حفّ به من أحداث وهوامش ومغامرات وصلت الى حدّ الدّفع به لمراجعة مفهوم الوطنية والهويّة التونسية بالنسبة اليه بعد أن تمّ منعه من أداء الخدمة العسكرية في وطنه تونس بدعوى أنّه يهودي الدّيانة.. وأمّا المحطّة الثالثة فتمثّلت في مرض والدته ب”آلزهايمر” حيث تعطّل نمط حياته الطّبيعي ما اضطرّه الى تغيير سلوكه اليومي.

ايف ايلياهو قمحي، 36 سنة، هو محام يهودي يحمل الجنسيّتين التونسية والفرنسية ويقيم في مسقط رأسه منطقة بوجعفر الواقعة في مدينة سوسة الساحلية. عاش طفولة ثريّة بالتجارب ذات المنحى الوجودي، فقد تربّى داخل أروقة كنيس يهودي محاذي لمنزل عائلته ولكنّ ذلك لم يمنع والدته من الحاقه بأحد كتاتيب المسلمين لحفظ القرآن وتعلّم الكتابة والقراءة على مدى سنتين قبل أن يلتحق بالمدرسة.

ايف، 36 سنة، يهودي تونسي يمتهن المحاماة، وسعيد بهويّته متعدّدة الأبعاد. التقطت هذه الصورة في بهو كنيس اليهود ببوجعفر من مدينة سوسة (صور وليد الماجري)

طيلة فترة طفولته لم يكن ايف يدرك أنّه مختلف عن بقيّة أقرانه، ولكنّه مع مرور السنوات وجد نفسه مطالبا بحسم أمر هويّته وتحمّل تبعات ذلك أمام المجتمع ذي الأغلبية المسلمة:

“أنا يهودي قناعةً واكتسابا، أي أنّني وُلدت يهوديا واخترت عن اقتناع أن أظلّ يهوديا. لم أشأ أن أغادر البلاد أو أن أبقى فيها مع تغيير ديني.. بل لم أفكّر في ذلك مطلقا فأنا تونسيّ قبل كل شيء ثمّ تأتي هويّتي اليهودية في مقام ثاني”.

تأسّس الكنيس اليهودي، الذّي تربّى ايف ايلياهو في أروقته، بتاريخ 11 سبتمبر 1913 على يد كبير الأحبار اليهود في تونس آنذاك ويدعى يوسف جاز. وكان مزارا للآلاف من اليهود يؤمّونه لأداء الطّقوس والاحتفال بالأعياد وتعميد المواليد الجدد.

منزل عائلة ايف كان –وما يزال- محاذيا لهذا الكنيس، لذلك فقد كانت طفولة ايف يهوديّة بامتياز ومتشبّعة بالثقافة والإرث اليهوديّين. يقول ايف انّ اليهودية تحدّد سنّ البلوغ لدى الذكور ب13 سنة، كما تشترط خلال أداء صلاة “الشّاباط” (يوم السبت) توفّر ما لا يقلّ عن 10 ذكور بالغي سنّ الرّشد. ولمّا أصبح عدد اليهود قليلا في سوسة وبات من الصّعب أحيانا توفير النصاب اللازم (10 ذكور) لأداء “الشاباط” كان الاستنجاد بالطفل ايف البالغ من العمر 13 سنة آنذاك أمرا حتميا لاستكمال النّصاب “كانت تجربة وجودية وروحانية مؤثّرة جدّا بالنسبة الّي- يقول ايف- فقد كنت أشعر أنّني يهودي قولا فعلا بالرغم من انفتاحي على الثقافة الاسلامية”.

ايف، خلال أيّام الطفولة، بصدد الجلوس أمام بوّابة المقصورة التي تحتوي على المخطوطات اللّوحية النادرة

يهوديّ الدّيانة إسلامي الهوى

ديانتُه اليهودية لم تمنعه من الخوض في الدّين الإسلامي دون أن يفكّر في اعتناقه، فقد دأب ايف منذ صغره على قراءة القرآن والأحاديث النبوية وسيرة الصّحابة وكُتُب التفكير الإسلامي، بل انّه كان متميّزا جدّا في مادّة التفكير الإسلامي خلال مرحلة التعليم الثانوي وفق تأكيده:

“كنت قارئا جيّدا ونهمًا، وكانت تحرّكني رغبة جامحة في الانفتاح على هذا الدّين الذّي يشكّل العمود الفقري للمجتمع التونسي ويعتبر مكوّنا رئيسيا من مكوّناته الحضارية والثقافية. قرأت كثيرا وتمعّنت كثيرا فوجدت أنّ النقاط التي تجمع اليهود بالمسلمين أكثر بكثير من النقاط التّي تفرّقهم. أحيانا عندما أفتح كتاب القرآن أو أدخل الى جامع أشعر الشعور ذاته وأنا أفتح التّوراة وألجُ الى داخل كنيس يهوديّ”.

خلال السنة الثانية من التعليم الابتدائي في حفل نهاية السنة باحدى مدارس سوسة

ايف شخصيّة طريفة وجدلية في آن واحد، يهوديّ الدّيانة إسلامي الهوى. عقلانيّ جدّا، تطغى على سلوكه الخطوات المدروسة اذ لا مجال للعفوية والتلقائية المفرطة وسط مجتمع تحرّكه العواطف والوجدان ويغيب فيه العقل الراجح كلّما تعلّق الأمر بخلافات ذات طابع ديني أو عرقي:

“انّه التخلّف بعينه –يقول ايف- فالاختلاف والتنوّع هما عنصر إضافة للمجتمع فلماذا يتمّ النظر اليهما على أنّهما خطر يتهدّد كينونة المجتمع وتماسكه”.

فالمجتمع التونسي، بالنسبة الى ايف، هو ماكينة جامدة وسطحية، تأبى التعمّق والانفتاح على الآخر المختلف، بل انّها تأبى الانفتاح على نفسها والتكشّف على ما بداخلها من اختلافات وتناقضات.

وقد وجد ايف نفسه في أكثر من مناسبة يعاني بعض مظاهر العنصرية داخل وطنه ومجتمعه فقط لأنّه يهوديّ، حتّى أنّ البعض وبمجرّد أن يتفطّن الى أنّه يهودي لا يتردّد في التفوّه بعبارات عنصرية من قبيل “خسارة.. ظننتك مسلما”، بل انّ البعض الآخر يذهب الى أكثر من ذلك ليقول “ظننتك تونسيّا”، وبذلك يتمّ طمس الهويّة التونسية ل”ايف” بمجرّد أن يتعرّف الناس على اعتناقه لليهودية. حتّى جهاز الأمن – يقول ايف- لم يشذّ عن القاعدة حيث لم يستوعب عدد من أعوان البوليس الى حدّ الآن حقيقة مفادها أنّ ايف مواطن تونسي كامل الحقوق والواجبات وأنّ اليهودية ليست سوى دينا وُلدَ عليه ونشأ على تعاليمه كما وُلد باقي المواطنين التونسيين على دين الإسلام ونشئوا عليه.

يقول ايف متذكّرا احدى الطرائف التي حصلت له مع الأمن خلال مشاركته في تظاهرة “الغريبة” التي تعتبر موعدا مقدّسا لكل يهود العالم في جزيرة جربة:

ايف يعشق النجم الرياضي الساحلي ويعتبره جزء من هويّته التونسية اليهودية الساحلية/ حاملة مفاتيحه بها شعار هيئة المحاماة الى جانب شعار النجم الرياضي الساحلي التونسي

“كنت متّجها الى الكنيس خلال تظاهرة الغريبة (موسم حجّ اليهود بجربة) عندما أوقفني عون أمن مانعا ايّاي من الدخول بتعلّة أنّ الدخول حكر على اليهود فحسب، ولمّا أجبته بأنّني يهوديّ نظر اليّ معلّقا على هندامي الرياضي قائلا، وما علاقتك باليهود فأنت ترتدي قميص النجم الرياضي الساحلي، فابتسمت وحاولت اقناعه بأنني تونسي أصيل مدينة سوسة يهودي الديانة وأعشق النجم الساحلي، الّا أنّ اجابته كانت صادمة جدّا اذ نظر اليّ باشمئزاز وقال: يهودي وساحلي في نفس الوقت، أعوذ بالله …”.

تلك الواقعة ما تزال عالقة في ذهن ايف تأبى أن تُمحى أبدا فقد تعرّض يومها الى العنصرية مرّتين في آن واحد: مرّةً من منطلق ديني لانّه يهودي، ومرّة ثانية من منطلق جهوي لأنّه ينحدر من جهة الساحل المُترف الذّي لا يلقى أهله القبول أحيانا في أذهان متساكني الغرب المهمّش.

حارس الكنز المغمور

انّ الولوج الى الكنيس اليهودي في بوجعفر ليس أمرا عسيرا، فالأقفال سهلة الخلع، والجدران، رغم مجهود الصيانة، تلوح متهرّئة وبعضها قد يتداعى للسقوط بعد أن نخرته الشقوق وعرّته الأمطار. ولكن خلف هذه الجدران المتآكلة يوجد كنز لا يقدّر بمال. كنز ثمين يحمل أبعادا دينية و ارثا انسانيا يتجاوز الدّين اليهودي ليخاطب الحضارة الانسانية جمعاء. وقد شاءت الأقدار أن يكبر ذلك الطّفل اليهودي ذو الثقافة الاسلامية ليصبح حارس الكنز المغمور ومؤتمنا على حفظ رسالته حتّى يضمن تواصله وانتقاله في أحسن الأحوال الى الأجيال اليهودية اللّاحقة.

خلف الجدران المتهرّئة لهذا الكنيس القديم يختبئ كنز لا يقدّر بثمن يتمثّل في مخطوطات لوحية قديمة لكتب التوراة (صور وليد الماجري)

يفتح ايف باب سقيفة مزركشة برسوم وعبارات كُتبَت باللغة العبرية، يقف خاشعا أمام بابها، يتمتم بعبارات عبرية مبهمة، يمسح بيُمناهُ على جبينه، ثمّ يُولج يده الأخرى الى داخل السقيفة بحذر شديد ليطلعنا على علبة دائرية مزركشة. لَمَسَها بحذر وخشوع وفتحها لنجد بداخلها مخطوطا يدويا لكتاب التوراة توارثه يهود تونس جيلا بعد جيل:

“هذا المخطوط مقدّس ونادر جدّا.. أكبر الكنائس اليهودية في القدس مثلا يحتوي على مخطوطين أو ثلاثة على أقصى تقدير. هل تعلم عدد المخطوطات التي يتحوّز عليها كنيسنا الصّغير.. لن تصدّق.. ثلاثون مخطوطا أثريا كتبت بخطّ اليد. انّه كنز انساني بأتمّ ما في الكلمة من معنى، كنز لا يقدّر بمال الدّنيا”يقول ايف مفتخرا.

في ما مضى كان رجال الدّين يعتكفون داخل الكنيس لفترة قد تصل الى سنتين أو ثلاثة دون انقطاع. وتخصّص تلك السنوات لكتابة التوراة بخطّ اليد على ورق برديّ مخصوص بواسطة حبر لا يمحى أبدا. وبعد الانتهاء من الكتابة، يحفظ المخطوط في علبة لوحية ثمّ تُنظّم احتفالات دينية للغرض ويطوف الآلاف من اليهود بذلك المخطوط في شوارع المدينة للتعبير عن فرحتهم بالانتهاء من انجازه.

وعلى امتداد السنوات الخمسين المنقضية تداعت عدّة كنائس يهودية للسقوط في مناطق مختلفة من الساحل التونسي على غرار المكنين والمنستير وسوسة العتيقة فتمّ نقل كل المخطوطات الى كنيس بوجعفر ليتحوّل الى معلم منسيّ لكنّه يحمل كنزا انسانيا ثمينا قد لا تحتوي عليه كنائس القدس مجتمعة، وفق تأكيدات ايف ايلياهو الذّي اختاره القدر ليكون الحارس الأمين لذلك الكنز وسط “تجاهل” السلطات التونسية لنداء الاستغاثة الذي ما فتئ يطلقه من أجل صيانة الكنيس وترميمه بالاضافة الى “تقاعس” الهيئة الوقتية لصيانة الديانة اليهودية عن أداء واجبها وتوجيه أنظارها لكنيس العاصمة أكثر من غيره.

جدران متشقّقة لم يُفلح مجهود الترميم الذاتي في محو آثارها (صور وليد الماجري)

“عملاء” و “خونة” مع تأجيل التنفيذ…

إحساس قاتل أن تعيش في وطن ينظر جزء كبير منه إليك على أنّك “شيطان” أو “عدوّ محتمل” فقط لأنّك مختلف عليهم. ويتعاظم هذا الإحساس بالألم عندما تتسرّب هذه الأفكار من عامّة الشّعب إلى أجهزة الدّولة فيتمّ التعامل معك على أنّك “خائن محتمل” وبالتالي وجب التوقّي منك حتّى لا تُلحقَ بالوطن الأذى.

ايف ايلياهو عاش على وقع هذا الإحساس لأوّل مرّة عندما بلغ السنّ القانونية للرشد وأصبح بذلك مطالبا بأداء الخدمة العسكرية غير أنّ الوطن رفضه ولفضه وتعامل معه بعنصرية مقيتة فقط لأنّه يهودي، رغم أنّ القانون يساوي –نظريا- بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات.

يقول ايف انّه اعتاد منذ تجاوز سنّ الثامنة عشر أن يتمّ إيقافه خلال دورات التجنيد مثل بقيّة الشبّان التونسيين، غير أنّه لم يسبق أبدا أن تمّ تجنيده حيث جرت العادة أن يتمّ إخلاء سبيله بمجرّد قراءة اسمه اليهودي على بطاقة هويّته:

“في البداية لم أكن أفهم ما يحصل –يضيف ايف- الّا أنّني تفطّنت الى أنّ يهود تونس ممنوعون من أداء الخدمة العسكرية في وطنهم عندما رغبت في تسوية وضعيّتي القانونية ازاء واجب الخدمة العسكرية كشرط من شروط قبول مطلب تسجيلي في هيئة المحامين لمباشرة مهنة المحاماة، ومن هنا انطلقت مغامرتي وانطلق معها الشعور بالألم”.

تقدّم ايف بمطلب الى منطقة الأمن بسوسة لتسوية وضعيّته ازاء الخدمة العسكرية سواء من خلال نيل مُهلة التأجيل المعمول بها أو من خلال أداء الخدمة العسكرية، الّا أنّ مطلبه جُوبهَ بالرّفض مرارا وتكرارا فاضطرّ للتنقّل الى الادارة التي تُعنى بهذا الشأن في ضاحية العمران بالعاصمة، لتتعمّق حيرته أكثر فأكثر حيث تمّ رفض قبول مطلبه، ومع إصراره وتمسّكه بحقّه في تطبيق القانون عليه وجدت الجهات المعنية نفسها في مأزق حيث لا وجود لمانع قانوني ينصّ صراحة على إعفاء أو منع يهود تونس من أداء الخدمة العسكرية وفي المقابل فانّ إجراء المنع معمول به في تونس بشكل عُرفي غير معلن منذ تأسيس الجيش التونسي بعد الاستقلال إلى حدّ الآن.

ايف، مولعٌ بالتقاط الصور لنفسه لتوثيق الأحداث اليومية التي يعيشها. هذه الصورة التقطت على خلفية مشاركته في مسيرة للمحامين بسوسة على اثر حادثة صفع المحامي عادل رويس من قبل عون أمن

ايف أجرى بحثا في هذا الغرض فقيل له انّ هنالك سببين أساسيّين مُعلنين يتمّ من خلالهما تبرير رفض تجنيد اليهود في الجيش التونسي:

السّبب الأوّل: لا يمكن إعداد وجبات حلال “كاشير” في الثكنات العسكرية تتلاءم مع التعاليم اليهودية وبالتالي إعفاء اليهود من الخدمة العسكرية يلُوح أمرا حتميا.

السبب الثاني: الجيش يخشى من فرضيّة اعتداء بعض الجنود المسلّحين (المسلمين) على زملاء لهم ممّن يعتنقون اليهودية وبالتالي سينجرّ عن ذلك عداوة وانقسام داخل الجيش فضلا عن مشاكل وطنية ودولية مع ممثّلي “الجالية” اليهودية في تونس وخارجها.

هذان السّببان المعلنان لم يقنعا ايف الذّي اهتدى بعد جولة من البحث والتدقيق الى سبب ثالث غير معلن لرفض تجنيد اليهود في تونس يتمثّل أساسا في تفشّي فكرة لدى العقل العسكري التونسي تعود جذورها الى الصراع العربي الاسرائيلي مفادها أنّ المواطنين اليهود في تونس “خونة” و “عملاء للصهاينة” وأنّ ادماجهم في الجيش التونسي من شأنه احداث ثغرة في الأمن القومي حيث من الممكن أن يقوم المجنّدون اليهود بنقل أسرار عسكرية خطيرة الى جيش العدوّ:

“انّنا خونة وعملاء في نظر الجيش التونسي مع تأجيل التنفيذ لذلك يتمّ منعنا من واجب الخدمة العسكرية. انّه أمر مخز للغاية، نحن مواطنون درجة ثانية، فلا الدستور ولا الاتفاقيات الدولية تستطيع أن توقف هذه النظرة العدائية نحونا. ألمْ يقل نشيدنا الوطني، فلا عاش في تونس من خانها ولا عاش من ليس من جندها؟ نحن لسنا من جندها أو بالأحرى مُنعنا من حقّنا في أن نكون من جندها، فهل هذا من العدل في شيء”.

ولئن كان نظام الخدمة العسكرية عنصريا تجاه اليهود ولكن بشكل متحفّظ وغير معلن فانّ الدستور وجملة القوانين المنظّمة للسلطات العمومية لم تجد حرجا في اقصاء غير المسلمين من امكانية الترشّح لمنصب رئاسة الجمهورية: “نحن لا نهتمّ مطلقا لهذا المنصب ولكنّ مجرّد سلبنا حقّ الترشّح اليه تسبّب في ألم كبير لنا وعمّق فكرة أنّنا مواطنون درجة ثانية”.   

باسم الدّين والثقافة محرومون من الحبّ

أعزب رغم أنفه لأنّه لم يعثر الى حدّ الآن على فتاة يهودية للزواج بها في تونس على اعتبار أنّ “الدّين اليهودي صعب ومعقّد للغاية، ولا يتيح لليهودي الزواج من غير معتنقي الديانة اليهودية” وهذا أحد أوجه معاناة عدد من اليهود في تونس وفي العالم.

ايف انقطع منذ سنوات عن الدّخول في مغامرات عاطفية مع نساء تونس، وبات يمارس على نفسه حالة من الرقابة المسبقة، ويفرض على قلبه ألّا ينبض عشقا لغير المرأة اليهودية لأنّه يعلم في نهاية المطاف أنَّ عشقَ المرأة غير اليهودية لن يخلق سوى وضعية شائكة من الألم والصّراع بين العائلتين اليهودية (عائلته) وغير اليهودية (عائلة حبيبته) مثلما حصل في مناسبات عديدة مع عدد من الشبّان اليهود الآخرين.

بعد تحفّظ طويل فتح ايف ايلياهو قلبه واعترف بأنّه عاش تجارب عاطفية متعدّدة مع عدّة شابّات تونسيّات وأنّه كان يشعر مع كلّ لمسة وكلّ قُبلة وكلّ كلمة “أحبّك” أنّه بصدد ارتكاب حماقة كبرى، فالوضع لا يحتمل الاجتهاد، ولا مجال للمجازفة واطلاق العنان للقلب كي يختار ف:

“هنا، تتوقّف المشاعر، وتصبح حياتك العاطفية الخاصّة قضيّة رأي عام بامتياز، وقد ينجرّ عنها جدل ديني وقانوني بالاضافة الى الحرب المنتظرة بين عائلتيْ الحبيبين في حال كان أحدهما فقط يُدينُ لليهودية”.

راشيل بلحاس ماليح، 67 سنة، والدة ايف تعاني مرض آلزهايمر، غير أنّ الفقدان المفرط للذاكرة لم ينجح في جعلها تنسى بأنّ فلذة كبدها ما يزال أعزب دون حبيبة.

كنّا نسترق البصر بين الفينة والأخرى نحوها فنراها غارقة في التأمّل. حدّثتنا بلكنة ساحلية (أصيلة المكنين) عن مواصفات زوجة ابنها المنتظرة، قالت انّها غاية في الجمال وأنّها ناصعة البياض ورقيقة ومهذّبة، ثمّ لم تلبث أن عادت لتغرق في التأمّل داخل الكنيس المحاذي للمنزل مدندنة بلحن لأغنية من التراث اليهودي تتغنّى بتظاهرة الزواج دون أن تغفل عن التحدّث عن “الكرامات” التي يمكن القيام بها لتقريب الأزواج وتذليل العراقيل بين القرينين مؤكدة أنّ الشابات المسلمات أيضا يُقبلن على هذه “الكرامات” من أجل وضع حدّ لسوء الطّالع وتواصل فترة العنوسة.

راشيل أصبحت بمثابة الأمّ والأخت والحبيبة لابنها ايف المحروم من عشق النساء غير اليهوديات (صور وليد الماجري)

ايف هو عاشق متيّم بوالدته. هي الآن في نظره الأمّ والزّوجة والأخت والحبيبة والصديقة. معها يقضّي فترات متفرّقة من اليوم، يعتني بها ويحضّر لها وجبات الأكل، ثمّ يغلق عليها الباب ويغادر باتّجاه مكتبه الكائن على بُعد عشرات الأمتار من مكان اقامته.

منذ مرضت والدته تبعثرت حياته وأصبح في أمسّ الحاجة الى زوجة تشاركه يوميّاته وتبدّد روتين حياته. ولكن من أين له بزوجة يهودية وقد تهرّمت “طائفة” اليهود في الساحل ولم يعد هنالك نساء يصلحن للزواج:

“في ما مضى، تقريبا في الستينات، كان عدد اليهود في الساحل يناهز الثلاثة آلاف، أمّا اليوم فعددهم لا يتجاوز الخمسين على أقصى تقدير، ثلاثون منهم يقيمون في سوسة وأغلبهم من كبار السنّ.”

ويعود سبب هذا التراجع الكبير في عدد اليهود – بحسب شهادة ايف- الى هجرة اليهود نحو أوروبا أو اسرائيل بحثا عن موطن آخر ليس فيه مظاهر تفرقة أو عنصرية تجاه اليهود. هذه الوضعية خلقت فراغا كبيرا في تونس حيث أثّر غياب اليهود كثيرا في حياة من تبقّى من اليهود فأصبحوا أقلّية غير مؤثّرة في الشأن العام ومنكمشة على ذاتها. 

داخل كنيس اليهود الصغير بمنطقة بوجعفر من مدينة سوسة يكمن ارث انساني يجب الاهتمام به قبل أن يندثر مثلما اندثر غيره في كنائس يهودية أخرى (صور وليد الماجري)

غادرنا مدينة سوسة بعد يوم ممتع قضّيناه مع ذلك الشاب اليهودي ايف، وفي أذهاننا ظلّت بعض كلماته عالقة. لقد حدّثنا عن العرب بنبرة حزينة قائلا انّنا/انّهم يعشقون جَلْد ذواتهم ويتفنّون في تحويل انتصاراتهم الى انكسارات، حتّى الثورات العربية –يقول ايف- تحوّلت الى حروب واقتتال طائفي لأنّ العرب تخلّوا عنها بعد أن انجزوا خطواتها الأولى. يجب أن يتخلّص العرب من متلازمة جلْد الذّات. 

كانت هذه آخر وصايا ايف قبل أن يودّعنا على أمل الالتقاء به في مناسبات أخرى.