زهير ينتمي إلى أقلية دينية قلّما يُسمع عنها في تونس، لها تاريخ يعود إلى أوائل القرن الماضي، وتعد في تونس بضع مئات من الأشخاص (أو ما يناهز الألفين، حسب اختلاف المصادر).
البهائية ديانة مستقلة بذاتها، تعرّف نفسها على أنها " توحيدية، تقوم على تعاليم كلّ من 'حضرة الباب' و'حضرة بهاء الله'، وتعترف بصحّة وحقيقة جميع الدّيانات العالميّة الرّئيسيّة الأخرى، لكنها ليست طائفة أو فرعًا لأيّ منها".
هي ديانة حديثة مقارنة بالأديان الكبرى، ظهرت في بلاد فارس في أواسط القرن التاسع عشر، وتعدّ من 5 إلى 8 ملايين بهائي وبهائية متواجدون في معظم بلدان العالم بأعداد مختلفة، أكبرها في الهند.
في تونس -ذات التاريخ الطويل من التعددية الدينية- يشكل الإسلام السني (المذهب المالكي) اليوم الديانة المتوارثة للغالبية العظمى من السكان بحوالي 99% من التونسيين·ـات وفقا للتقرير الدولي للحريات الدينية لسنة 2023، بينما لا تتجاوز نسبة المنتمين·ـات لديانات وملل أخرى، بما في ذلك المسيحية واليهودية والبهائية وغيرها، 1%. وتذكر بعض المصادر الأخرى، من قبيل استطلاعات قام بيها البارومتر العربي سنة 2018-2019، على عينة تضم 25.000 شخص في 10 دول عربية، أن نسبة التونسيين·ـات المستجوبين·ـات والذي صرّحوا بأنهم "لادينيون·ـات" تبلغ 30.9%، وقد تصل إلى 45.7% لدى الشباب من فئة 18 إلى 29 سنة.
ومهما يكن من هذا التباين في النسب، إلا أنه من المحتمل أن يكون قد ساهم في إبقاء بعض الأقليات الدينية تونس، كالبهائيين·ـات، في دائرة الظل لقلة بروزهم ومعرفة مجتمعهم بهم.
ملاحظة: في غياب أرقام وإحصائيات رسمية، ارتأت إنكفاضة الاستناد إلى أكثر المصادر الموجودة موثوقية، قاعدة بيانات The association of Religion and Data Archive وهي مؤسسة أمريكية منبثقة عن جامعة بنسلفانيا. ويُستخدم موقع الجمعية thearda.com من قبل الأكاديميين·ـات، الصحفيين·ـات، صانعي·ـات السياسات، والمهتمين·ـات بالدراسات الدينية.
لئن وجد زهير ضالته في الديانة البهائية لكونه يراها على حد قوله " نموذجا للتسامح والوحدة الإنسانية"، إلا أنه لم يُقابَل بنفس القدر من التسامح من عائلته. " لكن الزمن كفيل بتغيير القلوب" يواصل زهير، " بدأ أفراد عائلتي بتفهم خياري واحترام قناعاتي. أما شريكة حياتي، فكانت سندًا لي في هذا التحول، وتشاركنا معًا إيماننا الجديد".
تختلف تجارب البهائيين·ـات التونسيين·ـات الحياتية بقدر اختلافهم هم أنفسهم. بالنسبة لمحمد بن موسى، معماري وأستاذ جامعي وعضو مكتب الإعلام للبهائيين·ـات بتونس، فإن الأمر بديهي: " نحن أبناء هذا البلد وأنا أفتخر بأني درست في المدرسة والجامعة التونسية. مجتمعيا لم ألقَ تمييزا البتة وأحظى بتقدير واحترام زملائي وأصدقائي".
وتوافقه في ذلك سناء اللطيّف، صاحبة مؤسسة وممثلة عن البهائيين·ـات، مضيفةً أن " الأمر الوحيد المقلق في نظري كان يخص الدراسة وفترات الأعياد، إذ كثيرا ما وجدت نفسي في وقت الأعياد البهائية، مجبرةً على الاختيار بين اجتياز امتحاني وعدم إحياء عيدي أو العكس".
غير أن أثقل لحظات التمييز، لا يعيشها البهائيون·ـات التونسيون·ـات خلال حياتهم، بل عندما توافي المنية أحدهم·ـن ويعجز أهله عن دفنه بما يقتضيه دينه وشرائعه.
المقبرة «حق مشروع»
" كان والدي معروفا ومحبوبا جدا في المهدية بحكم عمله كطبيب. لكن عند دفنه تعرضنا لصعوبات". إميليا، تونسية من أصول إيرانية، وبهائية أبا عن جد " ولو أن الديانة البهائية لا تورّث" كما تقول. وُلدت إيميليا ونشأت في المهدية، أين استقرت عائلتها بعد انتقال والدها، الطبيب الإيراني، إلى تونس سنة 1961.
بفضل مهنيته المشهود بها وإنسانيته، حظي والدها بتقدير أهالي المنطقة، وأصبح شخصية بارزة في المجتمع المحلي حتى تحصّل على الجنسية التونسية " وهو ليس بالأمر السهل في تونس" تقول ابنته إلى حين وافته المنية سنة 1997. تروي إيميليا: " عندما توفي أبي، أقمنا عليه صلاة الجنازة وفق شعائرنا في المنزل".
تختلف صلاة الجنازة وشعائر الدفن البهائية في بعض جوانبها عما هو معمول به في الإسلام. يوضّح محمد بن موسى، عضو مكتب إعلام البهائيين بتونس أن "مراسم الدفن عندنا مختلفة إذ يُدفن الميت في صندوق وتُقام صلاة الجنازة -وهي صلاة الجماعة الوحيدة في الديانة البهائية- ويمكن أن تأمّها امرأة أو رجل" .
في المهدية، تحظى عائلة إيميليا برقعة صغيرة مخصوصة لها في مقبرة المهدية، كان جدها قد دُفن فيها سنة 1981 ومن بعده والدها. تروي: " أراد محبّوه نقل جثمانه إلى الجامع فأبينا، لكن عند الدفن، قرأ الحاضرون عليه القرآن ولم يزعجنا ذلك البتة لانفتاحنا على كل الأديان". غير أن بعضا من " المتطرفين" على حد وصفها أرادوا إثارة " البلبلة" لدى الوالي معترضين على دفنه في مقبرة إسلامية كونه ليس مسلما.
تستحضر إيميليا كيف ذهبت للتحدث مع الوالي بشأن ذلك، فاستطاع تهدئتهم وقال لهم: "' في الحياة عاش معكم كأخيكم، كان طبيبكم وداوى بعضكم بالمجان، تقاسم الخبز والملح معكم وكنتم تحبونه. والآن في الممات تمنعونه من حقه في أن يُدفن معكم! ".
في النهاية، تم السماح بإتمام دفنه هناك، " لكن طُلب منا عدم وضع أي شعارات أو آيات بهائية على قبره حتى لا تثير حساسية البعض ".
تتفق إيميليا ومحمد بن موسى حول " ضرورة أن يكون للبهائيين·ـات التونسيين·ـات مقبرة خاصة بهم". هذا المطلب كان ولا يزال أحد أهم مطالب البهائيين·ـات التونسيين·ـات، وهو على حد تعبير بن موسى " حق مشروع لأي مواطن تونسي يريد أن يُدفن بكرامة ووفق تعاليم دينه". وفي سبيل ذلك، تقدم البهائيون·ـات في 19 ماي/مايو 2017، بمطلب لدى وزارة الشؤون المحلية لإحداث مقبرة خاصة بهم.
تذكر مراسلة مبعوثة إلى السفير التونسي لدى الأمم المتحدة، بتاريخ 27 ديسمبر 2021، من طرف مقرري·ات الأمم المتحدة الخواص لحرية الدين والمعتقد، والحقوق الثقافية، والمسائل الخاصة بالأقليات، أن البهائيين·ـات التونسيين·ـات استندوا في مطلبهم لإحداث مقبرة خاصة بهم إلى القانون عدد 12 لسنة 1997 المتعلق بالمقابر وأماكن الدفن. ويتيح هذا القانون " إحداث المقابر بقرار من رئيس الجماعة المحلية بعد مداولة مجلسها"، وأما بالنسبة لأماكن الدفن ذات الصبغة الخصوصية فإنها تُحدث " بمقتضى أمر وباقتراح من وزير الداخلية".
لم يتحصل البهائيون·ـات على إجابة فأعادوا تقديم مطلب آخر في سنة 2018 " بقي دون رد حتى تاريخ تحرير المراسلة" حسب ما تذكره المراسلة الأممية. ورأى مقررو·ات الأمم المتحدة أن " غياب إجابة من الحكومة التونسية يضع محل شك مبدأ عدم التمييز وحرية الفكر والضمير والدين."
وتضيف المراسلة: "إن الاعتراف بدينٍ ما كدين الدولة أو اعتباره رسميًا أو تقليديًا [يُقصد هنا الإسلام كدين الدولة التونسية؛ ملاحظة المحرّر]، أو كون أتباعه يشكلون غالبية السكان، لا ينبغي بأي حال أن يمسّ بحق الآخرين في التمتع بحرية الدين والمعتقد، كما يضمنها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (PIDCP)*"
وشأنها شأن مطالب البهائيين·ـات، بقيت هذه المراسلة الأممية دون رد من الحكومة التونسية، وفق ما تظهره قاعدة بيانات المراسلات والتقارير التابعة لمفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان.
يقول بن موسى: "ألّا يكون لنا مقبرة ليس مشكلتنا وحدنا، بل أعتبرها مشكلة الدولة نفسها التي تحجب نظرها عن تنوّع مجتمعها. إنها مشكلة نقصٍ في النظر والإدراك".
" مشكلةٌ في النظر" يبدو أنها متواصلة منذ أكثر من قرن من الزمان.
«لنا أكثر من 100 سنة تواجد في تونس»
في سنة 1921، حل بتونس الواقعة آنذاك تحت الاستعمار الفرنسي منذ أربعة عقود، شيخٌ متخرّج من الأزهر ذو أصول كردية فارسية، يدعى ' محيي الدين صبري الكردي الكانيمشكاني' (1860- 1940م)، قادما من القاهرة ومحمّلا بمهمة كلّفه بها 'عبد البهاء' : نشر رسالة أبيه، 'بهاء الله' (1817-1882)، وزرع أول بذرة للديانة البهائية في تونس.

في شارع جول فيري بتونس العاصمة، أو ما يُعرف اليوم بشارع الحبيب بورقيبة، أثار مظهر محيي الدين الكردي بزيه الأزهري وعمامته اهتمام شابّين تونسيين: عبد الحميد الخميري ومحمد وهبي الكسراوي.* تقدم إليه الشابان وبدءا محادثة معه. وبعد السلامات والتعريفات، قال لهما الشيخ:
"والآن سأعرّفكما على 'بهاء الله' ورسالته، وابنه وخليفته 'عبد البهاء' الذي طلب مني المجيء إلى تونس".
لاقت 'الرسالة' قبولًا لدى الشابّين ولم يطل بهما الأمر حتى اعتنقا الديانة وبدآ بالتعريف بها في أوساطهما.
تأسست الديانة البهائية* -كامتداد للحركة البابيّة التي سبقتها وبشّرت بظهور رسولها- في أواسط القرن التاسع عشر على يد ميرزا حسين علي النوري الذي لقّبه مريدوه بـ 'حضرة بهاء الله' والذي أعلن عن " رسالة جديدة لهذا العصر". ومنذ ذلك الوقت، انتشرت البهائية على مدى زهاء قرن ونصف في مختلف أنحاء العالم بما في ذلك الهند، والولايات المتحدة وكندا وأوروبا، وأيضا تونس في بدايات القرن العشرين.
من بين أوائل التونسيين·ـات الذين أبدوا اهتمامهم بالديانة الشابّة صديقٌ للخميري والكسراوي يُدعى مصطفى بوشوشة الذي اعتنقها سنة 1922. في بحث بعنوان "ظهور الديانة البهائية بتونس" صادر عن جامعة سابيينزا روما، تورد كاتبته شيالدوني مارتا عن رواياتٍ شفوية متَنَاقلةٍ لدى البهائيين·ـات أن " بوشوشة نفسه كان صديقا مقربا من الحبيب بورقيبة، كانا من نفس السن تقريبا، ودرسا معا في المعهد الصادقي".
عمل مصطفى بوشوشة كمصور فوتوغرافي، وشغل منصب المدير الفني لمصلحة الموسيقى بالإذاعة التونسية الناطقة بالعربية، وأما في حياته الخاصة فكان " رمزا من رموز الطائفة البهائية في تونس" تكتب مارتا شيالدوني.
تضيف شيالدوني، نقلا عن الشهادات الشفوية التي جمّعتها، أن "بوشوشة وبورقيبة تقاسما نفس السكن حتى 1924 حين غادر بورقيبة إلى فرنسا لاستكمال دراسته ". وفي غضون تلك السنوات "كان لبورقيبة فرصة الاطّلاع على ما بحوزة بوشوشة من النصوص المقدسة التي جلبها محيي الدين الكردي معه [...] وأبدى اهتماما كبيرا بها."
تكتب الباحثة أن بوشوشة حينما لاحظ هذا الاهتمام من جانب بورقيبة " أشار عليه أن طموحاته السياسية لا تتوافق مع الديانة وثناه عن الأخيرة". مع العلم بأن الباحثة تعترف أنها لم تجد لهذه الروايات ما يوثقها في المصادر التاريخية.
من جانبه، يؤكد محمد بن موسى هذه العلاقة الوطيدة بين مصطفى بوشوشة وبورقيبة: " كان من أصدقائه المبجّلين وكان يستضيفه لديه. وكان بورقيبة -من خلال علاقته ببوشوشة- ملمّا بالمبادئ الدينية المحورية في الديانة البهائية من قبيل المساواة التامة بين المرأة والرجل، ودحض العبودية، وغير ذلك".
تكتب شيالدوني أن "أحد المبادئ التي أُتيح لبورقيبة الاطلاع عليها واسترعت انتباهه هو مبدأ وارد في كتاب 'البيان'، وهو أهم آثار 'الباب' الذي بشّر بظهور 'بهاء الله' والمتعلق بالدفن في تابوت، فقرّر أن يبني لنفسه يوما ما ضريحا يُدفن فيه".
وفي غياب مصادر أخرى تدعم وجود رابط حقيقي بين ضريح آل بورقيبة المبني سنة 1960 وقت حياة "المجاهد الأكبر" وصِلته بصديق شبابه مصطفى بوشوشة، حاولت إنكفاضة التواصل مع كاتبة البحث بجامعة سابيينزا لمزيد الخوض فيما جمعته من شهادات شفوية عن التاريخ البهائي في تونس، إلا أننا لم نتلق ردا إلى وقت نشر هذا المقال.
كان بورقيبة في العشرين من عمره سنة 1923 لماّ شهدت البلاد ولادة أول محفل روحاني محلي بها وفق ما تذكره نشرية 'نجم الغرب' البهائية الصادرة آنذاك:
"هذا الاستيقاظ الجديد، على حدود الصحراء الكبرى، قد يظهر حقا أمرا مذهلا. نشير هنا إلى الرسالة التي وردتنا للتو من تونس، والتي ذُكر فيها أن العديد من الأرواح قد ولّت وجوهها صوب النور الحقّاني وأسسوا جمعية روحية في تلك المدينة. الأصدقاء متقدون بنار المحبة الإلهية، ومأخوذون بهذه الجوهرة النفيسة التي اكتشفوها حديثًا، وهم يسخّرون كل وسيلة ممكنة لنشر الرسالة على نطاق أوسع وأبعد."
- نشرية نجم الغرب ، حيفا، 21 مارس 1923، ص.91 (بالانقليزية)
عقب وفاة نجل بهاء الله، عبد البهاء، سنة 1921، تولى حفيده شوقي أفندي المعروف لدى البهائيين·ـات بلقب 'ولي أمر الله' و 'الحارس' الروحي للديانة، إدارة شؤون 'الجامعة البهائية' وانهمك في توسيع وإحكام ما يُسمى بـ 'التنظيم الإداري البهائي'.
وجّه شوقي أفندي رسائل تحفيزية للبهائيين·ـات التونسيين·ـات تحصلت إنكفاضة على نسخة إحداها وهي مُرسلة في عام 1925، يحثهم فيها على " الاحتراس من المنازعات السياسية والأحزاب المتباغضة" و " تشييد المحافل الروحانية" و " ترويج التفاهم والتعاون [...] ورفع التعصبات". كما شدد على من يدعوهم " أحباء الله في تونس"، أهمية استحكام الروابط بين المراكز البهائية " في مشارق الأرض ومغاربها".

توالى المبعوثون·ـات البهائيون·ـات على تونس بأمر من شوقي أفندي بهدف دعم تنظّم المجتمع البهائي المحلي في البلاد. ومن بين هؤلاء، زار حافظ نديم أفندي تونس في عام 1933، وبعده الدكتور محمد صالح، رئيس الجمعية الروحية الوطنية في مصر، في عاميْ 1936 و1937. وتواصل نشاط المحفل البهائي بتونس قبل أن يصيبه فتور حوالي عام 1947، فكان ذلك إيذانا لبياتريس إيروين، البهائية من لوس أنجلوس، لزيارة تونس سنة 1948 من أجل تنظيم برامج تعليمية وبعث نفس جديد في صفوف البهائيين·ـات التونسيين·ـات.
في سنة 1953، أطلق شوقي أفندي خطّة عشرية أسماها ' جهاد العشر سنوات' كان الهدف منها " تسهيل توسّع منظّم للدين البهائي في العالم" وكان تعزيز تنظيم الديانة بتونس في عهدة المحفل الروحاني المركزي بمصر والسودان. سرعان ما تم اقتناء مقر بتونس العاصمة في سنة 1955 أو ما يُعرف بـ 'حظيرة القدس'، ليحتضن لا فقط المحفل المحلي بتونس ولكن أيضا المحفل الإقليمي لشمال غربي إفريقيا حديث الإنشاء. وفي سنة 1956، انعقد أول مؤتمر للمحفل البهائي بتونس.

مرّ التنظيم الإداري للديانة بالمنطقة، على مدى سنوات، بعدة محطات منها أن تم إنشاء محفل مركزي يجمع تونس والجزائر مقرّه بالجزائر العاصمة قبل أن تمنع السلطات الجزائرية بحلول 1969 كل أنشطته وتقوم بحل المؤسسات البهائية الواقعة بترابها.
تذكر الدكتورة حذام عبد الواحد، في محاضرة تعود لسنة 2018 أن " تونس أصدرت سنة 1969 قانونا يمنع الاجتماعات العامة للبهائية" اقتداءً بما حدث في العراق ومصر والجزائر في ذات الفترة. ولئن لم تستطع إنكفاضة التأكد من المعلومة، إلا أن موقع 'بهائي بيديا' يشير إلى استقلال المحفل المركزي التونسي بذاته وتواصل نشاطه إلى سنة 1984. في شهر جانفي/يناير من تلك السنة، اهتزت البلاد على وقع انتفاضة الخبز الدامية التي أعلن خلالها الرئيس الراحل، الحبيب بورقيبة، عن حالة الطوارئ وأصدر أوامر تمنع التجمعات والمظاهرات. استهدفت آنذاك الاستنطاقات، من بين آخرين وأخريات كثر، ممثلين للديانة البهائية بتونس خلال شهر أكتوبر من نفس السنة، لكن لم تسفر عن أي إيقافات في صفوفهم.
في نفس الموضوع
"الدولة التونسية [إثر الاستقلال] لم تمنح البهائيين ترخيصا لكنها في المقابل لم تغلق المركز البهائي العام في العاصمة، وغضت الطرف عن نشاط البهائيين دون الاعتراف بهم رسميا".
- الباحثة حذام عبد الواحد في محاضرة تعود إلى سنة 2018، نقلا عن مقال لموقع المغرب
التزم البهائيون·ـات التونسيون·ـات طيلة عشرات السنين بالتحفّظ، لكن دون الوقوع في التقية " وهي محرّمة عندنا تحريما حرفيا" تقول سناء اللطيف، ممثلة للبهائيين·ـات. واقتصر هؤلاء على ممارسة شعائرهم داخل نطاقات محددة، واستمر حضورهم في شكل وجود صامت يترقب انبثاق فضاء أكثر رحابةً يسمح لهم بممارسة معتقداتهم علنا.
هذا الفضاء جلبته معها الثورة التونسية، أواخر سنة 2010، حين تفجّرت المطلبيّات الحقوقية على اختلافها. بالنسبة للبهائيين·ـات، كان الزخم الثوري فرصة للـ" الخروج إلى العلن"، وفق تعبير الدكتورة عبد الواحد، والمطالبة بقدر من الإعتراف باعتبارهم " جزءاً أصيلاً من نسيج المجتمع التونسي" كما يقول عضو مكتب الإعلام البهائي في تونس، محمد بن موسى.
يواصل بن موسى: "نحن ساهمنا في بناء الدولة الوطنية، وفي صياغة الدستور وعدد من القوانين، من بينها مجلة الأحوال الشخصية. لذلك، من واجب الدولة أن تنظر إلى جميع القضايا، بما فيها قضايا البهائيين، باعتبارها قضايا وطنية."
" الإسهامات" التي يفخر بها البهائيون·ـات التونسيون·ـات لم يقابلها إلى اليوم اعتبار من الدولة التونسية. كما أن قلة المصادر حول تاريخهم في تونس، وندرة حضورهم في المشهد الإعلامي، وقلة معرفة المجتمع التونسي بهم، أدّت إلى ما يعتبره بن موسى " تمييزا" حشر البهائيين·ـات التونسيين·ـات وفئات أخرى غيرهم في خانة " المواطنين من الدرجة الثانية".
البهائيون·ـات بين «المضايقات» و «الاضطهاد»
ورغم التغييب النسبي الذي يقعون فيه، يبرز البهائيون·ـات في تونس بين الفينة والأخرى في قلب جدل يدفع بهم إلى الواجهة.
في سنة 2013، نقلت وسائل إعلامية أن فرقة مكافحة الاجرام في مركز أمن القرجاني قامت باستدعاء الكاتب محمد علي كيوة للتحقيق معه، على خلفية دعوى قضائية رفعها ضده بهائيون·ـات تونسيون·ـات، احتجوا على ما ورد في كتابه " موقع البهائيين في الحركات الهدامة" المنشور في سوريا نهاية سنة 2012، والذي " وصلت نسخ منه إلى تونس"* وفق تصريح الكاتب آنذاك. ولم تستطع إنكفاضة التوصل إلى ما آلت إليه الدعوى، بعد وفاة كيوة في سنة 2021.
بعد ذلك ببضع سنوات، في سبتمبر 2017، وجه مكتب الإعلام للبهائيين بتونس رسالة مفتوحة إلى رئيس الجمهورية الراحل، الباجي قائد السبسي، بعنوان " صرخة فزع والتماس تدخل سريع لرفع مظلمة". وذكرت الرسالة آنذاك " مظالم وتجاوزات متكررة وتمييز على أساس الدين"، من بينها " إيقاف الشاب ع. م. البالغ من العمر 20 سنة والطالب بالجامعة" من طرف عوني أمن بالزي المدني، وفق تأكيد الرسالة.
اصطُحب الطالب الشاب إلى منطقة الأمن بجهة سقانص ليتم استنطاقه "حول ديانته وعلاقته ببقية البهائيين وهرسلته مدة 3 ساعات [...] دون تمكينه من الاتصال بمحام" وفق نص الرسالة. غير أن الاستنطاق -على ما يبدو- لم يفضِ إلى شيء فتم الإفراج عنه "بدون تحرير محضر أو توجيه تهمة".
لم تكن تلك الحادثة الوحيدة من هذا القبيل، حيث تورد رسالة أخرى، وجهها مكتب الإعلام البهائي بتونس، في مارس 2018، إلى وزير الداخلية بحكومة يوسف الشاهد " مضايقات متتالية لبعض معتنقي الدين البهائي". وتفصّل الرسالة بعض هذه الوقائع من بينها " طلب حضور لمراكز الأمن دون دعوات رسمية"، و " محاضر تحقيق تُختم دون توقيع"، بل وحتى " تصوير للبهائيين بهواتف أعوان الحرس الخاصة وطلب بيانات الدخول لحساباتهم الخاصة على فايسبوك".
على هذا النحو ولكن بدرجات متفاوتة، يواجه البهائيون·ـات في عدد من الدول كمصر و العراق و اليمن وغيرها تحدياتٍ تختلف حدتها باختلاف البلد. تذكر منظمة هيومن رايتس ووتش أن الجمهورية الإيرانية مثلا، أين يمثل البهائيون·ـات أكبر أقلية دينية غير مسلمة في البلاد بقرابة 300.000 شخص، تمارس " القمع المنهجي منذ عقود في حق البهائيين والذي يرقى إلى مستوى الاضطهاد الذي يُشكل جريمة ضد الإنسانية".
ومن بين التهم التي توظفها إيران بشكل متواتر ضد أقليتها البهائية تهمة " التجسس والارتباط بإسرائيل"، من قبيل ما حدث في جويلية/يوليو 2023، حين تم اعتقال بهائيين·ـات إيرانيين·ـات بحجة " ارتباطهم المباشر وغير المباشر بمركزهم العالمي 'بيت العدل'، ومقره الأراضي الفلسطينية المحتلة"، وفق ما نقلته صحيفة الشرق الأوسط عن بيان للحرس الثوري الإيراني صادر آنذاك.
ويقع 'بيت العدل الأعظم' في حيفا، وهو المؤسسة المركزية المنتخبة عبر الجامعة البهائية في العالم، بينما تنتشر المقدسات البهائية بين حيفا وعكا بالأراضي الفلسطينية المحتلة، أي تحت سلطة الاحتلال الإسرائيلي.
في حوار مع إنكفاضة، يرجّح الفيلسوف وعالم الأنثروبولوجيا التونسي، يوسف الصديق أن " التوجس الذي تبديه الحكومات في العالم الإسلامي تجاه البهائيين، يعتمد في جزء كبير منه على كون بيت العدل موجود في حيفا وأن ضريح بهاء الله في عكا".

ويضيف الصدّيق: "تاريخيا، اعتبرت الخلافة العثمانية آنذاك البهائية خطرا فلاحقتهم بالإعدام والتعسف [...] فكانت ظروف منشأ الديانة في النصف الثاني للقرن 19 منذ البداية محاطة بالريبة ... ثم تفاقمت شكوك المجتمعات الإسلامية إزاء هذه الطائفة إثر نكبة 48".
" هي بالفعل مسألة يجب طرحها لأن هناك معطيات تاريخية يجب أخذها في الحسبان" يردّ محمد بن موسى، عضو مكتب إعلام البهائيين·ـات بتونس في هذا الصدد.
ويشرح بن موسى: " 'حضرة بهاء الله' حين أعلن رسالته في إيران، نفته الدولة القجرية إلى بغداد. ثم من هناك تم نفيه بفَرَمَان عثماني* إلى إسطنبول، ثم إلى أدرنة، ثم رغبةً في القضاء عليه وعلى ديانته نُفي إلى مدينة الحصن عكا التابعة للخلافة العثمانية."

يواصل بن موسى أن استقرار مؤسس الديانة البهائية في منفاه بعكا حدث " قبل 100 سنة من وجود وبعث دولة اسمها إسرائيل" وهو نتاج قرارات من الخلافة العثمانية. ورغم أن هذه المدن واقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي، فإن الوضع بالنسبة للبهائيين·ـات، كما يراه بن موسى، " لا يختلف كثيرًا عن وضع المسلمين والمسيحيين الذين توجد بعض مقدساتهم* في مناطق خاضعة للهيمنة الإسرائيلية، مثل كنيسة القيامة والمسجد الأقصى".
تتعدد العوامل التاريخية والجغرافية التي قد تفسر ما يعيشه البهائيون·ـات في الأقطار الإسلامية من مَيز. أما في تونس، فلم يثنِهم ذلك عن النشاط المدني والانخراط في مبادرات مدنية تهدف إلى " إرساء حوار بين الأديان".
يقول بن موسى: "كيف نتخلص من الذهنية الإقصائية؟ لا تفسير في رأيي إلا من خلال أن نتعلّم جميعنا المواطنة. إذا كنا نعني فكرة التعايش، فلا بدّ أن نجسّدها".
«نحن لسنا طائفة، نحن مواطنون»
في يوم 26 جانفي/يناير 2022، نظّمت جمعية التلاقي للحرية والمساواة تظاهرةً لتوقيع " الميثاق الوطني للتعايش السلمي المشترك". وضمت الوثيقة توقيع ممثلين عن الكنيسة الإنجيلية التونسية، وحاخام عن الكنيس اليهودي بحلق الوادي، ورئيس اتحاد الطرق الصوفية، وممثل عن مركز آل البيت (الشيعي) وآخر عن المكتب الإعلامي للبهائيين·ـات.
في تصريح لوكالة الأناضول، يقول المتحدث باسم التظاهرة، كريم شنيبة، عن الميثاق أنه " معنوي أخلاقي" وليس له أي إلزامات قانونية و " جاء نتيجة عمل دام 3 سنوات بعد سلسلة من الجلسات الحوارية".

نقرأ في ديباجة الميثاق أن " الاختلاف بين الأمم والأفراد في معتقداتهم وثقافاتهم وطبائعهم سنة إلهية نصت عليها كل الشرائع"، وأن " التنوع الديني والمذهبي في المجتمعات الإنسانية ... يستدعي استثماره في بناء دولة المواطنة الشاملة الحاضنة للتنوع".
يولي البهائيون·ـات التونسيون·ـات ممن تحدثت معهم إنكفاضة أهمية كبرى " للمواطنة". بالنسبة لسناء لطيف، صاحبة مؤسسة وممثلة عن البهائيين·ـات بتونس، " مجرد الانتماء لبلد ما لا يعني المواطنة ؛ أن أكون مواطنا يعني أن أكون فعالا ولي دور إيجابي وبناء في المجتمع".
ومن بين ذلك تذكر سناء أن البهائيين·ـات التونسيين·ـات يساهمون -مجتمعيا- في " بانوراما المجتمع المدني من خلال تنظيم ندوات حول التعايش ونبذ خطاب الكراهية والعنف مثلا"، ما من شأنه وفقها أن " يرفع مستوى الوعي في مجتمعنا ككل".
من جانبه، يصر بن موسى : "نحن البهائيون لا نعتبر أنفسنا طائفةً بل مواطنون من مواطني هذا البلد. المواطنة هي المساواة وإقامة العدل بين الجميع، لكن للأسف ليس الجميع سواء أمام القانون".
على مستوى العالم، يحظى المجتمع البهائي الدولي بهيئة تمثيلية تتمثل في 'مكاتب الجامعة البهائية العالمية لدى الأمم المتحدة'، وهي منظمة غير حكومية تتعامل بشكل وثيق مع مختلف الوكالات والمؤسسات الأممية، خصوصا منها المفوضية الأممية لحقوق الإنسان، ولها مكاتب في نيويورك وجنيف.
توضح سناء لطيف: "أكيد هناك متابعة للشأن التونسي وشأن البهائيين التونسيين، ومن الطبيعي إذا وُجدت أي تقلّقات تخص بهائيين في أي منطقة من المناطق فستتلقى الدعم من التمثيلية البهائية في جنيف".
ورغم انخراط البهائيين·ـات، محليا، دوليا وبشكل مكثف في المجتمع المدني، إلا أن جهل المجتمع التونسي بهم يشكل " أكبر مشكلة" في رأي لطيّف: " عندما تجهلني ستخاف مني، وستشيطنني وترسم لي صورة قد تصيب فيها وقد تخطئ تماما. لذا دعني أفسر لك وأعرفك على نفسي، ولنجد نقاطا مشتركة تجمعنا".
من جانبها، ترى إيميليا ابنة الطبيب البهائي من المهدية أن " الجيل الجديد أصبح أكثر انفتاحًا وأقل تعصبًا تجاه الأديان الأخرى" لكن ذلك لا يمنع من كون " البعض لا يزال إلى الآن يتهمنا بالكفر".
وبالفعل، يواجه البهائيون·ـات التونسيون·ـات منذ سنوات عديدة تهماً بالردة والكفر، لم تصدر عن أفراد فحسب وإنما عن السلطة نفسها، وعلى رأسها رئاسة الحكومة.
"السلطة هي الدولة، والدولة يفترض بها أن تكون الحامية لمواطنيها"، تنتفض سناء، "فما بالك حين تصدر إدارة من إداراتنا فتوى بتكفيرنا في وثيقة رسمية عليها شعار الجمهورية التونسية ! ".
في سنة 2013، رفع البهائيون·ـات التونسيون دعوى قضائية ضد رئاسة الحكومة التونسية في إطار ما يُعرف بـ" قضية الجمعية البهائية" التي تحولت إلى مواجهة قانونية محتدمة. خلال أطوار القضية التي تتواصل منذ 12 سنة، صُدم البهائيون·ـات بانزلاق بعض حجج الحكومة من دائرة القانون إلى دائرة الإفتاء الصريح بالكفر والردة.
يختم الصدّيق: "إن الخوف الذي يدفع الدولة إلى إقامة الحدود والمحظورات [على الآراء والأفكار] ينم عن نقص في النضج. وحده القانون له أن ينظّمها ويحدّها في حال أضرّت بالآخر وقواعد المساكنة".
***