على امتداد أشهر، أصبحت الاعتقالات التعسفية والترهيب البوليسيّ واقعًا يوميًا يتعرض له مجتمع الميم بذريعة «الحفاظ على الآداب العامة» في المجتمع. إذ سجلت الجمعية التونسية للعدالة والمساواة "دمج"، ما لا يقل عن 27 حالة إيقاف خلال الفترة الانتخابية، أي من 26 سبتمبر إلى 2 أكتوبر 2024. وجدّت معظم هذه الاعتقالات في تونس وسوسة والحمامات. ومن المرجح أن تكون هذه الأرقام قاصرة عن تصوير الواقع لاسيّما مع تواصل الإبلاغ عن حالات جديدة. وبمثل هذه الممارسات، تواصل الحكومة التونسية تنفيذ استراتيجية أوسع لقمع الهويات والحريات الفردية.
تضييق تحت ستار قوانين فضفاضة
منذ 25 جويلية 2021، ما فتئ النظام يستهدف الجمعيات المدافعة عن حقوق الأقليات. في 26 سبتمبر 2024، شن الرئيس مجددًا حملةً على التمويلات الأجنبية للجمعيات، متهمًا إياها بأنها تتحصل على أموال «تحت غطاء تعزيز الديمقراطية وغيرها من المسميات التي لا تخفي التدخل الأجنبي السافر في الشؤون الداخلية لتونس». تُرجمت هذه الخطابات على أرض الواقع في الاعتقالات التعسفية واستخدام القوانين المبهمة لاستهداف مجتمع الميم ونشطائه·ـاته.
أمام مركز شرطة القرجاني، يستند سيف العيادي، الناشط النسوي والكويري، بظهره إلى الحائط مستنكرا في غضب الاعتقالات التي يعتبرها «حملة شاملة من النظام وأجهزته ضد الحركات الكويرية والجمعيات وكل من يناضل من أجل حقوق مجتمع الميم». موجة القمع هذه لا تستهدف الأفراد فحسب، بل تمتد لتشمل المنظمات الداعمة لهم·ـن.
يردف العيادي أن «هذا القرار لا يمثل حالة ضيّقة المجال أو منعزلة، بل هو قرار واعٍ لاستهداف الأشخاص الكوير وحركاتهم، بالإضافة إلى الجمعيات التي تدعمهم».
يعتمد الإطار القانوني الذي يسمح بهذه الإيقافات بشكل كبير على الفصل 230 من المجلة الجزائية وهو فصل يُجرِّم المثلية الجنسية، وعلى الفصلين 226 و226 مكرر، اللذان غالبًا ما يُستخدمان بذريعة المساس "بالآداب العامة". وغالبا ما تُفرَض على الأفراد المتهمين·ـات بالمثلية الجنسية أو بتبني هوية جندرية غير تطابقيّة، عقوبات بالسجن تصل إلى ثلاث سنوات. ورغم كون هذه المواد تتعارض مع الدستور التونسي – السابق والحالي الذي صاغه الرئيس قيس سعيد وعرضه على الاستفتاء في 2022 – الذي تضمن فصوله 23 و24 نظريا الحقوق والحريات الفردية دون أي تمييز.
في نفس الموضوع
يندد حمادي الهنشيري، المحامي المختص في الدفاع عن مجتمع الميم، بالتوظيف السياسي للفصل 230 من المجلة الجزائية.
وبحسب قوله فإن «تطبيق الفصل 230 يتأثر دائمًا بالوضع السياسي، إذ نلاحظ موجات اعتقال أكثر شدة خلال الفترات الانتخابية أو لحظات النزاع السياسي».
ومع ذلك، يرى الهنشيري أن الفصلين 226 و226 مكرر، اللذين يهدفان إلى التصدي «للإخلال بالحياء» و«الاعتداء على الأخلاق الحميدة أو الآداب العامة»، هما الأكثر إثارة للقلق بسبب مرونتهما التأويلية وتطبيقهما التعسفي. ذلك لأن مفهوم «الأخلاق الحميدة» يظل ملتبسًا وذاتيًا. وتختلف تفسيراته حسب القيم والقناعات الشخصية، مما يجعل هذا المفهوم صعب التعريف والتطبيق على نحو موحد.
يوضح الهنشيري أن «هذه الفصول تسمح لقوات الأمن باعتقال الأفراد فقط لأنهم لا يتطابقون مع المعايير الجندرية أو المظهر المتوقع. يكفي أن يكون لدى رجل شعر طويل أو أن يرتدي شخص عابر·ة ملابس تُعتبر غير لائقة ليتم اعتقاله·ـها بذريعة المساس بالأخلاق الحميدة».
في هذا السياق المتوتر، أصدرت وزارة العدل بيانًا يوم 27 أكتوبر يعلن عن ملاحقات قضائية ضد أي شخص «ينتج أو ينشر أو يوزع صورًا أو فيديوهات تحتوي على محتويات تُعتبر مخالفة للقيم الأخلاقية». في اليوم الموالي للبلاغ، تم استدعاء واستجواب عدد من صناع·ـات المحتوى، وحُكم على خمسة منهم·ـن بالسجن لفترات تتراوح بين عام ونصف إلى أربع سنوات ونصف.
عزّزت هذه الخطوة الوزارية مخاوف مجتمع الميم وداعميه، الذين يرونها محاولة إضافية لإخماد أي صوت للتعبير عبر الإنترنت باستهداف الأفراد بسبب مظهرهم·ـن أو آرائهم·ـن.
يعلق الناشط الكويري سيف الغرايري بأسف قائلا «الرسالة واضحة: لزموا الصمت. توقفوا عن مساعدة الأشخاص ذوي الهشاشة. أنتم الحلقة الأضعف، وسنبدأ بكم».
عنف يخترق الحُرمات
لم تقتصر الاستراتيجية القمعية للحكومة التونسية على الاعتقالات في المجال العامّ. فوفقًا لجمعيات الدفاع عن حقوق أفراد مجتمع الميم، تضاعفت المداهمات البوليسيّة لحرمات المنازل منذ بداية سنة 2024. يرى سيف الغرايري، الذي كان حاضرًا في تجمّع 10 أكتوبر «أنّ الأمر لا يتمثّل في اعتقالات لأشخاص كوير على النحو الذي عهدناه سابقًا، أي في الشارع أو الأماكن العامة. الآن، تتم مداهمة المنازل وتحصل الاعتقالات في المجال الخاص».
ويؤكد المحامي حمادي الهنشيري أن هذه المداهمات لا تحترم الإجراءات القانونية فـ«وفقًا للقانون التونسي، لا يمكن تنفيذ المداهمات إلا بإذن من قاضي التحقيق ولا يكون ذلك إلّا في حالات التلبّس. مع ذلك، تسيء الشرطة استخدام هذه السلطة ويغض القضاء الطرف عن هذه التجاوزات».
يؤكد المحامي: « نرى على أرض الواقع عددا متزايدا من المداهمات البوليسية دون إذن قضائي».
مودّة الجماعي، التي أُوقفت أواخر شهر سبتمبر على هامش مظاهرة ضد نظام الرئيس قيس سعيد، تشهد على قسوة عمليات الإيقاف "كانت طريقة اعتقالي أشبه بالخطف. لم يسمحوا لي حتى بأخذ جهاز الاستنشاق الخاص بي رغم أنني أعاني من الربو. أصبت بنوبة ولم يقدموا لي الرعاية اللازمة. كل ذلك حدث أمام أعين الصحافة، لكن لم يستطع أحد فعل شيء».
تقول مودّة إنها تعرضت لإهانات عديدة أثناء إيقافها بما في ذلك فرض قيود على استهلاك الماء والكهرباء في زنزانتها، بالإضافة إلى تهديدات مباشرة من قوات الأمن. تقول وعيناها تدمعان: «كنا جميعًا في ظروف مروعة [...] رفضت ارتداء زي السجن فعاقبوني على ذلك. قطعوا عليّ الماء والكهرباء، بل ومنعوني من النوم في أوقات محدّدة».
في نفس الموضوع
النظام القضائي في تواطؤ صامت
رغم العديد من الشكاوى المقدمة، يظل النظام القضائي التونسي صامتًا. بين جويلية 2023 وفيفري 2024، تم استدعاء ميرا بن صالح، التي كانت آنذاك منسقة جمعية دمج في جهة صفاقس، عديد المرات من قبل الشرطة وتعرضت لتحرش من بعض رجال الامن. قدمت ميرا العديد من الشكاوى، لكنها لم تتلقَ أي استجابة.
منذ 25 جويلية 2021، عمل الرئيس قيس سعيد تدريجيا على تركيز السلطة القضائية بيده، أولا من خلال ترأّس النيابة العمومية وإقالة وزيرة العدل المؤقتة آنذاك، حسناء بن سليمان، ثم عبر استهداف المجلس الأعلى للقضاء وتقليص صلاحياته لينتهي الأمر بحله نهائيًا في فيفري 2022.
مع الدستور الجديد، الذي تم اعتماده إثر استفتاء 25 جويلية 2022، لم يعد النص الدستوري يتحدث عن «سلطات» تنفيذية وتشريعية وقضائية، بل عن «وظائف»، مع تقليص الفقرة المتعلقة بالقضاء إلى ثمانية فصول فقط، مما أثار المخاوف حول فقدان القضاء استقلاليته وسقوطه تحت سيطرة السلطة التنفيذية. يوضح المحامي حمادي الهنشيري أن «السلطة التنفيذية هي الوحيدة القادرة على التحكم في القضاء. ويظهر تدخّل الدولة من خلال رقابة القضاة الذاتية، الذين لا ينتقدون أبدًا إجراءات الشرطة التعسفية».
ومن جانبه يضيف الناشط سيف العيادي: «لم يعد مفهوم المحاكمة العادلة موجودا في تونس. نحن نتحدث عن قوانين تجرّم الهويات لا الأفعال [...]. إننا بحاجة إلى التضامن للدفاع عن المعتقلين·ـات والمطالبة بمحاكمات عادلة».
في نفس الموضوع
الحاجة إلى التضامن الدولي
في مواجهة هذا التضييق المتزايد، شرع المجتمع الكويري التونسي وحلفاؤه في التنظّم وبرغم العنف الذي تمارس به الإيقافات ولا مبالاة السلط القضائية، انبثقت أشكال من التضامن والنضال، من ذلك خطوط طوارئ قامت جمعيات مثل "دمج" بإنشائها بهدف تقديم الدعم القانوني والنفسي للمعتقلين·ـات. يقول المحامي حمادي الهنشيري: «إنها استجابة ضرورية للظروف الحالية. لكن نقص الموارد يزيد من صعوبة التنسيق الفعال بين هذه الجهود».
ويضيف الناشط سيف العيادي: «لدينا استراتيجية وطنية من خلال شبكة الجمعيات والمجموعات السياسية الملتزمة بمواجهة هذه الحملة القمعية. أما على الصعيد الدولي، فندعو الجهات الفاعلة في المجتمع الدولي، شمالا وجنوبا، إلى ممارسة الضغوط على هذا النظام».
سيرين بوعجاجة هي عضو مؤسس في حركة "أصحاب الكريستال"، وهي حركة اجتماعية تركز على محاربة العنف السياسي عبر التعليم البديل وإتاحة المعلومة للمجتمعات المهمشة. وهي تردّد دعوات التضامن تلك مؤمنة أن القمع، في مفارقة عجيبة، يعزز التماسك بين مختلف الحركات الاجتماعية في تونس. «أرى الأمر مثل زجاجة. كلما ضغطت عليها أكثر، ازداد احتمال انفجارها. لا أعتقد أن ذلك سيفرقنا، بل على العكس، سيزيدنا تآزرا وسيقوي هذا الضغط روابطنا» تقول بوعجاجة بتفاؤل.
يعتبر هذا التضامن ذا أهمية شديدة، فالمجتمع الكويري ليس الوحيد المُعرّض لهذه الممارسات إذ يستهدف النظام أيضًا مجموعات أخرى يعتبرها معارضة. حيث شهدت البلاد سلسلة من الاستدعاءات والإيقافات في صفوف سياسيين·ـات، ومحامين·ـات ، ونشطاء·ـات ، وفنانين·ـات ، وصحفيين·ـات وغيرهم·ـن، وثقت انكفاضة قرابة المائة حالة منها إلى حدود جويلية 2024. يقول سيف العيادي متأسفا: «بدأ النظام بمهاجمة القضاة ثم السياسيين ثم الجمعيات الحقوقية. هذا النظام يتغذى على القمع. كلّما ظهرت أزمة اجتماعية، يطلق حملة لصرف انتباه الناس».
في خضمّ ذلك، علت أصوات دولية مندّدة بانتهاكات حقوق الإنسان. في ماي 2024، أعرب أربعة مقررين خاصين للأمم المتحدة عن قلقهم إزاء قضية ميرا بن صالح والقمع الممنهج لأفراد مجتمع الميم في تونس. ومع ذلك، لا يبدو أن الحكومة التونسية تعير هذه الدعوات الدولية اهتماما.
من جانبهم، يرى ناشطو·ـات مجتمع الميم العين أن حشد الدعم من الخارج ضروري لتحقيق أي تغيير. تقول سيرين بوعجاجة: «لدينا منصات للتواصل ونتمتع بدعم من أشخاص خارج تونس، مثل مصر والمملكة العربية السعودية» مضيفةً أن هذا التضامن الدولي يمنحها الأمل.
ولئن كان التضييق يشهد تصاعدا في تونس، فإنّ النضال في سبيل حقوق مجتمع الميم يبرز استمراريةً في تحدٍّ لما قد يلاقيه من تخويف وترهيب. ويظلّ نشطاء مثل أصالة مدوخي وسيف العيادي ومودة الجماعي، مصممين على الدفاع عن حقوقهم·ـن، حتى لو كان ذلك يعني مواجهة تهديدات يرونها آتية من النظام. يقول الناشط سيف الغرايري «بكل بساطة، سنواصل المعركة».