مسار ما فتئ عدد من يُتمّونه يتراجع سنة عن سنة، ففي سنة 2013 مثلا، انقطع طالب واحد من كل ثلاثة عن الدراسة دون إتمام تكوينه، وتراجع عدد الخرّيجين والخرّيجات إلى النصف بين 2010 و 2017 رغم أن عدد المرسمين لم يشهد انخفاضا.
1٪ من ميزانية الدولة للتكوين المهني
يوضح شاهين الطالب في مستوى مؤهل التقني السامي في صيانة المعدات البيوطبيّة أنه "خلافًا للاعتقاد الشّائع، لا يتضمّن التّكوين المهني قدرا كبيرا من الجوانب التّطبيقيّة" مؤكدا أنه قد زاول تعليمه "في أكبر مركزين بالبلاد، وفي كليهما، كانت المعدات إما معطلة أو يُجبر على تقاسمها نحو خمسين طالبًا". تكوين يغلب عليه الجانب النّظري في اعتبار الشاب الذي يقول أنه يكاد يكون غير قابل للتطبيق على أرض الواقع نظرا لمحدودية الإمكانيات المتاحة.
"خلال فترات التّربص في المستشفى، نتعلم خاصة كيف نتدبر أمرنا في ظل غياب المعدات" يقول ساخراً .
وبالفعل، فإن العديد من الأجهزة التي يُتطرق إليها في مرحلة الدراسة غير متوفرة لا في المراكز ولا في المستشفيات العمومية التي تحتضن التربصات. ومن ذلك ما تشكو منه إشراف المؤدب، المربية بإحدى المدارس الإعدادية التقنية بالعاصمة منذ حوالي عشر سنوات، من نقص في المعدات، وتبين أن الحكومة بادرت بحوزة الكثير من التجهيزات الضرورية للتكوين منذ بضع سنوات خلت بغرض افتتاح مركز عمومي دون استبدالها، وتقول أنه "حاليّا، لا يتمتع التلاميذ بأي معدات موضوعة على ذمتهم، ما عدا بعض آلات الخياطة".
ويتيح التعليم المهني عددا كبيرا من المؤهلات والشهادات في مجالات تخصص على غاية من التنوع في مراحل مختلفة من المسار الدراسي. كما تهدف الشهادات إلى إعادة إدماج التلاميذ والتلميذات المنقطعين عن الدراسة، في حين أن نيل المؤهلات متاح لمن أتم السنة التاسعة من التعليم الأساسي. ورغم ذلك، لا يزال التكوين المهني الأساسي يعاني من نقص التمويل إذ لا يمثل سوى 1٪ من ميزانية الدولة مقابل أكثر من 15٪ يستأثر بها المسلك العام.
ويتم استخدام الموارد الموضوعة على ذمة وزارة التكوين المهني والتشغيل بشكل أساسي لتغطية نفقات التأجير (72٪) ونفقات تسيير المراكز، بينما لا تُخصَّص سوى نسبة ضئيلة - تُعادل 0,1٪ من هذه الميزانية - للاستثمار. وتبعا لذلك، تبقى المشاريع الجديدة رهينة تمويلات المانحين الدوليّين بسبب "محدودية إمكانيات الدولة"، على حد تعبير عبد اللطيف العباسي، المدير الجهوي للتكوين المهني بسيدي بوزيد. ومن بين المشاريع مركز حديث متخصص في الصناعات الغذائية وفي طور التشييد في سيدي بوزيد بتمويل من الصندوق السعودي للتنمية.
تزايد عدد المنقطعين
تُشير دراسة منجَزة في 2013 إلى أن ثلث الطلاب والطالبات المسجلين في التكوين المهني الأساسي ينقطعون عنه قبل إتمامه. وتقف عدة أسباب وراء نسبة الانقطاع المرتفعة للغاية والتي يُرجح أنها تزايدت مذّاك.
ولعل أحد الأسباب الرئيسية مرتبط بموقع المراكز، فشاهين مثلا، وهو أصيل مدينة القصرين، تمكن من إيجاد سكن يأويه في العاصمة، واستطاع اختيار مركز تكوينه بفضل معونة أقاربه، في حين يواجه رفاقه المنحدرون من ولايات أخرى صعوبات جمة في ذلك. يقول الشاب: "توفر المراكز مساكن في حالة يُرثى لها. وبينما يتقاسم نفس الغرفة في المبيتات الجامعية طالبان أو ثلاثة، هنا، نحن على الأقل 4 في الغرفة"، كما يرى الطالب أن هذه المبيتات تقع على مسافة بعيدة للغاية من المركز، ويزيد النقص الفادح في وسائل النقل المتوفرة الطين بلة. وفي أغلب الأحيان، يضطر الطلاب والطالبات المنحدرون من جهات أخرى إلى متابعة تكوينهم في المدن الكبرى، لا سيما العاصمة، في ظل انعدام تخصصات معينة في مناطقهم الأصلية. فعلى سبيل المثال، لا تقدم ولاية سيدي بوزيد أي تكوين يُذكر في مستوى مؤهل التقني السامي (BTS). كما أن نصف التلاميذ والتلميذات الذين يزاولون تكوينا مهنيا في ولاية المنستير هم في الواقع أصيلو ولايات أخرى. وعلاوة على ظروف السكن التي قد تتسبب في عزوفهم عن التكوين، تُعتبر التربصات في غالب الأحيان مُضنية.
"أمضيت الشهرين الأولين في مسح الكؤوس طيلة ثماني ساعات في اليوم" تروي يسرا، وبالفعل، فهي لا تتحصل على قدر هام من المسؤوليات خلال التربصات التي تمثل نصف تكوينها وفق نظام التداول. ويضيف كل من شاهين ويسرا أن التربصات لا تخلو في غالب الأحيان من استغلال يقع ضحيته المتكونون الذين يتكبدون ساعات طويلة من العمل المضني نظير أجور زهيدة (حوالي 100 إلى 150 دينارًا شهريا)، في حين أن الأجر يُشكل عاملا حاسما للعديد من الطلاب والطالبات المنحدرين من أسر ضعيفة الحال، خصوصا أن مبالغ المنح الدراسية القليلة مزرية للغاية وتتراوح بين 35 و 60 دينارًا في الشهر فحسب، وفقا للعديد من المسؤولين الذين حاورناهم.
يُعزى الانقطاع عن التكوين إذن إلى عوامل اجتماعية واقتصادية بالأساس: فنصف المنقطعين آباؤهم من العمال وينتمون في معظمهم إلى عائلات مكونة من 5 إلى 6 أفراد أي ما يفوق المعدل الوطني المقدّر بـ4 أفراد للعائلة الواحدة. وزد على ذلك، تكون ظاهرة الانقطاع عن التكوين أشد وطأة في بعض الجهات دون غيرها، ففي تطاوين مثلا، ينقطع تلميذ واحد من كل اثنين عن التكوين مقابل تلميذ واحد من كل ستّة فحسب في المهدية.
في نفس الموضوع
نسبة التسرب المدرسي في شعبة التكوين المهني موزعة حسب الولايات
تقول إشراف المؤدب المربية بإحدى المدارس الإعدادية التقنية بالعاصمة، إن نسبة التسرب المرتفعة المسجلة في المراكز ترتبط كذلك بنقص التوجيه إذ "يضطر الطلاب إلى اتخاذ خيارات مهنية بطريقة اعتباطية نتيجة سوء توجيههم وغياب مرشدين كفيلين بمرافقتهم". كما يقترن الشعور السائد بعدم الرضا عن التكوين المهني بشكل من أشكال الوصم الاجتماعي، وبانعدام شبه كلي للتوجيه، ما يعمق عزوف التلاميذ عنه.
شُعبة مُزدراة
تستنكر مريم الطالبة في مستوى مؤهل التقني السامي (BTS) في التسويق والوسائل متعددة الوسائط أنه "يقع ازدراؤك إن كنت محرزا على مؤهل التقني المهني (BTP) والحال أنه معادل لشهادة البكالوريا" ولطالما حزت في نفسها نظرة ازدراء الآخرين لها بسبب تكوينها. أما شاهين فعانى حتى من احتقار المكونين والموظفين التابعين للمركز أنفسهم.
"كانوا يلمحون إلى أننا فاشلون وإلى أننا لم نختر هذا المسار إلا لإخفاقنا الدراسي. كانت تلك وسيلتهم للضغط علينا".
يشدد الطالبان على نقص آليات التوجيه نحو هذه المسالك التي تُعتبر بمثابة الملاذ الأخير بعد انعدام جميع الخيارات الأخرى. ذلك مثلا شأن يسرا التي أهملت دراستها بعد بلوغ السنة التاسعة من التعليم الأساسي ولم يقم أي أستاذ أو أستاذة أو عضو من الإدارة بإرشادها أو توجيهها نحو التعليم المهني، ثم طُردت من المعهد بعد رُسوبَين. وحينها فقط تبادر إلى ذهنها الانخراط في التكوين المهني من تلقاء نفسها: "كنت أرغب في اكتشاف مهارة ما فقمت بالاطلاع على مختلف اختصاصات التكوين التي يوفرها أقرب مركز" أين شجعها المدير آنذاك على التخصص في مجال الفندقة والمطاعم، ثم استفسرت عن المهنة فاستهواها جانب التواصل البشري الذي تكتسيه، وتحصلت في نهاية المطاف على شهادة الكفاءة المهنية (CAP) ثم على مؤهل التقني المهني (BTP) في هذا الميدان.
لم يرسب شاهين من ناحيته سوى مرة واحدة وذلك لدى اجتيازه لامتحان البكالوريا، قبل أن يتوجه إلى مركز تكوين، ذلك أنّه اختار تخصصه بفضل معونة أحد أصدقاء والده الذي كان يعمل صلب مركز بالعاصمة. وكذا الشأن بالنسبة لمسيرة مريم التي قررت تلقي تكوين BTP في الشبكات بعد رسوبها في امتحان البكالوريا لمرتين على التوالي. هذا النوع من المسارات شائع للغاية في صفوف تلاميذ التكوين المهني الذين يبادرون بالتسجيل فيه "لاعتباره فرصة انتشال أخيرة وليس بدافع رغبة حقيقية (...). وتُستثنى من ذلك قلة نادرة من التلاميذ الذين يختارون التكوين المهني عن طواعية مدفوعين في ذلك بقصة نجاح عائلية، أب أو عم ناشط في هذا المجال وما إلى ذلك"، وفقا للمربية إشراف المؤدب.
في المقابل، ترى مديرة مكتب الاتصال والإعلام بالوكالة التونسية للتكوين المهني فاتن العدسي بنينة، أن غياب صورة إعلامية إيجابية يفسر إلى حد ما هذه النظرة الدونية وتنتقد "الخطاب الإعلامي الذي لا يُشيد بدور هذه الشعب في فتح الآفاق نحو مشروع مهني حقيقي". ومع ذلك، فإن هذه المسارات المزدراة مطلوبة للغاية في سوق الشغل.
مواصفات مطلوبة في سوق الشغل
تُبين دراسة صادرة عن مكتب العمل الدولي التابع لمنظمة العمل الدولية OIT في سنة 2015 أنّ 31٪ من المؤسسات التونسية تعاني نقصا على مستوى اليد العاملة المؤهلة لا سيما في القطاع الصناعي، وترتبط أربع وظائف من بين كل خمس يصعب سد الشغور الحاصل فيها، بالتكوين المهني. كما تظل هذه الشعب المهمَلة مطلوبة للغاية لسد حاجيات سوق الشغل. بينما لا تزال نسبة البطالة في صفوف خريجي وخرّيجات هذا القطاع مرتفعة وتبلغ 29,7٪، أي ما يعادل تقريباً تلك المسجلة لدى خريجي الشعب العامة.
ترتفع نسبة البطالة المسجلة في صفوف النساء إلى ضعف ما هي عليه لدى الرجال، أي 45,5٪ مقابل 21,8٪ تباعاً.
في نفس الموضوع
لا تتوفر أي معطيات حول توزع فرص التشغيل حسب الجهات، علما أنّ حاجيات سوق الشغل تختلف اختلافًا كبيرًا بحسب الخصائص المحلية. كما لا تحظى الولايات بأي استقلالية تُذكر على مستوى انتقاء برامجها أو شركائها الماليين مثلما يوضح عبد اللطيف العباسي: "إدارتي - بصفتها إدارة جهوية - غير مؤهلة لاتخاذ مبادرات فيما يتعلق بالشركاء والمانحين الماليين، إذ يتوجب علينا الحصول على موافقة الإدارة المركزية بتونس العاصمة"، معربا عن تأييده التام للاّمركزية.
إصلاحات تعوز النجاعة
يبدو أن مختلف الحكومات المتعاقبة كانت تعي ضرورة إيلاء هذه الشعب الأهمية التي تستحقّها، مثلما يتجلى من شتى محاولات الإصلاح التي استهدفت منظومة التعليم التقني والمهني الذي شهد خلال التسعينات تطوّرا أَملته حاجة البلاد إلى مواكبة تغيرات سوق الشغل حين ما عاد قادرا على استيعاب المزيد من خريجي التعليم العالي. وكُللت هذه الإصلاحات بسن قانون سنة 2008 الذي أعاد تنظيم قطاع التكوين المهني من خلال إضافة الإشهاد وإحداث المدارس الإعدادية التقنية ما أسهم في إحياء الاهتمام بهذه الشعبة وتزايد عدد المرسمين بها. من جهتها، ترى المربية إشراف المؤدب في ذلك دليلا على أن "لا الأولياء ولا الطلاب يرفضون التوجيه إلى التعليم التقني في حال توفر فرص التشغيل وخيارات مغرية".
لكن سرعان ما خبا هذا الزخم خلال السنوات الموالية على الرغم من وعود الدولة بـ"مزيد إدماج مؤسسات التكوين المهني في المنظومة التربوية الشاملة" كأولى أولوياتها في إطار الاستراتيجية الوطنية للتكوين المهني (2014-2018).
واليوم، لا يزال التعليم التقني والمهني قطاعا مهمَلاً يشكو من نقص التمويل وتنامي نسبة التسرب الدراسي وإصلاحات منقوصة، رغم تعاظم الطلب على هذه الشعب في سوق الشغل. وكما تؤكد إشراف المؤدب، تعكس أوجه القصور هذه حقيقة مفادها أن "مصلحة التلاميذ متجاهَلة تماما في المنظومة التربوية".