تراوحت ردة فعل العائلات بسبب هذه الإيقافات بين الرغبة في المقاومة وبين الخجل مما سيقوله الناس، كما تفسر سلمى شقيقة الفنان و المخرج عدنان المدب أحد منظمي أيام قرطاج المسرحية في دورتها المنقضية الذي تم ايقافه يوم 28 نوفمبر الفارط :
“لقد أصبح أبي كثير التشنج، يغضب لأتفه الأسباب و لم يعد يرتاد المقهى كما لم يعد يأبه سوى لنشاطه الفلاحي. أما بالنسبة لأمي التي خضعت مؤخرا لعملية جراحية على القلب، فقد لازمت المنزل و لا تسمح لنفسها سوى بنزهة على الشاطىء من حين إلى آخر .بإختصار أصبحنا جميعا نلتجىء لتناول المسكنات كي نتمكن من الخلود إلى النوم”.
سلمى المدب شقيقة مروان المدب
«إنتقام النظام البوليسي»
علّم الأبوان المتقاعدان سلمى و مروان شذوة النضال و التنوير، فالأب كان نقابيا في الإتحاد العام التونسي للشغل و لم يكن في وفاق مع التجمع الدستوري الديمقراطي .لم يعلمهما أحد، إلّا في وقت لاحق، بنبأ إيقاف إبنهما لتجنيبهما الصدمة “لقد كانا يتوقعان إن تُلفق له تهمة يوما ما لكنهما كانا يستبعدان أن يكون ذلك على خلفية إستهلاك “الزطلة”. ليلة إيقافه كان عدنان عائدا صحبة صديقه أمين مبروك الذي أوقف بدوره إثرحفل إختتام أيام قرطاج السينمائية، أي بعد نصف ساعة من حظر التجول الذي تم اعلانه بعد هجوم محمد الخامس الذي تسبب في مقتل 12 عنصرا من الأمن الرئاسي…
“كان عدنان و أمين يحملان بطاقة العبور التي تسمح لهما بالتجول و هو ما حاولا تفسيره للأعوان الذين رفضوا الإصغاء لتصريحاتهما . عند تفتيش السيارة، وجد الأعوان ورقا للف السجائر تم إقتناءه قانونيا من عند بائع السجائر .تم إقتيادهما إلى مركز الشرطة و لُفقت لهما ثلاث تهم متعلقة بكسر حظر التجول و القيادة في حالة سكر، إضافة إلى شكوك مُختلقة تزعم إستهلاكهما للمخدرات .كل هذه التهم وهمية ” على حد تعبير سلمى.
في إنتظار إطلاق سراحه يوم 14 جانفي 2016 بعفو رئاسي، كانت سلمى تهتمّ بتحضير و إيداع قفتين أو ثلاث أسبوعيا بسجن المُرناقية. فيما يلي تجربة فريدة من نوعها ترويها سلمى بكل تأثر :
«يصل الزائرون في الصباح الباكر و نمضي جل الوقت بين الوقوف قي صف الإنتظار لتسليم القفاف و إقتناء الوصولات (عملة السجن) وبين الردهة، وسط الأوساخ و الضجيج .في البداية كان لزاما علي أن أقتني الأواني من السجن، نظرا لأن أحجامها مفروضة من قبل إدارة السجن، هذا علاوة على أنني أطبخ أيضا للمقيمين مع أخي في ذات الغرفة».
في الواقع، يعتبر المساجين الذين تشبه حالتهم حالة عدنان من المحظوظين، فالكثير من نزلاء السجن لا يتلقون أي زيارة ولا تؤازرهم عائلاتهم في محنتهم لدواعي مادية منها ماهو متعلق بالفقر و البعد الجغرافي أو بسبب الرفض الطوعي من لدنهم لإحساسهم بشيء من العار، رغم ذلك يكابد البعض كما هو الحال بالنسبة لهذه العجوز الفقيرة القادمة من مدينة قفصة و التي مُنعت من زيارة إبنها نظرا لأنه لم يكن اليوم المخصص لذلك.
الرشوة ذلك الملجأ الاخير
تلقى سامي، و هو إطار بنكي، مساء يوم 28 نوفمبر 2015، مكالمة هاتفية من أمه لتعلمه أن أخاه الأصغر، نوفل، الذي يبلغ من العمر 22 سنة تم إيقافه .كانت شديدة الإرتباك لدرجة دفعته إلى الظن أن الأمر مرتبط بوفاة أحد أقربائه.
” كان يتجول مع بعض أصدقاءه في الحي و قرروا الفرار درء للإيقاف عندما شاهدوا دورية للشرطة لكن نوفل لم يسعفه الحظ فتم إيقافه .أبي، ذي المسيرة المثالية في وزارة الداخلية، لم يرتبك بل ارتدى ملابسه ظنا منه أن الأمر لا يتجاوز إحتجاز إبنه في إطار حملة للتجنيد. ”
عندما أٌقتيد إلى مركز الشرطة، أعترف نوفل أنه يستهلك “الزطلة”، و هو ما أكده التحليل الطبي في الإبان.
«إنتابت أمي حالة من الهستيريا و كان من المستحيل إقناعها بأية رواية لا تفضي إلى عودة إبنها إلى المنزل في نفس الليلة.لم يدر بخلدي سوى تقديم رشوة مقابل إطلاق سراحه و كنت مستعدا أن أدفع 2000 دينارا مقابل إيقاف التتبعات ضده.»
رغم ذلك، لم تنجح محاولات الأب و لا مهارات التعامل مع الآخر في تفادي السجن .الإستثناء الوحيد، و الذي” يشبه إلى حد ما الأفلام الهليودية”، تمثل في تمتع نوفل بغرفة مريحة بسجن المرناقية مجهزة بتلفاز عالي الجودة يلتقط مجموعة من القنوات مدفوعة الأجر إضافة إلى بيت للراحة تتوفر فيه الشروط الصحية.
” ستبقى هذه التجربة عالقة في ذهن والدي فقد كان دائم الإعتداد بنظافة يده و الفخر بحسن تربية أبنائه. يرى نفسه اليوم مكبلا بعد أن كنا نعرف في الحي بصفتنا عائلة “محترمة”. يبقى التأثير الأكبر لهذه الحادثة من نصيب الأُم “عندما علمت أن إبنها لن يعود إلى المنزل دخلت والدتي في حالة هستيرية فظلت طيلة اليوم في غرفة نوفل و تنام في سريره ليلا ولم تطأ قدماها خارج المنزل طيلة أكثر من شهر فأُضطر أبي للإهتمام بالتبضع عوضا عنها فقد كانت تتجنب الجيران.
دون أن يبوح بذلك صراحة، لم يكن الامتحان سهلا بالنسبة لسامي الذي حاول أن يكون طبيعيا بين زملائه ولم يبح بسره سوى لصديق مقرب واحد و أصبح بالمناسبة كثير التدخين حيث يستهلك علبتي سجائر يوميا.كان مجبرا على التعلل بإصطحاب أُمه للمستشفى كي يستطيع أن يغطي زيارة السجن الأُسبوعية
أُطلق سراح نوفل لكن الصدمة لازالت تلاحق عائلته إلى اليوم.
«أحد أقربائنا القاطن بحمام الأنف لم يعد بمقدوره زيارتنا بأمر من والدته لأن سمعتنا لم تعد طيبة في نظرها».
ضحايا قضايا إستهلاك الزطلة ليس المستهلكون فقط، فعائلاتهم هي الأخرى تعيش على وقع نفس هذا الإشكال لكونها ترزح تحت وطأة العار وتأنيب الضمير والشرف الملطخ إضافة إلى الأضرار الجسدية و الذهنية، و هو ما يفسر إلى حد ما عدم قدرتهم أو عدم إرادتهم النضال من أجل إلغاء القانون 52.
تجمع أمام مجلس نواب الشعب يوم 28 نوفمبر 2015 من أجل إلغاء القانون عدد 52
تجمع أمام مجلس نواب الشعب
لم يكن من السهل بالنسبة لتنسيقية عائلات السجناء حشد العائلات يوم 28 نوفمبر 2015 خلال التجمع التنديدي الأول أمام مجلس نواب الشعب في باردو.
لم يستجب لهذا النداء سوى العشرات، الكثير منهم ينتمون إلى المجتمع المدني، لكن بعض الأولياء كانوا حاضرين لشدة يأسهم .
ربت فجرة و هي مطلقة في العقد الرابع من العمر، ابنائها الثلاثة في حي التضامن الذي تعتقد أنه “مصدر كل مأساتها ” .يقبع ابناؤ الثلاثة في السجن وقد سجن البكر بتهمة إستهلاك “الزطلة” .بعد أن قضى العقوبة المتعارف عليها سنة 2011. ويريد هذا الأخير أن يندد بالعنف البوليسي المسلط عليه و ينوي تقديم شكوى في الغرض.
“رغم الضعوطات التي مُورست عليه، رفض ابني أن يسحب شكواه فلفقوا له عديد التهم حتى بلغت الأحكام في حقه 9 سنوات سجنا “:هكذا تحدثت الام المغتاضة
“يعتبر ابنائي من بين الشبان الأكثر رصانة في الحي لكن كانت رفقتهم سيئة .اضطررت إلى دمج ثلاث أعمال كمعينة منزلية كي استطيع أن أزورهم و أوفر ثمن القفة”. رغم مساعدة مرؤوسيها تسعى فجرة إلى كسب عيشها.
« قررت أن أنهي مع هذه الوضعية فلم تعد لي طاقة للاحتمال فحاولت أن أُلقي بنفسي في واد مجردة الذي يحيط بالسجن .كدت افقد صوابي حتى انني عادة ما أهيم باكية في الشوارع.منذ ذلك الحين باشرت العلاج في مستشفى الرازي و لا أستطيع أن أنام إلا تحت تأثير المهدئات»
حياة تحت الإبتلاء
يمينة مرأة ذات ملامح “برجوازية ” بشعرها الرمادي أصرت على أن تقاسمنا مأساة ابنها التي جدت منذ 16 سنة .يظهر من خلال الطريقة التي روت بها قصتها أن الجرح لم يندمل بعد، فقد قضت 10 أيام دون أن تصلها أي أخبار عن ولدها الذي غادر المنزل في أحدى الصباحات متوجها إلى مقر عمله .
“تعوّد أن يهاتفني في الصباح عند مباشرة عمله كمُضيف بالخطوط الجوية التونسية .انتهى اليوم دون أن اتلقى مكالمته .بعد مرور عشر أيام، أعلموني أن وزارة الداخلية أوقفته في حالة تلبس في الوقت الذي نفى في أقواله حيازته للممنوع فقد تم تعنيفه إلى أن “اعترف” أنه استهلك مادة مخدرة “.
حُكم على إبنها بسنة سجنا و غرامة مالية ب 1500 دينارا
«دُمرت عائلتنا و لم يستئنف إبني العمل بعد ذلك و يقيم مع زوجته وابنتيه في بيتي و أنا من يتكفل بمصاريفهم »
ابنة يمينة هي الاخرى كانت من بين الضحايا الجانبية لهذه المأساة فقد كانت بصدد الإعداد لإمتحان البكالوريا خلال السنة التي سُجن فيها أخوها لكن نظرات الإتهام و تجنب زملائها في معهد المنزه السادس و الاهانة اليومية التي تتعرض لها من طرفهم و من طرف اساتذتها تمكنت منها.
فكان أن رسبت في البكالوريا و لم تستطع أبدا أن تستأنف هذا الإمتحان، فقد وضعت بشكل مفاجىء و نهائي حدا لدراستها . على غرار ما جد للعائلة، مُنعت أختها من طرف زوجها من الإحتكاك بها.
«نعيش اليوم كالمنبوذين.أردت بحضوري اليوم لهذا التجمع أن أُعبر عن تضامني مع كل من يمر بهذه المظلمة، وهي المرة الاولى التي أخرج فيها بعد أن اجريت عملية جراحية نتيجة فتق »
تشير السيدة العش التي تسكن هي الاخرى بحي التضامن إلى حجم التمييز و الشعور بالذنب “برغم اننا لم نفعل شيئا ، أصبح زوجي يجدني مذنبة لكوني أخفقت في تربية أولادي ” .
لكنها تشدد على الفساد المستشري في المؤسسة السجنية للتمتع بأبسط الخدمات لفائدة إبنها من طرف سجانيه.
“لطالما كنت ارشي العون الذي يستقبل القفة بعشر دينارات كي أتأكد من أنه لن ينقص شيئا منها .كنت اقتني وصولات التبغ كي يهب البعض منها للاعوان عله يتمتع بحمّام ساخن .كنت مضطرة الى أن أتقشف فلم يكن الأمر سهلا بالمرة من الناحية المادية . كان تعويضي الوحيد يتمثل في مساعدته على الزواج عندما غادر السجن و سأكون جدة في غضون شهر ” .
إلغاء القانون عدد 52
محمد عزيز بن مصطفى يمتهن في الأصل الفلاحة و ينظم التظاهرات الثقافية و هو من بين المؤسسين لتنسيقية “عائلات سجناء القانون “52 ومن بين المبادرين بتجمع 28 ديسمبر أمام مجلس نواب الشعب .هو من المعنيين شخصيا بايقاف عدد من أصدقائه بموجب هذا القانون لكن حافزه الأساسي كان معاناة أقرباء هؤلاء السجناء فهو يناضل من أجل تحسيس أكثر نجاعة في صفوف الرأي العام عبر إشراك العائلات .
بالنسبة له لابد أن يكون الغاء القانون عدد 52 أولوية بالنسبة للسلطات العمومية .أولا لأن “هذا القانون تم إستعماله من طرف بن علي لتصفية الخصوم السياسيين” و ثانيا لأن إلغائه يمكن أن يحد من عدد المساجين .حسب تقرير المفوضية العليا لحقوق الانسان الذي نشر سنة ,2014 فإن السجون التونسية تستقبل 16 مرة ضعف طاقتها الحقيقية ,أي بمعدل 80 سجينا للغرفة .
يؤكد السيد محمد بن مصطفى أن ” السجن يكلف العائلات ما يقارب 10 آلاف دينارا للسنة الواحدة بين التنقلات و القفة والوصولات و هو ما لا يعد له تبرير حسب التجارب الأجنبية .اشارت اللجنة الدولية لسياسات المخدرات إلى ضرورة القطع مع تجريم المستهلكين مؤكدة على فشل الحرب التقليدية ضد المخدرات “.
نشأ إستهلاك الزطلة في الأحياء الشعبية في بداية سنة 2011 ولكن سرعان ما تعممت بشكل متسارع منذ الثورة حسب تقديرات الجمعيات, فيبلغ عدد المستهلكين في تونس قرابة 300 ألف مستهلك على الأقل و هو ما يفترض وجود شبكات توزيع منظمة على مستوى متقدم في الوقت الذي يبلغ عدد المستهلكين قرابة 95% من جملة السجناء “فمنهم التجار”؟ يتساءل السيد محمد بن مصطفى.
يلاحظ خصوصا أن القانون 52 له تداعيات عديدة فالكثير من الشباب يتوجهون إلى إستعمال “السوبتيكس” كتعويض عن الزطلة فالآثار يمكن أن تبقى إلى حدود 28 يوما هذا ما يثبت أن الزجر يعتبر أولوية بالنسبة للدولة مقارنة بالوقاية و العلاج، فالمركز الوحيد للتداوي في صفاقس لا يمكن أن يستوعب أكثر من 50 مريضا في الشهر من جميع الاصناف لنقص في الامكانيات البشرية أساسا وهو مركز انشأته جمعية كشهادة أخرى على تنصل الدولة من التوجه إلى الفئات ذات الاحتياجات الإستثنائية.