«وهو يفارقنا إلى الأبد لم يكن الحاج متفاجئا.خلت نظرته الأخيرة من أي أثر للخوف.تلت عيناه الوصية الأخيرة بشكل برقي حيث إمتزج الوطن بالامة و الاب… لم يفارق تحديه و بئسه حتى و هو يرتفع شهيدا ».
فيما يلي حكاية رجل تسربل بالكرامة و الزهد و إختار قدره عندما قرر أن يضع قيمه موضع التنفيذ من سيدي بوزيد إلى الجلاز…
في أواخر سنة 1954، ستة أشهر قبل ميلاد الشهيد البراهمي، كانت الجزائر في عنفوان المقاومة. هناك، غير بعيد عن تونس، كانت “الأقدام السوداء” تسعى إلى الحفاظ على سلطانها عبر حرسها ومرتزقتها لمواجهة جبهة التحرير.
بئر العاتر ( 30 كلم من الحدود التونسية الغربية) لم تكن بمنأى عن حركة التحرر الوطني الجزائري بانتصاراتها و انتكاساتها. كانت كغيرها من البلدات الجزائرية تكابد من أجل البقاء والحرية. كيف لا تكون كذلك وقد كانت مهدا للارهاصات الاولى للثورة قبل الأوراس عبر ما اجترحته قبيلة النمامشة من أعمال بطولية.
حرب العصابات التي فُرضت على حركة التحرر جعلت من الحشانة، مسقط رأس البراهمي، ملجأ للثوار. أولاد عزيز، أسلاف البراهمي، لم يترددوا في إحتضان الثوار واللاجئين. أولئك الذين بكاهم البراهمي الصبي ذو السنوات السبع عندما عاودوا بئر العاتر. يوم انتخب ممثلا عن سيدي بوزيد، عاد به أحد شيوخ المقاومة الجزائرية إلى ذلك الوداع.
منذ الصّبا ، قبل أن ينفتح على الفكر القومي والأممي، تربّى على ملاحم “الفلاقة” وأمضى جزء من صغره بين دروس الحركة الوطنية الجزائرية والتضامن التونسي الجزائري .
ويقول محسن النابتي، أحد أبرز رفاق الشهيد البراهمي، متحدّثا عن تأثير البُعد الجغرافي في نشأة البراهمي وتكوينه:
«أولاد عزيّز الذين يمتدّ تواجدهم من سيدي بوزيد إلى قفصة إلى عمق الجزائر “كانوا يشكلون الحضن القبلي الذي تلقّى فيه البراهمي الأساسيات القيمية للنضال و المقاومة. كل ما تلاَ ذلك من إلتزام سياسي و نضالي كان في واقع الأمر إمتدادا متأصلا في التربة الأولى التي ترعرع فيها الشهيد».
رحلة النضال من مقاعد الدراسة
ولد البراهمي يوم 15 ماي 1955 بمدينة الحشانة من ولاية سيدي بوزيد و عايش ثورة المليون شهيد بكل تفاصيلها فجعلته ينجذب تلقائيا إلى التجربة الناصرية التي كانت تجسيدا لحلم معاصريه ب”الحرية و الوحدة والاشتراكية “.
زاول تعليمه الابتدائي بمدرسة اولاد مبارك “المحاريق” ثم إنتقل إلى المعهد الثانوي بالمكناسي فقفصة فالمعهد الفني بنابل حيث تحصل على شهادة البكالوريا سنة 1977.
حال دخوله الجامعة إلتحق البراهمي بالنضال ضد النظام البورقيبي في صفوف التيار القومي العربي اواخر السبعينات. كان القمع البورقيبي على أشدّه حيث طال جميع العائلات الفكرية و السياسية دون اسثناء. في المقابل كان الفضاء الجامعي معقلا لزخم نضالي منقطع النظير حيث شهد ميلاد حركة “أفاق-بريسبيكتيف” وعديد التنظيمات الأخرى ذات التوجه القومي. التيار الناصري نشأ أساسا بعد القمع الممنهج ضد اليوسفيين وما انجرّ عنه صدامات وتصدّع للعلاقة بين المنتسبين إلى هذا التنظيم ونظرائهم من المنتسبين للتيار البورقيبي.
البراهمي لم يكن بمعزل عن هذه الأحداث سواء في الحركة التملذية أو عند التحاقه بالجامعة حيث كان قياديا في الصفوف الأمامية في تنظيم “الطلبة العرب التقدميون الوحديون” الذراع الطلابي للتيار الناصري في تونس.
وكان أبو عدنان كان محرّضا و داعية يبث حماسه في زملائه و رفاقه صلب الهياكل النقابية المؤقتة خصوصا عندما إنفجر الاحتجاج سنة 1977 ضد معاهدة كاب ديفيد أو في اضراب 26 جانفي 1978.
تعرض البراهمي للاعتقال على خلفية أحداث قفصة ليتمّ على اثر ذلك تقديمه للمحاكمة. اثرإجتياح بيروت سنة 1982 تمّ منعه من الالتحاق بالمقاومة في مناسبتين حيث تمّ اخراجه بالقوة من المطار بعد أن أعلن إعتصاما في بهوه. وقد كلّفه نشاطه الطلابي الطرد من مقاعد الدراسة في مناسبتين.
صورة تمّ التقاطها من معرض لصور الشهيد في الذكى الثانية لاغتياله.
حلم الناصرية .. والوحدة العربية
تحصل البراهمي سنة 1982 على ديبلوم الاستاذية في المحاسبة. انطلقت مسيرته بالتدريس في بنزرت وكان من بين القيادات المركزية التي ساهمت في تأجيج إنتفاضة الخبز وتأطيرها سنة 1984.
لم تدُم تجربة التدريس طويلا فسرعان ما إلتحق بالوكالة العقارية للسّكنى سنة 1985 بعد أن عمل بديوان احياء المناطق السقوية بسيدي بوزيد. “المعلّم” كان رصينا و هادئا، يستمع أكثر مما يتكلم عندما يتعلق الأمر باستشارة الناس و الانصات لارائهم و مواقفهم . وقد كان الحاج البراهمي آخر من يتدخل في الجلسات الحزبية بشكل توجيهي عبر قراءات محينة للاوضاع السياسية.
«كان لا يفوّت فرصة دون أن يدعو من حولَه إلى تحيين معارفهم و القطع مع التقوقع و ترتيل التعاويذ و التمتمات الفكرية المحنطة دون السقوط في التكبر و التعالي، كان الشهيد المتواضع ذي ثقافة موسوعية يمتزج فيها السياسي بالاقتصادي و الادبي ».
هكذا لخص الاستاذ خالد عواينية عضو هيئة الدفاع في قضية إغتيال البراهمي سلوك “المعلم” في حضرة رفاق دربه، معتبرا إياه بمثابة “التسونامي الفكري” و أنّه من القلائل الذين يقرنون الفكر بالممارسة.
اثر العدوان الأمريكي على ليبيا سنة 1986 كان البراهمي من الأوائل الذين دشنوا السجن المدني بسيدي بوزيد بعد أن تزّعم المسيرات المنددة بهذا العدوان. ساهم بكتاباته في رفض إنقلاب 7 نوفمبر 1987 والميثاق الوطني. و كان من عضوا مؤسسا لأول تنظيم للناصريين في تونس سنة 1989 تحت مسمّى “أنصار الامة “.
إنتقل البراهمي إلى العمل في المملكة العربية السعودية سنة 1994 إلى سنة 2002، لكنّه عاد إلى البلاد بأكثر حماس و إصرار على لمّ شمل الناصريين في تونس رغم أنّ بدايات القرن العشرين كانت إمتدادا لسنوات الجمر في تونس منذ أواسط التسعينات. فضّل البراهمي أن يشارك رفاقه التضحية عوض أن ينعم هو وعائلته بما توفره الهجرة من إمتيازات مادية و اجتماعية. كان مصرّا على توحيد الناصريين و يجوب البلاد شمالا و جنوبا من أجل ذلك.
يقول الأستاذ خالد عواينية متذكرا في هذا السياق:
«في حديث جمعني بالبراهمي أسرّ لي أنّ ما من “هايشة “(دابّة) أشتمّ عليها رائحة الناصريين إلا وناقشت معها فكرة رصّ الصفوف وتوحيد النضالات. كان يتوجه إلى مخالفيه قبل الذين يتّفق معهم».
يوم 15 نوفمبر من سنة 2005 نجح البراهمي صحبة عدد من رفاقه في تأسيس “حركة الوحدويين الناصريين” بعد دعوة تونس لرئيس الوزراء “الاسرائيلي” أريال شارون إلى القمّة العالمية لمجتمع المعلومات.
حال إندلاع الاحتجاجات في سيدي بوزيد تنقل البراهمي سرا و علنا عبر المسالك الفرعية ليُنظّم الشباب الناصري ويشحذ العزائم اضافة إلى تنقله إلى تونس العاصمة للتشاور مع الفاعلين السياسيين والنقابيين حول ضرورة تأطير هذه الحركة و دعمها.
بعد فرار بن علي ترشح البراهمي إلى انتخابات المجلس الوطني التأسيسي و ممثّلا عن دائرة سيدي بوزيد، وقد نال ما ثقة الناخبين ليلتحق بأوّل برلمان بعد الثورة.
المواجهة مع الترويكا
طيلة فترة حكم الترويكا كان البراهمي من أشرس المدافعين عن الحريات و الديمقراطية و ناهض الخطاب التكفيري من سيدي بوزيد إلى المكناسي إلى مسجد المجلس التأسيسي.
اعتبر البراهمي أن شبكة تسفير الشباب إلى سورية والمرتبطين بها يخوضون حربا بالوكالة ضد سورية و الأمة العربية. ولم يكن يبحث عن الانتماءات السياسية والايديولوجية لضحايا العنف و لا يعير إهتماما إلى مشاربهم الفكرية و السياسية. فغداة مقتل الناشط السياسي لطفي نقّض، توجّه البراهمي إلى المجلس التأسيسي بخطاب استشرافي استعرض فيه وجهة نظر تحذّر من مغبة التمادي في العنف والسكوت عن مرتكبيه و المحرضين عليه.
من وثائق الشهيد التي تم عرضها خلال الكرى الثانية لاغتياله
في حدود أكتوبر 2012، عندما كان العنف في أوجه، إعتبر البراهمي أنّ “ما يسمّى بروابط حماية الثورة هي الأداة و رأس حربة العنف في تونس “. لم يكن يعرف أنه سيكون من أبرز ضحايا شبكة التكفير و الفتنة.
لم يغفل الشهيد عن البيئة التي تربّى فيها حيث خاض اضراب جوع للدفاع عن أهالي قرية العمران في سيدي بوزيد الذين اعتقلت الحكومة العشرات منهم عندما طالبوا بالتشغيل و التنمية.
في 9 أفريل 2013، أعلن البراهمي التحاقة بالجبهة الشعبية واعتبرها خيارا إستراتيجيا وأسس حزب التيار الشعبي في 7 جويلية من نفس السنة بعد أن انشقّ رفقة عدد كبير من رفاقه عن حركة الشعب.
محمد البراهمي الشاعر
البراهمي لم يكن كائنا سياسيا فقط بل كان له شغف خاص بالشعر الجاهلي و خصوصا المعلقات وكانت له محاولات شعرية اصطحبها يوم اغتياله فتخضّبت بدمائه وظلّلت شاهدا على بشاعة الاغتيال الاغادر الذي تعرّض له. ورغم أن محمد كان مشغولا أساسا بالسياسة و ما تفترضه من تفرغ إلا أنه كان يجد مجالا و لو ضيقا لخصوصيته التي لم تكن مفصولة عن هموم محيطه السياسي والثقافي.
في أول لقاء جمعها برئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي صرح هذا الأخير لأرملة الشهيد أن “عدم الكشف عن قتلة البراهمي يعتبر إهانة له شخصيا” .بعد 9 أشهر من الانتخابات الرئاسية مازلت حقيقة الإغتيال مجهولة …