بطاقة التعريف البيومترية: مقايضة الخدمات الناجعة بالخصوصية

بطاقة التعريف البيومترية: مقايضة الخدمات الناجعة بالخصوصية

في يوم دراسي نظمته الإدارة العامة للحدود والأجانب، فيفري 2022 بأحد نزل العاصمة، عرضت وزارة الداخلية ملامح المشروع الجديد لبطاقة التعريف البيومترية، الذي يبدو أنه ألغى كل الاتفاقات والتوافقات السابقة وأعاد إنتاج النسخة الأولى من المشروع متمسّكة فيه بكل النقاط الخلافية لتعيد بذلك الأمور إلى المربع الأول.
بقلم | 06 أفريل 2022 | reading-duration 10 دقائق

متوفر باللغة الفرنسية

  بعد المسار الطويل الذي عاشه مشروع قانون بطاقة التعريف البيومترية داخل وخارج البرلمان منذ إيداعه سنة 2016، تم التوصل في النقاشات الأخيرة، في بداية سنة 2021، داخل لجنة الحقوق والحريات والعلاقات الخارجية إلى اتفاق حول مجموعة من النقاط الخلافية التي كانت تمثل تهديدا للمعطيات الشخصية من ناحية، وتعرض الحياة الخاصة للمواطنات والمواطنين للخطر من ناحية أخرى، إلا أن هذا الاتفاق أصبح لاغيا برجوع وزارة الداخلية إلى نقاط مختلف عليها من النسخة الأولى. 

بعد 25 جويلية 2021 وإثر الإعلان عن حالة الاستثناء، عادت إلى السطح العديد من مشاريع القوانين التي لم تحظ بتوافق وطني، باعتبار أنها مثلت أو ستمثل خطرا على الحريات الفردية أو الجماعية على غرار محاولات تعديل المرسوم 88 لسنة 2011 المتعلق بتنظيم الجمعيات، ومحاولة تمرير مرسوم بطاقة التعريف وجواز السفر البيومتريين والذي يمثل حسب عديد منظمات المجتمع المدني خطرا على الحياة الخاصة للمواطنات والمواطنين. 

ثنائية الانتقال الرقمي وحماية المعطيات الشخصية

أعلنت وزارة الداخلية في بلاغ لها، يوم 17 جانفي 2022، عن المضي قدما في وضع قانون بطاقة التعريف وجواز السفر البيومتريين بالرغم من رفض مدني واسع شمل الهيئة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية. وأكد شوقي قداس، رئيس الهيئة، في ندوة عقدتها منظمة البوصلة للتعليق على آخر تطورات مشروع القانون يوم 17 مارس 2022، على أن النسخة الحالية من القانون تتعارض مع الفصل 49 من الدستور التونسي باعتبار أنه لا يأخذ بعين الاعتبار مبدأ التناسب في الإجراءات، يعلق قدّاس على ذلك "يتحدث الفصل 49 في دستورنا عن الضرورة والتناسب، والضرورة هنا لم يعد فيها أدنى شك فاليوم المجتمعات أصبحت مرقمنة وإنشاء بطاقة تعريف وجواز سفر بيومتريين ضروري، لكن بالنسبة للشرط الثاني وهو التناسب فإذا كانت الغاية هي التعرف دون شك على الشخص حسب معطياته البيومترية، فوجود المعطيات فقط في الشريحة وأشدد على ذلك أي دون تخزينها في قاعدة بيانات بيومترية، فيكفي لبلوغ الغاية". 

  جاء فيما بعد اليوم الدراسي ليؤكد كل المخاوف السابقة المتعلقة بمحاولات تمرير قانون لا توجد فيه ضمانات كافية لحماية الحقوق والحريات.  

مسار مشروع قانون بطاقة التعريف البيومترية

5 أوت 2016
إيداع مشروع القانون 62 لسنة 2016
19 ماي 2017
بداية مناقشة مشروع القانون في لجنة الحقوق والحريات
18 جويلية 2017
المصادقة على مشروع القانون داخل اللجنة
9 جانفي 2018
سحب القانون من قبل جهة المبادرة في يوم عرضه على الجلسة العامة للمصادقة
24 جوان 2020
إيداع نسخة جديدة من مشروع القانون
27 جانفي 2021
بداية مناقشة مشروع القانون في لجنة الحقوق والحريات
11 مارس 2021
آخر جلسة مناقشة لمشروع القانون بمجلس نوّاب الشعب
17 جانفي 2022
إعلان وزارة الداخلية عن استئناف بعث مشروع إنجاز بطاقة التعريف البيومترية
26 فيفري 2022
يوم دراسي نظمته وزارة الداخليّة للتعريف بالنسخة الجديدة من القانون

  مما لا شك فيه أن  بطاقة التعريف البيومترية تعتبر مدخلا هاما لتطوير نجاعة الخدمات الإدارية والمساهمة في الانتقال الرقمي لتسهيل التعاملات والمعاملات عن بعد في عصر يشهد تطورا تكنولوجيا متسارعا وكبيرا. ولعل تونس في حاجة ماسة إلى هذا الانتقال باعتبار التردي المتزايد للخدمات وضعف مردودية الإدارات.

لكن هذه التكنولوجيا المنتشرة منذ سنوات في العالم، يجب أن تنزّل داخل منظومة من الحقوق والحريات حسب شريف القاضي، من منظمة Access Now المدافعة عن الحقوق الرقمية إذ يتساءل عما إذا قيّمت وزارة الداخلية مشروع البطاقة البيومترية ومخاطره على حقوق الإنسان، ويقول في هذا السياق: "أهم أمر بالنسبة لنا في بناء أو إنشاء أي حل رقمي مهما كان، بيومتري أو غيره، هو احترام حقوق الإنسان فإذا كان هناك خطر على حق من حقوق الإنسان كما الخصوصية في هذه الحالة أو حماية معطيات الفرد الشخصية فموقفنا واضح على المستوى الدولي، بأنه يجب إيقاف هذا المشروع وتقييمه والعمل على أسس صحيحة." 

بالتالي من الممكن أن يكون ذلك من المحددات بأن لا يتم توجيه هذا المشروع والانحراف به إلى سياقات قد تضرب المبادئ القانونية والمكاسب المدونة في الباب الأول للحقوق والحريات من دستور 2014. ولا بد أن الانتقال للخدمات عن بعد للقطع مع الطوابير الطويلة أمام الإدارات أصبح ضرورة قصوى إلا أنه يجب التساؤل، قبل التأسيس لذلك، عن مجالات استخدام مقاييس حيوية كالبيانات البيومترية التي ستمهد لهذا الانتقال، وعن ضرورة تجميعها في قاعدة بيانات وما الذي يحدث لها بمجرد جمعها. 

نقاط خلافية قد تمثل خطرا على المعطيات الشخصية

تفرض القوانين التونسية إجبارية استخراج بطاقة التعريف وحملها، وبذلك تعتبر من أهم الوثائق التي يحتاجها المواطنون والمواطنات في أغلب معاملاتهم البنكية والإدارية، ولذا يجب أن يمر أي انتقال رقمي عبر تغيير خاصيات بطاقة التعريف وهو ما ذهبت إليه وزارة الداخلية عبر هذا المشروع. 

الهدف الأساسي من بطاقة التعريف، هو التثبت من أن حاملها هو نفسه صاحبها، كي يتسنى له القيام بما يريد من معاملات أو غيرها. ومن هذا المنطلق تخزن بصمة الإصبع وصورة بيومترية للشخص في بطاقة التعريف البيومترية حتى يستطيع العون المخول له، أمنيا كان أم إداريا، التثبت من أن البصمة المسجلة على البطاقة متوافقة مع بصمة حاملها ويتم ذلك عبر قارئ خاص توضع فيه البطاقة من ناحية ويضع حاملها بصمة إصبعه من الناحية الأخرى وبذلك يتم الحسم وتنتفي إمكانية أن يكون حامل البطاقة منتحلا لصفة صاحبها. 

من المفترض ألّا يكون قارئ البطاقة متصلا بأي قاعدة بيانات، لأنه يقرأ فقط المعطيات المخزنة على الشريحة المدرجة في بطاقة التعريف ويقارنها بمعطيات الشخص الماثل أمامه وهذا كافٍ للتثبت. ومع أن وزارة الداخلية أكدت على هذه الخاصية لقارئ البطاقات إلا أنها تريد جمع كل المعطيات البيومترية للمواطنات والمواطنين في قاعدة بيانات ووفقا لقدّاس فإنها تتعلل بوجود ذلك في معايير المنظمة الدولية للطيران المدني، عن ذلك يقول: "وزارة الداخلية ترتكز في حديثها حول جواز السفر بأنه ليس لها أي حرية في التدخل لأن المعايير الدولية للمنظمة العالمية للطيران المدني هي التي تطبق، هذا صحيح لكن بناء عليه من أين جاؤوا بأن هناك بندا يتعلق بتركيز قاعدة بيانات بيومترية؟ طبعا لا يوجد ولن توجد فهذا أمر غير مقبول في الدول الديمقراطية ولا فائدة في ذلك أساسا." 

  كما تبرر وزارة الداخلية عزمها إنشاء القاعدة البيومترية بالحاجة إليها في حالات الحوادث التي لا يمكن التعرف فيها على الأشخاص المتوفين، كما جاء في تقديم المشروع أثناء اليوم الدراسي.     

  إنشاء قاعدة للبيانات البيومترية  

  تمنع قوانين عديد الدول من بينها مثلا ألمانيا والبرتغال إنشاء قاعدة بيانات للمعطيات البيومتريّة لبطاقة التعريف، وينص القانون في كليهما على ضرورة فسخ هذه المعطيات من قاعدة البيانات في أجل لا يتجاوز تاريخ تسليم البطاقة لصاحبها. يعود هذا الإجراء لعدة اعتبارات، منها أنه لا يوجد سبب لإنشاء هذا النوع من قواعد البيانات لأنها فعليا لا تستخدم في عملية التثبت من هوية الشخص وبالتالي ينتفي مبدأ التناسب المنصوص عليه في الفصل 49 من الدستور التونسي، ولكن أيضا يمثّل تجميع معطيات حسّاسة خطرا ثانيا وهو تعريضها للقرصنة أو التسريب، وباعتبار أن هذه المعطيات ثابتة ولا يمكن تغييرها فإن أي تسريب لا يمكن تداركه. 

ولعل من أبرز الأمثلة وأشهرها لمدى خطورة ذلك، ما حصل في الأرجنتين في شهر أكتوبر من سنة 2021، من تسريب معطيات لأكثر من 45 مليون مواطنا أرجنتينيا تباع اليوم في الويب المظلم dark web بالمزاد لمن يريد استخدامها في أعمال غير قانونيّة وغير مشروعة، هذا ما يؤكده شريف القاضي إذ يقول: "ليس هناك أي وسيلة أو قواعد بيانات رقمية نسبة الخطر فيها صفر، إذا اعتمدت على وسيلة تكنولوجية فإن خطر الخرق موجود (...) المعطيات البيومترية إذا تم تسريبها أو تعرضت للاختراق فإن أي شخص يتمكن منها يمكنه انتحال شخصيات أخرى في أي عملية." 

من جهة أخرى وفي ظل وضع استثنائي يعيشه التونسيون والتونسيات سجلت فيه عديد القوى المدنيّة تخوفها من التراجع على الحقوق والحريّات، يمكن أن يكون تجميع مثل هذه المعطيات في حال تسربها خطرا على حياتهم الخاصة وعلى سلامتهم عبر إمكانية تتبعهم وتتبّع نشاطاتهم السلمية، وهنا تأتي مسؤولية الدولة بحماية المعطيات الشخصية لمواطنيها.  

  بالرغم من أن بعض الدول، على غرار دول الاتحاد الأوروبي، تسمح بإنشاء قاعدة بيانات بيومتريّة لبطاقة التعريف، فإن ذلك يبقى اختياريا للأشخاص الذين يريدون استخدام بطاقاتهم كوثيقة سفر داخل منطقة شنغن Schengen area، ولا يكون ذلك إجباريا على المواطنين كما سيكون الحال في تونس في حال تم إصدار مرسوم بطاقة التعريف البيومتريّة.     

وزارة الداخليّة تعتبر إنشاء قاعدة البيانات البيومتريّة ضروري كونها ستمكّن من التعرّف على الأشخاص في حالة حوادث أليمة، كحادثة عمدون -عندما توفي·ت مجموعة من الشبان والشابات وهم في طريق عودتهم من مسار سياحي-، أو في حال فقدان الذاكرة لدى كبار السنّ، كما جاء في عرض قدّمته الوزارة خلال اليوم الدراسي، لكن هذه الحجّة وإن كانت مهمّة لا يمكن أن تبرّر وضع قاعدة تضمّ معطيات بيومتريّة حسّاسة لحوالي 8,5 مليون مواطن ومواطنة خاصة أن هناك إمكانيات أخرى للتثبّت من الهويّة أبرزها التحليل الجيني. وبالتالي لن يكون إنشاء قاعدة البيانات إلا مجازفة قد تؤدي لما لا يحمد عقباه.

نوع الشريحة المدرجة في البطاقة

تمثل نوعيّة الشريحة المدرجة في البطاقة محل خلاف ثان في مشروع بطاقة التعريف البيومتريّة، حيث أن وزارة الداخليّة أعلنت خلال اليوم الدراسي الذي عقدته في آخر شهر فيفري الماضي بأن الشريحة ستكون غير تلامسيّة أي يمكن قراءتها عن بعد. وحدّدت وزارة الداخلية أن قارئ البطاقة لا يمكنه قراءتها على بعد يتجاوز الـ 10 سنتيمترات لضمان عدم إمكانية الحصول على المعطيات المخزّنة دون علم صاحب البطاقة. 

لكن هذا الشرط وإن كان مهما إجرائيا ضمن هذا السياق، إلا أنه لا يمكن أن يكون ضمانا باعتبار أن عمليات الاختراق ممكنة عن بعد ويمكن لجهات غير مخوّل لها، تعديل القارئ لتتمكّن من تجميع ما هو مخزّن بالشرائح في شعاع أوسع، وهو ما سيضع معطيات المواطنات والمواطنين على قارعة الطريق بما في ذلك معطيات الأمنيّين والعسكريين باعتبارهم حاملين لبطاقات تعريف قد تصبح مخترقة من جهات غير معلومة. وفي ذلك ضرورة للتنصيص على أن تكون الشريحة تلامسيّة لكيلا يكون ممكنا قراءتها عن بعد وتكون الإمكانية الوحيدة لمطابقة المعطيات الموجودة بداخلها مع معطيات حاملها عبر إدخالها في قارئ يمتلكه المخوّل لهم الولوج لهذه المعلومات حصريا وبدراية صاحب البطاقة. 

  وعن الخطر الذي تشكله هذه البطاقة وبماذا تختلف بالنسبة للمعطيات، يوضح قدّاس "قد يتساءل البعض عن الفرق بين البطاقة الحالية والبيومترية، والفرق شاسع طبعا بأن الأولى تحمل معطيات تم طباعتها ووضعها على وثيقة هوية لكن لا يمكن معالجتها بطريقة رقمية، أي لا يمكن أن يكون هناك حاسوب أو منظومة معلوماتية بهذه المعطيات وتتعرف وتقرأ معطيات الشخص عن بعد بمقارنة صورته المخزنة في القاعدة البيومترية بشكله الحقيقي."    

وبالرغم من أن وزارة الداخليّة تعلّلت بأنه يجب الفصل بين الجانب القانوني والجانب التقني في هذه المسألة باعتبار أن سرعة التطوّر في الجانب التكنولوجي أسرع بكثير من التطوّر القانوني، إلا أن مسألة الشريحة جدّ خطيرة ولا يجب إسقاطها من القانون باعتبار أنها قد تمسّ من الحياة الخاصة وتعرّض المعطيات الحسّاسة للخطر. 

شهدت النقاشات حول بطاقة التعريف البيومتريّة تقدّما نسبيا، حسب ما جاء على لسان مسؤولين في وزارة الداخلية خلال اليوم الدراسي الذي نظّمته الوزارة، في جزئيات مثّلت مصدرا للتنمّر طيلة سنوات على غرار إدراج المهنة في البطاقة الذي سيتم التخلي عنه، بالإضافة لمحو عنوان السكن بمجرد إحداث سجل وطني للعناوين، والتغيّر المتعلّق بتمكين صاحب البطاقة من الولوج لمعطياته المشفّرة الأمر الذي كان ممنوعا في النسخة الأولى من مشروع القانون الذي نص على عقوبة سجنية في حال نفاذ صاحب البطاقة لمعطيات بطاقته، إلا أن الذهاب لإصدار مرسوم ينظّم بطاقة التعريف البيومتريّة دون الحسم في عدم إنجاز قاعدة بيانات بيومتريّة والتنصيص على الشريحة التلامسيّة سيجعل البلاد تتراجع عن جزء هام من الحقوق والحريّات التي اكتسبها المجتمع التونسي وتفتح الأبواب أمام إمكانيات انزلاق قد تؤدي الى مخاطر لا يمكن تداركها.