كانت السفينة قد غادرت ميناء بنزرت في تونس قبل أيام، في إطار عملية تهدف إلى كسر الحصار المفروض على قطاع غزة ونقل مساعدات حيوية إليه. ولم تتبنَّ أي جهة هذا الهجوم إلا أنّ منظّمي القافلة اتهموا إسرائيل، مشيرين إلى سوابقها في عمليات الاعتراض البحرية العنيفة من بينها الهجوم على سفينة "مافي مرمرة" سنة 2010.
طوارئ إنسانية وإفلات من العقاب
وقع هذا الحادث خلال واحدة من أشنع الفترات وأكثرها دموية في تاريخ غزة، فمنذ أكثر من 18 شهرًا، يتعرض القطاع برمّته لما وصفته عدة هيئات دولية من بينها الأمم المتحدة بـ "حرب إبادة". وتجري حاليًا تحقيقات لدى المحكمة الجنائية الدولية للنظر في مسؤولية القادة الإسرائيليين الجزائية عن الفظائع الموثّقة في غزة.
منذ أكتوبر 2023، قُتل أكثر من 52 ألف فلسطيني وفلسطينية على يد قوات الاحتلال غالبيتهم من النساء والأطفال، كما أصيب ما يقارب 118 ألف شخص. وتصف الأمم المتحدة الوضع هناك بأنه "على حافة الانهيار الشامل"، في ظل تدهور النظام الصحي والبنية التحتية ونقص شديد في الغذاء والماء الصالح للشراب والأدوية.
ويعيش القطاع منذ مارس 2025 تحت وطأة حصار كامل أثر على الإمدادات الإنسانية التي تخضع لقيود مشددة وغالبًا ما يتم تأخيرها أو صدّها أو حتى استهدافها. وتُقدّر الأمم المتحدة أن أقل من 10% من الحاجيات الإنسانية اليومية للغزيين·ـات يتم تلبيتها في الوقت الحالي.
غير أنّ من أكثر ما يثير الاستنكار هو الاستهداف المباشر للعاملين·ـات الإنسانيين، إذ قُتل أكثر من 240 موظفًا وموظفة تابعين للأونروا ووكالات أممية أخرى في غزة منذ بداية الحرب، حسب معطيات الأمم المتحدة. كما استُهدفت مراكز توزيع الأغذية وعيادات متنقلة وملاجئ تابعة للأمم المتحدة، رغم التنسيق المسبق أحيانًا مع الجهات الإنسانية.
في أفريل/أبريل 2024، قُتل سبعة عاملين في منظمة "وورلد سنترال كيتشن" (World Central Kitchen)، وهي منظمة أمريكية تقدم وجبات طارئة في غزة، خلال غارة إسرائيلية استهدفت قافلة مرخصة ومعرّفة. وقد أقرت حينها قوات الاحتلال بـ "خطأ في الاستهداف" على حد تعبيرها، دون أن ينجرّ عن ذلك أي ملاحقة قضائية حتى الآن.
هذه الحوادث تغذّي الاتهامات الموجهة إلى الكيان الصهيوني أمام المحكمة الجنائية الدولية التي تحقق حاليًا في جرائم حرب محتملة، بما في ذلك الاستهداف المتعمد لعمال الإغاثة والمدنيين·ـات المحميين بمقتضى القانون الدولي.
أسطول بتاريخ طويل
أطلق ائتلاف "أسطول الحرية" المتكون من منظمات دولية مؤيدة للقضية الفلسطينية منذ سنة 2010 عدة بعثات بحرية لنقل المساعدات إلى غزة، ردًا على الحصار المفروض على القطاع منذ سنة 2007. وتبقى أشهر هذه المبادرات "مافي مرمرة"، التي اعترضها الجيش الإسرائيلي بالقوة، ما أسفر عن مقتل عشر مشاركين·ـات وأثار أزمة دبلوماسية حادّة. ورغم الضغوط وعمليات التخريب والاعتراض المتكررة فإن ذلك لم يثن هذه المبادرات البحرية من المواصلة.
سفينة "كونشنس" كانت امتدادًا لهذا المسار، فهي محاولة سلمية ورمزية كان الهدف منها كسر عزلة غزة، وكانت محمّلة بشحنة من الأدوية ومواد النظافة وأجهزة تنقية المياه ومواد غذائية أساسية، وعلى متنها ممثلون·ـات عن عدة منظمات غير حكومية. وقد أدانت الناشطة السويدية غريتا تونبرغ، التي كان من المزمع أن تلتحق بالسفينة في محطة لاحقة، هذا الهجوم بوصفه "اعتداءً على القانون الإنساني بحد ذاته".
دعوات إلى اتخاذ إجراءات ملموسة
دعت المقررة الخاصة للأمم المتحدة، فرانشيسكا ألبانيزي، إلى فتح تحقيق دولي مستقل منددةً بـ "مناخ من الإفلات التام من العقاب" يهدد كافة أشكال التدخل المدني في المنطقة قائلة أن "استهداف العاملين الإنسانيين كان خطًا أحمرًا، لكنه بات الآن يُتجاوز بانتظام".
في نفس الموضوع
ورغم الخطابات الداعمة لسكان غزة، لم تصدر إدانات صريحة لهذا الهجوم سوى من قلة من الدول، في انعكاس للغموض الطاغي على مواقف عواصم غربية كثيرة، ترتبط هي نفسها في الآن ذاته باتفاقات تعاون أمني وعسكري مع إسرائيل.
ويعيد الهجوم على "كونشنس" فتح ملف احترام القانون الإنساني، حيث أن استهداف سفينة مدنية خارج أي منطقة نزاع معلنة، وفي المياه الدولية، يُعد خرقًا لعدة اتفاقيات دولية تتعلق بالملاحة البحرية وحماية العاملين·ـات في الإغاثة.
وأعلن "ائتلاف أسطول الحرية" عزمه على تقديم شكاوى أمام هيئات قضائية دولية، داعياً إلى تعبئة عاجلة لضمان الحق في المساعدات الإنسانية وحرية الملاحة في البحار.
"الضمير" عالق في عرض البحر
ما تزال السلطات المالطية ترفض السماح لسفينة "كونشنس" المؤجرة من قبل "ائتلاف أسطول الحرية" بالدخول إلى أحد موانئها إلى حين كتابة هذه الأسطر، رغم النداءات المتكررة من الناشطين·ـات للسماح بإنزال الطاقم وإجراء الإصلاحات الضرورية بعد الهجوم التي تعرّضت له السفينة بالطائرات المسيّرة.
وبرّرت الحكومة المالطية رفضها بمخاوف تتعلق بالأمن القومي وباعتبارات قانونية، خصوصًا أن السفينة تبحر دون علم بعد سحب تسجيلها من قبل دولة بالاو. وقد عرضت السلطات المالطية المساعدة بما في ذلك إرسال زورق قطر لإخماد الحريق على متن السفينة وإجلاء الطاقم، إلا أنّ قائد السفينة رفض هذه المقترحات.
ويتهم "ائتلاف أسطول الحرية" السلطات المالطية بعرقلة متعمدة، مشيرًا إلى أنّ الحكومة تمنع الوصول إلى السفينة وتُعطّل محاولات النشطاء لتفقد الأضرار. وقد أُطلقت دعوات للتعبئة من بينها تنظيم مظاهرات أمام السفارات المالطية في العالم للتنديد بهذا القرار.
حاليا، تقبع سفينة "الضمير" بأضرار جسيمة وبلا علم، عالقة في عرض البحر وبلا أي إمكانية للرسو أو تلقي المساعدة الضرورية، وهو ما يعكس التحديات التي تواجهها البعثات الإنسانية في سياقات جيوسياسية مشحونة.