الأمهات العازبات في تونس يواجهن مصيرهن بمفردهن في ظل تخلّي الدولة عنهن

في الوقت الذي تحتفل فيه تونس بالذكرى الثامنة والستين لإصدار مجلة الأحوال الشخصية المطابقة ليوم 13 أوت وبما أحرزته من تقدم في مجال حقوق النساء، لا تزال الأمهات اللواتي أنجبن أطفالا خارج إطار الزواج يواجهن العديد من التحديات ليس أقلها الوصم الاجتماعي والاختلالات التشريعية وهشاشة وضعيتهن الاقتصادية. وعلى الرغم من الدعم الذي تتجند بعض الجمعيات لتوفيره لهن، تجد هؤلاء النسوة أنفسهن في مجابهة مصيرهن المعتم بمفردهن في ظل تخلي الدولة عنهن.
بقلم | 19 نوفمبر 2024 | reading-duration 6 دقائق

متوفر باللغة الفرنسية
في مركز ”صوت الطّفل“ بمدينة نابل، تنهمك بعض المربيات مرتدياتٍ ميدعاتهن الوردية في رعاية نحو عشرة أطفال رضّع في مأمن من قيظ شهر جويلية.

«دائمًا ما تتعقّد الأمور في فصل الصيف عندما يذهب بعض المتطوعين في إجازة، في حين أننا نستعد لاستقبال أربعة أطفال آخرين» تقول مديرة الجمعيّة، سلوى عبد الخالق، وهي تعبر ممرا محاطا بالزجاج يطل على القاعة التي ينام فيها مواليد جدد.

في هذه الجمعية، تتعهد كل مربية بطفل واحد أو اثنين. توضح المديرة: «نحن نتعهد بالأطفال الذين لا تقدر أمهاتهم على التكفل بهم إلى حين تتحسّن أمورهن». وقد أورد التقرير السنوي للجمعية لسنة 2023 أن 33 أمًّا عزباء جديدة قد التمست مساعدة من المركز.

أمهات في وضعية هشة 

في يوم زيارة إنكفاضة للمركز، كانت حنان*، 37 سنة، وإحدى المنتفعات السابقات من دعم الجمعية، متواجدة بالمكان بغية جمع التبرعات من الملابس لطفليها البالغين 10 و13 عامًا. وقد دأبت الأم على تلقي المساعدات من الجمعية منذ أن أنجبت مولودها في سنة 2011.

حنان، 37 سنة وأمّ لطفلين تواصل الانتفاع من دعم الجمعية. بعدسة: إيما العربي

بدأت قصة حنان التي كانت عاملة في أحد مصانع النسيج عندما اكتشفت ذات يوم أنها حامل في شهرها الرابع. خبرٌ وقع عليها وقوع الصاعقة وهي لم تتجاوز الـ23 ربيعا. تستعيد حنان ذكريات تلك الفترة قائلة: «على الرغم من انقضاء الأجل القانوني لإسقاط الحمل، عثرت على طبيب بالعاصمة وافق على إجهاضي وقد فضلت حينها مجابهة خطر الهلاك على الاحتفاظ بالطفل».

تمكنت حنان من جمع مبلغ 800 دينار بفضل إعانة بعض الأصدقاء لإجراء العملية، غير أن ظرفا طارئا حال دون تنقلها إلى العاصمة للإجهاض. وفي خرق للسر الطبي، أعلم الطبيب شقيقة حنان بحملها دون أخذ موافقتها. في تلك الليلة وبينما كانت حنان نائمة في غرفتها، حاولت شقيقتها الكبرى خنقها بوسادة. «وبعد فترة وجيزة من تلك الحادثة أقنعتني بشرب ما يكفي من سم الفئران والانتحار قبل أن تكتشف والدتنا حملي». غير أن والد حنان أنقذها في آخر لحظة ونقلها إلى المستشفى أين أنجبت ولدا بعد وقت وجيز. ومنذ إنجابها لذلك الطفل خارج إطار الزواج، أصبحت حنان في عداد المنبوذين من المجتمع.

توضّح آن لو بري، المختصّة في علم الاجتماع في جامعة رين 2: «في عام 2011، لم يكن من الممكن النّفاذ إلى البيانات الوطنية المتعلقة بحالات الولادة خارج إطار الزواج، كان هناك تعتيم تام على هذه المسألة: إذ كان إنكار هذه الظّاهرة وسيلة لحجبها».

منذ ذلك الحين، دأبت الدولة على الكشف عن الإحصائيات المتوفرة بهذا الشأن. ووفقًا لبيانات المعهد الوطني لحماية الطفولة (INPE)، بلغ عدد الولادات خارج إطار الزواج 848 ولادة في سنة 2022 مقابل 802 ولادة في 2021.

تؤكد عالمة الاجتماع أن حالات الحمل خارج إطار الزواج ليست بظاهرة جديدة ولكن « الزواج في سن مبكرة في السابق أسهم في الحد من العلاقات الجنسية قبل الزواج لدى الأجيال السابقة». في تونس، لا يزال الغموض يكتنف العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج من الناحية القانونية باعتبار أنه لا يقع تجريمها إلا في حالات الزنا، أي عندما يكون أحد الطرفين متزوجًا ويتقدم القرين بشكوى ضدّه. تضيف آن لو بري: « ولئن كان من النادر تطبيق هذا القانون فإن لبعده الرمزي تأثير كبير على السلوكيات والتمثلات في المخيال الجماعي».

النساء الحوامل خارج إطار الزواج في مواجهة المجتمع

سواء كان الحمل ناتجا عن علاقة جنسية برضا المرأة أو عن عملية اغتصاب، فإنه عادة ما تتكتم النساء غير المتزوجات على حملهن في محاولة منهن لتجنب حكم الأقارب عليهن.

تتذكر حنان في تأثر بالغ: «كنت أعيش في تلك الفترة في بيت والديّ وقد تمكنت بفضل ارتداء ملابس فضفاضة من إخفاء حملي إلى حد الشهر الثامن. وكنت أفكر في الهرب كلما اقترب موعد الولادة».

طُردت حنان من البيت العائلي حالما أنجبت. وظلت تتسلل على مدار أسبوع كامل صحبة مولودها الجديد إلى حديقة المستشفى لتقضّي ليلتها هناك. ثم اضطرت إلى الزواج من رجل لا تحبه لا لشيء إلا لإعادة علاقتها مع عائلتها إلى مجراها. تقول: «تزوجت كي أتمكن من التقرب من عائلتي حتى أن أختي حضرت حفل الزفاف».

ولكن بعد فترة وجيزة، ندمت حنان على زواجها من ذلك الرجل الغائب والمهمل: «لقد وعدني بأن يعامل ابني وكأنّه من صلبه لكنه أخلف وعده». وتضيف الأم الشابة: «كنت أظن أن الزواج سيحسن من وضعي ولكنني أدركت أنني أكثر سعادة عندما كنت أعيش وحيدة مع ابني».

مرام* من جهتها فتختلف قصتها بعض الشيء كون الشابة كانت أوفر حظًّا من نساء أخريات. عندما اكتشفت مرام أنها حامل في شهرها الرابع، وضعتها والدتها أمام خيارين اثنين لا ثالث لهما: الإجهاض أو الشارع. فقررت الشابة الفرار والالتجاء ببيت زوجة أبيها وأختها غير الشقيقة.

قرّرت أسرة مرام، سعيا إلى تفادي حكم المجتمع عليها، أن توهم أقاربها أنها تزوجت سرًّا: «كان والد ابني مسجونا في ذلك الوقت. وكانت أمي مستاءة مني خلال فترة حملي، ولكن ما إن رأت حفيدها حتى رغبت في تجديد الصلة معي وتمكنتُ أخيرا من العودة للعيش في بيت أسرتي».

تؤكد مرام أن «الطاقم الطبي في المستشفى كان على علم بأنني أم عزباء، وكنت دائما ما أشعر بحكم بعض الممرضات علي».

تروي مرام كيف كان رضيعها يعاني من بعض المضاعفات التي استوجبت إبقاءه تحت المراقبة، حين قالت لها إحدى الممرضات «على أية حال، لن يغادر ابنك معك». «فانتابني الخوف أن يؤخذ منّي».

تقول الباحثة: «أذكر نساء كن يتلقّين مواعظ أخلاقية وكيف كانت تُحشر كلّ اثنتين منهن في سرير واحد، مع نعتهنّ بـ”الحالات الاجتماعيّة“ وكيف كن يحرمن من الإعانات التي عادة ما تُقدم في الأعياد [...] إنهن منبوذات لأنه يُنظر إليهن على أنهن مذنبات».

نظرة الازدراء هذه عانت منها مرام حتى في الحي الذي تقطنه: «عندما آخذ ابني في نزهة في عربته، أرى الناس يحدقون بي. وسبق أن نعتوني بالـ'عاهرة'». وتضيف الشابة في أسف: «يبلغ ابني الآن ثلاث سنوات وإذا جاء اليوم الذي سيُنعت فيه بـ'ولد الحرام' سوف أدافع عنه بكل شراسة».

الدعم الجمعياتي ضروري ولكنه هش  

توجد بعض الهياكل الجمعياتية التي ترافق هؤلاء الأمهات العازبات للقيام بالإجراءات القانونية والاجتماعية اللازمة، وإن كان عددها محدودا على مستوى البلاد. ترى سامية بن مسعود، رئيسة جمعية أمل للعائلة والطفل أن «وجود بعض المراكز التي تتلقى تمويلا كافيا وتوظف أعوانا على درجة عالية من الكفاءة أجدى من انتشار عدة مراكز عديمة الفائدة وغير مهنية».

وتُعتبر جمعية أمل للعائلة والطفل التي فتحت أبوابها في سنة 2001 مؤسسة رائدة في الأوساط النسوية كما أنها تمتلك مركز إيواء في ضواحي العاصمة يسمح باستيعاب 17 امرأة على مدار العام. وتبين رئيسة الجمعية أن مؤسستها «تستقبل النساء في الشهر التاسع من الحمل وابتداء من الشهر السابع بالنسبة للقاصرات».

ولئن كان إخراج هؤلاء النساء ومواليدهن الجدد من حالة العزلة وعدم الاستقرار أحد المهام الأساسية التي تتعهد بها هذه المراكز الجمعياتية، فإن إعادة إدماجهن في المجتمع وفي الدورة الاقتصادية تكتسي كذلك أهمية قصوى. وحول هذه النقطة، تقول سامية بن مسعود: «عندما تلتحق هؤلاء النساء بالجمعية، تساعدهن المرشدات الاجتماعيات الناشطات في جمعيتنا على بناء مشروع مستقبلي، وذلك يُعتبر خطوة على غاية من الأهمية لتحقيق الاستقلال بذاتهن والتعويل على أنفسهن».

صار بمقدور مرام اليوم التخطيط لمستقبلها بعد أن تلقّت تكوينا في جمعية صوت الطفل وعملت في عدة وظائف في مجال المطاعم والتنظيف. تقول: «تتعاون الجمعية مع هياكل أخرى تمكننا من التمتع بقروض لبعث مشاريع ولقد سبق أن أودعت طلبا للحصول على تمويل لإحداث مخبزة صغيرة وما زلت في انتظار الموافقة».

تقوم جمعية أمل كل سنة بتكوين العديد من النساء المستضعفات في عدة مجالات على غرار الخياطة وإعداد الحلويات والمساعدة المنزلية وغيرها، غير أن عملية إعادة الإدماج الاجتماعي والاقتصادي ليست بالهينة أبدا. ويعود ذلك من ناحية أولى لهشاشة هذه الوظائف ومن ناحية أخرى لارتفاع معدلات البطالة في صفوف النساء والتي تكون أشد وطأة على المستضعفات منهن. لا توجد معطيات بشأن معدلات البطالة لدى الأمهات العازبات بالذات إلا أن إحصائيات المعهد الوطني للإحصاء تشير إلى نسبة بطالة تقدر بـ22% في صفوف النساء مقابل نسبة بطالة جملية بـ16% في السداسي الأول لسنة 2024.

وتندد هذه الجمعيات بإهمال الدولة لها على الرغم من الدور الهام الذي تضطلع به. إذ تقول مديرة مركز نابل أن آخر دعم حكومي تم الحصول عليه يعود إلى سنة 2016 رغم أن مصالح حماية الطفولة تلجأ في الكثير من الأحيان إلى خدمات المركز.

ويعيش مركز أمل للعائلة والطفل وضعا مشابها، إذ تأسف سامية بن مسعود لكون «دعم الدولة ضعيفا للغاية وغير منتظم»، مضيفة أن «الدعم المقدم لا يغطي سوى جزء من تكاليف الحضانة، ما يمكننا من رعاية الأطفال عندما تقصد الأمهات عملهن». ورغم اتصالنا بها، لم تستجب مصالح وزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن، لطلباتنا لإجراء مقابلة.

وإزاء هذا الوضع، تضطر جمعيات الإحاطة بالمرأة إلى الاعتماد على المانحين الأجانب لضمان استمرارية نشاط هياكل المرافقة التابعة لها، مثلما تؤكد على ذلك سامية بن مسعود: «لا يخفى على أحد أننا نعتمد بشكل شبه كلي على التعاون الدولي لسد حاجياتنا المالية وضمان استمرارية نشاطنا».

دأب رئيس الجمهورية منذ العام الماضي على الإعراب عن عدم ارتياحه لهذه التمويلات الأجنبية الموجهة لجمعيات المجتمع المدني وارتيابه في هدفها. وبالفعل، تم يوم 10 أكتوبر 2023 إيداع مشروع قانون لدى مجلس نواب الشعب يهدف إلى إعادة تشكيل المشهد الجمعياتي ويركز بشكل خاص على مسألة التمويل الأجنبي الموجه للجمعيات من خلال التنصيص على إخضاعه إلى الموافقة المسبقة من السلطات المعنية بتعلة مكافحة «غسيل الأموال» و «التدخل الأجنبي في الشأن الداخلي». وما لبثت هذه المبادرة التشريعية أن أثارت موجة من القلق لدى عدد كبير من الجمعيات.

تقول سامية بن مسعود: «أخشى ما نخشاه هو أن تعزف الجهات المانحة عن تمويلنا في حالة وجوب مرورها بخانة الموافقة المسبقة من السلطات، خاصة وأنها تؤمن تمويل المشاريع الأكثر تهميشاً من قبل الدولة».

وهكذا، تجد الأمهات العازبات أنفسهن في مجابهة خطر قطع التمويلات الذي يتربص بهن ومعرّضات إلى دفع ثمن هذا التعديل التشريعي باهظا في حالة إقراره.س