"تلك التي رُفع فيها نظام التعليق" يقول فراس صاحب ورشة تصليح سيارات في ضواحي المدينة مشيرا إلى عربات سيتروين C15 وأنواع أخرى من الشاحنات القديمة والتي من خصائصها أن يكون ظهرها أعلى من مقدمتها "لرفع الحمولات الثقيلة" حسب تفسير الميكانيكي. بعض هذه السيارات يتم تزويدها أيضا بصهاريج إضافية لجلب الوقود الأرخص ثمنا على الجانب الليبي.
الخط، طريق "التهرب الديواني"
تمر هذه العربات عادة على الطريق من ليبيا إلى بن قردان عبر المعبر الحدودي رأس الجدير على بعد نحو 30 كيلومترًا من المدينة. يُعرف هذا المحور في المنطقة باسم «الخط»، ويصف ساقة العربات أنفسهم بأنهم «يعملون على الخط».
«ألف»، «ألفان»، «5 آلاف»... يختلف السكان الذين تحاورنا معهم في تقدير عدد العربات التي تقوم برحلة أو أكثر في اليوم، ولكن المؤكد أن ممارسي هذا النشاط كُثر وهم يرفضون مصطلح «التهريب»، فكل ما يقومون به بالنسبة إليهم لا يتعدّى التجارة.
في نفس الموضوع
يقول حمزة المؤدب، الباحث في مركز كارنيجي للشرق الأوسط، في مقابلة مع إنكفاضة عن هؤلاء أنهم «ليسوا في وضعية تهريب بل هي في الواقع حالة تهرّب ديواني وهو شكل من أشكال الاحتيال يمر عبر المنافذ الرسمية، وبالتالي ليس تهريبا الذي يُراد به مرور السلع خارج تلك القنوات تماما".
ونظريا، تخضع البضائع الداخلة إلى التراب الديواني أو الخارجة منه حسب الحال "إلى قانون التعريفة الديوانية ما عدا الاستثناءات المنصوص عليها بصفة صريحة في المعاهدات والاتفاقيات التجارية النافذة المفعول" مثلما تنص على ذلك مجلة الديوان ة. فعندما يعبر شخص ما الحدود التونسية، يتوجب عليه أن يصرّح بما ينقله ويدفع الأداءات المستوجبة عليه وفقًا لنوع البضائع وكمياتها.
ولكن الحال مغاير على أرض الواقع، فبين التجار ومسؤولي الديوانة مفاهمات يقول عنها حمزة المؤدب أن منها "اتفاقياتٍ موقعة تمنح التجار سقفا للسلع" مقابل دفع رسوم ثابتة دون الاضطرار للتصريح عن بضائعهم.
ذهاب وإياب بآلاف الدنانير
تبرز سيارات أخرى أيضًا في المشهد الحضري لبن قردان، شاحنات تويوتا أو إيسوزو قوية تحوم في شوارع المدينة. في العادة، لا تتوقف هذه العربات عند المعابر الحدودية في طريقها إلى ليبيا بل تخيّر سلوك الطريق الصحراوي وهي - كما كتب عنها حمزة المؤدب - «من بين السيارات القليلة التي يمكن قيادتها في الصحراء، والقادرة على اجتياز الكثبان الرملية، والمفيدة في المطاردات مع القوات الأمنية».
هذا هو صنف العربات التي استخدمها أنيس* خلال الرحلات العديدة التي عبر فيها الحدود ليلا إلى ليبيا والتي تصل مرابيحها إلى « عدة آلاف من الدينارات حسب نوع البضائع» مثلما يقول. تسلك الرحلة مسلك الصحراء أو بين السبخات وتتم عادة في الليل. لهذا «لا حاجة لرخصة قيادة، ولا حاجة للتأمين على العربة أو حتى للوحات منجمية» لأن كل شيء يتم خارج القانون، حيث أن التشريع التونسي ينص صراحة أنه «لا يمكن الدخول إلى تراب البلاد التونسية أو الخروج منه إلا من نقط الحدود التي يقع تعيينها بقرار من كاتب الدولة للداخلية». هذا الوضع إذن يزيد من خطورة النشاط مقارنة بالمرور عبر رأس الجدير.
في الصحراء، "لا أحد يستثري دون أن يدفع حياته ثمنا لذلك" يقول أنيس.
يفسر الشاب أن شاحنات التويوتا "المملوكة لأشخاص آخرين لا يقومون بهذه الرحلات بأنفسهم ضرورة" لا يقتصر ركابها على السائقين فحسب. ويوضح أنه عادة ما يكون هناك "حارس مسؤول عن الرصد، وشخص ثالث مسؤول عن البضائع وتحميلها". أما هو فقد اقتصر دوره في نهاية المطاف على تسليم البضائع إلى مستودعات كبيرة "في مكان ما في تطاوين"، ومن ثم يتم تقاسم الأرباح بين مختلف المضطلعين بجلبها.
وراء هذه المنظومة اقتصادٌ كامل
تقف وراء تنظيم هذه التجارة مجموعات محلية تونسية وليبية. "توجد القبائل بكثرة" يقول أنيس قبل أن يردف أن هذه الأخيرة "تتفق فيما بينها على حاجياتها ثم تقوم بمبادلاتها عبر الحدود. فإما بطانيات في الشتاء أو مكيفات هواء في الصيف وما إلى ذلك، وتختلف طبيعة المنتجات باختلاف المواسم والحاجيات".
"لا يمكن لأي شخص أن يمتهن التهريب فالسوق موصدة ويجب أن تكون لديك شبكة علاقات".
يتراوح اقتصاد التجارة غير الرسمية العابرة للحدود من صغار التجار الذين يعبرون الحدود يوميا إلى كبار التجار الذين يتمتعون بقدرة تفاوضية سواء مع نظرائهم الليبيين أو مع قوات الأمن. لكنها لا تتوقف عند هذا الحد، فبالإضافة إلى نقل البضائع «هناك عدة أنواع أخرى من الأنشطة غير الرسمية في المنطقة» كما يقول حمزة المؤدب، «مثل بيع البنزين ومكاتب الصرافة وصغار التجار الذين يبيعون البضائع وغيرهم».
في نفس الموضوع
يقدر حمزة المؤدب نقلا عن أحد كبار مسؤولي المدينة أن 80٪ من سكان بن قردان يعملون في القطاع غير الرسمي. "قال لي: عدا عن العاملين على النقطة الحدودية، تنشط الغالبية العظمى من السكان في الاقتصاد غير الرسمي." ويتعلق جزء كبير من هذا النشاط بليبيا.
في «شارع الصرف» - كما يطلق عليه سكان بنقردان، تنتشر عشرات مكاتب الصرف غير الرسمية، ووفقا لأسعار الصرف فيها بتاريخ زيارتنا يوم 29 مارس 2022، كان 1 دينار تونسي يُستبدل بـ 1.61 "جنيه"وهو الاسم الذي يتم اعتماده في هذه الأوساط للدينار الليبي. في أحد هذه المكاتب، يجلس محمد خلف طاولته في انتظار أن تتوقف إحدى السيارات المارة حاملة معها زبونا.
يعرف محمد التجار الذين يتنقلون إلى ليبيا حق المعرفة، «نحن نعمل معهم» يقول الرجل بكل بديهية، فهم «يأتون إلى هنا ونعطيهم الجنيهات ويعطوننا مقابلها من الدنانير تونسية ويغادرون». في بعض الأحيان يصرّفون 1000 دينار تونسي «وفي أحيان أخرى أكثر من ذلك». ولكن لا يجني محمد من كل معاملة سوى نزرا قليلا من الدنانير.
يحتل نشاط الصرافة مكانة مهمة للغاية في العلاقات الاقتصادية والإنسانية بين ليبيا وتونس.
يرى حمزة المؤدب أن «بنقردان تضمن قابلية التحويل بين الدينار التونسي والليبي» ذلك أن العملتين ليستا قابلتين للتداول في الأسواق الدولية.
ومع ذلك، يتدفق الليبيون والليبيات إلى تونس ويمثلون أكبر مجموعة من الأجانب تزور تونس بأكثر من 520.000 دخولا إلى التراب التونسي في عام 2021 معظمها عبر رأس الجدير، وفقًا لـ المعهد الوطني للإحصاء . وفي ظل غياب إمكانية صرف أموالهم عبر القنوات الرسمية، يلجأ الليبيون إلى مكاتب الصرافة غير الرسمية هذه.
علاوة على ذلك، تنتشر متاجر على مد البصر في الطريق المؤدي إلى رأس الجدير لبيع السلع المستوردة ولكل منها تخصّص: الأجهزة المنزلية والمواد الغذائية الأساسية والأواني والسلع الاستهلاكية وغيرها. يوضح عامل بأحد المحلات أن «البضائع تأتي من إسبانيا وفرنسا وتركيا والإمارات، ويتم استيرادها إلى ليبيا ومن ثم جلبها إلى هنا».
يتجاوز الأثر الاقتصادي لهذه التجارة حدود مدينة بنقردان، فالوضع مشابه في الذهيبة أيضا، المعبر الحدودي الآخر. وأبعد نحو الغرب على بعد 70 كم من هناك، وسط مدنين، يبيع أحمد* كل أنواع المواد الغذائية كالفواكه المجففة والجبن الصناعي القادم "معظمها من ليبيا"، يقول التاجر بكل فخر.
يقع محل انتصاب أحمد بجانب سوق ليبيا على سرير وادي سمار الذي جف ماؤه. ويجمع هذا السوق المفتوح في الهواء الطلق العديد من المحلات التجارية التي تبيع منتجات من ليبيا يجلبها الناقلون من بنقردان.
تبادلاتٌ تاريخية
في فيفري 1988 أي بعد بضعة أشهر من تولي بن علي السلطة، اتفقت تونس وليبيا على فتح الحدود حيث "رحبت السلطات الليبية بهذا التغيير في النظام" كما يكتب الأستاذ بجامعة سوسة حسن بوبكري.
يواصل الباحث قائلا أن ليبيا تقوم في وقت لاحق بدور "الدولة المستودع" ويضيف "إن العديد من التجار الليبيين كانوا يستوردون بسبب غياب رسوم ديوانية في ليبيا"، ولم يلبث أن تبعهم التونسيون في ذلك.
"يفضل الكثيرون المرور عبر الموانئ الليبية في طرابلس أو مسراطة حيث لا يدفعون ضرائب. هذا الوضع أفضل من الاستيراد عبر ميناء رادس خصوصا باعتبار تغير السياق الأمني".
وبالإضافة إلى تكاليف التوريد المنخفضة بشكل ملحوظ، يشير حمزة المؤدب إلى الفارق في أسعار منتجات معينة بين تونس وليبيا قائلا أن "العديد من السلع تكون أرخص ثمنا في ليبيا". وخير مثال على ذلك الوقود بأنواعه من بنزين وغازوال الذي يتحصل عليه الليبيون بأسعار منخفضة للغاية نظرا إلى أن بلدهم أحد أكبر المنتجين على مستوى العالم، فاللتر هناك يُباع مقابل 150 مليما ليبيا (حوالي 95 مليما تونسيا)، وفقاً لأحد مصادرنا في منطقة طرابلس.
أما على الجانب الآخر من الحدود، تعرض محطات بيع الوقود التونسية اللتر من البنزين بـ 2.220 دينار أي أغلى بـ 23 مرة. فليس من الغريب إذن أن يعبر الكثيرون الحدود بحثا عن المحروقات الليبية لإعادة بيعها في تونس. ويؤكد أحد باعة الوقود غير الرسميين بالقرب من بنقردان أنه يتقاضى 1،650 ديناراً للتر الواحد.
نشاط غير مستقر وخطير
مع انتشار جائحة كوفيد-19، فُتحت المعابر الحدودية وأُغلقت مرارا وتكرارا تحت وقع موجات الفيروس المختلفة والتدابير الصحية التي فرضتها سلطات كلتا الدولتين. ولكن منذ سبتمبر 2021 تظل الحدود مفتوحة ما سمح باستئناف نشاط تجاري أكثر انتظاما.
يقول محمد العامل في محل صرافة: "عندما تُغلق الحدود، نبقى عاطلين عن العمل" ولكن للأسف "لا نتحصل على منحة بطالة".
"الحمد لله لقد مرت سبعة أشهر ولم تُغلق الحدود بعدُ" يقول الرجل فرحا بينما يردد نظيره في أحد المتاجر على الطريق المؤدي إلى رأس الجدير الشيء نفسه قائلا: "عندما تغلق الحدود، لا نجد عملا".
ولفهم مدى اعتماد المدينة على الاقتصاد العابر للحدود "عليك فقط أن ترى تأثير إغلاق المركز الحدودي" يقول حمزة المؤدب. "تصبر المدينة على وجعها لبضعة أيام أو بضعة أسابيع ثم تبدأ في الغليان عندما يتكمش الدخل ويتناقص".
وعلاوة على ذلك، فإن الوضع في ليبيا لا يساعد في شيء، إذ يقول الباحث: "في السابق، كان الناس يذهبون للعمل هناك، واليوم لم يعد بإمكانهم ذلك بسبب الوضع الأمني". يضاف إلى كل هذا الإصلاحات السياسية والاقتصادية "حيث أصبح الفارق في أسعار العديد من المنتجات يتضاءل أكثر فأكثر بسبب تعديل منظومة الدعم". كما ألقت الحرب وتداعياتها على تونس بظلالها على الاقتصاد في المنطقة الذي همّشته أيضا المقاربة الأمنية للدولة. حيث أعلنت تونس في عام 2013، بموجب قرار جمهوري، منطقة حدودية عازلة جهزتها بسدود رملية وخندق مياه تمتد على 30 كيلومترا على طول الحدود لا يتم الدخول إليها إلا بتصريح.
في نفس الموضوع
"على كل شخص يتواجد داخل المنطقة أن يمتثل للأمر القاضي بالتوقف وأن يذعن للتفتيش كلما طُلب منه ذلك من قبل أفراد الدوريات التي لها استعمال جميع الوسائل وآليات العمل المشروعة لجبر الأشخاص على التوقف أو الخضوع للتفتيش في صورة عدم الامتثال." الفصل 7 من القرار الجمهوري عدد 230 لسنة 2013 مؤرخ في 29 أوت 2013 المتعلق بإعلان منطقة حدودية عازلة.
ودفع هجوم الدولة الإسلامية على بنقردان في 7 مارس 2016 الدولة إلى تكثيف إجراءاتها، فأصبحت الحدود - بالإضافة إلى العقبات المادية المنتشرة على طولها - مجهزة الآن بنظام مراقبة إلكتروني أنشئ بالتعاون مع الولايات المتحدة .
ومنذ وضع هذه التدابير، قتلت القوات المسلحة العديد من المهربين بالرصاص في معتمدية بنقردان وأبعد جنوبا في الذهيبة أين يقع المعبر الحدودي الآخر إلى ليبيا. وتوفي آخرون في حوادث سيارات أثناء مطاردتهم.
في نفس الموضوع
يروي لنا أنيس والعبرة تخنقه قصصا مؤلمة عن قتلى وجرحى بين صفوف المهربين، أحدهم "قُطعت رجلاه بمقود سيارته" وسط بحيرة ملح في المنطقة الحدودية خلال حادث عنيف عقب مطاردة مع الجيش. أما أنيس فقد تخلّى عن هذا النشاط منذ فترة: "اليوم، أفضّل العيش وأكل الخبز والبصل على أن أموت".
يتفق كل من حمزة المؤدب ومحمد وأنيس على أن التبادلات عبر الصحراء قد انخفضت بشكل ملحوظ لدرجة أن "العديد منهم اختاروا البدء في تنويع أنشطتهم"، كما يقول الباحث في مركز كارنيغي. "إنهم يستثمرون في العقارات، في منطقة الساحل، في تونس، في البحيرة، والبعض صار يفكر فعليا في الخطوة المقبلة، لاسيما منهم من استطاع جمع بعض المال".
لكن آخرين كثراً ليس لديهم خيار، وبالنسبة إلى مدير أحد المحلات التجارية الواقعة على "الخط"، الأمر واضح وضوح الشمس: "بدون الحدود نموت".