"هذا النقص ليس جديدا بل يعود إلى حوالي 3 سنوات، إذ يُباع الزيت المدعم في السوق السوداء للحرفيين·ات. من النادر مثلا أن يشتكي هؤلاء نقصا في الزيت، في حين قد يشتكون·ين من نقص الفارينة والسميد أحيانا." يقول معز الشيخ صاحب محل بقالة في مدينة منزل تميم.
يقصد معز الشيخ بالحرفيين·ات أصحاب وصاحبات محلات الأكل الشعبية وصانعي·ات الحلويات، التي يعتبر شهر رمضان موسم ازدهارها على غرار الزلابية والمخارق وغيرها. إذ تظهر رغم الأزمة وفرة هذه المنتجات التي تصنع أساسا من الفرينة والسكر وتقلى في الزيت.
يضيف معز:"بالنسبة للفارينة والسميد فإن النقص واضح والكميات التي تصلنا تنفذ في وقت قياسي حيث لا تتجاوز الكمية التي أحصل عليها من تاجر الجملة أسبوعيا 30 كيلوغراما. هذا الشح حوّل عملي إلى مصدر توتر وحرق أعصاب حتى أنني أصبت بنوبة حادة قبل أيام وما عدت قادرا على الكلام، بات حرفائي اليوم يستبطنون فكرة أنني أميز بينهم في بيع المواد المذكورة".
هل ينهي المرسوم الرئاسي أزمة شحّ المواد المدعمة؟
تركز السياسة الاتصالية للرئيس اليوم على أن الحرب في تونس على الاحتكار لضمان المواد الغذائية الأساسية، فيما ينظر التونسيون إلى الحرب الواقعة في أوكرانيا كخطر يهدد أمنهم الغذائي نظرا إلى ارتباط مائدة التونسيين بسهول روسيا وأوكرانيا، حيث تأتي نصف الحبوب المستوردة من القمح اللين والصلب من هناك.
"يهدف هذا المرسوم إلى مقاومة المضاربة غير المشروعة لتأمين التزويد المنتظم للسوق وتأمين مسالك التوزيع". إزاء إقراره بوجود مضاربة في الأسواق بالمواد الغذائية يستنجد قيس سعيد مرة أخرى بقدرته على سن تشريعات جديدة، لحلّ أزمة نقص المواد الغذائية المدعمة في السوق رغم أن مؤسسات عمومية تشرف على تزويد السوق ومراقبة مسالك التوزيع.
في الحقيقة تؤكد وزارة التجارة سعي المخابز إلى الامتناع عن بيع الخبز المدعم مقابل أصناف أخرى من الخبز. ولكن في ذات الوقت يظهر الفيديو الذي نشرته رئاسة الجمهورية في سياسة التسويق لنجاح الحرب على الإحتكار اعتراف صاحب أحد المخابز بجهة حي الخضراء من تواصل نقص مادة الفارينة.
ما أسمته رئاسة الجمهورية حربا على الاحتكار، أسفر عن مرسوم رئاسي جديد لعقوبات غير مسبوقة تصل إلى السجن مدى الحياة مع خطية بـ500 ألف دينار ولا تقل عن 10 سنوات سجن و100 ألف دينار لكل من تتم إدانته بالمضاربة غير المشروعة التي ضبطها المرسوم بأنها "كل إخفاء للسلع أو البضائع أيا كان مصدرها وطريقة إنتاجها بهدف إحداث ندرة فيها واضطراب في تزويد السوق بها، وكل ترفيع أو تخفيض مفتعل في أسعارها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة أو عن طريق وسيط أو استعمال الوسائل الإلكترونية أو أي طرق أو وسائل احتيالية."
النتائج الأخرى ماتزال غير واضحة إذ رغم تأكيد السلطات حجز آلاف الأطنان من المواد المدعمة إلا أن ما يتم عرضه للبيع لا يتجاوز بضع مئات. يقول الناطق الرسمي باسم الديوانة التونسية، هيثم زناد، في حوار لإنكفاضة "ليس لدي الرقم الدقيق بخصوص مجموع الكميات المحجوزة ولكنها تبلغ آلاف الأطنان وهي مازالت لدى مصالح وزارة التجارة مما جعل عمليات بيعها تتأخر."
ويواصل: "عُرض إعلان البيع الأول بين 16 و18 مارس 2022 وشمل 60 طنا من مواد مدعمة وهي كسكسي ومقرونة وسميد وفارينة ولكن لم تتلق الإدارة أي عرض وتم تفسير ذلك بعدم وجود الوقت الكافي لإعلام التجار."
ويبين زناد: "في المقابل تم البيع في العملية الموالية بين 18 و21 مارس 2022 وشملت 10 طن موجهة إلى تونس الكبرى. بالنسبة للعرضين الباقيين أعلن عن الأول بتاريخ 21 مارس وتم التمديد فيه إلى 28 مارس نظرا إلى إضراب مصالح البريد التونسي وتشمل كمية البيع 6.4 طن في المنستير و108 طن في تونس مع 334 قارورة من الزيت المدعم".
علاوة على البيع يقول زناد أنه سيتم التصرف في الكميات المحجوزة أيضا، بالإحالة إلى الاتحاد التونسي للتضامن الإجتماعي ليقع توزيعهم على دور المسنين وفاقدي السند مع إمكانية توزيعهم خلال شهر رمضان كمساعدات اجتماعية.
بسؤاله عن طريقة حجز الكميات يؤكد زناد أن أغلب الكميات المحجوزة لدى مصالح الديوانة كانت موجهة إلى التهريب، فيما أن قضايا الاحتكار محجوزة لدى وزارة التجارة. ويوضح أن التهريب أغلبه نحو القطر الليبي، حيث تم الحجز على المعابر الحدودية وفي نطاق دوريات متنقلة في مخازن بالجهات الحدودية.
كيف توزع مشتقات الحبوب المدعمة؟
"نضخ حاليا نفس كميات العام الماضي من الفارينة والسميد والعجين الغذائي والكسكسي. ففي الوقت الحالي نضخ يوميا بين 1300 و1500 طن من السميد لكل 8 ولايات تحت إشراف وزارة التجارة." يؤكد رئيس الغرفة الوطنية للمطاحن ومصانع العجين الغذائي والكسكسي وديع الغابري في تصريح للإذاعة الوطنية التونسية يوم 10 مارس المنقضي.
اعتبر الغابري في ذات اليوم أن النقص ناتج عن الطلب غير المبرر ونزعة المواطنين إلى تخزين السميد والفارينة خصوصا. وهو ما يتسبب في نفاذ الكميات في وقت قياسي، مؤكدا: "خلال هذه الفترة زودنا المساحات الكبرى بكميات أكثر بـ20 بالمائة في الفارينة وبأكثر من 40 بالمائة في السميد مقارنة بالسنة الماضية."
كمية الاستهلاك الوطني من الحبوب (2018- 2021)
المصدر : ديوان الحبوب
من جانبه قال محمد بوعنان رئيس الغرفة الوطنية النقابية للمخابز في تصريح لإنكفاضة: "إن المخابز بداية من شهر رمضان تتزود بالكميات اللازمة والعادية من الفارينة وهي قادرة على توفير الخبز دون أي نقص."
وبخصوص طوابير المواطنين·ات على المخابز أول أيام رمضان أرجع بوعنان ذلك إلى إقبال الناس منذ الصباح على شراء الخبز وبكميات أكثر من المعتاد خوفا من نفاذ الكميات. ويؤكد إن الإنتاج حاليا في مستوياته المعتادة وكميات الخبز المعدّة في اليوم الماضي فاقت الكميات المشتراة.
تظهر البيانات على موقع الديوان الوطني للحبوب انخفاضا في كميات الحبوب المباعة بحوالي سبعة آلاف طن سنة 2021 مقابل سنة 2020. فيما لا تتوفر على الموقع بيانات الأشهر الثلاثة لسنة 2022. حاولت إنكفاضة الحصول على هذه الأرقام من وزارة الفلاحة ومن مدير الإنتاج الفلاحي عبد الفتاح سعيّد ولكن طلباتنا جوبهت بالتجاهل والمماطلة فيما لم يجب ديوان الحبوب على مراسلاتنا الإلكترونية.
تتمثل مشتقات الحبوب المدعمة في العجين الغذائي والكسكسي والسميد والفارينة. يتم الإنتاج على مستوى المطاحن عبر التحويل الأول للقمح الصلب والقمح الطري ومن ثمّة تسويقها.
قبل ذلك يتولى المجمّعون الخواص والشركات التعاونية الناشطة في قطاع الحبوب والبذور تجميع محاصيل الحبوب المحلية. يتولى ديوان الحبوب بدوره الإشراف وتنظيم ومراقبة عمليات التجميع وقبول كامل كميات الحبوب المجمعة من قبل مؤسسات التجميع وخزنها وبيعها.
مسالك توزيع مشتقات الحبوب من ما بعد الإنتاج إلى الإستهلاك
في المقابل يحتكر ديوان الحبوب نشاط استيراد القمح الصلب والقمح اللين إذ "يوفر الديوان حاجيات البلاد من الحبوب المستوردة عن طريق طلبات عروض دولية مضيقة تصدر كلما تأكدت جدوى الشراء من حيث مستوى المخزون المتوفر محليا والأسعار بالأسواق العالمية." كما ينص على ذلك موقع الديوان الوطني للحبوب.
يتولى الديوان تنظيم نقل الحبوب من مناطق الإنتاج إلى مناطق الاستهلاك بالنسبة للحبوب المحلية و من خزانات الموانئ (بنزرت، رادس، قابس) إلى مناطق الاستهلاك بالنسبة للحبوب المستوردة وذلك قصد حفظها بالخزانات المحورية أو بيعها.
يبيع الديوان مادتي القمح الصلب والقمح اللين إلى المطاحن طبقا لبرنامج شهري يتم ضبطه ضمن لجنة ممثلة عن ديوان الحبوب والغرفة الوطنية للمطاحن. لاحقا تتولى الغرفة الوطنية للمطاحن التابعة للإتحاد الوطني للصناعة والتجارة توزيع حصص المطاحن الخواص الممثلون في الغرفة الوطنية للمطاحن.
تحسب هذه الحصص بناء على حصص السنة السابقة وهو ما تراه "منظمة ألرت" الناشطة ضد اقتصاد الريع أنها سياسة لمنع المنتجين الصغار من الترفيع في إنتاجهم. تؤكد ذات المنظمة في حلقة بودكاست حول الريع في قطاع الحبوب والمطاحن أن من جملة الـ23 طاحونة الموجودة في تونس 13 منها على ملك 5 أشخاص كما أن "دعم نقل الحبوب إذا ما تجاوزت المسافة 30 كلم عزز من تمركز المطاحن بالساحل".
تتوزع المطاحن الـ23 بين 19 مطحنة على الشريط الساحلي 9 منها في تونس الكبرى و4 بسوسة و3 بكل من صفاقس ومثلها بقابس. وتمثل المطاحن الـ19، 80% تقريبا من طاقة التحويل الوطنية.
السوق السوداء تمنع وصول المواطنين·ات إلى الزيت المدعم
حاملة قارورة بلاستيكية وكيسا فارغا، تدخل إمرأة خمسينية محل بقالة معز الشيخ لشراء لتر من الزيت النباتي المدعّم. يضرب معز كفيه على بعضهما ويشير إلى صناديق الزيت الفارغة قائلا: "لا تسألي مجدّدا عن الزيت إذ أنه آخر شيء يمكنك الحصول عليه"
"مايزال التزود من الزيت المدعم ضعيفا جدا فمهما زادوا في الكميات فهي تنفذ سريعا، ننتظر اليوم أسبوعا أو أسبوعين فتأتينا 3 أو 4 صناديق من الزيت عبر تجار الجملة فيما يأتي يوميا 80 أو 90 حريفا. رغم أن الأزمة قد انطلقت منذ شهر ونصف إلا أنها لم تنفرج الا مؤخرا على نحو جزئي جدا." يقول معز الشيخ لإنكفاضة
ويواصل: "الزيت المدعم يذهب إلى المطاعم وصانعي·ات الفطائر والحلويات الصندوق الواحد يشترونه مقابل 30 دينارا في حين أن سعره 10.8 دينار. نحن كتجار تفصيل وأصحاب بقالات يتم تزيين السوق بنا إذ ننال الفتات فيما يتحول الباقي إلى السوق السوداء تحت سطوة الوسطاء في ذات الوقت الذي تجري فيه حملة مواجهة الاحتكار."
توكل الدولة مهمة توفير الزيت المدعم والإشراف على توزيعه إلى الـديوان الوطني للزيت. يتمثل دور الديوان فـي شـراء الحاجيـات الوطنيـة مـن الزيـت النبـاتي المـدعم والإحاطة بعمليـة تكريـره لـدى مؤسسـات التكريـر وذلك باعتماد سعر محـدد مـن قبـل الدولة. لاحقا يسـترجع الــديوان الكميـات المكــررة للتثبــت مــن مطابقة الزيـت للمواصفات المطلوبـة ثــم يقــوم ببيــع الزيـت المكرّر بسعر إحالة مدعم لمؤسسـات التعليـب مـع تأمين التزويد المنتظم للمعلبـين بكافة جهات البلاد بالزيوت النباتية كمادة أساسية من حيث الاستهلاك.
مسالك توزيع الزيت النباتي المدعم من ما بعد الإنتاج إلى الإستهلاك
تواصلت إنكفاضة مع مدير ديوان الزيت بالنيابة عبد الفتاح سعيد ورغم موافقته بداية على إجراء حوار بخصوص دور الديوان اليوم وأسباب عدم قدرة المواطنين على الوصول إلى منتجاته تجاهل لاحقا جميع اتصالاتنا ورسائلنا.
تبلغ الكميات المقتناة سنويا من الزيوت المدعمة حوالي 170 ألف طنا تتوزع بين: 100 ألف طن واردات و70 ألف طنا شراءات منتوج محلي، وفق تقرير نشره ديوان الزيت بخصوص موسم 2017-2018. لا ينشر الديوان الوطني للزيت بصفة دورية أرقام الإنتاج والتوزيع في ما يتعلق بالزيت النباتي المدعم إذ يعود آخر تقرير منشور للديوان الوطني للزيت عن موسم 2017- 2018.
تظهر الإحصائيات المنشورة في تقرير ديوان الزيت أن نفقات دعم الزيت النباتي قد ارتفعت من 165 مليون دينار موسم 2014-2015 إلى أكثر من 266 مليون دينار موسم 2017-2018 فيما يظهر مرسوم قانون المالية لسنة 2022 أن الإعتمادات المرسمة باسم دعم الزيت النباتي تبلغ 480 مليون دينار. علما وأنه وقد ّ تم مراجعة الحصص الكمية المحددة للمعلبين بالتخفيض فيها من 14053 طنا إلى 13348 طنا شهريا جويلية 2017.
كيف يدار دعم المواد الأساسية في تونس؟
ترجع سياسة دعم المواد الأساسية إلى أربعينيات القرن الماضي، حيث أحدث صندوق الدعم بمقتضى الأمر العلي المؤرخ في 28 جوان 1945، استتبع هذا الأمر بأوامر أخرى بنت الإطار التشريعي الموجود حاليا وبات يشرف على الصندوق العام للتعويض وحدة تعويض المواد الأساسية بوزارة التجارة.
وفق مرسوم قانون المالية الأخير فقد حدّدت مبالغ الدعم للمواد الأساسية للسنة الجارية بـ3771 مليون دينار مقابل 2200 مليون دينار مرسمة سنة 2021 . وقد خصصت لدعم الحبوب 3025 مليون دينار والعجين الغذائي والكسكسي 86 مليون دينار والزيت النباتي كما أسلفنا 480 مليون دينار. فيما تم تخصيص 160 مليون دينار للحليب و 10 مليون دينار للسكر ومثلها للورق المدرسي.
الفارق الجلي في سعر المواد الغذائية المدعمة مقارنة بغيرها يجعل منها سلعا قابلة للمضاربة وتحويل وجهتها لغير الاستهلاك المنزلي. في هذا السياق جاءت آخر النصوص الترتيبية التي تم إصدارها بخصوص الاتجار في المواد المدعمة إلى ديسمبر 2020 حيث أمضى وزير التجارة وتنمية الصادرات آنذاك محمد بوسعيد قرارا يتعلق بالمصادقة على كراس شروط لتنظيم الاتجار في المواد الأساسية المدعمة من قبل تجار المواد الأساسية.
يضبط كراس الشروط تنظيم توزيع هذه المواد، إذ ينص الفصل السادس على أن يلتزم بائعو الجملة ببيع المواد المدعمة حصريا لفائدة تجار التفصيل وفي حدود كميات معقولة تتوافق مع حجم نشاطهم.
نص ذات الكراس على الامتناع عن بيع المواد الأساسية لأغراض صناعية أو غيرها من الاستعمالات الأخرى. في ذات الوقت يلتزم تجار الجملة، بإدراج كافة الشراءات والمبيعات من المواد الأساسية المدعمة المنجزة يوميا وبصفة حينية بالمنظومات المعلوماتية المتعلقة بمتابعة استيراد هذه المواد، التي تشرف عليها وزارة التجارة أو مسك دفاتر الشراءات والمبيعات مرقمة وممضاة من قبل الإدارة الجهوية للتجارة. ويؤكد الكراس ضرورة تسليمها شهريا إلى الإدارة الجهوية للتجارة.
وفق القوانين الترتيبية تمتلك وزارة التجارة وعبر وحدة تعويض المواد الأساسية، رؤية شاملة عن المخزونات وكميات التوزيع لجميع المواد الغذائية الموزعة في السوق، وفيما تظهر الأرقام والتصريحات توفر المخزونات لديها إلا أننا عمليا لا يمكن أن نحصل اليوم بسهولة على علبة فارينة أو قارورة زيت مدعم.